الوحدة الدينية والعرب
النقض – سياسة الشعوب وقضاؤها في العهد النبوي – دِرَّة عمر بن الخطاب وإدارة البوليس – التشريع الإسلامي والزراعة والتجارة والصنائع – التشريع الإسلامي والأصول السياسية والقوانين – أحكام الشريعة معللة بالمصالح الدنيوية والأُخروية، والمصلحة الدنيوية منها هي ما يبحث عنه أصحاب القوانين الوضعية – لماذا لم يسمِّ النبي ﷺ من يخلفه – بحث لغوي في خلف واستخلف – تحقيق أنه عليه السلام جاء للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده.
***
ملخصه
افتتح المؤلف الباب بأن الإسلام وحدة دينية، وأن الله اختار لدعوته محمد بن عبد الله ﷺ وقال: لله جل شأنه حكمة في ذلك بالغة قد نعرفها وقد لا نعرفها. وأتى على وجه ابتداء الدعوة بين العرب، وذكر عقب هذا أن البلاد العربية كانت مختلفة الشعوب والقبائل، ومتباينة في مناهج الحكم والعادات، وأن هذه الأمم المتنافرة اجتمعت في زمن النبي ﷺ حول دعوة الإسلام، وأن وحدتها لم يكن فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، وزعم أن النبي ﷺ لم يتعرض لشيء من سياسة تلك الأمم، ولا غيَّر شيئًا من أساليب الحكم عندهم.
وذكر أن في الشرائع التي جاء بها النبي عليه السلام ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة في الأمم، ثم قال: ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام من أنظمةٍ وقواعدَ وآدابٍ لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وزعم أنك إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانين، وقال: إن كل ما جاء به الإسلام إنما هو شرع ديني، ولمصلحة البشر الدينية لا غير.
وأخذ يتكلم عن حال العرب يوم لحق عليه السلام بالرفيق الأعلى، وزعم أنها وحدة دينية من تحتها دول تامة التباين إلا قليلًا، وتخلص من هذا إلى أن زعامة الرسول فيهم زعامة دينية لا زعامة مدنية، فإذا ما لحق عليه السلام بالملأ الأعلى لم يكن لأحد أن يقوم من بعده ذلك المقام الديني. وزعم أنه عليه السلام لم يشر إلى شيء يسمى دولة إسلامية، وأنه لم يكن في عمل النبي عليه السلام أن ينشئ دولة، واستشهد على هذا بأنه لم يتعرض لأمر من يقوم بالدولة من بعده، وتعرض لما انتقدت به دعوى ابن حزم أن النبي ﷺ نص على استخلاف أبي بكر — رضي الله عنه — وقال: بل الحق أنه ﷺ ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده، ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه. وقفل الباب بقوله: «مات عليه الصلاة والسلام وانتهت رسالته، وانقطعت تلك الصلة الخاصة التي كانت بين السماء والأرض في شخصه الكريم عليه السلام.»
النقض
قال المؤلف في ص٨٣: «البلاد العربية، كما تعرف، كانت تحوي أصنافًا من العرب مختلفة الشعوب والقبائل، متباينة اللهجات، متنائية الجهات، وكانت مختلفة أيضًا في الوحدات السياسية؛ فمنها ما كان خاضعًا للدولة الرومية، ومنها ما كان قائمًا بذاته مستقلًّا، كل ذلك يستتبع بالضرورة تباينًا كبيرًا بين تلك الأمم العربية في مناهج الحكم، وأساليب الإدارة، وفي الآداب والعادات، وفي كثير من مرافق الحياة الاقتصادية والمادية.» ثم قال: «تلك الوحدة العربية التي وجدت زمن النبي ﷺ لم تكن وحدة سياسية بأي وجه من الوجوه، ولا كان فيها معنى من معاني الدولة والحكومة، بل لم تعدُ أبدًا أن تكون وحدة دينية خالصة من شوائب السياسة، وحدة الإيمان والمذهب الديني لا وحدة الدولة ومذاهب الملك.»
لا حرج على تلك الأمم المختلفة في عاداتها وآدابها ومناهج حكمها أن تنتظم بشريعة الإسلام، فإن القوانين تكون محكمة وتسير على وجه مطرد متى اتفق لها أمران: أن لا تكون مخلة بالمصلحة، وأن يتلقاها الجمهور بسكينة واطمئنان. وفي الشريعة بعض أحكام مفصلة، وسائرها أصول كلية، حسبما قررناه آنفًا. أما الأحكام المفصلة فإنها قائمة على رعاية مصالح لا تختلف باختلاف الشعوب والعادات، وما لم يفصل حكمه فذلك موكول إلى نظر الحاكم، فينظر فيما يقتضيه حال العادات والأخلاق وطبيعة الاجتماع، ويستنبط له من تلك الأصول العامة حكمًا مطابقًا. ولا شك أن الخضوع لأحكام الشريعة — مفصلة كانت أو مأخوذة باستنباط مستوفٍ للشروط — هو من مقتضيات الإيمان بحكمتها.
