الباب الأول

الخلافة وطبيعتها

مناقشة المؤلف في جُمل أوردها للدلالة على أن المسلمين يَتغالون في احترام الخليفة – بحث في قولهم: «طاعة الأئمة من طاعة الله» – بحث في قولهم: «النصح للأئمة لا يتم إيمان إلا به» – بحث في قولهم: «السلطان ظل الله في الأرض» – مناقشة المؤلف في زعمه أن ولاية الخليفة عند المسلمين كولاية الله ورسوله – من أين يستمد الخليفة سلطته؟ – مناقشة المؤلف فيما استشهد به من أقوال الشعراء – الفرق بين مذهب «هبز» وحق الخليفة في الإسلام.

***

ملخص الباب

تعرض المؤلف في فاتحة هذا الباب إلى معنى الخلافة وأورد ما قاله بعض علماء الإسلام في تعريفها، وأردفه بنقل كلمات أهل العلم في الحث على نصح الخليفة ولزوم طاعته، وأضاف إليها كلمة من خطبة تعزى لأبي جعفر المنصور، وصاغ خلال ذلك وعقب ذلك جملًا صور بها منزلة الخليفة في نظر المسلمين، بزعم أنها منتزعة من تعريفهم للخلافة أو مما يقولونه في الندب إلى طاعة الأمراء، ولم يتمالك بعد هذا أن طالب المسلمين بأن يُبيِّنوا له مصدر تلك القوة التي أفاضوها على الخليفة، وخرج في البحث إلى دعوى أن للمسلمين في سلطة الخليفة مذهبين:
  • أحدهما: أنها مستمدة من سلطان الله.
  • وثانيهما: أنها مستمدة من الأمة.

وضرب المثل لهذين المذهبين بمذهبي «هبز» الألماني «ولوك» الإنكليزي.

المناقشة

افتتح صاحب الكتاب البحث بحكاية كلمات وردت في تعريف الخلافة، وهي قول الشيخ عبد السلام: «رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي .» وقول البيضاوي: «الإمامة عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه السلام في إقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة الملة.» وقول ابن خلدون: «الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.»

ثم أخذ ينحت في تفسير هذه الكلمات جملًا تشعر — بما انطوت عليه من غلو وإسهاب — أن مُنشِئها سيتخذها سُلَّمًا لدعوى إفراط المسلمين في إكبار مقام الخليفة وتوسيع سلطته!

وإليك نبذة من هذه الجمل ذات الكلمات المطلقة والمعاني المكررة: قال المؤلف في ص٣: «فالخليفة عندهم ينزل من أمته بمنزلة الرسول من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة، والطاعة التامة، والسلطان الشامل.» ثم قال: «وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها؛ لأنه نائب رسول الله ، وليس عند المسلمين مقام أشرف من مقام رسول الله ، فمن سما إلى مقامه فقد بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر.»

شغل المؤلف مقدار صحيفتين أو أزيد بتكرار معانٍ تعد من المعلومات الموضوعة على ظاهر اليد؛ ليلمح بتأكيد إلى أن المسلمين يقررون لمقام الخلافة سلطانًا ومكانة فوق ما يستحقه رئيس حكومة عادلة، ثم هو لم يقف في بيان عبارات أولئك العلماء على حد ما تحتمله ألفاظهم كما هو شأن طلاب الحقيقة بإنصاف؛ بل أخذ يرمي الكلم على عواهنه، ويعدل عن الألفاظ المطابقة إلى غيرها من الألفاظ التي ربما قدحت في الذهن معاني غير صحيحة.

فعلماء الإسلام يقولون: «تجب طاعة الخليفة فيما يأمر به من معروف» والمؤلِّف يقول: له عليهم الطاعة التامة، فيحذف ما اشترطوه للطاعة من الاقتصار بها على المعروف، ويضع بدله كلمة تذهب بها إلى أن تتناول الطاعة العمياء!

وهم يقولون: «يجب أن يكون مكرمًا بين الناس — أي غير مهان — ليكون مطاعًا.»١ والمؤلف يقول: وعليهم أن يحبوه بالكرامة كلها! فيصرف القلم عن تعليلهم الذي يأخذ به المعنى قوة الحقائق، ويضع مكانه لفظ الشمول الذي يذهب بنفس القارئ إلى أقصى غاية.

وهذا النوع من التصرف في أقوال أهل العلم مما يغمز في أمانة صاحبه، وقد يغمض عنه الطرف في المقالات الأدبية أو في مقام الوعظ، أما الباحث في العلم فإنه حقيق بأن يؤاخَذَ به، وبالأحرى حيث يكون بصدد بيان رأي أو حكم انتصب لمناقشته أو نقضه.

