الباب الثالث

الخلافة من الوجهة الاجتماعية

المناقشة – بحث في الاحتجاج بالإجماع – الإمام أحمد والإجماع – المسلمون والسياسة – كلمات سياسية لبعض عظماء الإسلام – النحو العربي ومناهج السريان – الإسلام والفلسفة – بحث في مبايعة الخلفاء الراشدين وأنها كانت اختيارية – بحث في قوة الإرادة – بحث في الخلافة والملك والقوة والعصبية – نظام الملكية لا ينافي الحرية والعدل – إبطال دعوى المُؤلِّف أن ملوك الإسلام يضغطون على حرية العلم – عدم تمييز المؤلف بين الإجماع على وجوب الإمامة والإجماع على نصْب خليفة بعينه – وجه عدم الاعتداد برأي من خالفوا في وجوب الإمامة – القرآن والخلافة – السنة والخلافة – الإجماع والخلافة – شكل حكومة الخلافة – وجه الحاجه إلى الخلافة – آثارها الصالحة.

***

ملخص الباب

حكى المؤلف الإجماع على نصب الخليفة بلفظ زعموا، وتوخى في الحكاية عبارة العضد في المواقف، ثم أخذ يلمح إلى ما في حجية الإجماع من الاختلاف، وصرح بأن دعوى الإجماع في هذه القضية لا يجد لقبولها مساغًا على أي حال، ثم خيل إلى القارئ أن مناجزته لدعوى الإجماع تتوقف على تمهيد يكون كالطليعة تتقدم جيوش حججه الهاجمة، فطفق يلمز المسلمين بسوء الحظ في علم السياسة، وادعى أنهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم، وارتدوا دون مباحثه حسيرين، وسأل عن علة هذه الوقفة الحائرة والارتداد الخاسر، ثم انتصب ليجيب نفسه بلسانه، فزعم أن الخلافة في الإسلام لا ترتكز إلا على القوة الرهيبة، ولا ترتفع إلا على رءوس البشر، وأن من الطبيعي في الأمم الإسلامية بوجه خاص أن لا يقوم فيهم ملك إلا بحكم الغلب والقهر، وأخذ يسرد بعض وقائع تاريخية، وتخلص منها إلى ضغط الملوك على حرية العلم، واستبدادهم بمعاهد التعليم، وانتهى إلى أن هذا الضغط هو سبب قصور النهضة الإسلامية في فروع السياسة، ونكوص العلماء عن التعرض لها، ثم وثب من الحديث على الضغط الملوكي إلى الطعن في الإجماع على نصب الإمام.

وكانت نتيجة البحث — فيما يتخيل — أن لا دليل على الخلافة من كتاب أو سنة أو إجماع، ثم عجم الدليل النظري القائم على قاعدة رعاية المصالح، فلم يهتدِ إلى شبهة لإنكاره، فاعترف به، ولكن ذهب إلى أنه يقتضي إقامة حكومة، ويبقى شكلها دائرًا بين الدستورية والاستبدادية والجمهورية والبلشفية وغير ذلك، وذهب إلى أنه لا يوافق العلماء على الإمامة إلا أن يريدوا بها الحكومة في أي صورة كانت، ثم انساب في ذيل البحث يقذف الخلافة بغير استثناء، ويحمل عليها أوزار قوم أطفئوا نورها، وأسقطوا من القلوب مهابتها، وقفل الباب بزعم أن الإمامة العظمى لم تكن شيئًا قام على أساس من الدين القويم، أو العقل السليم.

المناقشة

قال صاحب الكتاب ص٢٣: «نسلم أن الإجماع حجة شرعية ولا نثير خلافًا في ذلك مع المخالفين.»

من أول ما عني به الإسلام في تشريعه أن أطلق العقول من وثاق التقليد، وفتح أمامها باب النظر حتى تعبر إلى قرارة اليقين على طريق الحجة والبرهان، قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، وقال: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. وقد جرى علماء الإسلام ولا سيما السلف الصالح على هذا المنهج، فكانوا لا يتابعون ذا رأي على رأيه ولا يتقلدون حكمًا قبل أن يعلموا مستنده، وإذا عرفوا المستند عرضوه على قانون الأدلة السمعية، ووزنوه بميزان النظر؛ ليعلموا مبلغه من الصحة، فإذا ثبت على النقد، وسلم من وجوه الطعن رفعوه على كاهل القبول، وإلا نبذوه نبذ الحذاء المرقع غير مبالين بمقام مدعيه وإن حاكى القمر رفعة وسناءً.

ومن درس مسائل الخلاف من عهد الصحابة — رضي الله عنهم — إلى العصر الذي ساد فيه القول بسد باب الاجتهاد، رأى الصحابة كيف يخالف بعضهم بعضًا، ولا ينقاد صغيرهم إلى كبيرهم إلا بزمام الحجة، وسار على هذا الاستقلال وحرية الفكر التابعون فمَن بعدهم، ولا يكبر على أحد من المجتهدين أن يناظر أستاذه أو من كان أوفر منه علمًا وأوسع نظرًا، فيقارع حجته بالحجة، حتى إذا لم تمتلئ نفسه بالثقة من أدلته اجتهد لنفسه، وأقام بجانب مذهبه مذهبًا. ولتجدن من هؤلاء من يبلغه مذهب الصحابي في قضية لم ينعقد عليها إجماع، فيستأنف النظر في دلائلها، ولا يكون في صدره حرج أن يخالف الصحابي، أو يرجح مذهب تابعي على مذهبه.

ومن عنايتهم بتحقيق الأحكام وإبايتهم تناولها إلا من يد الدليل القاطع أو الراجح أن دوَّنوا الأحاديث، ونصبوا لها ميزانًا يُعرف به صحيحها من ضعيفها، أو ضعيفها من موضوعها، ثم وضعوا لاستنباط الأحكام أصولًا، وقرروا لاستخراجها قواعدَ، وشرطوا في هذه الأصول والقواعد أن تكون قائمة على بينة قاطعة.

فإذا كان الإسلام قد فتح للاجتهاد والنظر في الأدلة طريقًا واسعًا، وكان من سيرة علمائه الراسخين نقد الأقوال وعدم السكوت عنها إلا أن تستند إلى حجة عاصمة؛ فإن القضية التي تُلقى على بساط البحث والاستفتاء، وتتداولها أنظارهم حتى تستقر على حكم يقررونه بإجماع، وينطقون فيه عن تصميم، نعرف بحكم العادة معرفة لا تخالجها ريبة أن تلك القضية أخذت حظها من النظر، وأنه لم يبقَ فيها لمخالف وجهٌ يلتفت إليه، وبالأحرى ما كان في عصر الصحابة الذين شهدوا الوحي ووقفوا على روح التشريع، ولم يعرفوا في قول الحق هوادة ولا محاباة.

وقد تأيد هذا النظر بطول الاختيار والاستقراء، فلتجدن كل رأي يتهجم به مبتدعه على خرق إجماع أهل العلم متداعيًا إلى السقوط، بل قائمًا على رأسه، بحيث لا يكلفك هدمه إمعانًا في نظر، أو عناء في التماس حجة.

قال أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته:١ «قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطًا أو مغالطة.»
ولم تؤخذ حجية الإجماع من الكتاب والسنة بنصوص معدودة، بل حجيته منتزعة من آيات كثيرة وأحاديثَ شتى، وإذا كان كل واحد منها يدل بانفراده على حجية الإجماع دلالة ظنية، فإن الظنيات الكثيرة إذا تواردت على معنى أفادت علمًا لا تخالجه ريبة، قال أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات:٢ «الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع … وإذا تأملت كون أدلة الإجماع حجة، أو خبر الواحد أو القياس حجة؛ فهو راجع إلى هذا المساق، لأن أدلتها مأخوذة من مواضعَ تكاد تفوق الحصر.»

وها هنا أدلة أخرى تدل بوجه خاص على حجية إجماع الصحابة — رضي الله عنهم — وقد وقف عند حد هذه الأدلة من قال: لا حجة إلا في إجماع الصحابة.

ولنكتفِ بهذه الكلمة في التنبيه على وجه حجية الإجماع وعده في الأدلة القاطعة.

•••

قال المؤلف في ص٢٢: «ولا نقول مع القائل: من ادعى الإجماع فهو كاذب.» وكتب في أسفل الصحيفة عازيًا هذه المقالة إلى الإمام أحمد بما نصه: «روي ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل. راجع تاريخ التشريع الإسلامي لمؤلفه محمد الخضري.»

انتزع المؤلف هذه الكلمة المروية عن الإمام أحمد من تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ محمد الخضري وأطلقها في طليعة الباب؛ لتثير في نفوس القارئين شكًّا، وتجعلهم على ريبة من حجية الإجماع. أطلق هذه الكلمة كأنه يجهل موردها ويجهل أن الإمام أحمد لا يعني بها الإجماع المعروف في الأصول، وإنما يعني بها الرد على بعض الفقهاء الذين ينظرون إلى الواقعة حتى إذا لم يطلعوا على خلاف في حكمها سموه إجماعًا، قال ابن القيم في كتاب أعلام الموقعين:٣ «ولا يقدِّم — يعني الإمام أحمد — عدم علمه بالمخالف، الذي يسميه كثير من الناس إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كذَّب أحمد من ادعى هذا الإجماع، وكذلك الشافعي أيضًا نص في رسالته الجديدة على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له: إجماع … وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: ما يدعي فيه الرجل الإجماع فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا … ولكنه يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك. هذا لفظه … فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجوده.»
فالإمام أحمد بن حنبل إنما ينكر على الفقيه أن يسمي عدم علمه بالخلاف إجماعًا، وعلى مثل هذا جرى ابن حزم في كتاب الإحكام فقال: «تحكم بعضهم فقال: إن قال عالم: لا أعلم هنا خلافًا، فهو إجماع، وإن قال ذلك غير عالم فليس إجماعًا! وهذا قول في غاية الفساد، ولا يكون إجماعًا، ولو قال ذلك محمد بن نصر المروزي.»٤

•••

قال المؤلف في ص٢٢: «من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود؛ فلسنا نعرف لهم مؤلفًا في السياسة ولا مترجمًا، ولا نعرف لهم بحثًا في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليل لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون.»

ظل المؤلف مستهترًا بشهوة فصل الإسلام عن وظيفة إصلاح السياسة، فرأى أن من المقدمات المساعدة له على هذا الغرض مخاتلة نفس القارئ، وأخذها إلى الاعتقاد بأن زعماء الإسلام أو علماءه أهملوا النظر في أنظمة الحكم وأصول السياسة.

لم يكن حظ المسلمين من علم السياسة سيئًا، ولا وجودها بينهم كان أضعف وجود، وعرفنا لهم في السياسة مؤلفات شتى: اطلعوا على كتاب السياسة لأفلاطون، الذي عربه حنين بن إسحاق، وترجم بعض فصوله أيضًا أحمد بن يوسف الكاتب المتوفى سنة ٣٤٠ﻫ،٥ وكتاب السياسة تأليف قسطا بن لوقا البعلبكي، وكتاب المتوج في العدل والسياسة للصابي، وأشار ابن خلدون في مقدمته٦ إلى أن كتاب أرسطو في السياسة كان متداولًا بين الناس، وألف الكندي في السياسة اثني عشر تأليفًا؛ منها رسالته الكبرى في السياسة، ورسالة في سياسة العامة.
وألف أحمد بن الطيب، أحد المنتمين إلى الكندي، كتاب السياسة الكبير وكتاب السياسة الصغير، وألف أبو نصر الفارابي ثمانية مؤلفات في السياسة؛ منها: السياسة المدنية، «وهو الاقتصاد السياسي الذي يدعي أهل التمدن الحديث أنه من مخترعاتهم.»٧ ومن مؤلفاتهم كتاب سياسة الملك للماوردي، وسياسة المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع، «وهو جليل جدًّا لم يغادر بحثًا من أبحاث العمران والسياسة والأخلاق إلا طرقه.»٨ وكتاب سراج الملوك لأبي بكر الطرطوشي، وكتاب نهج السلوك في سياسة الملوك للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله، وقوانين الدواوين في نظام حكومة مصر وقوانينها لأبي المكارم أسعد بن الخطير، إلى غير ذلك من فصول ممتعة احتوى عليها كتاب المسالك لابن خرداذبه، ومقدمة ابن خلدون، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه.
ويتصل بهذا كتب في أخلاق الملوك ككتاب أخلاق الملوك للفتح بن خاقان،٩ وكتاب التاج في أخلاق الملوك للجاحظ، وكتاب أخلاق الملوك لمحمد بن حارث التغلبي،١٠ والتاج في سيرة كسرى أنو شروان لابن المقفع،١١ وكتاب السفارة والسفراء،١٢ وكتاب جند الوزارة وحراسة حصن الصدارة لحسن بن عبد الكريم البرزيخي١٣ وكتاب لطائف الأفكار وكاشف الأسرار في علم السياسة، ألفه القاضي حسين بن حسن السمرقندي للوزير إبراهيم باشا سنة ٩٣٦ في خمسة أبواب؛ الأول في السياسات، فهو من قبيل الموسوعات، لكنه يشتمل على ضروب من السياسة. منه نسخة في فينا.١٤

هذا ما اطلعنا عليه أو على التعريف به في بعض كتب التاريخ، وقد مُنيت المكاتب الإسلامية من بلايا الإحراق والإغراق والإتلاف التي سامها بها أعداء العلم على ما هو معروف في التاريخ من هجمات التتار على بغداد، ونائبة خروج المسلمين من الأندلس، ونكبات الحروب الصليبية في الشام ومصر وغيرهما، علاوة على ما غشى الأمة من ظلمات الجهل في عصورها الأخيرة حتى ضاع من بين أيديها كثير مما أبقته تلك النكبات.