فأخذ تلك الشعوب والقبائل تحت حكومة الإسلام لا يخل بشيء من مصالحها، كما أنه لا يتوقع من الجمهور أن يلاقي قضاء هذه الحكومة وإدارتها بغير السكينة والاطمئنان.
وما زعمه المؤلف من أن تلك الوحدة العربية لم يكن فيها معنى من معاني الدولة والحكومة زعم يضربه التاريخ الصحيح بيد عنيفة قاسية «وما يدريك؛ فلعل الشر ضروري للخير في بعض الأحيان؟»
قال المؤلف في ص٨٣: «يدلك على هذا سيرة النبي ﷺ، فما عرفنا أنه تعرض لشيء من سياسة تلك الأمم الشتيتة، ولا غيَّرَ شيئًا من أساليبِ الحكمِ عندهم، ولا مما كان لكل قبيلة منهم من نظام إداري أو قضائي، ولا حاول أن يمس ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، ولا ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، ولا سمعنا أنه عزل واليًا ولا عين قاضيًا.»
فهذه النصوص من رجال كانوا ينقدون الأخبار نقد الصيارف للدينار تطعن في وجه ما يزعمه المؤلف من أن النبي ﷺ لم يعين قاضيًا، وتدل على أن أمراء النبي ﷺ كانوا يتصرفون في شئون تلك الأمم على مقتضى الكتاب والسنة.
وأما ما كان بين تلك الأمم بعضها مع بعض، أو ما كان بينها وبين غيرها من صلات اجتماعية أو اقتصادية، فمتى كان فيها ما لا يتفق مع المصلحة، أو ما يمس قاعدة من قواعد الدين الحنيف، فلا بد للحاكم المسلم من أن يغيره ويجريه على ما يلائم القانون العادل والأدب الجميل، والحجة على المؤلف في هذا قول جرجي زيدان: «وخوله السلطتين: السياسية والدينية، وأوصاه أن يحكم بالعدل، وأن يعلم الناس القرآن.»
قال المؤلف في ص٨٤: «ولا نظم فيهم عَسَسًا.»
نبهنا قبل هذا على أن عمل الحرس لذلك العهد كان يقوم به كل مسلم عرف أن تمام إيمانه في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الشهادة بالقسط ولو على نفسه أو والديه وأقربيه، ويضاف إلى هذا تأثير مواعظ القرآن على تلك الفطر التي لم تتلوث بأوساخ المدنية الفاسقة، فتعقد بين القلوب تعاطفًا، وتطبع النفوس على أدب جميل، فلا يكون للبغي مظهر، ولا للفظاظة يد، إلا في أوقات نادرة.
واعتبر في هذا المعنى بالهرمزان، ملك خوزستان، حين جيء به إلى عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وهو نائم في المسجد متوسدًا درَّته، فقال: هذا هو الملك؟! قيل: نعم، فقال له: عدلت فأمنت فنمت. والله إني قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التيجان فما هِبْتُ أحدًا منهم هيبتي لصاحب هذه الدرَّة.
فإذا كانت الدرة في يد النائم في المسجد تجعل في قلب البريء طمأنينة، وفي قلب المريب رهبة، فما هي الفائدة التي تجتنيها الأمة من تشييد قصر يخرج منه ويعود إليه في كل يوم رجال يتقاضون في رأس كل شهر ما يتقاضون؟!
قال المؤلف في ص٨٤: «ولا وضع قواعدَ لتجارتهم ولا لزراعتهم ولا لصناعتهم، بل ترك لهم عليه السلام كل تلك الشئون، وقال لهم: أنتم أعلم بها، فكانت كل أمة وما لها من وحدة مدنية وسياسية، وما فيها من فوضى أو نظام لا يربطهم إلا ما قلنا لك من وحدة الإسلام وقواعده وآدابه.»
التشريع الإسلامي يتناول كل ما ينظر فيه رجال القضاء والسياسة، بمعنى أن له في النوازل القضائية أحكامًا، وفي إدارة الشئون السياسية مقاصد، والمنوط بعهدة أولي الأمر أن تقرر تلك الأحكام بحق، وأن تقام تلك المقاصد بنظام. والوسائل التي يصلون بها إلى أن تأخذ الأحكام مأخذها، أو تقوم المقاصد على وجهها موكولة إلى اجتهادهم وأمانتهم.
فمن مقاصد الشرع أن تكون مرافق الحياة ميسورة، وأن تكون القوة من الأموال ووسائل الدفاع متوفرة، وفوَّض لأولي الأمر النظر فيما يجعل عيشة الأمة راضية وقوتها كاملة؛ فهم الذين يضعون للتجارة والزراعة والصناعة نظمًا لا تعترض أصلًا من أصول التشريع، بل يجب أن تكون في دائرته التي تسع كل قانون عادل ونظام لائق.