وأعجب من هذا قوله بعد: لأنه نائب رسول الله وليس عند المسلمين مقام أشرف إلخ. فإنه ساق هذه الكلمة مساق التعليل لما عزاه إلى المسلمين في حق الخلافة، ومقتضى نسج الكلام أن المسلمين يرون أن الخليفة بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق من البشر! وهذه الكلمات إنما هي من مصوغات قلم المؤلف، وعليها طابع مبالغته الشعرية. والميزان الذي يرجع إليه المسلمون في المفاضلة بين البشر إنما هي الأعمال الصالحة المشار إليها بقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ؛ فمنزلة القائد الخطير ينقذ الأمة من سطوة عدو هاجم، والعالم الحكيم يحميها من ضلالات مبتدع خليع، هي أسمى في نظر المسلمين من منزلة الخليفة إذا لم يكن له من العمل ما يساوي عملهما في عظم الأثر وشرف الغاية.

ولم يزد أولئك العلماء أن قالوا في الخليفة: إنه نائب رسول الله . وهذا لا يقتضي أن يقال: سما إلى مقام رسول الله عليه السلام، وبلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق. ولو جرينا على هذا الضرب من الاستنتاج لقلنا: قال الله تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فداود عليه السلام سما إلى مقام الألوهية، أو بلغ الغاية التي لا مجال فيها لمخلوق. وهذا الضرب من الاستنتاج باطل بالبداهة، فليكن ما صنعه المؤلف خارجًا عن الأقيسة الصادقة.

•••

وجاء المؤلف بعد هذا بقطع التقطها مما قيل في احترام الخليفة ومحض النصيحة له، وحيث إنه أتى بها كمقدمات بنى عليها استعظام القوة التي توضع في يد الخليفة واستنكارها، حسبما انجر إليه البحث في ص٦، وجب أن نُطارحه الحديث فيما يراد منها، أو في أهلية قائليها لأن يوثق بهم أو يحتج بأقوالهم.

قال المؤلف٢ عازيًا إلى حاشية الباجوري على الجوهرة: «عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا ظاهرًا وباطنًا.» وعلله بقول أبي هريرة — آخذًا من «العقد الفريد»: «إن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.»

نتحدث مع المؤلف فيما عزاه إلى أبي هريرة، فنُذكِّره بأن «العقد الفريد» كتاب أدب لا يليق برجل يبحث في موضوع ديني أن يستند إلى شيء مما ينقله ذلك الكتاب عن صحابي أو غيره، وإذا أباح لنفسه الاستشهاد بما بين دفتي العقد الفريد؛ فلا يحق له بعد هذا أن يعمد إلى أحاديث في صحيحي البخاري ومسلم يراها واقفة في سبيل بعض آرائه فيقول: لنا أن ننازع في صحتها. وأصل خبر أبي هريرة في الصحيفة التي رمز إليها المؤلف من العقد الفريد: «لما نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ أمرنا بطاعة الأئمة، وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله، وقد تصرف المؤلف في الخبر بحذف كلمة «أمرنا». ولفظ أمرنا في قول الصحابي إما أن يجعل الخبر حديثًا نبويًّا، كما هو رأي جمهور أهل العلم؛ إذ الظاهر أن الآمر هو صاحب الشريعة، وإما أن يبقى محتملًا لأن يكون الآمر بعض الخلفاء والأمراء. وعلى كلا المذهبين فأبو هريرة راوٍ إما لحديث عن رسول الله ، وإما لأثر عن بعض الخلفاء أو الأمراء.

وقد جاء في معنى خبر أبي هريرة حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة؛ وهو: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني.»

وليس في هذا الحديث ولا ذلك الخبر ما يدعو إلى غرابة ما دمنا نعلم أن الأمير الذي يقال: إن طاعته من طاعة الله وعصيانه من عصيان الله، هو الأمير المسلم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكذلك تكون طاعته ظاهرًا وباطنًا؛ لأنه لم يكن سوى لسان يعبر عن أحكام الشريعة الثابتة بنص جلي أو استنباط صحيح.

•••

قال المؤلف في ص٤ عازيًا إلى العقد الفريد: «فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.» ساق المؤلف هذه الجملة، ولا داعي لمساقها — فيما يظهر — إلا أن يطلع قرَّاء كتابه على مقالة للمسلمين تجعل تمام الإيمان وثبات الإسلام موقوفين على نصح الإمام ولزوم طاعته. وهذا في رأيه موضع غرابة وإنكار؛ فإنه أورده في نسق ما رتب عليه قوله في ص٦: «كان واجبًا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة تلك القوة إلخ.»

