الباب الثاني

في حكم الخلافة

المناقشة – الإجماع على نصب الإمام – التباس حاتم الأصم بحاتم الصوفي على المؤلف – الفرق بين القاعدة الشرعية والقياس المنطقي – ترجيح حَمْل «أولي الأمر» في الآية على الأمراء – هل نأخذ أحكام الدين عن المستر أرنولد؟! – معنى «ما فرطنا في الكتاب من شيء» – لماذا لم يحتج بعض علماء الكلام في مسألة الخلافة بالحديث؟ – لماذا وضع بحث الخلافة في علم الكلام؟ – بحث في: «أعطوا ما لقيصر لقيصر».

***

ملخص الباب

تعرض المؤلف في هذا الباب لحكم الخلافة وما جرى فيه من اختلاف، وحكى كلام ابن خلدون في انعقاد الإجماع على الوجوب، وشذوذ بعض الطوائف عنه، ثم نقل الدليل النظري على وجوبها من كتاب القول المفيد للأستاذ الشيخ محمد بخيت، وتخلص بعد هذا إلى إنكار أن يكون في الكتاب أو السنة دليل على الوجوب، وأخذ يتكلم في تفسير بعض آيات ليبين عدم اتصالها بشيء من أمر الإمامة، ثم أخذ يناقش الأستاذ السيد محمد رشيد رضا في أحاديث استشهد بها على وجوب الخلافة، فأومأ إلى الارتياب في صحتها، وذهب يتأولها على وجه غريب، ويسوق على هذا التأويل أمثلة ليست جارية على قانون المنطق في كثير ولا قليل.

المناقشة

قال المؤلف في ص١٢: «ولكنهم لا يختلفون في أنه — يعني نصب الإمام — واجب على كل حال حتى زعم ابن خلدون أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع.»

لم ينفرد ابن خلدون بحكاية الإجماع على نصب الإمام، بل تضافر عليها كثير من علماء الكلام؛ كالعضد في المواقف، والسعد في المقاصد، وإمام الحرمين في غياث الأمم، وغيرهم.

وقال ابن حزم في كتاب الفصل:١ اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، ما عدا النجدات من الخوارج٢ فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم. ثم قال: وقول هذه الفرقة ساقط يكفي في الرد عليه إجماع كل من ذكرنا على بطلانه.

فقول المؤلف: «حتى زعم ابن خلدون أن ذلك مما انعقد عليه الإجماع.» عبارة يصوغها من لم يطلع على الإجماع محكيًّا في غير مقدمة ابن خلدون، أو من يريد أن يضع في نفس القارئ عقيدة أن هذا الإجماع إنما جاء حديثه في تلك المقدمة. ولا أدري لماذا اختار هذه العبارة وهو يشعر بأنه سينجر به البحث في ص١٥ و٢١ إلى الاعتراف بأن الإجماع محكي في كتاب المواقف.

•••

نقل المؤلف في ص١٢ قول ابن خلدون: «وقد شذ بعض الناس فقال بعدم وجوب هذا المنصب رأسًا، لا بالعقل ولا بالشرع؛ منهم الأصم من المعتزلة.» وقال في أسفل الصحيفة مُعرِّفًا بالأصم: «حاتم الأصم الزاهد المشهور البلخي.»

التبس على المؤلف حال الأصم المعتزلي، وهو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان بحاتم الأصم الصوفي، وقد ذكره السيد في شرح المواقف، والسعد في شرح المقاصد بلقب أبي بكر، وذكره إمام الحرمين في كتاب غياث الأمم باسمه عبد الرحمن بن كيسان، وجمع أحمد بن يحيى المرتضى في طبقات المعتزلة بين اسمه ولقبه فقال: أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم.٣

•••

قال المؤلف في ص١٣: «لم نجد فيما مر بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم.»

استدل بعض أهل العلم على الإمامة بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، وقد نقل المؤلف نفسه الاستدلال بهذه الآية عن ابن حزم، وأوردها سعد الدين التفتزاني في شرح المقاصد،٤ فقال: وقد يتمسك بمثل قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، وقوله : «من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية.» فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي وجوب الحصول، وقال صاحب مطالع الأنظار٥ بعد أن قرر الدليل النظري على وجوب الإمامة: «قيل: صغرى هذا الدليل عقلية من باب الحسن والقبح، وكبراه أوضح عقلًا من الصغرى، والأولى أن يعتمد فيه على قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ

وهذه النصوص تريك قيمة قول المؤلف: لم نجد من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم.