هذا إذا كان قصد المؤلف من قواعد هذه الأشياء الأنظمة العائدة إلى ترقيتها وتقدمها، أما إذا أراد بالقواعد القوانين التي يرجع إليها عند الفصل بين المتخاصمين؛ فإن الشريعة قررت بعضها بتفصيل، وأودعت سائرها في ضمن أصول كلية كبقية أحكام الحلال والحرام. هذا تحقيق النظر في المسألة من الوجهة التشريعية، أما إذا ثنينا عنان البحث إلى المسألة من حيث سيرة النبي ﷺ فلنا نظران أيضًا: نظر من حيث الحكم في القضايا التي تنشب بين أصحاب التجارة أو الصناع أو الزراع، وهذا مما كان ﷺ يتولاه بنفسه، وقد يكل بعضه إلى من يقوم عليه، كما جاءت الرواية بأنه ﷺ كان يولي في بعض الأسواق من ينظر في شئون المعاملات، ويراقب ما عساه أن يقع من غش أو مبايعة على غير وجه مشروع، وفي السيرة الحلبية «أن رسول الله ﷺ استعمل سعد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة، واستعمل عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — على سوق المدينة.»
والنظر الثاني من ناحية العمل على إصلاح شأن هذه الفنون، وهذه الفنون من أمور الدنيا التي لا يدخل تعليمها في وظيفة الرسول عليه السلام السماوية إلا من حيث الأمر بإقامة كل ما يسد حاجات الأمة، ويكفل لها العزة والمنعة، وفي مثل هذا قال النبي ﷺ: «أنتم أعلم بأمور دنياكم.»
والفرق بين النظرين أن تقرير أحكام الوقائع القضائية وغير القضائية لا يصح إلا ممن تحققت فيه شروط الاجتهاد، وأما العمل على إصلاح وسائل الحياة من نحو التجارة والزراعة فيؤخذ فيها برأي العارف بها، وإن لم يكن مطلعًا على شيء من أصول الشريعة أو فروعها.
إذن فالنبي ﷺ قام بوظيفته السماوية التي هي إبلاغ ما أنزل إليه، وتنفيذ ما جاء به من أوامرَ ونواهٍ، ولم يبقَ سوى أن يقال: لماذا لم يقم بذلك الأمر الذي هو خارج عن وظيفته السماوية، بأن يكلف ذوي الخبرة بإصلاح شأن التجارة والزراعة والصناعة؟
وجواب هذا السؤال: إن ما كان بين أيدي الأمة من هذه الوسائل كان ملائمًا لمظاهر حياتهم البسيطة، وكافيًا لسد حاجاتهم وإحرازهم القوة التي تجعلهم في منعة من أعدائهم، ثم إن الحروب لم تزل — منذ طلع كوكب الدولة — حاملة أوزارها، فلم يأخذ القوم خلالها مهلة ينصرفون فيها إلى النظر في شأن الزراعة ونحوها؛ ولا سيما إذ كانت قلة عددهم بالنسبة لأعدائهم المتألبين عليهم من كل جانب، تضطرهم إلى أن يكون شبابهم وكهولهم وشيوخهم يتقلدون السلاح، ويظلون على أهبة القتال بكرة وعشيًّا.
فالمؤلف رمى بنفسه في هذا البحث وهو غير واقف على روح التشريع ولا على طبيعة حال الأمة لعهد النبوة، فكان فيما نال به جانب الحكومة النبوية من المسرفين.
•••
قال المؤلف في ص٨٤: «ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي ﷺ المسلمين من أنظمةٍ وقواعدَ وآدابٍ، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزءًا يسيرًا مما يلزم لدولة مدنية من أصول سياسية وقوانينَ.»
تهافتت على المؤلف هذه الخواطر لقلة تفقهه في الشريعة، وعدم وقوفه على تاريخ عهد النبوة وقوفَ الباحثِ البصيرِ، وحذرًا من أن تستدرج هذه الفقرة نفرًا ينصتون لها على غير هدًى، أسوق كلمة مقتصدة يلقي عليها القارئ نظرة واحدة فيشهد من روح التشريع وتاريخ السياسة النبوية ما تتساقط عنده تلك الشُّبَه صرعى، ويتسلل منه ذلك الرأي لِوَاذًا.
لنبحث عن مبادئ الشريعة الاجتماعية السياسية منذ طلعت إلى أن أغلق باب الوحي، ونعرِّج على نبذة من سيرة النبي ﷺ في تدبير شأن السياسة، حتى تعلم أن الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم لم يخطئوا في فهم الدين، ولم يتفقوا على ضلالة.
نزل القرآن في نحو عشرين سنة، وكان معظم ما نزل بمكة إنما هو كليات الشريعة من تقويم العقائد وإصلاح الأخلاق والعادات، فتجد السور المكية طافحة بالدعوة إلى الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وإقامة الحجج على ذلك، ودفع شبه الجاحدين، والأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، والاعتبار بقصص الأمم الخالية، ثم الإرشاد إلى مكارم الأخلاق من نحو العدل والصدق والحلم والعفو والصبر، والوفاء بالعهد، وحسن الإخاء، وبر الوالدين، وإنفاق المال في طرق الخير، وإيفاء الكيل والميزان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإباية الضيم المُنبَّه عليها بقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ.