ونص عبارة العقد الفريد في الصحيفة التي رمز إليها: وقال : «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ورسوله ولأولي الأمر منكم.» فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.

فصاحب العقد الفريد أورد العبارة كالبيان للحديث النبوي، وهو بيان لا غبار عليه؛ لأنه إذا كانت النصيحة للأمراء معدودة في حقائق الدين، وبالغة مبلغ ما يقرن بالنصح لله ورسوله كانت بلا ريب من قبيل ما لا يكمل إيمان إلا به، ولا يستقيم إسلام إلا عليه. ولا يبقى معنا سوى أن العقد الفريد كتاب أدب لا يحل لنا الاعتماد عليه في شيء من المباحث الشرعية، فلا بد من الرجوع إلى كتب السنة لنعلم مبلغ هذا الحديث من الصحة. وهو مروي في صحيح مسلم٣ عن تميم الداري، ولفظُه: أن النبي قال: «الدين النصيحة، قلنا: لمَنْ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.»

•••

قال صاحب الكتاب في ص٤: «وجملة القول: أن السلطان خليفة رسول الله ، وهو أيضًا حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، ومن كان ظل الله في أرضه، وخليفة رسول الله ؛ فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم.»

أورد المؤلف هذه الجمل على طريق الحكاية لما يقول المسلمون وهو غير مؤمن بها، ثم أضاف إليها أسفل الصحيفة نبذة من خطبة ألقاها أبو جعفر المنصور بمكة، وموضع إنكاره منها كما دل عليه في ص٧ قوله في مستهلها: «إنما أنا سلطان الله في أرضه.» ودل في تلك الصحيفة أيضًا على عدم رضاه عن قولهم: «ظل الله الممدود».

فقوله: حمى الله في بلاده. لم يعزه المؤلف إلى قائل بعينه، ومعناه قريب المأخذ بعيد عن مواقع اللبس، فإن الحمى يقال على المكان الذي يحميه الشخص ويمنع غيره من أن يدانيه، فيرجع إلى معنى الحرم والكنف، ومعنى كون السلطان حمى الله أنه الحرم الذي يأمن به كل خائف، والكنف الذي يضرع إليه كل ذي خصومة.

وقوله: وظله الممدود على عباده. ليس بمستنكر؛ إذ قد روي في معناه حديث نبوي، وهو: «السلطان ظل الله في الأرض.» والمعنى أنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس.٤

وقوله: فولايته عامة ومطلقة كولاية الله تعالى ورسوله الكريم. هذا من مبالغاته التي تضع للخلافة في نفوس المستضعفين من الناس صورة مكروهة، ولو كان المؤلف يمشي في بحثه على صراط سويٍّ لتحرى فيما ينطق به عن المسلمين أقوالهم المطابقة، وهم لم يقولوا: إن ولاية الخليفة عامة ومطلقة كولاية الله؛ فإن الله يفعل ما يشاء فيمن يشاء، ولا يُسأل عما يَفعل، والخليفة مقيد بقانون الشريعة ومسئول عن سائر أعماله، وكذلك رسول الله له خصائص لا يحوم عليها الطير ولا يبلغها مدى البصر، منها أن تصرفاته نافذة ولا تُتلقى إلا بالتسليم، وتصرفات الخليفة قد تقابل بالمناقشة والنقض والإنكار، فإن عنى بالعموم والإطلاق مجرد تناولها للرقاب والأموال والأبضاع، قلنا له: إن نزاهة البحث والأخذ فيه بفضيلة الإنصاف يقضيان عليه بطرح هذه العبارة المرهقة بالعموم والإطلاق وتشبيه المخلوق بالخالق أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.

قال المؤلف٥ عازيًا إلى طوالع الأنوار وشرحه مطالع الأنظار: «ولا غرو أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم.» قطف المؤلف هذه الجملة من أصلها وأطلقها خالية من الروح التي تجعلها حكمة جلية، فإن صاحب المطالع إنما ألقاها في نسق التعليل لأخذ العدالة شرطًا من شروط الإمامة فقال: «الرابعة: أن يكون عدلًا؛ لأنه يتصرف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم.» وقال شارحه في المطالع: «لو لم يكن — يعني الإمام — عدلًا لم يؤمن تعديه، وصرَف أموال الناس في مشتهياته، وتضيع حقوق المسلمين.»