•••

قال المؤلف في ص١٤: «ولكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله تعالى حجة لرأيهم؛ فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى.»

سمى المؤلف طريق الاستدلال الذي نحاه الأستاذ الشيخ محمد بخيت ومن تقدمه من علماء الكلام قياسًا منطقيًّا وحكمًا عقليًّا. وهذا مما يخيل إلى القارئ أن هذا الضرب خارج عن الأدلة الشرعية، والتحقيق أنه راجع إلى الأدلة السمعية، ويشهد بهذا قولهم: إن نصب الإمام عندنا واجب سمعًا لوجهين؛ الوجه الأول: الإجماع، والثاني: هذا الدليل الذي اختار المؤلف أن يسميه حكمًا عقليًّا.

وإن شئت بيان ما صرف عنه المؤلف عبارته — من أن ذلك الاستدلال قائم على نظر شرعي — فإليك البيان:

يعتمد استنباط الأحكام على نظرين؛ أحدهما: يتعلق بالأدلة السمعية التي يقع منها الاستنباط، وثانيهما: يرجع إلى وجوه الدلالات المعتد بها في الاستعمال.

أما الأدلة السمعية فهي الكتاب والسنة والإجماع، وأما وجوه الدلالات فدلالة بالمنطوق، ودلالة بالمفهوم، ودلالة بالمعقول. ويندرج في دلالة المعقول ما يسمونه بالقياس.

فانحصرت الأدلة الشرعية العالية في الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

وهناك أدلة أخرى ترجع إلى هذه الأصول العالية، وهي القواعد المقطوع بصحتها كقاعدة «الضرر يزال»، و«المشقة تجلب التيسير»، و«العادة محكمة»؛ فإن مثل هذه القواعد لم يقررها العلماء بمحض العقل، بل رجعوا في كل قاعدة إلى استقراء موارد كثيرة من كليات الشريعة وجزئياتها حتى تحققوا قصد الشارع إليها، وأصبحت بمنزلة الخبر المتواتر في وقوعها موقع اليقين الذي لا تخالجه ريبة، قال أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته: إن المجتهد إذا استقرأ معنى عامًّا من أدلة خاصة، واطَّرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص على خصوص نازلة تظهر، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة.

فالذين يستدلون على وجوب نصب الإمام بأن ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم عن الباطل وازع؛ يفضي إلى تبدد الجماعة، وإضاعة الدين، وانتهاك حرمة الأموال والنفوس والأعراض؛ إنما يطبقون قاعدة شرعية وهي قاعدة «الضرر يزال»، وقاعدة «ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورًا فهو واجب».

قال المؤلف في ص١٥: «وغاية ما يمكن إرهاق الآيتين به أن يقال: إنهما تدلان على أن للمسلمين قومًا منهم ترجع إليهم الأمور، وذلك معنى أوسع كثيرًا وأعم من تلك الخلافة بالمعنى الذي يذكرون، بل ذلك معنى يغاير الآخر ولا يكاد يتصل به!»

عبر بالإرهاق ليخيل إليك أن حمل أولي الأمر في الآيتين على قوم ترجع إليهم الأمور هو من باب صرف اللفظ إلى ما فيه عسر وتكلف. لندع مناقشته في آية: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ جانبًا؛ فإن الصواب ما قاله المحققون من أن المراد بها كبار الصحابة البصراء في الأمور، ونأخذ بأطراف الحديث معه في آية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، فنقول: إن حمل الآية على الأمراء راجح من وجوه:
  • أحدها: سبب النزول؛ ففي صحيح الإمام البخاري رواية عن ابن عباس أن أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي في سرية.
  • ثانيها: ورودها بعد آية: وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، قال ابنُ عُيَيْنَةَ: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، ولم يكن أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِۚ، فقال: هذه في الولاة.٦
  • ثالثها: تعقيبها بقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ، فإن الخطاب للمؤمنين عامة، ومن بينهم أهل الحل والعقد من العلماء. وشأن عامة المؤمنين أن ينازعوا أولي الأمر في بعض تصرفاتهم، وليس لهم أن ينازعوا العلماء فيما يصدرونه من الفتاوى؛ إذ يراد من العلماء المجتهدين، ومن أين لغيرهم من عامة الأمة أن ينازعهم في تقرير حكم؟ أو العرف كيف يرده معهم إلى كتاب الله وسنة رسوله؟

وإذا ترجح حمل الآية على الأمراء لم تكن دلالتها على أن للمسلمين قومًا ترجع إليهم الأمور، مما يستحق أن يسمى إرهاقًا.