وهنالك تجد محاربة المزاعم الباطلة، والعادات السمجة، والنهي عن البغي وقتل النفس والزنى، والتطفيف في الكيل والوزن، والخيلاء والإعجاب بالنفس والرياء والكذب، والقول على الله بغير علم، كل ذلك تراه مصوغًا في أساليبَ تلذ الفطر السليمة مذاقها، وتلين القلوب القاسية لجزالتها. وشرع في أثناء ذلك أهم ركن في العبادات، وهي الصلاة، ثم بعض الأحكام الراجعة إلى قسم العادات؛ كبيان ما يحل أكله وما هو حرام، وألقى في النفوس أن الشريعة تمشي بالناس على الطريقة الوسطى، فنزلت آيات في التذكير بنعم هذه الحياة، وأخرى في إباحة الأخذ بزينتها والتمتع بطيباتها. وهنالك وضعت القاعدة الاجتماعية السياسية؛ وهي قاعدة الشورى، ونزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.
وبمثل هذه التعاليم الباهرة والآداب الساطعة تألف حول مقام الرسالة قوم يخالفون سائر القبائل العربية بعقائدهم وأخلاقهم وآدابهم وكثير من عاداتهم، وأصبحوا بين يدي واعظ الإسلام آذانًا صاغية، ونفوسًا لينة، يقف فيقفون، ويسير فإذا هم على أثره مقتدون.
وبعد هجرة صاحب الرسالة صلوات الله عليه إلى المدينة المنورة، جعل الوحي السماوي يشرع ما بين الوعظ والتذكير أحكامًا عملية، وأصولًا اجتماعية، تلك الأحكام والأصول التي لا يسنها إلا من قصد إلى بناء دولة تسلك في قضائها وسياستها شرعة خاصة، فترى في السور المدنية عقوبة السارق والزاني والقاذف والساعي في الأرض فسادًا، وآيات الجهاد والقضاء العادل، وما يستند إليه من بينات، ثم الإرشاد إلى أصول المعاملات مثل البيع والقرض والرهن والوصية والتوكيل والحجر على القاصرين من سفيه أو يتيم، ثم أحكام النكاح والطلاق والخلع والنفقات والمواريث، والإصلاح بين الأفراد والجماعة، ثم المعاهدات التي تعقد بين المسلمين وغير المسلمين، وهنالك شرعت الزكاة والجزية، وهي أموال تصرف في حاجات ومصالحَ يجب على الرئيس الأعلى النظر في شأنها، وهنالك فرض الحج، ومن حكمه التعارفُ والنظرُ في شئون الأمم الإسلامية قاطبة.
وتجد في السنة النبوية — التي لا يملك المؤلف ولا غير المؤلف أن ينازع في صحتها — أصولَ الشركة والشفعة والقسمة والمزارعة وإحياء الموات والهبة والفلس، إلى ما عدا ذلك مما هو بيان لبعض ما أجمله الكتاب العزيز في تلك الأبواب وغيرها.
ومن بعد نص الكتاب والسنة، تلك القواعد التي ساقنا البحث إلى التنبيه عليها فيما سلف، فإنها تُتَعرَّف في مواردَ كثيرةٍ منهما لا فرق بين مكي أو مدني، وسواء على المجتهد أن يتعرفها من آيات الأحكام أم من غير آيات الأحكام؛ كالمواعظِ ومآخذِ العبرِ، وقد تكون نتيجة استقراء جانب من القرآن وأقوال النبي ﷺ وأفعاله كما انتزعوا قاعدة «ارتكاب أخف الضررين» من مثل قوله تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وانتزعوا قاعدة سد الذرائع من مثل قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ.
والمقدار الذي يفيد القطع بأن هذا المعنى مقصود للشارع فيجعل قاعدة موكولٌ إلى أنظار المجتهدين الراسخين في العلم بروح التشريع؛ لكثرة تدبرهم في النصوص، وترددهم على ما فصل من أحكام.
وبالوقوف على روح التشريع ساغ لهم أن يقرروا معاني بعض الآيات والأحاديث على حسب ما تقتضيه هذه القواعد، كما قيد الإمام مالك — رضي الله عنه — حديث: «اليمين على من أنكر.» بشرط الخلطة بين المدعي والمدعى عليه، وهو في الحقيقة إنما قيد نص الشارع بقاعدة مأخوذة من نصوصه، وهي قاعدة سد الذرائع؛ إذ لو وُجِّهَ اليمين على كل مدعى عليه لتمكن أهل السفاهة من امتهان أهل الفضل، ولا يشاء أحد أن يحلف أحدًا من أهل الخير والفضل إلا ادعى عليه دعوى يتوصل بها إلى تحليفه وامتهانه.