فالمراد من التصرف في الأموال والرقاب والأبضاع التصرف بحق؛ وهو التصرف بنحو القضاء، أو بعمل مشروع كاستخلاص الأموال المفروضة، وحمل الناس على أمر الجندية، وولاية نكاح من لا ولي لها.

•••

ثم ذهب المؤلف في نحو من صحيفة يكيل للخليفة من إطلاق اليد وسعة السلطان ما كففنا طغيان بعضه فيما سلف، وسنتولى تهذيب بعضه فيما يأتي، وقد شعر وهو منفلت العنان بأن الحقيقة تصيح به من كل جانب، وتضرب بأشعتها على رأس قلمه، فوقف بمقدار ما اعترف بأن الخليفة عند المسلمين مقيد بحدود الشرع، ثم انقلب يصف السبيل التي رسمتها الشريعة بكلام له باب باطنه فيه النقد، وظاهره من قبله الرضاء! وإنما قلت: باطنه فيها النقد؛ لأنه سيصرح بإنكار الخلافة، وإنكار أن يكون للإسلام شأن في السياسة، دون أن تأخذه فيما أنكر أناة أو هوادة.

ثم قال في ص٥: «نعم، هم يعتبرون الخليفة مقيدًا بقيود الشرع، ويرون ذلك كافيًا في ضبطه يومًا إن أراد أن يجمح، وفي تقويم ميله إذا خيف أن يجنح.»

يرى المسلمون أن الخليفة مقيد بقانون الشريعة على الوجه الذي سنحدثك عنه في نقض الكتاب الثاني، وأن الإسلام قرر لهم من الحقوق أن تقوم حول الخليفة أمة من الذين أوتوا العلم يتقصون أثره، فيأمرونه بالمعروف إن تهاون، وينهونه عن المنكر إن طغى، فإذا ركب غارب الاستبداد وأعياهم تقويم أوده خلعوه غير مأسوف عليه.

وقد كان بعض الخلفاء يرعى هذا الحق بصدق كما أن الأمة في الصدر الأول كانت تعمل عليه بقوة، فانتظمت السياسة وأشرق محيَّا العدالة، وقامت قاعدة المساواة على وجهها.

•••

قال المؤلف في ص٦: «قد كان واجبًا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة كل تلك القوة، ورفعوه إلى ذلك المقام، وخصوه بكل هذا السلطان، أن يذكروا لنا مصدر تلك القوة التي زعموها للخليفة: أنَّى جاءته؟ ومن الذي حباه بها وأفاضها عليها؟!»

ألقى المؤلف هذا السؤال المشبع بالإنكار بعد أن قرر على لسان المسلمين واجبات الخليفة، وكساها صبغة غير الصبغة التي فطرها الله عليها، ولم يخرج هذا السؤال على قارئ الكتاب فجأة حتى يتلجلج لسانه في الجواب عنه دهشة، بل روح الصحف السابقة والثوب الفضفاض الذي كانت تتبرج فيه جُملُها يشعران بأن المؤلف سيذهب في أمر الخلافة مذهب الجاحدين، ويتبع غير سبيل المسلمين. وقد عرفت إذ ناقشناه في أقواله ومنقولاته أن الإسلام لم يجئ في أمر الخليفة ببدع من القول، ولم يملكه سلطة تبخس المسلمين شيئًا من حريتهم، أو تجعله يتصرف في شئونهم حسب أهوائه، فالقوة المشروعة للخليفة لا تزيد على القوة التي يملكها رئيس دولة دستورية، وانتخابه في الواقع إنما كان لأجل مسمًّى؛ وهو مدة إقامته قاعدة الشورى على وجهها، وبذله الجهد في حراسة حقوق الأمة، وعدم وقوفه في سبيل حريتها.

•••

قال المؤلف في ص٧: «على أن الذي يستقرئ عبارات القوم المتصلة بهذا الموضوع يستطيع أن يأخذ منها بطريق الاستنتاج أن للمسلمين في ذلك مهذبين: المذهب الأول: أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى، وقوته من قوته.»

الاستمداد من سلطان الله وقوته يجيء لمعنيين؛ أحدهما: الاستمداد بطريق الاستقامة والعدل، وهو معنى صحيح وحقيقة واقعة، ومن شواهده قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، فالخليفة قد يستمد من سلطان الله وقوته متى كان طيب السريرة، مستقيم السيرة، ينفق العزيز من أوقاته في إصلاح شئون الأمة، ولا يألو جهدًا في الدفاع عن حقوق البلاد بحكمة وثبات. ثانيهما: الاستمداد من قوة الله وسلطانه بطريق غيبي ليس له من سبب سوى كونه خليفة. وهذا ما يقصد المؤلف إلى جعله أحد مذهبين في الإسلام، وقد جاءت هذه الدعوى مكبة على وجهها، ولم يسعفها المؤلف بما يبل ظمأها.