هذا، وقد شهد أولو العلم أن الإسلام قد رسم للسياسة خطة واسعة، وسن لها نظمًا عامة، حسبما نوافيك ببيانه في الموضع اللائق به، فصرفوا أنظارهم في دراسة تلك الخطة، والتفقه في هاتيك النظم؛ حيث كانت سياستهم العملية موصولة بها، وقائمة على أسسها. ومن المؤلفات على هذا النمط كتاب غياث الأمم لإمام الحرمين، وكتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، وكتاب السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعية لابن تيمية، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وكتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى،١٥ وكتاب إكليل الكرامة لصديق حسن خان، ورسالة السياسة الشرعية لإبراهيم بخشى زاده، توجد في برلين.١٦
آثر المسلمون أن ينظروا إلى السياسة بمرآة الشريعة، فترى كثيرًا من رجال الدولة إذا حركوا أقلامهم في تحرير سياسي نفخوا فيه روحًا من حكمة الشريعة، وكسوه حلة من حلل آدابها الوضاءة. وانظر الكتاب١٧ الذي أرسله طاهر بن الحسين إلى ابنه عبد الله بن طاهر — لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما — تجده يقول فيه: «واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة؛ فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم في ذلك بالسنن المعروفة.»

ثم قال: «واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الزور والكذب، وابغض أهل النميمة؛ فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، وإن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم له أمر.»

وكذلك يقول لسان الدين بن الخطيب في رسالة له في السياسة:١٨ «رعيتك ودائع الله تعالى عندك، ومرآة العدل الذي عليه جبلك، ولا تصل إلى ضبطهم إلا بإعانة الله تعالى التي وهب لك. وأفضل ما استدعيت به عونه منهم، وكفايته التي تكفيهم تقويمُ نفسِك عند قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم ووضيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما لها وما عليها أخذًا يحوط مالها، ويحفظ عليها كمالها إلخ.»
ويجري على هذا المثال رسالة الحسن بن أبي الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز في صفة الإمام العادل، ومما يقول فيها: «واعلم يا أمير المؤمنين، أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟!»١٩
وكتب إليه في رسالة أخرى:٢٠ «… فكن للمثل من المسلمين أخًا، وللكبير ابنًا، وللصغير أبًا، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطًا واحدًا فتدخل النار.»

فالحق أن حظ المسلمين في السياسة لم يكن منقوصًا، وأن منزلتهم فيها كانت فوق المنزلة التي قعد بهم المؤلف عندها وبالغ في استصغار شأنها.

•••

قال المؤلف في ص٢٣: «ذلك وقد توفرت عندهم الدواعي التي تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تعدهم للتعمق فيها. وأقل تلك الأسباب أنهم مع ذكائهم الفطري، ونشاطهم العلمي كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم. وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودرسها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة وتحببه إليهم.»

قام المؤلف ليذكر لنا سببًا شأنه أن يغري المسلمين بالسياسة ويجعلهم مولعين بالخوض في غمارها، والتفت يمينًا وشمالًا فوقع اختياره على انكبابهم على ترجمة كتب الفلسفة والعلوم اليونانية ودراستها، ولم يهتدِ إلى أن لدى المسلمين سببين عظيمين يحثانهم على النظر في السياسة، ويؤكدان حرصهم على البراعة في صناعتها:
  • أحدهما: أنهم كانوا أمة فاتحة بلغت في عزها وسطوتها أن قوضت عروش قوم جبارين، ومدت سلطانها العادل على شعوب مختلفة في طبائعها وعاداتها وطرق تفكيرها. والفاتح الغيور على استقلال بلاده أشد حاجة، وأسرع يدًا إلى إتقان فن السياسة من مرتاح البال للبقاء تحت سلطة دولة أخرى.
  • ثانيهما: أن الإسلام شرع للسياسة أصولًا في أحسن مثال، وحارب الاستبداد باليمين والشمال، فأذاق أمته طعم الحكومة اللينة الحازمة، وشب في أحضانه رجال شهد بدهائهم السياسي أعداؤهم المنصفون.

هذان السببان ندبا المسلمين إلى النظر في مبادئ السياسة وأصول الحكم، فانتدبوا إليها، وكانوا أساتذة العالم في السياسة كما كانوا أساتذته في العلوم الفلسفية، فهما أحق بأن يخطرا على قلب المؤلف، ولكنه يكره أن يعترف بأن في تعاليم الإسلام مبادئ سياسية، أو أن حكومة من حكومات الإسلام أذاقت الناس طعم السياسة الرشيدة.

•••

قال المؤلف في ص٢٣: «وهناك سبب آخر: ذلك أن مقام الخلافة الإسلامية كان منذ الخليفة الأول أبي بكر الصديق — رضي الله تعالى عنه — إلى يومنا هذا عرضة للخارجين عليه المنكرين له، ولا يكاد التاريخ الإسلامي يعرف خليفة إلا عليه خارج.» ثم قال في ص٢٤: «مثل هذه الحركة «حركة المعارضة» كان من شأنها أن تدفع القائمين بها إلى البحث في الحكم، وتحليل مصادره ومذاهبه، ودرس الحكومات وكل ما يتصل بها، ونقد الخلافة وما تقوم عليه إلى آخر ما تتكون منه علوم سياسية، لا جرم أن العرب قد كانوا أحق بهذا العلم وأولى من يواليه.»

لم يعارض طائفة من المسلمين الخلافة في نفسها، أو كونها ذات حكومة يرأسها فرد حتى تدعوهم المعارضة إلى درس الحكومات؛ ليختاروا منها الشكل الذي يروقهم، وإنما ينكر المعارضون شيئًا من تصرف الخليفة، أو يدعون أن غيره أحق بالإمارة وأقوم عليها. وهذا يقتضي البحث في طرق العدل وشروط الخليفة، وحكم الخروج عليه. وقد بحث أهل العلم في هذه المطالب بأوفى عبارة وأبسط بيان، حرروا الكلام في الأصول الفارقة بين عادل الأحكام وجائرها، وأفاضوا القول في شروط الأمراء وموجبات خلعهم، ومتى بحثوا في الحكم من حيث انطباقه على مبادئ العدالة أو انحرافه عنها، فإنهم لا يعرفون قانونًا لعدالة الأحكام أو جورها غير موافقتها لأصول الشريعة أو نشوزها عنها. فمن هذا الوجه كان المعارضون يبحثون في الحكم، وينقدون سيرة الخلفاء مقتدين بقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

ومتى صح أن يكون الخروج على الخليفة سببًا للبحث عن مبادئ السياسة؛ فقد أريناك وسنريك آية نهوض المسلمين بعلم السياسة وتفوقهم في إدارة شئونها.

•••

قال المؤلف في ص٢٤: «فما لهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم وارتدوا دون مباحثه حسيرين؟! ما لهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو، وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن لقبوه المعلم الأول؟!»

عُني المسلمون من علوم اليونان بالفنون التي كانت غير معروفة لهم، أو كانت بضاعتهم فيها مزجاة، وكانوا يصرفون عنايتهم إلى هذه العلوم على قدر ما يرون لها من فائدة، وعلى حسب ما تمس إليه الحاجة، فأقبلوا على العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفة والمنطق بمجامع قلوبهم، وأعطوا جانبًا من عنايتهم إلى ما نقل لهم من سياسة أفلاطون وأرسطو، مع علمهم بأن أيديهم مملوءة بمبادئ السياسة الكافية في تدبير مصالح الأمة وصيانة حقوقها على منهج الحرية السامية والعدالة الصادقة.

كانوا يرون أن فيما أضاء لهم من مشكاة الشريعة، أو جرى على ألسنة حكمائهم ما إذا اتسق لذي فطرة سليمة وألمعية مهذبة أصبح سائسًا خطيرًا، أو مصلحًا كبيرًا.

ومن نظر في تاريخ عظماء الإسلام ببصيرة لم تفتتن بزخرف المدنية الغربية رأى في سيرتهم العملية، وما يلفظون به من نوابغ الكلم ما يشهد له بأنهم أدركوا في فن السياسة شأوًا بعيدًا، ولم يكن حظهم منها أقل من حظ دارسي كتابي الجمهورية والسياسة.

ولا أسرد في هذا المقام شيئًا من الآيات والأحاديث التي تعد في مبادئ السياسة المثلى؛ فإنها مقروءة بكل لسان، ومشهود لها بالحكمة من كل ذي عقل، وإنما أسوق من أثر أولئك العظماء كلمات أضربها كالمثل؛ ليتبين القارئ ماذا نريد من تلك الكلم النوابغ، وليعرف أن رجالًا في الإسلام أحرزوا في السياسة القدح المعلى، ورموا عن قوس لم تكن من صنع أفلاطون ولا أرسطو، فأبعدوا المرمى وأصابوا الغاية.

أريد من تلك الكلم النوابغ أمثال قول عمر بن الخطاب — لما قيل له: إنك تستعين بالرجل الفاجر: «إني لأستعين بالرجل لقوته ثم أكون على قفَّانه.»٢١ وقول أبي سفيان لعثمانَ — رضي الله عنه — حين همَّ أن يرد إليه مالًا صادره عمر بن الخطاب ووضعه في بيت المال: «لا ترد على مَن قبلك فيرد عليك من بعدك.» وقول عمر بن عبد العزيز حين قال له ابنه عبد الملك: ما لك لا تنفذ الأمور؟ «لا تعجل يا بني، إني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيتركوه جملة وتكون فتنة.» وقول معاوية بن أبي سفيان: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.» قيل: وكيف ذلك؟ قال: «كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.» وقوله: «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.» وقوله: «والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يشتفي به القائل بلسانه؛ فقد جعلت له ذلك دُبر أذني وتحت قدمي.» وقول المهلب للحجاج حين كتب إليه يستعجله في حرب الأزارقة: «إن من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره.»
هذا نموذج من كلماتهم السياسية المقولة على البداهة، ولو أخذنا نملي عليك من أنبائها لأخرجنا بها كتابًا قيمًا، ولو تناولها ذو فكر خصب وقلم مثمر لأنشأ من أصولها فروعًا، وأجرى من منابعها أنهارًا. وقد كان القوم يقومون على هذه الأصول، ويجمعون إليها علم التاريخ الذي هو الركن الأعظم لإجادة النظر في السياسة؛ ولهذا المعنى كانوا يتحرون في تقليد المناصب من له خبرة واسعة بأنباء الأمم وأيامها الخالية. أرسل عمر بن هبيرة إلى إياس بن معاوية وسأله أسئلة أجابه عنها، ثم قال له: تعرف من أيام العرب شيئًا؟ قال: نعم، قال: فهل تعرف من أنباء العجم شيئًا؟ قال: أنا بها أعلم، قال: إني أريد أن أستعين بك، ثم قال له: قم قد وليتك.٢٢

وصفوة القول أن المسلمين اطلعوا على سياسة أفلاطون وسياسة أرسطو وألفوا في السياسة المدنية والسياسة الشرعية، فملكوا من السياسة النظرية كنزًا قيمًا، ولولا أنهم كانوا ينفقون من هذا الكنز القيم لما ارتفعت سياستهم العملية على سياسة تلاميذ أفلاطون وأرسطو درجات.

•••

قال المؤلف في ص٢٤: «وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم النحو.»

هذا شيء ظنه جرجي زيدان فالتقطه المؤلف من ورائه وجاء به على أنه قضية مسلمة، قال في تاريخ التمدن الإسلامي٢٣ وفي تاريخ آداب اللغة العربية:٢٤ «ويغلب على ظننا أنهم نسجوا في تبويبه — يعني النحو — على منوال السريان؛ فإن السريان دونوا نحوهم وألفوا فيه الكتب في أواسط القرن الخامس للميلاد.»

ثم قال: «فالظاهر أن العرب لما خالطوا السريان في العراق اطلعوا على آدابهم، وفي جملتها النحو، فأعجبهم، فلما اضطروا إلى تدوين نحوهم نسجوا على منواله؛ لأن اللغتين شقيقتان. ويؤيد ذلك أن العرب بدءوا بوضع النحو وهم بالعراق وبين السريان والكلدان، وأقسام الكلام في العربية هي نفس أقسامه في السريانية.» ثم قال: «وكأنه — يعني أبا الأسود — تعلم لغة السريان أو اطلع على نحوها فرغب في النسج على منواله.»