ولعلك تستخلص من هذا المقال، على ما فيه من إيجاز، أن شارع الإسلام يقصد إلى أن يكون للمسلمين دولة ذات صبغة دينية، وأنه سن لهذه الدولة سبيلًا متى جمح عنه الحاكم يمينًا أو شمالًا كان مسئولًا للأمة المسلمة في الدنيا ولمنزل الشريعة في الآخرة. وقد حررنا لك فيما سلف أن الشارع يوجه عنايته إلى حفظ الحقائق أو المصالح، ويترك الوسائل إلى اجتهاد أولي الأمر. يفرض الشارع تنوير عقول الأمة بالعلوم والمعارف. أما أن تكون مدة الدراسة أربع ساعات في اليوم أو خمسًا، وأن يشتغل طلبة العلوم بالسياسة أو لا يشتغلون، وأن يعقد لهم امتحان في أول السنة أو آخرها، وأن يمنح التلميذ حرية البحث في نفس الدرس أو لا يفسح له في البحث إلا بمقدار، فذلك كله وأمثاله معه مما ينظر فيه أولو الأمر ويجرونه على حسب ما يتراءى لهم من المصلحة.
فقول المؤلف: «إن كل ما شرعه الإسلام وأخذ به النبي ﷺ من أنظمةٍ وقواعدَ وآدابٍ إلخ.» إنما هو قول من لم يقف على روح التشريع، ولم يدرِ أن ما لم تنص عليه الشريعة من الأنظمة إنما هو من النوع الذي يتبدل على حسب ما تقتضيه طبائع الشعوب وأحوال الأزمنة.
•••
قال المؤلف في ص٨٥: «إن كل ما جاء به الإسلام من عقائدَ ومعاملاتٍ وآدابٍ وعقوباتٍ فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير، وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول.»
يقول المؤلف في هذه الفقرة: إن ما جاء به الإسلام من معاملات وعقوبات غير قائم على رعاية المصالح المدنية، ويقصد بهذا أنها لا تصلح لأن تتمسك بها الدولة في سياستها، وما هو إلا الهوى تزوج بالعقيدة الشوهاء، فكان من نسلهما هذا الرأي العنيد!
أحكام الإسلام ترجع إلى عبادات ومعاملات وعقوبات
أما العبادات فالقصد منها مصلحة البشر الدينية، وقد تتبعها مصالحُ دنيويةٌ كما قال تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا.
وأما المعاملات والعقوبات فإنه يراد منها إقامة المصالح في الدنيا، وتترتب عليها مصلحة أخروية، وهي الثواب عليها في الدار الباقية، متى صحب العمل بها قصد الامتثال. وهذه المصلحة الأخروية لا تخرج المصلحة الدنيوية عن أن تكون هي المصلحة التي يبحث عنها أصحاب القوانين الوضعية، وإن شئت تحرير البحث في هذا الصدد فإليك التحرير:
للنفوس أربع أحوال: لذة، وسرور، وألم، وغم. فيلتذ الإنسان بالحكمة، ثم بالطيبات من طعام وشراب، وفراش لين ونوم هادئ، ويسر بازدياد الولد وصلاحه، والانتصار على العدو، وأن يكون له لسان صدق في مجالس أهل الفضيلة، ويتألم من الوجع، ومذاق الطعام المر، والشراب الملح الأجاج، وأن يقرع سمعه أنكر الأصوات، أو يمس بدنه حر سلاح أو سياط، ويغتم لفقد مال أو مفارقة صديق، أو استبداد حاكم غشوم.
ومن البديهي أن النفوس تحرص على ما فيه لذة أو سرور، وتنفر مما فيه ألم أو غم، فكل إنسان يسعى بفطرته إلى ما فيه لذته وسروره، ويحذر ما يلاقي به ألمًا أو غمًّا، ولا تكاد تصرفاته الصادرة عن إرادة وعزم تخرج عن أن يقصد بها نيل ما فيه لذة أو سرور، أو يحترس فيها عما فيه ألم أو غم، وإذا أعرض عما فيه لذة أو سرور، فَلِيَنَال لذة وسرورًا أعظمَ، وإذا اقتحم موقع ألم أو غم، فليخلص من ألم أو غم أشد أثرًا أو أطول أمدًا.
وحيث كان الإنسان مخلوقًا على فطرة تستدعي أن يعيش في جماعة من أبناء جنسه، وتألَّف الناس بالفعل شعوبًا وقبائلَ، أصبحت أسباب اللذة والسرور والآلام والغموم تتصادم، فَرُبَّ عملٍ فيه لذة شخص أو سروره يجر لآخر غمًّا أو ألمًا، ورب إحجام إنسان عن موقع ألم أو غم يحرم غيره لذة وسرورًا.
فنسمي اللذة والسرور وأسبابها مصالح أو منافع، ونسمي الآلام والغموم وأسبابها مفاسدَ أو مضارَّ، ونقول: إن تعارض الدواعي في جلب المصالح ودرء المفاسد يفضي بطبيعته إلى تنازع وتقاتل، فاقتضت الضرورة أن يكون للجماعة قانون يكبح القوي عن الاستئثار بمنافعِ الضعفاءِ، ويفصل ما ينتشب بين القوتين المتكافئتين من تدافعٍ وخصام.