قال المؤلف في ص٧: «ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضًا، وكل كلماتهم عن الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة.»

شدَّ ما عنينا بأمر الخلافة وأنفقنا في مطالعة الكتب الممتعة بالبحث عنها نظرًا طويلًا ووقتًا واسعًا، فلم نعثر مع هذا على كلمة تنبئ — ولو بطريق التلويح — أن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله، وقصارى ما يستنتج من كلماتهم عنها ومباحثهم فيها أن الله أوجب على الناس إقامة إمام، وأن ولايته تنعقد إما بمبايعة أهل الحل والعقد، وإما بعهد من الخليفة قبله، وأنه إذا سعى في السياسة فسادًا كان للأمة انتزاع زمام الأمر من يده، ووضعه في يد من هو أشد حزمًا، وأقوم سبيلًا.

والذي يؤخذ بطريق الاستنتاج أن المؤلف عرف أن للغربيين في سلطة الملك مذهبين، فابتغى أن يكون للمسلمين مثلهما، ولما لم يجد في كلام أهل العلم عن الخلافة ما يوافق أو يقارب القول بأن سلطان الخليفة مستمد من سلطان الله تلمسه في المدائح من الشعر أو النثر، وادعى أنه ظفر ببغيته، وساقها كالشواهد على تقرير مذهب ليس له بين الراسخين في العلم من مبتدع ولا تبيع. ولا أظن المؤلف يجد في مباحث الخلافة ما يشتم منه رائحة هذا المذهب، ويتركه إلى الاستشهاد بأقوال الشعراء أو كلمات صدرت على وجه المبالغة في الثناء.

ولو رمى هذا المذهب على كتف الفرقة الغالية من الشيعة لكان له من بعض مقالاتهم متكأ، ولكن حديث هذه الطائفة لا مساس له بالخلافة التي طرح عليها بحثه وسلقها بكلماته الحداد.

قال المؤلف في ص٧: «وقد رأيت فيما نقلنا لك آنفًا أنهم جعلوا الخليفة ظل الله تعالى، وأن أبا جعفر المنصور زعم أنه سلطان الله في أرضه.»

إذا جعلوا الخليفة ظل الله تعالى؛ فللحديث المروي: «السلطان ظل الله.» وسبق شرحه بأنه خرج مخرج التشبيه؛ حيث إنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى حر الشمس عمن يأوي إليه، وإضافته إلى الله؛ لأنه أمر بإقامته وإطاعته. وأين هذا من معنى استمداد السلطان من سلطان الله؟!

وقول أبي جعفر المنصور: إنه «سلطان الله في أرضه.» لا صلة له بالمعنى الذي يتحدث عنه المؤلف، وتأويل معناه — كما عرفت — أن الله أمر بإقامة السلطان وطاعته، ومن هذه الجهة يصح إضافته إلى الله، وبالأحرى حيث يكون قائمًا على حراسة شرعه، ويسير في سياسة الناس على صراط مستقيم، فإن لم يكن المنصور على هذه السيرة؛ فغاية ما يقال عنه: إنه سمى نفسه سلطان الله وهو غير صادق في هذه التسمية.

قال المؤلف في ص٧: «وكذلك شاع هذا الرأي وتحدث به العلماء والشعراء منذ القرون الأولى، فتراهم يذهبون دائمًا إلى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخليفة، ويسوق إليه الخلافة.»

يعرف العلماء أن بين الخالق جل شأنه وأمر الخلافة صلة القضاء والقدر، وذلك معنى لا يختص بالخلافة؛ بل يتحقق في كل ما يحدث في الكون من محبوب ومكروه. وهناك معنى آخر زائد على القضاء والقدر، وهو الإرادة بمعنى المحبة والرضا. وهذا أيضًا يتعلق بكل ما فيه خير وصلاح، ولا يتعلق بأمر الخلافة إلا بتفصيل، وهو أن يقال: متى كان الخليفة مستقيمًا عادلًا كانت ولايته خيرًا وصلاحًا، وصح أن يقال: وقعت بإرادة الله؛ أي محبته ورضاه، وإن كان جائرًا فاسقًا عن أمر ربه كانت ولايته شرًّا وفسادًا، واستحقت أن يقال عليها: إنها لم تكن محبوبة لله ولا مختارة عنده.