فالمسألة لم تزل في حدود الافتراض، وليس لها من شبهة سوى أن واضعي علم النحو من العرب كانوا بالعراق بين السريان والكلدان، وأن أقسام الكلام في العربية هي أقسام الكلام في السريانية، ولكن كتاب الإسلام وأصول الحكم لا يبالي أن يسوق المشكوك فيه مساق المعلوم، أو يورد المعلوم في صورة المشكوك فيه.

•••

قال المؤلف في ص٢٤: «بل رضوا بأن يمزجوا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر، وإيمان وكفر.»

خفقت ريح الفلسفة في بعض البلاد الشرقية كمصر والهند، وجالت في أندية اليونان أمدًا بعيدًا، وما برحت تتلقى من أفواه الأساتذة، وتلتقط من صحائف المؤلفين إلى أن طلع كوكب الهدى الإسلامي، وتدفقت أشعته على البصائر النقية، فلم تلبث الفلسفة أن التقت في أوائل عهد الدولة العباسية بذلك التعليم السماوي، والتحقت بالعلوم الخادمة له في تأييد قواعد السياسة ونظام الاجتماع.

لا يذهب إلى أن الإسلام يتجافى عن الفلسفة سوى رجل التقم ثدي الفلسفة، وشب في أطواقها، ولم ينظر في حقائق هذا الدين ببصيرة وروية، أو مسلم لم يخض غمار المباحث الفلسفية وحسب أن جملتها قضايا باطلة، ولا سيما حيث لا يترامى إليه من أبوابها سوى نبذة من الآراء المنكرة على البداهة.

في الفلسفة قضايا تثق بها العقول الراجحة، وتنهض بجانبها الأدلة القاطعة، وهذه لا تصادم شيئًا من نصوص الدين الواردة في كتاب أو سنة ثابتة، والذي لا يلتقي مع هذه النصوص إنما هو بعض آراء لم تقم على مشاهدة أو نظر حكيم. وقد ضاعت في شعاب هذا النوع قلوب فئة استخَفَّهم الغرور إلى أن يُلقَّبوا بالفلاسفة، وتخيلوا أن هذا اللقب لا يحرزه إلا من آمن بكل ما يلفظ به الغربيون، فتطوح بهم التقليد الجامد إلى القدح في نصوص الشريعة، أو التعسف في تأويلها.

خرجت الفلسفة على علماء الإسلام وقد اعتادت أنظارهم التقلب في مسالك الاجتهاد، وتمحيص ما يقع إليها من الآراء، فبسطوا إليها أيديهم وفتحوا لها صدورهم، ولكنهم لم يرفعوها إلى المقام الذي يمنعهم من مناقشتها، وتقويم المعوج من مقالاتها.

نفقت سوق الفلسفة فمدَّ إليها بعض القاصرين أيديهم، واتخذوا منها ظهيرًا لآراء سخيفة يعتنقونها، أو شُبَه على الدين يوردونها، وما كان من أولي العلم إلا أن تصدوا لنقض تلك الآراء، ومطاردة هاتيك الشبه، واضطروا في تقويمهم وكف بأسهم إلى استعمال السلاح الفلسفي الذي هاجموهم به، ولم يبالوا أن يمزجوا عقائدهم الصحيحة بالفلسفة اليونانية ما داموا يحملون في أناملهم أقلامًا تفرق بين خيرها وشرها، وإيمانها وكفرها.

•••

حكى المؤلف قول ابن خلدون: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل العقد والحل، وقول السيد محمد رشيد رضا: إن الإمامة عقد تحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد ممن اختاروه إمامًا للأمة، بعد التشاور بينهم، ثم قال في ص٢٥: «قد يكون معنى ذلك أن الخلافة تقوم عند المسلمين على أساس البيعة الاختيارية، وترتكز على رغبة أهل الحل والعقد من المسلمين ورضاهم، وقد يكون من المعقول أن توجد في الدنيا خلافة على الحد الذي ذكروا، غير أننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر وجدنا أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت، إلا في النادر، قوة مسلحة، فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه إلا الرماح والسيوف.»

ثم قال: «قد يسهل التردد في أن الثلاثة الأول من الخلفاء الراشدين مثلًا شادوا مقامهم على أساس القوة المادية، وبنوه على قواعد الغلبة والقهر، ولكن أيسهل الشك في أن عليًّا ومعاوية — رضي الله تعالى عنهما — لم يتبوَّأا عرش الخلافة إلا تحت ظلال السيوف وعلى أسنة الرماح؟!»

يتكلم ابن خلدون والسيد محمد رشيد رضا عن الطريق الذي تنعقد به الخلافة شرعًا، وهو اختيار أهل الحل والعقد، ومن المعقول جدًّا أن توجد خلافة على هذا الحد، وكذلك كانت إمارة الخلفاء الراشدين؛ فإن مبايعتهم تقررت باختيار من أهل الحل والعقد، ولا أثر للقهر والغلبة في انعقادها.

أما مبايعة أبي بكر الصديق فقد روى البخاري في كتاب الحدود من صحيحه الخطبة التي ألقاها عمر بن الخطاب حاكيًا واقعة مبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، وبعد أن أتى على المناقشة التي دارت بين أبي بكر وبعض الأنصار، قال: «فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقتُ من الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار.» وفي باب مناقب أبي بكر من صحيح البخاري أيضًا: «أن أبا بكر الصديق قال للأنصار: بايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك أنت؛ فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله . فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس.»

فأنت ترى كيف بويع أبو بكر الصديق، وليس حوله قوة مال ولا جند ولا سلاح، ولم تصدر منه كلمة تؤذن بتهديد أو إكراه. وقصارى ما وقع في المحاورة أن بعض الأنصار قالوا للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. ورد عليهم أبو بكر بأن هذا الأمر لن يُعرف إلا لهذا الحي من قريش؛ هم أوسط العرب نسبًا ودارًا. ثم أشار عليهم بمبايعة عمر بن الخطاب أو أبي عبيدة، ولما كثر اللغط وارتفعت الأصوات أوجس عمر خيفة من أن ينحدر بهم الاختلاف إلى عاقبة سيئة، فلم يتمالك أن بسط يده إلى مبايعة أبي بكر، وامتدت أيدي المهاجرين والأنصار على أثره؛ فانعقدت البيعة من أهل الحل والعقد عن اختيار منهم، ولو كفوا أيديهم ولم يتابعوه على المبايعة لم تنعقد، كما نص عليه أبو المعالي في كتاب غياث الأمم.

ونحن نرى أن عمر بن الخطاب لم يبسط يده إلى المبايعة إلا بعد أن عرف أن معظم المهاجرين والأنصار يرون رأيه في أن أبا بكر الصديق أحق الناس بالخلافة. ومن شواهد هذا أن الحاضرين بسقيفة بني ساعدة لم يتباطئوا عن متابعة عمر في المبايعة، ثم أن أبا بكر الصديق جلس من الغد على المنبر وبايعه الناس البيعة العامة بعد بيعة السقيفة،٢٥ وهؤلاء المبايعون هم أصحاب رسول الله الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وتعلموا عن الرسول عليه السلام فضيلة الصراحة وعدم السكوت عن قول الحق ولو كانت الفاصلة بين الرءوس والأعناق، وقد سمَّى عمرُ — رضي الله عنه — مبايعته فلتة؛ لأنها لم تكن بعد إنهاء المشاورة.
قال ابن تيمية في منهاج السنة٢٦ شارحًا هذا الأثر: «ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار؛ لكونه كان متعينًا لهذا الأمر كما قال عمر: ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر. وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه، وتقديم رسول الله له على سائر الصحابة أمرًا ظاهرًا معلومًا، فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث.»

ومع كونها فلتة لا تجعل مبايعة أبي بكر مأخوذة بالقهر والغلبة، وتخلف بعض المهاجرين أو الأنصار عن البيعة حينًا من الزمن لا يخل بانعقادها، ولا يسلب عنها أن تكون مبايعة اختيارية؛ إذ المدار على رأي الأغلبية، وهي محل الاعتبار في سائر القوانين الدستورية. ولا شك أن الأكثرية الساحقة يومئذ بايعت أبا بكر عن رضا واختيار، ولو جرى الانتخاب بطريق الاقتراع السري على العادة المألوفة اليوم لم يفز بالإمامة غير أبي بكر الصديق — رضي الله عنه.

وأما عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — «فقد عهد إليه أبو بكر الصديق بالخلافة، وبايعه المسلمون بعد وفاة أبي بكر؛ فصار إمامًا لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم.»٢٧
وأما عثمان — رضي الله عنه — فقصة مبايعته أن عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة وقيل له: استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله وهو عنهم راضٍ. فسمَّى عليًّا وعثمان والزبير وطلحة وسعدًا وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء. ثم «إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، واتفق الثلاثة على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى، ويُولِّي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثًا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم؛ يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمراء الأنصار، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان؛ فبايعه لا عن رغبة أعطاهم إياها، ولا عن رهبة أخافهم بها.»٢٨
وقال ابن تيمية: «لم يصر عثمان باختيار بعضهم، بل لمبايعة الناس له، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد.»٢٩ وقال الإمام أحمد: «ما كان من القوم من بيعة عثمان كانت بإجماعهم.»٣٠
وأما علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — فمبايعته لم تكن تحت رهبة قط، ولا قامت تحت ظلال السيوف، كما يزعم المؤلف، بل «إن المهاجرين والأنصار اجتمعوا بعد مقتل عثمان — رضي الله عنه — وأتوا عليًّا وقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم. أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيتُ به، فاختاروا والله، فقالوا: ما نختار غيرك. ثم اختلفوا إليه مرارًا ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بأمره، وقد طال الأمر،٣١ وفي رواية أخرى أنه قال لهم: لا تفعلوا؛ فإني أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد؛ فإن بيعتي لا تكون خفيًّا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، وقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهتُ أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس.»٣٢

فمقصد الشارع من إقامة الخلافة على رضا أهل الحل والعقد قد تحقق في ولاية الخلفاء الراشدين — رضي الله عنهم — وسواء بعد ذلك أن تبايع الخليفةَ الخاصةُ ثم تبايعه العامة كما وقع في ولاية الصديق وعثمان بن عفان، أو يعهد له الخليفة ويقع عهده موقع القبول، ويعزز بمبايعة أهل الحل والعقد بعدُ كما وقع في ولاية الفاروق، أو يبايع مبايعة عامة في آن واحد كما وقع في ولاية علي بن أبي طالب — رضي الله عنه.

ولماذا لا يكون من المعقول أن توجد خلافة قائمة على اختيار أهل الحل والعقد، وهو أمر يرجع إلى قوة إرادة الأمة، ولقوة الإرادة في حياة الأمم وتمتعها بحقوقها تأثير بالغ وسلطان غالب.

مما يشهد به النظر وتؤيده التجربة أن الأمة متى كانت على بصيرة من حق، وعرفت الطريق الهادي إليه لم تنشب أن ينقلب تفكيرها فيه عزمًا صارمًا، وتقتحم كل عقبة تعترض في سبيلها، وإذا سمعت أمة تذكر غاية من العز وهي لا تتقدم إليها بخطوات سريعة، أو سمعتها تبدي الأسف لحق انفلت من يدها وهي لا تنشده بسعي متواصل؛ فاعلم أنها لا تزال في طور الأماني والآمال، ولم يبلغ إحساسها بتلك الغاية الشريفة أو ذلك الحق الضائع مبلغ الإرادة.

تعرف كلُّ قوة وإن كانت مسلحة أن إرادة الأمة قلاع لا تُفتح، وجيش لا ينهزم، فلا يكون منها إلا أن تخضع أمام سلطانها، وتعصى داعي الأهواء في مرضاتها، ولا يضطهد المستبد حقوق القوم إلا أن يفهم أن إحساسهم بها لا يزال معدومًا، أو أن شملَ إرادتهم ما برح في تخاذل وشتات.

وما مثل الأمم في أعمالها وقوة إرادتها إلا مثل السهم يخترق الهواء، ويرسم خطًّا يمتد على قدر قوة الوتر الذي يدفعه، ومتانة القوس التي ينفذ منها.

فالأفراد الذين جلسوا على عرش الخلافة بقوة مسلحة وعاثوا فيه فسادًا لم يلاقوا من الأمة قوة إرادة، ولم تكن للأمة قوة إرادة لأن شعورها بحقوقها لم يكن عامًّا، ولا يكون الشعور بالحق عامًّا لتقلص نور التربية والتعليم، أو لاختلاف طرقهما اختلافًا يجعل الأذواق وطرق التفكير تتفاوت تفاوتًا بعيدًا.

•••

قال المؤلف في ص٢٥: «وما كان لأمير المؤمنين محمد الخامس سلطان تركيا أن يسكن اليوم يلدز لولا تلك الجيوش التي تحرس قصره.»

وكتب معلقًا على هذا في أسفل الصحيفة ما نصه: «كتبنا ذلك يوم كانت الخلافة في تركيا وكان الخليفة محمد الخامس.»