فالشرائع السماوية والقوانين الوضعية تتحد في أن القصد منها حفظ المصالح ودرء المفاسد، على وجه يجعل كل أحد يصل إلى ملاذه ومسراته بشرط أن لا يلحق بغيره ألمًا أو غمًّا. وتنفرد الشريعة السماوية بأن تجعل لتطبيق أحكامها بإخلاص مصلحة أخرى؛ وهي رضوان الله أو نعيمه الدائم في الآخرة، وتمتاز بعد كون قوانينها أعدل وأشد مطابقة لمكارم الأخلاق بأن الطائع لها إنما يطيع أمر ربه الأعلى، لا إرادةَ مخلوق قد يكون أقل منه علمًا، أو أحط أخلاقًا، أو أسفه رأيًا. وهذا المعنى الذي تختص به الشريعة السماوية يجعل كثيرًا من الناس يمتثلون قوانينها بباعث من أنفسهم، وإن أمنوا من عقوبة السلطان على مخالفتها.
وقد عقد أهل العلم خناصرهم على أن أحكام الشريعة معللة بمصالح العباد في هذه الحياة، وفي تلك الحياة، وأن المصالح التي تقصدها الشريعة السماوية ترجع إلى حفظ النفس والدين والعقل والعرض والنسب والمال، فالقصاص مثلًا مشروع لحفظ النفس، وحد الزنا لصيانة النسب، وحد القذف لصيانة العرض، وعقوبة شارب الخمر لصيانة العقل، والجهاد لحفظ الدين، بل الاستعمار الأجنبي دل على أن الجهاد مشروع لحفظ الدين والنفس والعرض والمال، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.
وكل ما شرع من أحكام المعاملات والتعازير لا يخرج عن الاحتفاظ بهذه الحقوق.
ولبناء أحكام الشريعة على مصالح العباد في الدنيا خاض أهل العلم في البحث عن هذه المصالح، وعقدوا الموازنة بينها وبين المفاسد؛ ليبنوا الحكم على الراجح منهما عند التعارض، كما فعل أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته، وعز الدين بن عبد السلام في قواعده، وتجدهم ينظرون إليها كما ينظر إليها أصحاب القوانين الوضعية من حيث عظمها وصغرها، ومن حيث ما يترتب عليها في الخارج من آثار نافعة أو عواقبَ سيئةٍ، فهذا عز الدين بن عبد السلام يقول: «فصل في اجتماع المصالح مع المفاسد: إذا اجتمعت المصالح مع المفاسد؛ فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالًا لأمر الله تعالى فيهما، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة … والضابط أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد سُعِي في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية من المصالح سعي في درئها، وإن التبس الحال احتطنا للمصلحة بتقدير وجودها وفعلناها، وللمفسدة بتقدير وجودها وتركناها.»
ومن جهة التعليل بالمصالح انفتح باب القياس في الأحكام، وهو إلحاق الوقائع بنظائرها المنصوص عليها حيث اشتركنا في علة الحكم، كما قاسوا القضاء في حال المرض على القضاء في حال الغضب المنصوص عليه في قوله ﷺ: «لا يقضي القاضي وهو غضبان.» لأن علة المنع من القضاء متحققة في حال المرض، وهي قلق الفكر واضطرابه.
•••
قال المؤلف في ص٨٥: «قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك التباين الذي نقول إنه كان بين أمم العرب زمن النبي ﷺ، وأن تخدعك تلك الصورة المنسجمة التي يحاول المؤرخون أن يضعوها لذلك العصر، فاعلم أولًا: أن في فن التاريخ خطأ كثيرًا، وكم يخطئ التاريخ، وكم يكون ضلالًا كبيرًا!»
شأن الباحث المحقق أن يحدَّ رأيه من كل جهة ثم يتعرض لما عساه أن يقع في سبيله من روايات المؤرخين، وينقده بحكمة، فيبين وجه مخالفته لسنن الكون، أو لطبيعة حال الأمة التي يقص من أنبائها، أو يعارضه برواية هي أصح سندًا، وأرجح وزنًا.
كل إنسان يعلم أن في التاريخ حقًّا وباطلًا، ولكن وراء التاريخ علومًا وقواعد تميز حقه من باطله، وصحيحه من سقيمه.
فهل نقل المؤلف الروايات التي حاول المؤرخون أن يضعوا بها لعهد النبوة تلك الصورة المنسجمة، وبيَّن وجه مخالفتها للسنن الكونية أو لطبيعة الأمة العربية، أو نقضها بروايات هي أمتن سندًا وأوفى وزنًا.
كل ذلك لم يقع، ولم يزد المؤلف على مزاعمَ يلف حبلها على غاربها، ويرسلها سائبة في الورق كالضالة غير المنشودة، فلا شبهة تسترها ولا دليل يقودها، كأنه يبعث بها إلى الصم البكم الذين لا يعقلون.
ولو كان هذا المنطق نافعًا، لكان لنا أن نكتفي في نقض هذا الباب بأن نقول لقارئه: قد نخاف أن يخفى عليك أمر ذلك الكتاب الذي نقول: إن مؤلفه يجهل ما كان بين أمم العرب زمن النبي ﷺ، وأن تخدعك تلك الصورة المزورة التي يحاول أن يضعها للحكومة النبوية؛ فاعلم أولًا أن في الآراء خطأ كبيرًا، وكم يخطئ الرأي، وكم يكون ضلالًا كبيرًا!