وممن نبه على حقيقة هذه الإرادة واختصاصها بما هو خير ومأمور به: أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته،٦ وشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الأمر والإرادة،٧ فدعوى أن العلماء يذهبون دائمًا إلى أن الله هو الذي يختار الخليفة ويسوق إليه الخلافة لا نجد في أقوال العلماء ما يحوم عليها، وما هي إلا كلمة سقطت من قلم المؤلف قبل أن تأخذ حظها من البحث وإمعان الفكر.

قال المؤلف في ص٧: على نحو ما ترى في قوله:

جاء الخلافة أو كانت له قدرًا
كما أتى ربه موسى على قدر

وقول الآخر:

ولقد أراد الله إذ ولَّاكها
من أمة إصلاحها ورشادها

وقال الفرزدق:

هشام خيار الله للناس والذي
به ينجلي عن كل أرض ظلامها
وأنت لهذا الناس بعد نبيهم
سماء يرجى للمحول غمامها

البيت الأول من قصيدة لجرير يهنئ بها عمر بن عبد العزيز بالخلافة، ولو كان المؤلف يقدر الخلفاء المستقيمين حق قدرهم لأتينا في الاستشهاد على صحة معنى هذا البيت بأن جريرًا أنشده بين يدي عمر بن عبد العزيز، بعد أن قال له: «اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقًّا.» وأقره عليه.

أما حيث يقول في ص٣٦: «إن الخلافة نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد!» فنخشى أن يعد إقرار عمر بن عبد العزيز لجرير على هذا البيت شرارة من تلك النكبة، أو قطرة من ذلك الينبوع، فلا مندوحة حينئذ عن أن ندخل إلى نقض كلامه من باب تحرير معنى البيت وشرحه على مقتضى الاستعمال العربي.

قوله:

جاء الخلافة أو كانت له قدرًا

وقعت «أو» هنا موقع الواو، وفي رواية:

إذ كانت له قدرًا٨
وهذا الشطر وارد على ما يفيده قوله تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، ومعنى الآية: جئت على قدر قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر.٩ وعلى مقتضى هذا التفسير يكون معنى:
جاء الخلافة أو كانت له قدرًا
أنه جاء الخلافة على القدر الذي قدره الله لها، ويراد بهذا أنه نالها بغير تعب ولا معاناة، قال الدماميني في شرح المغني:١٠ «كانت له قدرًا؛ كانت مقدرة لا سعي له فيها.» فليس في البيت الذي أُنشد بين يدي عمر بن عبد العزيز ما يدل على أن الله اختاره خليفة وساق إليه الخلافة إلا على معنى القدر الذي لا يغادر حادثًا من حوادث الكون إلا أتى عليه.

وأما البيت الثاني وبيت الفرزدق فلا حرج علينا أن نطوي بساط المناقشة دونهما؛ إذ المسألة تقرير مذهب في أحد المباحث العلمية أو الدينية، وحق هذا المقام ألا يوثق فيه بأقوال الشعراء بعد أن عرفنا في فن البديع أن كلامهم ينقسم إلى مبالغة وإغراق وغلو، ومع هذا الوجه الكافي في طرحهما من حساب تلك الشبه الواهية نقول: إن معنى البيتين لم يكن ناشئًا عن عقيدة خاصة في الخليفة والخلافة، وإنما هو مبني على العقيدة العامة من أن ما كان خيرًا وصلاحًا تتعلق به الإرادة على وجه الرضا والمحبة. وهذا ما يدعيه الشاعران في ولاية ممدوحيهما، وقد يقولان ذلك وهما يعتقدان أن مدحهما غير مطابق للواقع، وأين هذا من تلك الدعوى الواسعة وهي الاعتقاد بأن الله هو الذي يختار الخليفة؟! ولو تعلم المؤلف تأويل الأحاديث وتلا قوله تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، وقوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ، وقوله: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ لم يلتبس عليه قول الشاعر: «إذ ولَّاكها.» أو يجره إلى شبهة أقرب إلى العدم من سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء.