لعل المؤلف كتب هذا الباب الثالث الذي هو في الخلافة من الوجهة الاجتماعية قبل أن يؤلف الباب الأول الذي هو في تعريف الخلافة، والباب الثاني الذي هو في حكم الخلافة، فإنه ذكر في ص١١ من الباب الأول رسالة الخلافة، التي نشرتها حكومة المجلس الكبير الوطني بأنقرة، وهي بالطبيعة متأخرة عن وفاة محمد الخامس، ونقل في ص١٦ عن كتاب الخلافة أو الإمامة للأستاذ السيد محمد رشيد رضا. وهذا الكتاب أيضًا لم يظهر، بل لم يؤلف إلا بعد حركة أنقرة التي ابتدأت بعد وفاة محمد الخامس. وأعجب من هذا أن المؤلف ذكر في أول سطر من هذه الصحيفة التي تحدث فيها عن محمد الخامس كتاب الخلافة أو الإمامة للسيد رشيد، فلعله أيضًا ألف شطر الصحيفة الأسفل قبل أن يؤلف شطرها الأعلى!٣٣

أراد المؤلف أن يتحدث عن جهل المسلمين بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات ويعلله بضغط الخلفاء والملوك، فأملى على قلمه معنى هو أن الخلافة والملك لا يرتكزان إلا على القوة القاهرة والسيوف المصلتة، واستمر يلوكه في جمل يَركب بعضها بعضًا، وعز عليه أن يفارقها حتى امتلأت بها خاصرتا كتابه، وأوشك القارئ أن لا يفهم منها إلا أن المؤلف يبرق ويرعد على القوة الحاكمة من حيث إنها ذات شوكة، وأعدت ما استطاعت من قوة الجند والسلاح!

قال ابن خلدون في مقدمته:٣٤ «إن المغالبة والممانعة إنما تكون بالعصبية.» وقال:٣٥ «إن الملك إنما يحصل بالتغلب، وإن التغلب إنما يكون بالعصبية.» وقال: «إن الدول العامة في أولها يصعب على النفوس الانقياد لها إلا بقوة قوية من الغلب … فإذا استقرت الرياسة في أهل النصاب المخصوص بالملك في الدولة، وتوارثوه واحدًا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النفوس شأن الأولية.»

أخذ المؤلف ما قرره ابن خلدون في سنَّة قيام الملك، وأجراه على مشروع الخلافة، فقال في ص٢٥: «لا نشك مطلقًا في أن الغلبة كانت دائمًا عماد الخلافة، ولا يذكر لنا التاريخ خليفة إلا اقترن في أذهاننا بتلك الرهبة المسلحة التي تحوطه، والقوة القاهرة التي تظله، والسيوف المصلتة التي تذود عنه، ولولا أن نرتكب شططًا في القول لعرضنا على القارئ سلسلة الخلافة إلى وقتنا هذا؛ ليرى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر والغلبة.»

تناول المؤلف ما قرره ابن خلدون وبسط القول في تعليله من أن الملك لا يحصل إلا بالتغلب، وأخذ يضرب به قوله: إن الخلافة راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد.

لا شك أن الفيلسوف ابن خلدون لا يرى تعارضًا بين مقالتيه؛ لأنه يفرق بين الخلافة والملك، وإن شئت تحقيق هذا البحث على وجه شرعي اجتماعي؛ فإليك التحقيق:

عرف الإسلام أن في الناس طبيعة التعصب للقومية، وأن هذه الطبيعة كثيرًا ما تطغى فتحمل صاحبها على التحيز لأخيه في القومية، والوقوف في صف أنصاره وإن كان مبطلًا.

عرف الإسلام ذلك فقرر مبادئ الأُخوَّة والمساواة، وأتى بما يهذب تلك الطبيعة ويقيم أودها؛ حتى لا تخف بالقبيلة إلى معاضدة أخيها إذا نهض لإرغام حق أو إقامة منكر.

قد يأذن الإسلام للرجل أن يؤثر بمعروفه أو مساعدته ابن عشيرته، أما عند تدبير مصلحة عامة أو تقرير حقوق مشتركة فيقطع النظر عن كل صلة، ولا يقيم لأي عاطفة وزنًا، إلا ما تقتضيه المصلحة، وتشير به القوانين العادلة، والآراء الراجحة. ولمثل هذا وكل تعيين الخلافة إلى اختيار أهل الحل والعقد، وجعل المسلمين في هذا الحق عصبة واحدة.

ليس من المتعذر على المسلمين أن يسيروا على هذه الخطة إذا لم يكن في ذي العصبية القوية من الكفاية ما يتحقق في غيره من ذوي العصبيات الواهنة، ومن المحتوم عليهم أن يختاروا ما فيه المقدرة الكافية، ويكونوا حوله قوة تنهزم أمامها كل عصبية قومية.

فإن كان ذو العصبية التي هي أشد وأقوى كافيًا لهذا المنصب؛ فللمسلمين أن يعدوا ما يحوزه من هذه القوة الطبيعية ميزة يرجح بها على غيره المماثل له في سائر شروط الخلافة. وهذا ما بنى عليه ابن خلدون فهمه لحديث: «الأئمة من قريش.» ورأى أن نسب القرشية في الحديث إنما يرمي إلى ما يحقق شرط الكفاية والقدرة على القيام بأعباء الخلافة؛ وهو قوة الحامية. وقد اختصت قريش لذلك العهد من بين سائر القبائل بقوة العصبية وشدة المراس، وذكر أن من القائلين بنفي اشتراط القرشية في الخلافة القاضي أبا بكر الباقلاني؛ حيث أدرك ما آلت إليه عصبية قريش من التلاشي والاضمحلال، واستبداد ملوك العجم على الخلفاء.٣٦

فالحق أن ما قرره ابن خلدون من أن الملك لا يحصل إلا بالقهر والغلبة لا يجري في الخلافة؛ فإنها قامت في عهد الخلفاء الراشدين على البيعة الاختيارية، والمؤلف نفسه تعاصت عليه الأدلة وخانته الشبه فلم يستطع أن يأتي بدليل أو شبهة على أن الخلافة في سائر أطوارها لم تقم إلا على القهر والغلبة.

•••

قال المؤلف في ص٢٧: «وطبيعي في الأمم المسلمة بنوع خاص أن لا يقوم فيهم ملك إلا بحكم الغلب والقهر أيضًا.»

يذهب المؤلف إلى أن نظام الملكية لا يقوم بين المسلمين عن اختيار منهم، وزعم أن مبادئ الحرية والإخاء والمساواة التي جاء بها الدين تقتضي أن لا يقوم فيهم ملك إلا بالقهر والغلبة.

والحكومة — في تقسيم أرسطو — إما ملكية أو أرستقراطية أو شعبية، وكل واحد من هذه النظم إما طبيعي؛ وهو ما يعمل لخير الأمة، أو جائر؛ وهو ما يتصرف في شئونها بغير حكمة.

فالملكية عند أرسطو قد تسير على منهج من العدل والنصح للرعية.

وقسم منتسكيو الحكومة إلى جمهورية وملكية واستبدادية. والفرق بين الملكية والاستبدادية أن الأولى تكون السلطة فيها بيد فرد يحكم بمقتضى قوانين مقررة، والأخرى لا يرتبط الحاكم فيها بقانون ولا عرف، بل يدير زمامها على ما يشاء ويهوى. فالملكية عند منتسكيو تخالف الاستبدادية.

فالواجب إذن على المؤلف أن يبين ماذا يريد من الملك؛ فإن الحكومة التي يرأسها فرد إذا كانت تعمل على طريق الحزم والشريعة العادلة لم نجد في مبادئ الإسلام ما يمنع من الإذعان لها، والنصح في مؤازرتها.

•••

قال المؤلف في ص٢٧: «من الطبيعي في أولئك المسلمين الذي يدينون بالحرية رأيًا، ويسلكون مذاهبها عملًا، ويأنفون الخضوع إلا لله رب العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل، في خمسة أوقاتهم للصلاة، من الطبيعي في أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من غيرهم، ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم، إلا خضوعًا للقوة، ونزولًا على حكم السيف القاهر.»

يقول الكواكبي في طبائع الاستبداد:٣٧ «بني الإسلام بل كافة الأديان على لا إله إلا الله، ومعنى ذلك أنه لا يعبد حقًّا سواه؛ أي سوى الصانع الأعظم. ومعنى العبادة التذلل والخضوع، فيكون معنى لا إله إلا الله: لا يستحق التذلل والخضوع شيء غير الله، فهل والحالة هذه يناسب المستبدين أن يعلم عبيدهم ذلك، ويعملوا بمقتضاه. كلا ثم كلا … ولهذا ما انتشر نور التوحيد في أمة قط إلا وتكسرت بها قيود الأسر.»

حقٌّ ما يقول الكواكبي ثم ما يقول المؤلف من أن الإسلام يرفع همم أتباعه، ويزكي نفوسهم من الخضوع إلى رجل منهم أو من غيرهم متى حاول اضطهادهم، أو العبث بحقوقهم.

أما إذا عرفوا من الرئيس المسلم عدلًا واستقامة؛ فإنهم يبذلون له حسن الطاعة، ويمحضون له النصيحة، ويكون صعوده على عرش الخلافة برضا واختيار منهم، وليس في هذا غضاضة على ما أشربوه في قلوبهم من مبادئ الحرية والمساواة وإخلاص العبودية لله، فإن الذي لقنهم الحرية والمساواة، وأمرهم بالإخلاص في توحيده هو الذي قال لهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، ثم إن الرعية التي كان يسوسها عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز كانت تمد رقابها إلى أميرها طائعة ولم تفقد شيئًا من حريتها، ولا إخلاص العبادة لخالقها.

•••

قال المؤلف في ص٢٨: «إنما الذي يعنينا في هذا المقام هو أن نقرر لك أن ارتكاز الخلافة على القوة حقيقة واقعة لا ريب فيها، وسيان بعد ذلك أن يكون هذا الواقع المحسوس جاريًا على نواميس العقل أم لا، وموافقًا لأحكام الدين أم لا.»

ملأ المؤلف آذاننا بكلام يدور على أن الخلافة والملك لم يرتكزا إلا على القوة والرهبة، ثم انقلب إلى حرفة التشكيك الذي آلى على نفسه أن لا يخرج بنا من بحث حتى يحاول أن يفتننا به مرة أو مرتين.

ونحن نلفت النظر عن الرأي المطوي في صدر المؤلف، ونلقى الكلمة الفاصلة فنقول: إن ارتكاز البيعة على القوة والسلطان، دون أن يكون لأهل الحل والعقد فيها اختيار، غير جارٍ على نواميس العقل، ولا موافق لما أرشد إليه الدين، وكذلك الدين والعقل السليم لا يختلفان في حكم.

أما استناد الخلافة بقوة الجند والسلاح بعد قيامها على قاعدة اختيار الأمة، فأمر ينطبق على قوانين العقل بغير تردد، وحق تهدي إليه الشريعة بحثٍّ وتأكيد، فإن القصد من إقامة السلطان كف الأيدي العادية على الحقوق، فوجب إعداد القوة من جند وسلاح لمكافحة الأعداء والبغاة، وحماية حرم الشريعة من أن تعبث بها يد آثمة أو نفس ماردة.

وعلى الأمة اليقظة أن تتخذ من التدابير ما يمكنها من مشاركة الخليفة في تصريف هذه القوة المسلحة، حتى إذا خاب ظنها فيه وأخذه الاستبداد بالإثم وجدت الطريق إلى اتقاء بأسه وكفِّ يده أمرًا ميسورًا.

•••

قال المؤلف في ص٢٨: «لا معنى لقيام الخلافة على القوة والقهر إلا إرصادهما لمن يخرج على مقام الخلافة أو يعتدي عليه، وإعداد السيف لمن يمس بسوء ذلك العرش، ويعمل على زلزلة قوائمه.»

لا بد للخلافة من أن تتقلد سيفًا وترتدي بإرهاب؛ لتتقي خطر عدو هاجم أو متحفز، وتقمع شر من يثير فتنة يضطرب لها نظام الأمن والسلام، وقد أتى عليها حِينٌ من الدهر وهي لا تنتضي حسامها، ولا تلمع بإنذارها ووعيدها إلا في وجه عدو يتربص بالمؤمنين الدوائر، أو ثائر عصفت به ريح الأهواء وما له في أولي الألباب من ولي ولا عاذر، وأدركها زمن بعدت فيه عن حقيقتها، فخلطت عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وربما كان إثمها في بعض الأحيان أكبر من نفعها، وليس إصلاح شأنها وإعادتها إلى سيرتها المثلى ممن يغارون على مصلحة الشرق واتحاد شعوبه ببعيد.

•••

قال المؤلف في ص٢٩: «وإذا كان في هذه الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم، ويسهل عليه العدوان والبغي، فذلك هو مقام الخلافة، وقد رأيت أنه أشهى ما تتعلق به النفوس، وأهم ما تغار عليه، وإذا اجتمع الحب البالغ والغيرة الشديدة، وأمدتهما القوة الغالبة فلا شيء إلا العسف، ولا حكم إلا السيف.»

الظلم والاستبداد ينشأان عن علتين؛ أولاهما: أن يحمل الحاكم بين جنبيه أهواء غالبة ونفسًا غير زاكية. وثانيتهما: جهل الأمة وتخاذلها بحيث لا يتحد زعماؤها على تقويمه بالتي هي أحكم وأقطع لدابر الاستبداد.