وقول المؤلف: «وذلك معنى أوسع كثيرًا وأعم من تلك الخلافة.» مما نتلقاه بتسليم، ولا يفوت الآية مع هذا أن تبعث من ناحية عمومها ما يشد ركن الإمارة العامة، ويعزز شواهدها على الوجه الذي سنقص عليك تحريره عندما يقتضيه الحال.

وأما قوله: «بل ذلك معنى يغاير الآخر ولا يكاد يتصل به.» فمن الكلم المبهم الذي لا ينطق به الباحث عن الحق دون أن ينفخ فيه روحًا من الشرح والبيان، اللهم إلا أن ينوي محاربة الخلافة ولو بهمزات التشكيك فيما يعده الناس من مؤيدات سلطانها.

•••

قال المؤلف في ص١٥: «وإذا أردت مزيدًا في هذا البحث فارجع إلى «كتاب الخلافة» للعلامة السير تومس أرنُولد؛ ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع مقنع.»

بحثنا عن هذا الكتاب في كثير من المكاتب لنطلع على ما انفرد به العلامة الإنكليزي في تحرير حكم الخلافة؛ فلم نهتدِ السبيل لإحراز نسخة منه، وما سلوناه إلا حين ذكرنا أن المؤلف قد أحاط بذينك البابين خبرًا، وعرفنا من نظره إلى الخلافة بعين عابسة أنه لا يجد فيهما ما يشد عضده على تقويض صرحها إلا وينقله دون أن يكتفي بالإحالة عليه.

ولو أحالنا المؤلف على كتاب السير أرنولد في بحث تاريخي أو اجتماعي له مساس بالخلافة لأخذ منا الأسف على أن فاتنا الاطلاع عليه مأخذًا بليغًا، ولكنه أحالنا على كتاب السير أرنولد في تحقيق حكم شرعي فقلنا: لعله أراد خلط الجد بشيء من الهزل، أو إخراج أحكام الشريعة من دائرة الراسخين في علومها.

يجب أن تكون قيمة الأحكام الشرعية في نظر المؤلف فوق هذا التقدير، وما ينبغي له أن يخيل إلينا أنَّا في حاجة إلى الاقتداء بعقول الغربيين حتى في أمور الدين من واجب وحرام. وإذا كان المؤلف يدري أن للشريعة أصولًا ومقاصدَ لم يدرسهما السير أرنولد حق دراستهما، فإن إحالتنا على كتابه ليست سوى عثرة في سبيل البحث تعترض السُّذَّجَ من الأحداث؛ فتكبو بهم في تردد وارتياب.

•••

قال المؤلف في ص١٦: «إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ، ثم لا تجد فيه ذكرًا لتلك الإمامة العامة أو الخلافة! إن في ذلك لمجالًا للمقال.»

في القرآن بيان كل شيء من أمور الدين وأحكام الوقائع، وليس معنى هذا التبيان أنه يذكر أحكام الأشياء على وجه التفصيل، حتى إذا رجعنا إليه في قضية ولم نجد لها حكمًا مفصلًا خالطت قلوبنا الريبة من حكمها الذي دلت عليه السنة، أو انعقد عليه إجماع أهل العلم، أو شهدت به القواعد المسلمة.

وإنما معنى تبيانه لكل شيء أنه أتى بكليات عامة، وهي معظم ما نزل به، وفصل بعض أحكام، وأحال كثيرًا من آياته على بيان السنة النبوية، ثم إن الكتاب والسنة أرشدا إلى أصول أخرى كالإجماع والقياس وغيرهما من القواعد المستفادة من استقراء جزئيات كثيرة كقاعدة «المصالح المرسلة» وقاعدة «سد الذرائع»، قال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الموافقات: «تعريف القرآن بالأحكام الشرعية أكثره كلي لا جزئي٧ … فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات، ومكمل كل واحد منها. وهذا كله ظاهر أيضًا، فالخارج من الأدلة عن الكتاب هو: السنة، والإجماع، والقياس، وجميع ذلك إنما نشأ عن القرآن.»٨

فإن لم ينص القرآن على حكم الخلافة؛ فإن في أيدينا من طرق تبيانه السنة والإجماع والقياس والقواعد التي لا يأتيها الريب من بين يديها ولا من خلفها.