•••

قال المؤلف في ص٨: «ولقد كان شيوع هذا الرأي وجريانه على الألسنة مما سهل على الشعراء أن يصلوا في مبالغاتهم إلى وضع الخلفاء في مواضع العزة القدسية أو قريبًا منها، حتى قال قائلهم:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار

وقال طريح يمدح الوليد بن يزيد:

… … … … … …
… … … … … …
لو قلت للسيل دع طريقك والمو
ج عليه كالهضب يعتلج
لساخ وارتد أو لكان له
في سائر الأرض عنك منعرج
قبض المؤلف قبضة من أثر جرجي زيدان ونبذها في كتاب الإسلام وأصول الحكم. اقرأ كتاب تاريخ التمدن الإسلامي١١ تجده تعرض إلى ما حدث من الغلو في احترام الخلفاء أيام الدولة العباسية، ثم قال: «فلا غرو إذا سموا الخليفة في أيام المتوكل ظل الله الممدود بينه وبين خلقه»، أو قالوا قول ابن هانئ للمعز الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فهذا البيت ينسب إلى ابن هانئ،١٢ كما ترى، ونسبه المعري في رسالة الغفران١٣ إلى شاعر يدعى بابن القاضي، فقال: «حضر شاعر يعرف بابن القاضي بين يدي ابن أبي عامر، صاحب الأندلس، فأنشده قصيدة أولها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار

ويقول فيها أشياء، فأنكر عليه ابن أبي عامر وأمر بجلده ونفيه.» فعلى رواية المعري خرج البيت عن أن يكون خطابًا لخليفة كما يدعي المؤلف، وعلى كلا الروايتين لم يكن هذا الغلو في الوصف من أثر الاعتقاد بأن الخليفة أو الأمير يستمد سلطانه من سلطان الله، وإنما هو انحلال عقدة الإيمان بالله ينضم إليه الإغراق في التملق وحب العاجلة، فينحدر الشاعر في مديحه طلق العنان، خالعًا على ممدوحه من ألقاب العظمة والقوة ما يتخطى به إلى مقام الألوهية. وقد وقع مثل هذا من عضد الدولة في قوله يصف نفسه:

مبرزات الكأس من مطلعها
ساقيات الراح مَن فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها
ملك الأملاك غلَّاب القدر١٤
فالحق أن علة هذا النوع من الشعر إنما هي تجرد النفس من طبيعة الحياء والأدب مع الخالق، ينضم إليه داعي الطمع أو الفخر أو التباهي بالحذق في صناعة البيان. قال أبو بكر بن العربي في كتاب الأحكام:١٥ «إن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون، ألا ترى إلى قول بعضهم:
ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها
لما كنت أدري علة للتيمم

وهذا كفر صراح نعوذ بالله منه.»

وأما بيتا طريح فأراد بهما المبالغة في مدح الوليد بالسطوة ونفاذ الكلمة، حتى ادعى أنه لو أمر السيل الجارف بالانصراف عن طريقه لم يسعه إلا الإذعان لأمره والخضوع لسلطانه، ولا يصح أن يعد مثل هذا من أثر الاعتقاد بأن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله، وإنما هو من نوع الغلو الذي يرتكبه الشعراء في أكثر فنون الكلام من غزل ومديح وهجاء وحماسة.

•••

قال المؤلف في ص٨: «وأنت إذا رجعت إلى كثير مما ألف العلماء، خصوصًا بعد القرن الخامس الهجري، وجدتهم إذا ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين رفعوه فوق صف البشر، ووضعوه غير بعيد من مقام العزة الإلهية.»

بدا للمؤلف أن يبتدع للمسلمين في سلطان الخليفة مذهبًا لا يعرفونه، ولما لم يجد في مباحث الخلافة ما ينبئ به، ولو بطريق التلويح أو الاقتضاء، صمم على أن يقرره، وصمم على أن يعزوه لعامة العلماء وعامة المسلمين، وعندما أفضت النوبة إلى تلاوة المستندات قام ينشد من شعر جرير والفرزدق وابن هانئ وطريح وغيرهم، كأنه يبحث في حكم لغوي أو سر من أسرار البيان.

ولعله انتبه إلى أن ما أنشده من الشعر أقل من أن يثير شبهة، وأوهى من أن يستهوي النفوس إلى ظن، فأخذ ينبش عما يقوله العلماء في مديح الخلفاء من نثر، عسى أن يجدهم انفلتوا في هذا الصدد، وحام بهم الإغراق والغلو على نحو ما مرَّ لأولئك الشعراء، فلم تقع يده إلا على بعض جمل نسجت على منوال السرف في مديح ملوك ليسوا بخلفاء، وما كان إلا أن أتى بما يوسع نطاق الدعوى حتى يدخل تحت جناحيها الخلافة والملك، ويهيئ للاستشهاد بتلك الجمل موضعًا، فقال: وجدتهم إذا ذكروا في أول كتبهم أحد الملوك أو السلاطين رفعوه فوق صف البشر إلخ.» وضرب المثل لهذا جملًا انتزعها من خطبة نجم الدين القزويني في أول الرسالة الشمسية، وجملًا من خطبة شارحه قطب الدين الرازي، وأخرى من خطبة حاشية السيالكوتي على ذلك الشرح.