وقد بنيت الخلافة بحق على ما يتوقى به من هاتين العلتين الفاقرتين، فجاء في شروط الخليفة أن يكون عالمًا عادلًا، وجاء في واجبات الأمة أن تشاركه في الرأي، وتقوم على مراقبته وحمله على طريق العدل بالوسائل الكافية.

فإن وقع من الخليفة استبداد أو عدوان؛ فالتبعة ملقاة على عنق الأمة لا على مشروع الخلافة، ولو كان مقام الخلافة يحمل بطبيعته على الاستبداد والبغي لم ترفع العدالة رأسها، ولم تنشط الحرية من عقالها يوم جلس عليه الخلفاء الراشدون ومن حذا حذوهم كعمر بن عبد العزيز — رضي الله عنه.

•••

قال المؤلف في ص٣٠: «من هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم، واستبداد الملوك بمعاهد التعليم.»

بخس المؤلف حظ المسلمين في السياسة فكففنا شيئًا من غلوائه، وما راعنا منه الآن إلا أن يلصق بملوك الإسلام وصمة الضغط على حرية العلم، ويطلق العبارة بكل صراحة كأنه لا يشعر بأن في الدنيا شيئًا يقال له: التاريخ!

أيريد منا أن نطارحه الحديث في النهضة العلمية الإسلامية فنقف به على مبدأ نشأتها، أو نمر به على سائر أطوارها، ونريه كيف كان الملوك والأمراء يسعدونها بالترجمة، وإنشاء المدارس، وتأسيس المكاتب، وإجلال العلماء، وإسباغ النعم على المؤلفين؟! إنا عن تفصيل الحديث في هذا السبيل لفي شغل، ولا طاقة لنا إلا بأن نلقي على الحكومات الإسلامية نظرة إجمالية، ونقول فيها كلمة يطل منها القارئ على الحقيقة؛ ليشهد على بينة بأن المؤلف يباهت المسلمين وملوكهم على مسمع من التاريخ، ومرأى من مآثرهم الباقية.

قامت دولة بني أمية وكانت هممهم مصروفة إلى فتح البلاد، وتوسيع نطاق الدولة الإسلامية، فلم تتوجه عنايتهم إلى الزيادة على ما بين أيديهم من علوم إسلامية أو عربية، سوى ما جاء في التاريخ من أن معاوية بن أبي سفيان — رضي الله عنه — كان «يستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة.»٣٨ أو ما قام به خالد بن يزيد بن معاوية من نفسه، فاستقدم راهبًا روميًّا من إسكندرية وأخذ عنه صناعة الكيمياء، ثم أمر بنقلها إلى العربية، وكذلك عرَّب ماسرجويه، أحد الأطباء المعاصرين لعبد الملك بن مروان، كتابًا في الطب، وبقي في خزائن الكتب بالشام، ولما تولى عمر بن عبد العزيز أخرجه منها وأصبح متداولًا في أيدي الناس. وجاء في الفهرست لابن النديم٣٩ أن أبا العلاء سالمًا، كاتب هشام بن عبد الملك، نقَل من رسائل أرسطو إلى الإسكندر.

انقرضت دولة بني أمية في المشرق ولم ينهضوا بما عند الأمم الأخرى من علوم حكمية وفلسفية للعذر الذي أومأنا إليه، ولكنهم لم يضطهدوا عالمًا لعلمه، ولم يقطعوا سبيل علم دون مبتغيه.

ثم خلفهم بنو العباس وقد اتسع نطاق الممالك الإسلامية واستحكمت عرى الدولة، فما استقرت مقاليد الخلافة بأيديهم حتى نهضوا بالعلوم على اختلاف فنونها، فعني المنصور بنقل علوم الهندسة والطب والنجوم، وتتابع الخلفاء على هذه الخطة المحمودة، والنهضة العبقرية للخليفة المأمون أشهر من أن يشار إليها بالبنان، وظلت هذه النهضة قائمة يشد أزرها الخليفة عقب الخليفة حتى أصبحت علوم اليونان والفرس وغيرهما تدرس بلسان عربي مبين.

وهن عظم الخلافة العباسية وهيض جناحها فظهر حولها دول في الشام ومصر وفارس وخراسان وغيرها؛ كدولة بني بويه وبني حمدان وبني زيار وبني سامان والدولة الغزنوية والسلجوقية، وملوك هذه الدول القائمة على أطلال الخلافة العباسية «اقتدوا بخلفاء النهضة في ترغيب أهل العلم واستقدامهم إلى عواصمهم في القاهرة وغزنة ودمشق ونيسابور وإصْطَخْر وغيرها.»٤٠
ومن أشهر رجال هذه الدول وأعظمها أثرًا في إحياء العلم ورفع لوائه منصور بن نوح الساماني،٤١ ومحمود بن سُبكتكين الغزنوي، وسيف الدولة بن حمدان، وسابور بن أردشير،٤٢ وزير بهاء الدولة بن بويه، ونظام الملك،٤٣ وزير السلطان السلجوقي، وقابوس بن وشمكير الزياري، ويعقوب بن كلس، وزير العزيز بالله ثاني ملوك الدولة الفاطمية، والصاحب بن عباد، وزير مؤيد الدولة بن بويه، إلى غير هؤلاء من ملوك ووزراء عرفوا قيمة العلم، وخلوا سبيل الأفكار تتمتع بملاذه وتنفق من طيباته كيف تشاء.

وإذا سرحنا الطرف في دول الأندلس والمغرب رأينا كثيرًا من ملوكها شادوا صروح العلم، وأوسعوا ميدان المنافسة في فنونه؛ مثل: الحكم المستنصر بالله الخليفة بقرطبة، ويوسف بن عبد المؤمن سلطان مراكش، وغيرهما من ملوك الطوائف وبعض ملوك الدولة الحفصية والدولة الحسينية في تونس.

ولعل المؤلف قرأ في بعض الكتب أن من طبائع الاستبداد الضغط على العلم، فضم إلى هذه النظرية ما يعتقده من أن خلفاء الإسلام وملوكه مستبدون، فانتظم له قياس منطقي من الشكل الأول؛ وهو: ملوك الإسلام مستبدون، وكل مستبد يضغط على العلم، فالنتيجة: ملوك الإسلام يضغطون على العلم!

ولكن ماذا ينفع هذا القياس، والتاريخ الصحيح يشهد بأن خلفاء الإسلام وملوكه رفعوا لواء العلم، ومنهم انبعثت أشعته إلى الشرق والغرب؟! قال روبودان الإنجليزي في كتاب تاريخ الموسيقى:٤٤ «بعد فتح بلاد الفرس أصبحت ينابيع العرفان تنهمر إلى العرب على طريق دمشق وحلب وإسكندرية، وتجري على سواحل أفريقية الشمالية إلى بلاد إسبانيا حتى انتهت إلى قرطبة التي أنشأها الأمويون، فأصبحت مركز العلوم والمعارف إلى أنحاء أوروبا.»
وقال: «إن العرب في القرون الوسطى كانوا حملة العلم والعرفان إلى بقية أنحاء العالم، وبينما كانت أوروبا غارقة في أشدِّ دياجيرِ الجهل ظلامًا، كان الخلفاء في بغداد عاصمة ملكهم وقد بلغوا أعلى شأو في المدنية والعرفان؛ لأنهم كانوا ملوكًا لممالكَ عظيمةٍ تمتد من نهر الغنج شرقًا إلى المحيط الأطلنتيكي غربًا؛ حيث توجد طنجة.»٤٥
وقال: «وبفضل سهرهم «يعني خلفاء قرطبة» على العلوم؛ أصبح أطباء العرب وفلاسفة قرطبة حملة راية العلم في العالم.»٤٦

وإذا حكى التاريخ أن المتوكل العباسي في الشرق، والمنصور بن أبي عامر في الغرب اضطهدا الفلسفة، فذلك شيء لا يذكر إزاء النهضة التي قام بها غيرهم من ملوك وأمراء يخرجنا عدهم وعد مآثرهم العلمية إلى إسهاب لا يسعه المقام.

•••

قال المؤلف في ص٣٠: «ذلك تأويل ما يلاحظ من قصور النهضة الإسلامية في فروع السياسة، وخلو حركة المسلمين العلمية من مباحثها.»

قد أريناك أن ملوك الإسلام كانوا يساعدون على توسيع دائرة المعارف، ويقبلون ما تنتجه العقول السليمة باحتفاء وترحاب، وقد كانت الكتب السياسية تؤلف بمرأى منهم ومسمع، وكثير منها يؤلف من أجل صاحب الدولة أو وزيره، مثل كتاب سياسة المالك في تدبير الممالك، ألفه ابن أبي الربيع للمعتصم العباسي، وكتاب نهج السلوك في سياسة الملوك، ألفه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله لصلاح الدين الأيوبي، وكتاب لطائف الأفكار وكاشف الأسرار في علم السياسة، ألفه القاضي حسين السمرقندي للوزير إبراهيم باشا، وبعض هذه الكتب يقدمه مؤلفه بنفسه إلى الملك، كما قدم ابن خلدون نسخة من مقدمة تاريخه إلى صاحب تونس أبي العباس الحفصي، ثم إلى السلطان برقوق صاحب مصر.

بل كان من رجال الدولة من يؤلف في السياسة، كما ألف القاسم أبو دلف، أحد قواد المأمون ثم المعتصم، كتاب سياسة الملوك،٤٧ وألف عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ولي الشرطة ببغداد رسالة في السياسة الملوكية.٤٨

•••

قال المؤلف في ص٣١: «لو وضعنا هذا الكتاب كله في بيان الضغط الملوكي الإسلامي على كل علم سياسي، وكل حركة سياسية أو نزعة سياسية لضاق هذا الكتاب وأضعافه عن استيعاب القول في ذلك، ثم لعجزنا عن بيانه على وجه كامل.»

اقتحم المؤلف في هذه العبارة شططًا لا يقع فيه خبير بالتاريخ، عارف بقيمة الأمانة في العلم. طالع أيها القارئ كتب التاريخ كتابًا كتابًا وقلِّبها إن شئت صحيفة صحيفة، فلا أحسبك تعثر على مثال يشهد بأن ملكًا من ملوك الإسلام غضب لكتاب ألف في السياسة، أو كره للناس أن يترجموا كتابًا في السياسة، أو عنف شخصًا ألف في السياسة، أو أصدر إنذارًا على التأليف في السياسة.

ضغط بعض ملوك الإسلام على الفلسفة كما قصصناه عن المتوكل العباسي والمنصور بن أبي عامر؛ لاعتقاد ضررها، أو تقربًا من قلوب العامة، ولا تكاد تعلم أن أحدًا منهم اضطهد علم السياسة، إلا ما كان من السلطان عبد الحميد الذي انتهى به الاستبداد والضغط على حرية الفكر إلى غاية لم يسبق لها نظير. ومن ذلك الاستبداد المتناهي تعلم عبد الرحمن الكواكبي كيف يؤلف كتابي: طبائع الاستبداد وجمعية أم القرى.

•••

قال المؤلف في ص٣١: «لو ثبت عندنا أن الأمة في كل عصر سكتت على بيعة الإمامة فكان ذلك إجماعًا سكوتيًّا، بل لو ثبت أن الأمة بجملتها وتفصيلها قد اشتركت بالفعل في كل عصر في بيعة الإمامة واعترفت بها، فكان ذلك إجماعًا صريحًا، لو نقل إلينا ذلك لأنكرنا أن يكون إجماعًا حقيقيًّا، ولرفضنا أن نستخلص منه حكمًا شرعيًّا، وأن نتخذه حجة في الدين. وقد عرفت من قصة يزيد كيف كانت تؤخذ البيعة ويغتصب الإقرار.»

اندفع المؤلف يخوض في الإجماع على غير بينة منه، ويورد على الطعن في انعقاده في مسألة الإمامة قصة يزيد بن معاوية. علماء الإسلام في ناحية، وصاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم في ناحية أخرى.

يظهر جليًّا أن المؤلف اشتبه عليه الإجماع على وجوب نصب إمام بالإجماع على مبايعة إمام بعينه. والذي يتحدث عنه أهل العلم إنما هو وجوب نصب الإمام، وهذا الوجوب لم يحدث فيه خلاف بين أصحاب رسول الله والتابعين لهم بإحسان، وأما مبايعة إمام خاص فيكفي في انعقادها اتفاق جماعة من أهل الحل والعقد بحيث تكون كلمتهم العليا على من خالفهم.

قال إمام الحرمين في كتاب غياث الأمم:٤٩ «اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب وتباين المطالب على ثبوت الإمامة.» ثم قال: «الإجماع ليس شرطًا في عقد الإمامة بإجماع.»

فاستدلال المؤلف على إبطال الإجماع في حكم الخلافة بعدم الإجماع على ولاية يزيد، منطق يترفع عنه أصحاب الأقيسة الشعرية، ولا يأتيه المولعون بالمغالطات إلا أن يصوغوه في أسلوبٍ أبرعَ من أسلوب المؤلف وأخفى.

•••

قال المؤلف في ص٣٢: «وقد زعم الإنكليز أن أهل الحل والعقد من أمة العراق انتخبوا فيصلًا ليكون ملكًا عليهم بالإجماع، اللهم إلا أن يكون قد خالف في ذلك نفر قليل لا يعتد بهم؛ كأولئك الذين دعاهم ابن خلدون من قبل شواذ.»