•••

قال المؤلف في ص١٦: «ولو وجدوا لهم في الحديث دليلًا لقدموه في الاستدلال على الإجماع.»

لما انتقل مبحث الخلافة إلى علم الكلام ودارت المناظرة فيها مع طائفة ألقت عليها شيئًا من صبغة العقائد، رأى أهل العلم أن هذه الطائفة لا يكفُّ بأسها ويسدُّ عليها طرق المشاغبة إلا الأدلة الحاسمة؛ ولهذا وقعت عنايتهم على الاحتجاج بالإجماع والقواعد النظرية الشرعية لكونهما من قبيل ما يفيد العلم.

ومن لم يستند من علماء الكلام في هذا المبحث إلى الحديث؛ فلأنه اكتفى بذينك الدليلين، أو لأن أخبار الآحاد في نفسها لا تتجاوز مراتب الظنون، ولا يكبر على ذوي الأهواء الغالبة أن ينسلخوا منها ويخترعوا منفذًا للطعن في صحتها، أو صرفها عن وجه دلالتها.

•••

قال المؤلف في ص١٨: «لا نريد أن نناقشهم في صحة الأحاديث التي يسوقونها في هذا الباب، وقد كان لنا في مناقشتهم في ذلك مجال فسيح.»

لا ندري ما هو الميزان الذي يرجع إليه المؤلف في قبول الحديث وعدم قبوله حتى ننظر كيف ينفتح أمامه مجال فسيح للطعن في حديث: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.» وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم، وحديث: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.» وحديث: «من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه؛ فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر.» وكلا الحديثين في صحيح الإمام مسلم.

تفضل المؤلف بطرح المناقشة في صحة هذه الأحاديث، ونحن نعلم أنه لو دخل في المناقشة لا يخلو حاله من سبيلين: فإما أن يذهب إلى الطعن فيها من الطرق التي أحكم السلف وضعها، وميزوا بها صحيح الأخبار من سقيمها، ولا نمتري حينئذ في أنه سينقطع به القول دون أن يمسها بوهن أو يزحزحها عن مرتبتها فتيلًا، وإما أن يأخذ للطعن فيها مذهبًا يبتدعه لنفسه، فلا نراه إلا أن يخلقه من طينة هذه الآراء المترددة في ريبها، الفاتنة للنفوس الزاكية عن أمر ربها. ولعل الواقع أنه رمى هذه الكلمة محافظة على خطة التشكيك متى حبط عمله في رواية: «أعطوا ما لقيصر لقيصر.» وما جرى على شاكلتها.

قال المؤلف في ص١٨: «ثم لا نناقشهم في المعنى الذي يريده الشارع من كلمات: إمامة، وبيعة، وجماعة إلخ، وقد كانت تحسن مناقشتهم في ذلك ليعرفوا أن تلك العبارات وأمثالها في لسان الشرع لا ترمي إلى شيء من المعاني التي استحدثوها بعد، ثم زعموا أن يحملوا عليها لغة الإسلام.»

من ذا يصدق أن المؤلف أبصر هؤلاء العلماء ارتكبوا في تفسير البيعة والإمام والجماعة خطة جهل وضلال، ويترك مناقشتهم في ذلك التفسير إلى التشبث بمغالطات يملك أمثالها من أحب أن يقول: إن هذا النهار ليل، أو إن باقلًا أفصح من سحبان.

وماذا أعجل المؤلف عن أن يبين للناس خطأ أهل العلم في فهم البيعة والجماعة والإمام، وما باله لم ينفق ساعة من نهار في شرح ثلاثة مفردات أو أربعة ينكث بها الأيدي من التمسك بأحاديث يصعب عليه الطعن في صحتها، أو تحريفها عن وجه دلالتها؟

يستخف المؤلف أحيانًا يما يحكيه عن أهل العلم فلا يصوغ عبارته على قدر كلامهم، وكذلك صنع عقب تلك الجمل فذكر أن معنى جماعة المسلمين في حديث: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.» عند أولئك العلماء: حكومة الخلافة الإسلامية. ولم يكن بين العلماء من يذهب إلى أن جماعة المسلمين هي حكومة الخلافة، وإنما يحملون جماعة المسلمين على معنى أهل الحل والعقد الذين بيدهم نصب أمير المؤمنين، قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري:٩ «والمراد — كما قال الطبري — من الخبر: الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة.»