•••
قال المؤلف في ص٨٥: «واعلم ثانيًا أنه في الحق أن كثيرًا من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلوبهم، وما جمعهم عليه من دين واحد، ومن أنظمة وآداب مشتركة.»
يدعي المؤلف أن النبي ﷺ لم يتعرض لتلك الأمم من حيث الحكم والسياسة، والطريق النافع لهذه الدعوى أن ينقد الروايات الشاهدة بأنه عليه السلام كان يولي على تلك الأمم أمراء يسوسونهم بالكتاب والسنة والاجتهاد الصحيح، ولكنه بدل أن يأخذ في هذا الطريق العلمي أخذ يتحدث بما لا يدخل في موضوع البحث، ولا يعود على تلك الدعوى بفائدة.
من أي منفذ يدخل في الموضوع قوله: «إن كثيرًا من تنافر العرب وتباينهم قد تلاشت آثاره بما ربط الإسلام بين قلوبهم»؟ ومن الذي يلتبس عليه التنافر والتباين في بعض عادات وآداب بالتباين في الحكم ومرجع السياسة؟
قال المؤلف في ص٨٦: «ولكن العرب على ذلك ما برحوا أممًا متباينة ودولًا شتى، كان ذلك طبيعيًّا، وما كان طبيعيًّا فقد يكفي أن تخفف حدته وتقلل آثاره، ولكن لا يمكن التخلص منه بوجه من الوجوه.»
كأن المؤلف أخذ على عاتقه أن يملأ صحائف معدودة في الحديث عن الحكومة النبوية، وسيان بعد ذلك أن تكون معانيه متناسقة أم متخاذلة.
موضوع البحث: هل تعرض النبي ﷺ لتلك الأمم من حيث الحكم والسياسة، أم تركت كل أمة على ما هي عليه من فوضى أو نظام؟ وإذا المؤلف يخرج إلى الحديث عن تنافر العرب، ولا يستأذن قارئي كتابه في هذا الاقتضاب، ثم يدعي بعد هذا أن كونهم أممًا متباينة ودولًا شتى أمر طبيعي، وما كان طبيعيًّا لا يمكن التخلص منه بوجه من الوجوه.
التباين في بعض عوائد وآداب لا تنافي الفضيلة شيء يغمض عنه الإسلام طرفه ولا يهمه أن يزول أو يبقى خالدًا، والذي يعنيه ويعمل على تنقية الحالة الاجتماعية منه إنما هي العادات والشئون التي لا تلتئم مع الآداب الرفيعة والمظاهر المألوفة.
فالإسلام يجاهد كل تباين يقوم على عادات ينكرها الأدب، طبيعية كانت أم تقليدية، والدين الذي بلغ الإيمان بحكمته أن يجعل الرجل طوع أمره؛ فيهجر من أجله وطنه، ويقاتل في سبيله أباه وأخاه وعشيرته الأقربين، في استطاعته أن يخرج النفوس المؤمنة من ظلمات حكم الجاهلية إلى الشريعة العادلة والسياسة الحكيمة.
•••
قال المؤلف في ٨٧: «وقد لحق ﷺ بالرفيق الأعلى من غير أن يسمي أحدًا يخلفه من بعده، ولا أن يشير إلى من يقوم في أمته مقامه. بلى، لم يشر عليه السلام طول حياته إلى شيء يسمى دولة إسلامية أو دولة عربية.»
إن لم يسم عليه السلام أحدًا يخلفه من بعده، ولم يشر إلى من يقوم في أمته مقامه، فليس معنى ذلك أنه لم يبعث لإنشاء دولة إسلامية، ولم يأتِ بشريعة تنتظم سياستها، وإنما لم يسم أحدًا يخلفه ولم يشر إلى من يقوم مقامه لمقصد بعيد المدى، وأصل من أصول الدولة يثبِّت أساسها، ويزيدها حكمة على حكمتها، وهو أن الإمامة حق من حقوق الأمة، هي التي تقلدها، وهي التي تنزعها، تقلدها من آنست فيه الكفاية، وتنزعها ممن عجز عن القيام بأعبائها، أو لعبت بقلبه أصابع الهوى فجعل عاليها سافلها.
وإن تعجب فعجب قول المؤلف: إن النبي عليه السلام لم يشر طول حياته إلى شيء يسمى دولة إسلامية! ولقد ذهب هذا القلم في الجرأة إلى مكان سحيق، يقول حفاظ السنة: لم نسمع كذا، أو لم يبلغنا كذا. ويقول من ينقل حديث رسول الله ﷺ عن الكامل للمبرد: لم يشر عليه السلام طول حياته إلى شيء يسمى دولة إسلامية!
من مثل هذه العبارة يدرك قراء كتابه الأذكياء وأشباه الأذكياء أنه يرمي بالكلام جزافًا، ويحاول أخذ قلوبهم ولو على طريق غير معقول، ومنطق ليس له فروع ولا أصول.