ما كان للمؤلف أن يتهجم على علم راسخ القواعد محكم المباني فيخلطه بالمجون، ويضرب له أمثالًا لا تلتقي معه في نسق وإن كان الحديث ذا شجون.

الإجماع الذي يستند إليه في تقرير الأحكام هو اتفاق مجتهدي الأمة على حكم شرعي، وهو في قضية الخلافة وجوب نصب الإمام. أما مبايعة الشخص المعين فإنه لا يشترط فيها اتفاق مجتهدي الأمة، بل المدار في انعقادها على جماعة من أهل الحل والعقد وإن لم يكن من بينهم مجتهد أصلًا.

فإيراد المؤلف قصة يزيد طعنًا في الإجماع المستدل به على حكم الخلافة تخبط في ليل دامس، والانتقال منها إلى قصة فيصل وتمثيل من خالفوا في انتخابه بمن دعاهم ابن خلدون شواذَّ خيال لا تقبله أذواق أهل العلم، وشاهدٌ يوضح أن المؤلف لا يفرق بين الإجماع على وجوب الخلافة والاتفاق على مبايعة شخص بعينه.

•••

قال المؤلف في ص٣٢: «لو ثبت الإجماع الذي زعموا لما كان إجماعًا يعتد به، فكيف وقد قالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلًا، وكذلك قال الأصم من المعتزلة وقاله غيرهم أيضًا كما سبقت الإشارة إليه؟ وحسبنا في هذا المقام نقضًا لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهم، وإن قال ابن خلدون: إنهم شواذ.»

لم يخالف في وجوب الإمامة جميع الخوارج، وإنما المخالفون طائفة منهم وهم النجدات، وقد نقلنا لكم آنفًا قول ابن حزم في كتاب الفصل: اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة يجب عليها الانقياد لإمام عادل … حاشا النجدات من الخوارج.

أما الأصم فقد قال إمام الحرمين في تفنيد رأيه: «نصب الإمام عند الإمكان واجب، وذهب عبد الرحمن بن كيسان «هو الأصم» إلى أنه لا يجب، ويجوز ترك الناس أخيافًا يلتطمون ائتلافًا واختلافًا، لا يجمعهم ضابط، ولا يربط شتات رأيهم رابط. وهذا الرجل هجوم على شق العصا، ومقابلة الحقوق بالعقوق، لا يهاب حجاب الإنصاف، ولا يستوعر أصواب الاعتساف، ولا يسمى إلا عند الانسلال عن ربقة الإجماع، والحيد عن سنن الاتباع، وهو مسبوق بإجماع من أشرقت عليه الشمس شارقة وغاربة، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة.»

فالتحقيق أن مخالفة هذه الطائفة في قضية الخلافة لا يعتد بها، وليس لها في الطعن على الإجماع من أثر، ولا نجعل أقوالهم لاغية لكونهم من الطوائف التي يراها أهل السنة على غير حق؛ فإن خلاف أمثالهم في الأحكام الشرعية يمنع من انعقاد الإجماع، كما هو المختار عند الغزالي والآمدي وغيرهما، وإنما نصرف النظر عن مخالفتهم هذه لوجهين:
  • أحدهما: أن خلافهم طرأ بعد انعقاد الإجماع ممن تقدمهم على وجوب نصب الإمام، وحدوث قول بعد انقراض العصر الذي انعقد فيه الإجماع على حكم شرعي مردود على وجه صاحبه.
  • ثانيهما: أنهم قيدوا مخالفتهم بحال، وعلقوها على أمر لم تجربه السنن الكونية في هذه الحياة، وهو تواطؤ الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله فيما بينهم. وهذا التواطؤ مما دلت التجارب والمشاهدات الطويلة على أنه خارج عن طبيعة البشر، إلا أن ينقلب الناس ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون!

والأشبه أن يكون خارق الإجماع في مثل هذا الحكم الواضح مدفوعًا بهوى يعمي عليه الدليل الساطع، وكذلك نقل أبو منصور البغدادي ما يؤيد أن الأصم كان يخرق الإجماع استسلامًا لأهوائه، فقال في كتاب الفرق بين الفرق: «قال — يعني الأصم: لا تنعقد؛ أي الإمامة، إلا بإجماع عليها، وإنما قصد بذلك الطعن في إمامة علي — رضي الله عنه — لأن الأمة لم تجتمع عليه؛ لثبوت أهل الشام على خلافه إلى أن مات، فأنكر إمامة علي مع قوله بإمامة معاوية لاجتماع الناس عليه بعد قتل علي — رضي الله عنه.»

•••

قال المؤلف في ص٣٣: «عرفت أن الكتاب الكريم قد تنزه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها، وكذلك السنة النبوية قد أهملتها، وأن الإجماع لم ينعقد عليها، أفهل بقي لهم من دليل في الدين غير الكتاب أو السنة أو الإجماع؟»

قبل أن نأخذ في مناقشة هذه المزاعم نذكر القارئ بأمر تناولنا البحث فيه آنفًا، وهو أن بحث الخلافة يرجع إلى النظر في حكم عملي لا في عقيدة من عقائد الدين، ومما يترتب على الفرق بين الأحكام العملية والعقائد أن الأحكام العملية يكتفى فيها بالأدلة المفيدة ظنًّا راجحًا، وأما العقائد فإنها لا تقوم إلا على براهينَ قاطعةٍ.

ونضع بين يدي القارئ أيضًا أن العدول عن ظواهر الألفاظ وتأويلها إلى غير ما يفهمه أسلوبها العربي من المعاني الجلية غير مسموع في مقام المناظرة؛ فإن الألفاظ في سائر اللغات تحتمل الصرف إلى معانٍ غير مقصودة، وذلك بما يدعى فيها من نحو الحذف والمجاز من غير دليل ثابت أو قرينة قائمة.

ونتخلص من هذا إلى أن سنن الشريعة في إرشادها أن تعنى بالأحكام أو الحقائق التي شأنها الغموض، فتدل عليها بتصريح وتأكيد حسب أهمية الحكم وبُعده من متناول العقول، ولهذا لم ترد فيها أوامر بما تدعو إليه الطبائع، وإن كانت مفروضة لحفظ النفس أو النسل، مثل: الأكل والشرب والنكاح، إلا في سياق الإرشاد إلى معنى زائد على أصل الفعل؛ كقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا، وقوله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ.

فلا غضاضة على حكم الخلافة إذا لم يرد به قرآن يتلى؛ إذ ليست الخلافة شيئًا زائدًا على إمارة عامة تحرس شعائر الدين، وتسوس الناس على طريق العدل، ولم يكن وجه المصلحة من إقامة هذه الإمارة بالخفي الذي يحتاج إلى أن يأتي به قرآن صريح، ولكن وراء ذلك أشياء أخرى قد تنازع فيها الأهواء أو تختلف فيها الآراء؛ كإطاعة السلطان العادل، أو اشتراط أن يكون زمام الحكم في يد مسلم؛ فأرشد القرآن إلى الأولى منطوقًا، وإلى الثاني مفهومًا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ. وقد نبهنا فيما سلف على أن النظر في وجه الأمر بإطاعة أولي الأمر يقتضي وجوب إقامتهم.

فالقرآن لم يصرح بحكم الإمارة العامة اكتفاء بما بثه في تعاليمه من الأصول التي تبينها السنة، ويرجع إليها الراسخون في العلم عند الحاجة إلى الاستنباط، ولأن في الأمر بإطاعة أولي الأمر عبرة لأولي الألباب.

فقول المؤلف: إن القرآن قد تنزه عن ذكر الخلافة والإشارة إليها. كلمة لا تليق بأدب عالِمٍ شرعي، ولكن الهوى كالزجاجة الملونة بسواد، تضعها على بصرك فتريك الأشياء بعد أن تجري عليها صبغة من لونها البهيم «وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى.»٥٠
وأما السنة فقد وردت أحاديث صحيحة ذكر فيها الخليفة والإمام والبيعة والأمير، وقد جاءت هذه الأحاديث في أغراضٍ متعددةٍ ومعانٍ مختلفةٍ، فمنها: ما جاء في بيان أن الإمام مسئول عما يفرط في حق الرعية؛ كقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته.»٥١ ومنها ما جاء في الأمر بملازمة الإمام وعدم الخروج عنه كحديث: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.»٥٢
ومنها ما ورد في بيان حكم من حاول الخروج عليه كحديث: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه.»٥٣ وحديث: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.»٥٤ وحديث: «من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه؛ فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه؛ فاضربوا عنق الآخر.»٥٥ ومنها ما جاء في مساق الإخبار عن وجود الخلفاء، وقرن بذلك الإخبار الأمر بالوفاء ببيعة الأول؛ كحديث: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر.» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول.»٥٦
ومنها ما ورد مورد الإنكار والوعيد عن نكث اليد من طاعة الإمام، وأن يموت المسلم وليس في عنقه بيعة كحديث: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.»٥٧ وهذا الحديث وإن لم يرد فيه ذكر الإمام ولا الخليفة؛ فإن الأحاديث السابقة تفسره، ومنها ما ورد في وصف خيار الأئمة وشرارهم كحديث: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم.»٥٨ ومنها ما ذكر فيه الخليفة بجانب النبي، وأخبر فيه بما يكون له من بطانتي الخير والشر؛ كحديث: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم اللهُ.»٥٩ ومنها ما جاء لبيان منزلة الإمام العادل وفضله كحديث: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.» وصدرها بالإمام العادل فقال: «إمام عادل.»٦٠ وحديث: «إنما الإمام جنة يُقاتل من ورائه ويتقى به؛ فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه.»٦١

فهذه الأحاديث الواردة في أغراض شتى وأسانيدَ مختلفةٍ، وكلها تدور حول الإمام فتبين مسئوليته، وتأمر بالوفاء ببيعته وإطاعته وملازمته، وقتل من يحاول الخروج عليه، وتصف الأئمة، وتفرق بين خيارهم وشرارهم، هذه الأحاديث إذا وقعت في يد مجتهد يتبصر في حكمة أمرها ونهيها ووصفها لا يتردد في أن نصب الإمام أمر حتم، وشرع قائم، ولا يصح أن يكون هذا الحق إلا من قبيل الواجب.

فقول المؤلف: إن السنة النبوية أهملت الخلافة. جراءة يلبسها من خرج ليقطع الطريق في وجه الحقائق حتى تدرج عليه الآراء الفجة وإوضاع التي لم تزل في طور التجربة والاختبار.

وأما الإجماع فقد أريناك وجه حجيته فيما سبق، وبينا لك أنه دليل قاطع؛ لأن شواهد عدة في دلائل الشريعة جاءت في موارد شتى من الكتاب والسنة. وهذه الشواهد إن كان كل واحد منها يفيد ظنًّا راجحًا؛ فإن مجموعها يفيد علمًا راسخًا، ونظيره التواتر في إفادة القطع، وهو مؤلف من أخبار آحاد لا يفيد كل واحد منها بانفراده شيئًا يتعدى مراتب الظنون.

وتقرير الإجماع في قضية الخلافة الذي لا يزال علماء الإسلام يلهجون به جيلًا بعد جيل: أن الصحابة — رضي الله عنهم — عقب انتقال صاحب الرسالة صلوات الله عليه إلى الرفيق الأعلى، وقبل مواراة جثته الشريفة في قبره الكريم، بادروا إلى الائتمار بتعيين إمام، ولم يجرِ بينهم خلاف في حكم إقامته، وإنما تنازعوا في مبدأ المفاوضة شيئًا قليلًا في اختيار الشخص الكافي لهذا المنصب، ثم تضافروا على مبايعة أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — ومن تخلف عن المبايعة لم يذهب إلى الخلاف في وجوب نصب الإمام، وإنما هي الموجدة لعدم إيثاره بالإمارة، أو لإنجاز المبايعة دون حضوره وقبل أخذ رأيه في جملة المؤتمرين.

وكذلك كان شأنهم في الاهتمام بأمر الخلافة لعهد سائر الخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ومن يتخلف عن بيعة خليفة فلعذر يرجع إلى عدم وفاقه على بيعة الشخص المعين، ولم ينقل عن أحد أنه توقف في وجوب نصب الأمير العام، أو قال: «ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا»، مع أن المحدثين والمؤرخين ينقلون ما يدور في المحاورة بين أهل الحل والعقد، وما يقع من وفاق وما يصدر عنهم من أقوال وآراء ليس لها أهمية إزاء القول بعدم وجوب نصب الإمام لو خطر على قلب رجل منهم.

ومن الباطل أن يقال: إنما سكتوا عن إبداء رأيهم في وجوب الخلافة رهبة من القوة المسلحة؛ فإن العصر الذي صدع فيه عبد الرحمن الأصم ونجدة بن عامر بعدم وجوب نصب الإمام لم تكن حرية الرأي ولا سعة صدر السياسة فيه بأحسنَ حالًا من العهد الذي يقوم فيه الرجل ويجابه الخليفة بقوله: لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا.