•••

قال المؤلف في ص١٨: «لا نجد في تلك الأحاديث بعد كل ذلك ما ينهض دليلًا لأولئك الذين يتخذون الخلافة عقيدة شرعية وحكمًا من أحكام الدين.»

يقول المؤلف: إنهم اتخذوا الخلافة عقيدة شرعية وحكمًا من أحكام الدين، وما كان له أن يطلق عليها اسم عقيدة شرعية وهو يراهم كيف يصرحون بأنها ليست من قبيل العقائد، وإنما هي فرع من فروع الشريعة كسائر أحكامها العملية.

قال سعد الدين التفتزاني في شرح المقاصد:١٠ «إن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق؛ لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة من نصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات … ولا يخفى أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية، وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لا بد للأمة من إمام يحيي الدين، ويقيم السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها.» ثم قال: «ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة واختلافات بل اختلاقات باردة … ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام، ونقض عقائد المسلمين، والقدح في الخلفاء الراشدين … ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام.»

وقال السيد في شرح خطبة المواقف: «إن الإمامة وإن كانت من فروع الدين إلا أنها ألحقت بأصوله دفعًا لخرافات أهل البدع والأهواء، وصونًا للأئمة المهديين عن مطاعنهم؛ لئلا يفضي بالقاصرين إلى سوء اعتقاد فيهم.»

فالواقع أن الخلافة ليست من نوع العقائد وإنما حشروها في علم الكلام للعذر الذي أبداه شارح المقاصد وشارح المواقف.

•••

قال المؤلف في ص١٨: «تكلم عيسى بن مريم عليه السلام عن حكومة القياصرة، وأمر بأن يُعطى ما لقيصر لقيصر، فما كان هذا اعترافًا من عيسى بأن الحكومة القيصرية من شريعة الله، ولا مما يعترف به دين المسيحية، وما كان لأحد ممن يفهم لغة البشر في تخاطبهم أن يتخذ من كلمة عيسى حجة له على ذلك، وكل ما جرى في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة إلخ، لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر.»

يعلم المؤلف أن البحث في حكم إسلامي، ولأحكام الإسلام أصول معروفة لا يدخل في حسابها ما يدور على ألسنة أهل شريعة أخرى؛ إذ لم نحط بمورده خبرًا، ولم نملأ أكفنا من الثقة بسنده، والقائلون من علماء الإسلام بالاعتماد على شرع من قبلنا في تقرير الأحكام يقيدونه بأمرين:
  • أحدهما: أن يجيء محكيًّا في القرآن أو السنة، ورواية: «أعطوا ما لقيصر لقيصر.» لم تقصها علينا آية ولا حديث.
  • ثانيهما: ألا يرد في شريعتنا ما يقتضي نسخه. وما عزاه إلى المسيح عليه السلام لا ينطبق على ما جاء في الشريعة من حرمة الإقامة تحت راية غير المسلم والخضوع لسلطانه، قال تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وقال تعالى: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، ثم إن محمد بن عبد الله صلوات الله عليه لم يعترف بسلطة دار الندوة بمكة وحاربها حتى خضد شوكتها، واستأصل جرثومة فسادها، ولم يعترف بسلطة قيصر، وأخذ بعدُ ما استطاع من قوة؛ ليدفع شره، ويقوض دعائم ملكه.

•••

قال المؤلف في ص١٩: «وإذا كان صحيحًا أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أمرنا أن نطيع إمامًا بايعناه؛ فقد أمرنا الله تعالى كذلك أن نفيَ بعهدنا لمشرك عاهدناه، وأن نستقيم له كما استقام لنا، فما كان ذلك دليلًا على أن الله تعالى رضي الشرك، ولا كان أمرُه تعالى بالوفاء للمشركين مستلزمًا لإقرارهم على شركهم.»