يرمي المؤلف هذه المقالة الخاطئة، وفي السنة الصحيحة من أحاديثِ الإمامة ما فيه عبرة لقوم يفقهون، وقد قصصنا منها ما لا يمكن للمؤلف أن ينازع في صحته، أو يحرفه بالتأول عن مواضعه.
•••
قال المؤلف في ص٨٧: «فكيف إذا كان من عمله أن ينشئ دولة يترك أمر تلك الدولة مبهمًا على المسلمين؛ ليرجعوا سريعًا من بعده حيارى يضرب بعضهم رقاب بعض؟! وكيف لا يتعرض لأمر من يقوم بالدولة من بعده وذلك أول ما ينبغي أن يتعرض له بناةُ الدول قديمًا وحديثًا؟!»
ترك النبي عليه السلام المسلمين على بينة من أمر إمام يقوم بحراسة الدين وسياسة الدنيا، ولم يبق سوى أنه لم يعهد بالخلافة لأحد بعينه، والحكمة في عدم تعيين من يقوم مقامه تعليم الأمة المسلمة أن منصب الخليفة يرجع إلى اختيارهم. وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام المفرغة على قالب الحرية، ولكن المؤلف ينظر إلى سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام بمرآة تعكس الحقائق، وتريها له في صبغة غير صبغتها الحسنى.
لم يترك النبي صلوات الله عليه أمر الدولة مبهمًا على المسلمين، ولم يرجعوا سريعًا من بعده يضرب بعضهم رقاب بعض، وما هي إلا مناقشة دارت بينهم في سقيفة بني ساعدة، وسرعان ما طوي بساطها على وفاق وسلام، فإن كان المؤلف يلوِّح إلى قتال أهل الردة، فأولئك قوم نزلت بهم ضلالة أو استحوذت عليهم جهالة، ولو نص النبي ﷺ على إمامة أبي بكر لنازع أولئك الضالون أو الجاهلون في صحة ما يروى لهم عن رسول الله ﷺ، ثم لم يعدموا مغالطة يتملصون بها من عهدة ما تفرضه عليهم النصوص الصريحة، وكتاب الإسلام وأصول الحكم على ما نقول شهيد.
•••
حكى المؤلف مذهب ابن حزم في أن النبي عليه السلام نص على استخلاف أبي بكر بعده، وأن معنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه، ثم قال في ص٨٨: «والذهاب مع هذا الرأي تعسف لا نرى له وجهًا صحيحًا، ولقد راجعنا ما تيسر لنا من كتب اللغة فما وجدنا فيها ما يعضد كلام ابن حزم، ثم وجدنا إجماع الرواة على اختلاف الصحابة في بيعة أبي بكر وامتناع أجلة منهم عنها.»
وأما ما ذكر من امتناع أجلة من الصحابة عن مبايعة أبي بكر فقد كان ذلك في مبدأ الأمر، ثم أطبقوا على مبايعته، ولم يبقَ سوى سعد بن عبادة — رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام في منهاج السنة ردًّا على أحد الرافضة في مقالة له تُشْبِهُ مقالة المؤلف: «وأما الذين عدهم هذا الرافضي أنهم تخلفوا عن بيعة الصديق من أكابر الصحابة، فذلك كذب عليهم إلا على سعد بن عبادة، فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر، هذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات وسائر أصناف أهل العلم خلفًا عن سلف، وقد علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن مبايعته إلا سعد بن عبادة.»
•••
قال المؤلف في ص٨٩: «بل الحق أنه ﷺ ما تعرض لشيء من أمر الحكومة بعده ولا جاء للمسلمين فيها بشرع يرجعون إليه.»
جاء النبي ﷺ للمسلمين بشرع يرجعون إليه في الحكومة بعده، أما كونه عليه السلام جاء بشريعة ذات أصول قضائية وأخرى سياسية، وأن هذه الأصول لم تفرط في شيء من جلب المصالح ودرء المفاسد، فحقيقة يراها عين اليقين كل من تدبر في القرآن، وتفقه في الدين على طريقة الباحث الحكيم.
وقد بصر علماء الإسلام بهذه الحقيقة، وتضافرت كلمتهم عليها وإن كانوا يختلفون في بعض طرق الاستنباط، ذلك الاختلاف الناشئ عن التفاوت في الفهم، والتفاضل في العلم، والحق قد يخفى على بعض الأفراد، ولكنه لا يستتر عن عيون الجماعات المبثوثة في كل واد.
وأما الدليل على أن هذه الشريعة عامة لا يختص بهدايتها عصر دون عصر، ولا قوم دون آخرين، فهو الكتاب والسنة والإجماع والنظر الصحيح.
أما الكتاب فقوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، وقوله تعالى: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ. وهذا يقتضي أن كل ما تقرر بوحي من عقائد وآداب وشرائع يعم بخطابه جميع الأمم، ولا يختص بزمان دون زمان، وكذلك تجد الوعيد على الحكم بغير ما أنزل إليه مصوغًا في صورة العموم تجده في قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وفي آية أخرى: فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وفي آية ثالثة: فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.