•••

قال المؤلف في ص٣٣: «نعم، بقي لهم دليل آخر لا نعرف غيره هو آخر ما يلجئون إليه، وهو أهون أدلتهم وأضعفها! قالوا: إن الخلافة تتوقف عليها إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية إلخ. المعروف الذي ارتضاه علماء السياسة أنه لا بد لاستقامة الأمر في أمة متمدينة، سواء كانت ذات دين أم لا دين لها، وسواء كانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية أم مختلطة الأديان، لا بد لأمة منظمة، مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها ولسانها، من حكومة تباشر شئونها، وتقوم بضبط الأمر فيها. وقد تختلف أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية، وبين جمهورية وبلشفية وغير ذلك.»

الدليل المشار إليه يرجع إلى قاعدة قائمة على رعاية المصالح، وهي قاعدة قطعية لأنها منتزعة من أصول وأحكام مبثوثة في الكتاب والسنة، وقد أقامه العلماء في مناظرة النفر الذي خالفوا في نصب الإمام ذاهبين إلى أنه لا تجب إقامة حكومة. ولا شك أن هذا الدليل ينسف مذهبهم نسفًا، ولو خالف في شكل الحكومة مخالف لأفصح عن رأيه، ولكان لأهل العلم معه موقف غير الموقف الذي نراه في علم الكلام.

فالدليل بالنظر إلى مذهب الخصم الذي كانوا يجادلونه به: حجة ساطعة، وليس بالدليل الهين ولا الضعيف، ولكن المؤلف لا يضبط وجه البحث ولا يحد موضوعه حدًّا بينًا فيقع فيما لا يقع فيه الكرام الكاتبون.

•••

قال المؤلف في ص٣٤: «ولعل أبا بكر — رضي الله تعالى عنه — إنما كان يشير إلى ذلك الرأي حينما قال في خطبته التي سبقت الإشارة إليها: لا بد لهذا الدين ممن يقوم به.»

صدرت هذه المقالة من أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — في خطبته بعد وفاة النبي وبويع عقبها بالإمارة العامة وتسمَّى خليفة، وسار في حكومته على منهج مطابق لمقاصد الشريعة، فالظاهر الجلي أن مقالته إنما تفسر بمن يبايَع على أن يحرس الدين، ويقيم مصالح الدنيا، ويراعي في أحكامه نصوص الشريعة وقواعدها العامة. أما الحكومة الاستبدادية أو البلشفية وما شاكلها فما كان لأبي بكر الصديق أن يعدها فيما يقوم بدين الله. وسنبحث بعد هذا في شكل الحكومة الذي لا يخالف مقصد الشريعة من إقامة الخلافة.

•••

قال المؤلف في ص٣٤: «ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك المذهب أحيانًا.» يريد المؤلف أن القرآن ينحو نحو ذلك الرأي، وهو أنه لا بد لكل أمة من نوع ما من أنواع الحكم. قال هذا بعد أن فصل أشكال الحكومة إلى دستورية واستبدادية وجمهورية وبلشفية وغير ذلك، وليس بالعجيب من المؤلف أن يزعم أن القرآن يذهب إلى إقامة حكومة ما، وسواء بعد ذلك أن تكون دستورية أو استبدادية جمهورية أو بلشفية وغيرها، فإنه سيجابهك في غير خجل بأن الخطط السياسية من خلافة وقضاء وغيرهما لا شأن للدين بها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم.

فعلى فرض أن يكون زمام أمرنا في يد المؤلف ومن يشاكله في التفكير ويقع اختيارهم على شكل الحكومة البلشفية، فإن القرآن — بمقتضى زعم المؤلف — يأذن لنا بأن نمد لهم رقابنا خاضعين، ونكون لحكومتهم البلشفية أو اللادينية من الخادمين!

•••

قال المؤلف في ص٣٥: «إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحًا ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية، يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع: مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية.»

لا يحق لعالم شرعي أن يقسم الحكومات إلى أقسام يذكر فيها المطلقة والمستبدة والبلشفية ويجعلها من الأشكال التي يصح حمل كلام الفقهاء في الإمامة والخلافة عليها. أما المطلقة فكل من ينتمي للإسلام يعلم أن الحكومة الإسلامية مقيدة بقانون كتاب الله، قال الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وقال : «ولو استعمل عليكم عبد يقُودُكم بكتاب الله؛ فاسمعوا له وأطيعوا.»٦٢

وأما المستبدة فينبذها وراء ظهورنا قوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ. والفقهاء يتلون هذه الآية ويقررون قاعدة الشورى ويبحثون عن أسرارها بما فيه كفاية.

وأما البلشفية فإنها مذهب قائم على إبطال الملكية الفردية، وجعل الزراعة والصناعة والتجارة مشاعة بين الناس، وأن يجري هذا التقسيم بمقتضى قانون عام، ثم هي ترمي إلى قلب نظم سائر الحكومات أنَّى كانت، وهذا المبدأ الذي يناقض مبادئ الإسلام يبرأ الفقهاء إلى الله من أن يكون شكلًا للحكومة الإسلامية، ويعدون تأويل كلامهم في الإمامة والخلافة على صحة إرادة هذا الشكل ونحوه رميًا للكلام على غير روية، وطعنًا في صحة مداركهم وأمانتهم العلمية.

شكل حكومة الخلافة

أرأيت المؤلف كيف أخرج الخلافة في تلك الصورة المنكرة، وأخذ يزدري بها ويتمضمض بسبابها، ثانيًا عطفه عن النظر إلى حقيقتها التي رسمتها الشريعة، وضرب لها الخلفاء الراشدون بسيرتهم القيمة أحسن مثال.

وإليك هذه الحقيقة خالصة مطمئنة لتعلم أنها قائمة على حكمة عالية وسياسة عادلة:

يقرر جمهور أهل العلم في شروط الخليفة أن يكون بالغًا في العلم رتبة الاجتهاد، وأن يكون ذا رأي وخبرة بتدبير الحرب والسلم، وأن يكون شجاعًا لا يرهب الموت الزؤام فما دونه، وأن يكون عادلًا لا تأخذه في الحق لومة لائم. وتعرف مزية العدل باختبار سيرته فيما كان يتولاه من أعمال قبل منصب الخلافة، أو بما تدل عليه التجارب والمشاهدة الطويلة من استقامته، وشرف همته، وإنكاره ما يفعل الظالمون بغيرة وحماسة.

ومن الأسس التي تقوم عليها الخلافة الشرعية فريضة الشورى، بحيث لا يقدم الخليفة على أمر حتى يلقيه بين يدي أهل الحل والعقد، وتتناوله الآراء من كل جانب؛ ليتبين الرأي الراجح، ويذهب في سياسته على بينة وروية.

ولم يقف الإسلام عند تكليف الخليفة بإقامة فريضة الشورى، فأقبل على الأمة ووضع في عنقها واجب مراقبة الخليفة ورجال دولته؛ لتقويمهم إذا انحرفوا، وإيقاظ عزمهم إذا أهملوا.

تحققت تلك الشروط من علم وعدالة وشجاعة وحكمة رأي في بعض الخلفاء، وأخذوا أنفسهم بشريعة الشورى، وفتحوا باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الأمة بصدق وإخلاص، وكان بين يدي الأمة أعدل قانون أساسي؛ وهو كتاب الله، وأصدق بيان يفصل مجمله؛ وهو سنة رسول الله، فلا الخليفة يستبد فتأخذه العزة بالإثم، ولا الأمة ترهب سطوته فتحجم عن أمره ونهيه.

قال الإمام الغزالي: الخلفاء — رضي الله عنهم — يحبون الرد عليهم ولو كانوا على المنابر؛ فقد قال عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وهو يخطب: أيها الناس، من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا، فقال: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه.

وليس في الشريعة ما يمنع الخليفة أن يفوض جانبًا من شئون الأمة إلى وزير ذي علم ورأي وشجاعة وعدل؛ فيمنحه ما كان له من تدبير وتنفيذ، قال الماوردي في الأحكام٦٣ السلطانية عند البحث عن وزارة التفويض: «هي أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضائها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام: وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز، ولأن ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها.
ثم ذكر لهذه الوزارة شرطين؛ أحدهما: يختص بالوزير؛ وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبير، وأنفذه من ولاية وتقليد، والثاني: يختص بالإمام؛ وهو أن يتصفح أفعال الوزير وتدبيره الأمور ليقر منها ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه.»٦٤

ولأهل الحل والعقد أن يطالبوا الخليفة بهذه الاستنابة متى رأوا المصلحة قاضية بها، ولا فرق بين أن يكون المستناب واحدًا أو متعددًا.

فشَكْلُ بعض الحكومات القائمة على خليفة ووزراء ومجلس نيابي يجري انتخابه تحت ظلال الحرية التامة لا يخالف الشكل الملائم للخلافة الحقيقية بحال، وقد كان السلطان سليمان ابن السلطان سليم في أوائل المائة العاشرة رتب قانونًا «استعان فيه بالعلماء العاملين وعقلاء رجال دولته، وجعل مداره على إناطة تدبير الملك بعهدة العلماء والوزراء، وتمكينهم من تعقب الأمراء والسلاطين إن حادوا، وذلك أن ملك الإسلام مؤسس على الشرع الذي من أصوله وجوب المشورة وتغيير المنكر، والعلماء أعرف بالنيابة ومقتضيات الأحوال، فإذا اطلع العلماء والوزراء على شيء يخالف الشريعة والقانون الخادم لها؛ فعلوا ما تقتضيه الديانة من تغيير المنكر بالقول أولًا، فإن أفاد حصل المقصود، وإلا أخبروا أعيان الجند بأن وعظهم لم ينفع.

وبين في القانون المذكور ما يئول إليه الأمر إذا صمم السلطان على أن ينفذ مراده وإن خالف المصلحة، وهو أن يخلع ويولي غيره من البيت الملكي، وأخذ على ذلك العهود والمواثيق من العلماء ووزراء الدولة بمقتضى هذا القانون في الاحتساب على سيرة السلاطين كمنزلة وكلاء العامة في أوروبا.»٦٥
ولا يصح أن تكون الخلافة في هيئة تؤلف لأجل مسمى ثم تنفرط؛ فإن نصوص العلماء متضافرة على أن يكون الخليفة فردًا يستمر في رياسته ما دام حائزًا على رضا الأمة بعيدًا عن الاستبداد في الحكم، قال الأستاذ الشيخ محمد عبده في كتاب الإسلام والنصرانية:٦٦ «فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد؛ وهو السلطان أو الخليفة.»
ومن أدلة وضع الخلافة في فرد أن الأحاديث الصحيحة تسمي صاحب هذه الرياسة إمامًا وخليفة وأميرًا، وهذه الألفاظ لا يستقيم حملها على جماعة إلا أن تذهب في فهمها على غير الطريق المعروف من لسان العرب، وأوضح من هذا دلالةً حديثُ:٦٧ «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم؛ فاقتلوه.»

وقد يبلغ العدل والحرية أشدهما لعهد الحكومة التي يرأسها فرد ثابت إذا لم تكن بيدها السلطة التشريعية، وتكون مقيدة في تنفيذها بنظام الشورى، ولا تتصرف إلا تحت مراقبة الأمة.

فالخليفة كملك دستوري، ولكنه يعين باختيار أهل الحل والعقد، ويحمل على عاتقه تبعة ما تزلُّ به السياسة من اهتضام حق أو إضاعة مصلحة.

وسنزيد البحث في شكل الخلافة بسطة حتى يعرف القارئ أن المؤلف لم يتفقه في كتب العلماء الذين ينظرون في الشريعة من وجهتها الاجتماعية والسياسية.

•••

قال المؤلف في ص٣٥: «الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل ويشهد به التاريخ قديمًا وحديثًا أن شعائر الله تعالى، ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء، والواقع أيضًا أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين، وينبوع شر وفساد.»

لا يرقب المؤلف في الحقائق الشرعية إلًّا ولا ذمة، يصورها بقلمه كيف يشاء، ثم يقع في عرضها بأشدَّ من هجاء الحُطيئة.

يصور الخلافة بعرش يجلس عليه مستبد غشوم، حواليه وحوش ضارية، ورماح مسنونة، وسيوف مصلتة، وهو إنما أعد هذه القوة المسلحة لسفك الدماء الطاهرة، والفتك بالنفوس البريئة، وليست الرعية تحت سلطته القاهرة إلا عبيدًا يعتقدون أنه يستمد سلطانه من سلطان الله، ويسخرهم في شهواته كما تُسخر الأنعام!

يخترع المؤلف هذه الصورة المكروهة ويجعلها النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة، ثم يقول متبرئًا منها: فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، وإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة، وينبوع شر وفساد!