دعوى أن الأمر بطاعة ولي الأمر لا يدل على طلب ولايته، كما أن الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه لا يدل على الشرك تمثيل يمشي براكبه إلى وراء، فإن أقل ما في الصورة الأولى أن المجتهد ينظر في طاعة أولي الأمر فيفقه أنها لم تقصد لذاتها، ولا لمجرد الخضوع للأمراء، وإنما يراد بها مصلحة وراء ذلك كله؛ وهي: المساعدة على إقامة الحقوق، وانتظام شئون الجماعة، ولا شك أن هذه الغاية تتوقف على نصب الأمير كما تتوقف على حسن طاعته، فيصح أن يقال: إن الأمر بإطاعة أولي الأمر نبه على طلب ولايتهم، وإن المجتهد أتى إلى وجوب نصب الإمام من طريق النظر في الأمر بطاعته.

أما الأمر بالوفاء لمشرك عاهدناه فخارج عن هذا السبيل؛ لأن علته ترجع إلى الاحتفاظ بنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وهو الصدق والثقة اللذان يقوم عليهما شرف المعاملات ونظام السياسات. ويتضح جليًّا أن هذه الحكمة يختص بها الوفاء بالعهد، ولا يشاطره فيها الشرك بالله، ولا المعاهدة التي هي موكولة إلى اجتهاد صاحب الدولة.

•••

قال المؤلف في ص١٩: «أولسنا مأمورين شرعًا بطاعة البغاة والعاصين، وتنفيذ أمرهم إذا تغلبوا علينا وكان في مخالفتهم فتنة تخشى من غير أن يكون ذلك مستلزمًا لمشروعية البغي، ولا لجواز الخروج على الحكومة.»

الأحاديث الحاثة على إطاعة ولي الأمر مطلقة، وإنما يقصد بها المصلحة المترتبة عليها؛ وهي إقامة المصالح وانتظام الحقوق، وبهذا أرشدتنا إلى طلب أصل ولايته. أما البغاة والعاصون فقد أمر الإسلام بكفاحهم، وسل السيوف في وجوههم ما استطعنا لذلك سبيلًا، وأذن لنا بأن نجنح لسلمهم حينما نخشى فتنة أشد من محاربتهم؛ عملًا بقاعدة «ارتكاب أخف الضررين». والموازنة بين الضرر الذي نحتمله من ولايتهم والفتنة التي نخشاها من محاربتهم يرجع إلى اجتهاد ذوي الخبرة بحقوق الأمة، ومبلغ قوتها، وعاقبة حربها أو مسالمتها.

فالوجه الفارق بين هذه المسألة وإطاعة أولي الأمر: أن المعنى الذي روعي في الإذن بمسالمة البغاة والعاصين لا يتحقق في البغي والعصيان، حتى نذهب من الإذن بمسالمتهم إلى القول بمشروعيتهما، كما ذهبنا من الأمر بإطاعة صاحب الدولة إلى القول بوجوب ولايته.

ثم إن المؤلف عطف على هذه الأقيسة الخاطئة أمثلة أخرى فقال: «إن الله أمرنا بإكرام السائلين والرحمة بالفقراء، ولم يكن هذا موجبًا لأن يوجد بيننا فقراء ومساكين، وأمرنا أن نفك رقاب الأرقاء ونعاملهم بالحسنى ولم يدل ذلك على أن الرق مأمور به في الدين، وذكر الله الطلاق والاستدانة والبيع والرهن وغيرها وشرع لها أحكامًا، ولم يدل ذلك بمجرده على أن شيئًا منها واجب في الدين.»

ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذه الأمثلة بعد أن كشفنا لك عن وجه دلالة الأمر بإطاعة صاحب الدولة على حكم ولايته، وذلك الوجه من الدلالة لا يوجد في هذه الأمثلة، وما كان لها إلا أن تلف رءوسها حياء وتزدحم على باب هذا المبحث متسابقة إلى الخروج منه.

١  ج٤، ص٨٧.
٢  أصحاب نجدة بن عامر الحروري أحد بني حنيفة.
٣  انظر باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل، ص٣٢، مطبعة المعارف النظامية بحيدر آباد سنة ١٣١٦.
٤  ص٢٠٢.
٥  ص ٤٦٨، طبع الآستانة.
٦  فتح الباري، ج١٣، ص٩١، مطبعة الخشاب.
٧  ج٣، ص١٩٤، الطبعة التونسية.
٨  منه ص١٩٥.
٩  ج١٠، ص٢٢١.
١٠  ج١، ص١٩٩، طبع الآستانة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