ونناقش المؤلف في هذا الصنيع من ناحيتين؛ إحداهما: أن المقال معقود للبحث في سلطان الخليفة، وهؤلاء إنما يصفون ملوكًا ليسوا بخلفاء، وثانيهما: أن هذه الكلمات خرجت مخرج المبالغة في المديح والإطراء، وليس هذا من أثر الاعتقاد بأن سلطان الملك مستمد من سلطان الله، وإنما علته أحوال نفسية؛ كالرغبة في إحراز جاه، أو الحرص على متاع هذه الحياة. ومما ينبه على هذا أن كلمات المديح والثناء كثيرًا ما تجري على ألسنة قوم وقلوبهم تتبرأ منها.

•••

قال المؤلف في ص١١: «ويكاد المذهب الأول يكون موافقًا لما اشتهر به الفيلسوف «هبز» من أن سلطان الملوك مقدس، وحقهم سماوي.»

يقول هبز:١٦ «إن كل فرد في المملكة يجب أن تكون إرادته خاضعة لسلطان الحاكم، وخضوع الحاكم لأي فرد من أفراد الرعية مخالف لمقتضى الطبيعة، والنزوع للخروج عن إرادة الحاكم أو ردها يعتبر ثورة وتمردًا، والدين يجب أن يخضع لإرادة الحاكم.»

هذا مذهب هبز الذي يحاول المؤلف ضربه مثلًا لمذهب عامة العلماء وعامة المسلمين في سلطان الخليفة.

أقم الوزن بالقسط تَرَ هبز يقول: إن كل فرد يجب أن تكون إرادته خاضعة لسلطان الحاكم، وعلماء الإسلام يقولون: لا يطاع الحاكم إلا حين يأمر بحق. وهو يقول: خضوع الحاكم لأي فرد من أفراد الرعية مخالف لمقتضى الطبيعة، وعلماء الإسلام يقولون: على الحاكم أن يخضع لأدنى الناس منزلة متى أمره بمعروف أو نهاه عن منكر. وهو يقول: رد إرادة الحاكم يعتبر ثورة أو تمردًا، وعلماء الإسلام يقولون: إذا أراد الحاكم أن يدير شأنًا من شئون الأمة على غير مصلحة، أو يفصل في قضية على وجه يخالف قانون العدل؛ فلا حرج على الأمة أن ترد إرادته بطريق الحكمة، ولا يصح له أن يعد مقاومتهم لهذه الإرادة ثورة أو تمردًا.

قال أحد أمراء بني أمية لبعض التابعين: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ؟ فأجابه بقوله: أليس قد نزعت عنكم الطاعة إذا خالفتم الحق بقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ؟١٧

ويقول هبز: الدين يجب أن يخضع لإرادة الحاكم، وعلماء الإسلام يقولون: يجب على الحاكم أن يخضع لقانون الإسلام نصًّا أو استنباطًا، وعليه أن يخلي السبيل للطوائف المخالفة تتمتع بالحرية في أديانها وإقامة شعائرها، ولا يحل له أن يعترضها بحال.

١  «مطالع الأنظار» ص٤٧٠، طبع الآستانة.
٢  ص٣.
٣  ج١، ص٣١.
٤  النهاية لابن الأثير، مادة ظل.
٥  ص٤.
٦  ج٣، ص٦٤، الطبعة التونسية.
٧  رسائله ص٢٦٢.
٨  مبحث «أو» من كتاب المغني لابن هشام.
٩  تفسير البيضاوي، سورة طه.
١٠  مبحث «أو».
١١  ج٤، ص١٨٢.
١٢  قال ابن العماد في شذرات الذهب، ج١، ورقة ٢٧٦، مخطوطة دار الكتب المصرية: «كان ابن هانئ كثير الانهماك في الملاذ، متهمًا بمذهب الفلاسفة، ولما اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية، وساءت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضًا.» وقال في العبر: «كان منغمسًا في الملذات والمحرمات، متهمًا بدين الفلاسفة.»
١٣  ص١٥٤.
١٤  معاهد التنصيص ٣٤٨.
١٥  ج٢، ص١٢٠.
١٦  دائرة المعارف الألمانية، لمير، ج٩، ص٣٩١.
١٧  فتح الباري، لابن حجر، ج١٣، ص٩١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