الخلافة حقيقة شرعية، وأمر لا غنى للمسلمين عنه ما داموا يطمحون إلى عز مكين، وحياة مستقلة، وقد تسنى فيما سلف أن تكون الشعوب الإسلامية كلها تحت راية واحدة كحالها لعهد الدولة الأموية، ثم انقسمت إلى دولتين مستقلتين أيام ذهب عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وأقام دولة أموية أخذت لقب الخلافة إزاء الخلافة العباسية بالمشرق، فكان لدولة الإسلام في العهد الأول ولدولتيه في العهد الثاني من القوة والسطوة ما قطع مطامع الدول القوية أن تبسط يدها علي قيد شبر من بلاد الشرق، ولما تقطعت أوصال الخلافة بالأندلس كما قال شاعرهم:

قام بكل بقعة مليك
وصاح فوق كل غصن ديك

اغتنم العدو ذلك التقاطع فرصة وأخذ ينقص البلاد من أطرافها حتى استنجد ملوك الطوائف بسلطان مراكش يوسف بن تاشفين، وباتفاقهم معه تحقق شيء من المعنى الذي يراد من الخلافة، فهاجم العدو وردَّه على عقبه خاسرًا.

ولما تضعضعت دولة المرابطين بمراكش وشغلوا بحروبهم مع الموحدين اضطربت عليهم الأندلس، ورجعت دولتها إلى افتراق؛ فبسط العدو إليها يده؛ انتهازًا لفرصة التفرق حتى أصبح صاحب دولة مراكش عبد المؤمن بن علي الذي يقول فيه الشاعر:

ما هزَّ عطفيه بين البيض والأسل
مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي

فأجاز إلى الأندلس، وأخذ يحارب العدو، وجرى على أثره ابنه يوسف ثم ابنه يعقوب، حتى حفظوا من عزِّ الإسلام ما أضاعه تفرق البلاد تحت رايات شتى، ولم تسقط الأندلس إلا حين فقدت الوحدة السياسية، ولم يكن بالقرب منها دولة ذات قوة وعزم تنقذها من ذلك الخطر المحيط.

ولو أن المتأخرين من سلاطين آل عثمان أعطوا للخلافة شيئًا من حقوقها، وراعوا ما أمر الله به من وسائل استقامتها لما انفرط عقد هذه الممالك الإسلامية، وأصبح كل قطعة منها تحت سلطة أجنبية تستبد عليها في حكمها، وتتصرف في رقاب شعوبها وأموالهم كيف تشاء، فالخلافة لا تزيد على ما يسمى دولة، إلا أنها رابطة سياسية تجعل شعوبًا مختلفي العناصر والقومية يولون وجوههم شطر رايتها بعاطفة من أنفسهم واختيار، ومن هذه الجهة ينظر إليها بغاةُ الاستعمار بعين عابسة، ويحاول الغر الذي ينخدع ببهرج آرائهم أن يطوي رايتها، ويمحو أثرها.

وأما قوله: «وإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد.» فكلمة هو قائلها والتاريخ من ورائه محيط.

الخلافة قامت بالدعوة إلى دين القيِّمة، ومدت ظل الإسلام في أقاليم بعيدة ما بين المناكب، فأصبحت كلمته العليا، وأصبح المسلمون في عز شامخ، وحياة راضية.

فتحت الخلافة أوطانًا كثيرة فأذاقتها حلاوة العدل بعد أن كانت تتجرع غصص الجور والاستعباد، وضربت فيها بأشعة التوحيد الخالص بعد أن كانت تتخبط في ظلمات الحيرة والضلال، وألبستها حلل الآداب الراقية بعد أن كانت منغمسة في عاداتٍ وتقاليدَ تشمئز منها النفوس المطمئنة، وتمجها الأذواق السليمة، ونسقتها بفضل الإسلام في تآلف واتحاد بعد أن كانت في تخاذل وشقاق.

أفلم يكن قسم عظيم من آسيا وإفريقية يصلى نار الوثنية بكرة وعشيًّا، ويتبرج في مظاهر الهمجية تبرج الجاهلية الأولى، فكان من أثر الخلافة وما قامت به من الدعوة أن قلبت تلك النار إلى إيمان صادق، ووضعت مكان الخلاعة والهمجية حياءً ونظامًا؟

أينكر المؤلف أن استقامة رجال الخلافة وسمعة سيرتهم العادلة كانت كالدعاية تتقدمهم إلى تلك الممالك، فلم يجدوا في فتحها ما تجده الفئة القليلة عند لقاء الفئة الكثيرة من طول المصابرة والثبات؟

ولا أحسبه يعد ثوب الإسلام الذي لبسته تلك الأمم من يد الخلافة نكبة، ولا دخولها تحت راية التوحيد شرًّا وفسادًا. وليَعمدْ إن شاء إلى حكومة عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز ثم إلى أحدث الحكومات نظامًا، وأخفها على قلبه راية، ويعقد بينهما موازنة في الوجوه التي تتفاضل بها الدول من عدل وحرية ومساواة، ثم ليتحدث معنا بضمير لا يحابي الشهوات، وكلمة لا تبخس رجال الإسلام حقهم، فلا جرم أن يعود وقتئذ إلى حكمه القاسي على الخلافة ويمحوه بالماء الذي يتقطر من جبينه خجلًا.

يقول المؤلف: كانت الخلافة ولم تزل نكبة وينبوع شر وفساد! وجعل يلتقط من أيام خمول بعض الخلفاء أو سوء سيرتهم ما يضعه سندًا لهذه المقالة المطلقة، اختار أن يكون كاتب سيئات الخلافة؛ ليقضي حاجة في نفسه، ولكن بعض من لا ينتمي إلى الإسلام من علماء الغرب كانوا يكتبون حسناتها بقلم منصف خبير. ومن كلماتهم الحافظة لشيء من محاسن الخلافة قول أدُلف فريدريك فون شاك في كتاب «الشعر والفنون الجميلة عند العرب في إسبانيا وصقلية»:٦٨

بينما أوروبا كادت تكون خالية من المدارس؛ إذ لم يكن يعرف القراءة والكتابة فيها إلا الكهنة، كان العلم منتشرًا في الأندلس انتشارًا عامًّا، غير أن الحَكَمَ «الخليفة الأموي» رأى أن الحاجة داعية إلى نشر العلم بطريق أوسعَ، فأنشأ في عاصمة ملكه سبعًا وعشرين مدرسة؛ لتعليم أبناء الفقراء مجانًا. ولقد كانت سيول الشبان تنهمر على مجامع العلوم: قرطبة وإشبيلية وطليطلة وبلنسية والمرية ومالقة؛ حيث يتلقون العلوم ويتسابقون في مضمارها، وكان العلماء والمتعلمون من جميع أنحاء العالم الإسلامي يتقاطرون على هذه المدارس التي ذاعت شهرتها حتى في بلاد آسيا.

لماذا خلع المؤلف من قلمه لجام الإنصاف وجحد ما للخلافة من مآثرَ حميدةٍ، وحاول أن يحثوَ عليها من كلمات هجائه ما يخفيها على أعين أبنائنا النجباء؟

ذلك ما ندع جوابه لقارئي كتاب الإسلام وأصول الحكم بعد أن يسبر غوره، ويشهد الروح الذي يموج في جسم ذلك الكتاب من رأسه إلى عقبه.

•••

قال المؤلف في ص٣٦: «منذ منتصف القرن الثالث الهجري أخذت الخلافة الإسلامية تنقص من أطرافها حتى لم تعد تتجاوز ما بين لابتي دائرة ضيقة حول بغداد.» ومن بعد أن حكى كيف صار أكثر ممالكها إلى ملوك الطوائف قال: «حصل ذلك فما كان الدين أيامئذ في بغداد مقر الخلافة خيرًا منه في غيرها من البلاد التي انسلخت عن الخلافة، ولا كانت شعائره أظهر، ولا كان شأنه أكبر، ولا كانت الدنيا في بغداد أحسن، ولا شأن الرعية أصلح.»

ما كان للمؤلف أن يتنازل إلى هذا الدرك الأسفل من المغالطة؛ إذ لم يَدَّعِ أحد قط أن صلاح شأن الرعية وصيانة شعائر الدين مربوطان باسم الخلافة، وأن لقب الخليفة كالرقية النافعة يذهب به كل بأس، أو الدعوة المستجابة ينزل عندها كل خير! والذي نعلمه ويعلمه أشباه العامة من المسلمين أن الخلافة لا تريك آثارها، وتمنحك ثمارها من منعة وعزة وعدالة إلا إذا سارت على سنة العزم في الأمور، والحكمة في السياسة.

١  ج٣، ص٤، طبعة تونس.
٢  ج١، ص١٢، طبع تونس.
٣  ج١، ص٣٢.
٤  المولود سنة ٢٠٢. كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم. انظر طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي، ج٢، ص٢١.
٥  نشره بالطبع جميل بك العظم في السنة الماضية.
٦  ص٣٣، طبعة بولاق سنة ١٢٨٤.
٧  تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان، ج٣، ص١٧٧.
٨  تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي زيدان، ج٢، ص٢٣٣.
٩  الفهرست لابن النديم «ترجمة الفتح بن خاقان».
١٠  الفهرست لابن النديم، ص١٤٨.
١١  الفهرست لابن النديم، ص١١٨.
١٢  توجد نسخة منه في مكتبة سماحة السيد البكري، وأخرى في الخزانة التيمورية.
١٣  كشف الظنون، ج١، ص٤٨٠، طبعة بولاق.
١٤  تاريخ آداب اللغة العربية لزيدان، ج٣، ص٣٤٠.
١٥  توجد نسخة منه في المكتبة الظاهرية بدمشق.
١٦  تاريخ آداب اللغة العربية، ج٣، ص٣٤٠.
١٧  مقدمة ابن خلدون، ص٢٥٤.
١٨  نفح الطيب، ج٤، ص١٤٨، الطبعة الأزهرية.
١٩  العقد الفريد، ج١، ص٤.
٢٠  سيرة عمر بن عبد العزيز، ص١٢٤.
٢١  القفان: الأثر، أي أكون على تتبع أمره، فكفايته تنفعني، ومراقبتي له تمنعه من الخيانة. نهاية ابن الأثير في مادة قفن.
٢٢  عيون الأخبار، ج١، ص١٨، طبعة دار الكتب المصرية.
٢٣  ج٣، ص٧٤.
٢٤  ج١، ص٢٢٥.
٢٥  ابن جرير الطبري، ج٨، ص١٨٢٨، طبعة أوروبا.
٢٦  ج٣، ص١١٨.
٢٧  منهاج السنة لابن تيمية، ج١، ص١٤٢.
٢٨  منهاج السنة لابن تيمية، ج١، ص١٤٣.
٢٩  منهاج السنة لابن تيمية، ج١، ص١٤٣.
٣٠  منهاج السنة، ج١، ص١٤٣.
٣١  تاريخ ابن جرير الطبري، ج٥، ص١٥٢.
٣٢  منه أيضًا في الصحيفة عينها.
٣٣  أتينا بهذه الكلمة وإن لم يكن لها مساس بالموضوع العلمي خدمةً للتاريخ؛ حتى لا يتوهم القارئ أن محمد الخامس توفي بعد انعقاد المجلس الكبير بأنقرة.
٣٤  ص١٢٩.
٣٥  ص١٣٢.
٣٦  مقدمة ص١٦٢، طبعة بولاق.
٣٧  ص٣٤.
٣٨  مروج الذهب للمسعودي، ج٢، ص٥٧، طبعة بولاق.
٣٩  ص١١٧.
٤٠  تاريخ التمدن الإسلامي، ج٣، ص١٦٩.
٤١  ملك بخارى وما وراء النهر، وهو أول من أنشأ مكتبة عامة في الإسلام.
٤٢  أنشأ مكتبة عامة ببغداد سنة ٣٨٣، وإليها أشار أبو العلاء المعري بقوله:
وغنت لنا في دار سابور قينة
من الورق مطراب الأصائل مهباب
٤٣  مؤسس المدرسة النظامية ومكتبتها العامة بغداد.
٤٤  ص٣٨٢، طبع لندن سنة ١٨٩٣.
٤٥  ص٣٨٤.
٤٦  منه ص٣٨٩.
٤٧  ترجمته في ابن خلكان.
٤٨  فهرست ابن النديم، ص١١٧.
٤٩  توجد نسخة منه في الخزانة التيمورية.
٥٠  موافقات الشاطبي، ج٤، ص١١١، طبع تونس.
٥١  بخاري، ج٩، ص٦٢، طبع بولاق.
٥٢  بخاري، ج٩، ص٥٢، ومسلم، ج٦، ص٢٠، طبع القسطنطينية.
٥٣  مسلم ج٦، ص٢٣.
٥٤  مسلم ج٦، ص٢٣.
٥٥  مسلم ج٦، ص١٨.
٥٦  مسلم ج٦، ص١٧.
٥٧  مسلم ج٦، ص٢٢.
٥٨  مسلم ج٦، ص٢٤.
٥٩  بخاري ج٩، ص٧٧، بولاق.
٦٠  الموطأ بشرح الزرقاني، ج٤، ص١٦٩، طبع بولاق.
٦١  مسلم ج٦، ص١٧.
٦٢  مسلم ج٦، ص١٥.
٦٣  ص١٨، مطبعة السعادة سنة ١٣٢٧.
٦٤  انظر صحيفة ٢٠ منه.
٦٥  مقدمة أقوم المسالك للوزير خير الدين، ص٣٤، طبع الإسكندرية، ١٢٩٩.
٦٦  ص٦٨.
٦٧  صحيح مسلم، ج٦، ص٢٣.
٦٨  ص٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