الفصل الأول

المشهد الأول

(روما: شارع دمارولاس)

(يدخل فلافياس ورهط من العامة.)

فلافياس : اذهبوا إلى بيوتكم أيها الكسالى!
أهذا يوم بطالة؟! ألا تعلمون أنه لكونكم من طائفة العمال يجب عليكم أن لا تسيروا في يوم عمل خالين من شعار مهنتكم؟ تكلم! ما صناعتك؟
الرجل الأول : نجار يا مولاي.
مارولاس : أين مبذلتك الأدمية١ ومسطرتك؟ ماذا تبغي بارتداء أحسن ثيابك؟ وأنت يا هذا، ما حرفتك؟
الرجل الثاني : حقًّا يا مولاي إني بالقياس إلى مهرة الصناع وحذاقهم أخرق الكف عاجز (مرقع).
مارولاس : ولكن ما حرفتك؟ أجبني بصراحة.
الرجل الثاني : حرفة أحسب أني أستطيع أداءها وأنا مستريح الضمير، بريء الذمة، وهي يا مولاي إصلاح النعال الفاسدة.٢
مارولاس : ما حرفتك أيها الوغد؟ ما صناعتك أيها النكس الخسيس؟
الرجل الثاني : ناشدتك الله يا مولاي لا تتمزق عليَّ غضبًا، ولئن تمزقت غضبًا لأصلحنك.
مارولاس : ماذا تعني بذلك؟ أنت تصلحني يا وقح!
الرجل الثاني : أجل يا مولاي، أرقعك.
مارولاس : أنت إسكاف إذن؟
الرجل الثاني : هذه هي الحقيقة يا مولاي، فكل ما أعيش به هو مخصفي.٣
أنا لا أعنى بشأن رجل ولا امرأة، ولكن بالمخصف. وإني في الواقع طبيب النعال القديمة، فإذا أشرفتْ على الخطر الجسيم، فإني أظاهرها، وما زال الرجل المتجمل المحتذي أجود الأدم يلبس من صنع يدي.
فلافياس : ولِمَ لَمْ تلزمْ حانوتك اليوم؟
لماذا تطوف بأولئك الرجال في الطرقات؟
الرجل الثاني : لأبلي نعالهم فأستفيد من وراء ذلك. ولكن الواقع يا مولاي أننا تعطلنا اليوم لنرى قيصر، ونقضي اليوم ابتهاجًا بانتصاره.
مارولاس : فيمَ الابتهاج؟ وأي فتح أفاءه قيصر على بلاده؟ وأي أسرى وسبايا وأي غنائم وأسلاب عاد بها إلى روما تتحلى بحلقات أصفادها عجلات مركبته؟
أيها الخشب المسندة والجمادات العديمة الحس والإدراك، يا أهل روما، يا قساة القلوب، ويا غلاظ الأكباد، أنسيتم «بومبي»؟ أنسيتم إذ كنتم تتسلقون الأسوار والمعاقل والأبراج والنوافذ ورءوس المداخن، تحملون أطفالكم بين ذراعكم، وهنالكم تلبثون اليوم الطويل ترتقبون بفارغ الصبر مقدم «بومبي» العظيم لتروه مارًّا في طرقات روما، فإذا ما لاحت لكم مركبته أرسلتم ضجة عامة ارتج التيبر تحت ضفتيه، وخفق فؤاده بين دفتيه؛ لهول دويها الطنان في حنايا سواحله الجوفاء، أفبعد كل هذا ترتدون اليوم أبهى ثيابكم، وتقتطفون من بين أشواك العمل زهرة يوم رفاهة وبطالة؟! أتنثرون اليوم الرياحين في طريق الذي قد جاءكم منتصرًا على أولاد «بومبي» وأفلاذ كبده، اذهبوا إلى بيوتكم، فخروا سجدًا وابتهلوا إلى الآلهة أن يرجئوا من النقمة والعذاب ما لا بد أن يحل بكم جزاء هذا الجحود والكفران.
فلافياس : اذهبوا أيها المواطنون واستغفروا لذنبكم هذا، فاجمعوا المساكين من أهل طبقتكم وامضوا بهم إلى ضفاف التيبر، فاسفحوا به مدامعكم حتى تفعم بها أضحاله٤ وأوشاله٥ فتفهق بزواخرها حفافيه ويعب بها عبابه (تخرج العامة).
ترى قد رقت لهذا الكلام طباعهم الجامدة، ورفت له نفوسهم الراكدة، لقد انقشعوا مغلولي الألسن في سلاسل جريمتهم، انحدر أنت في هذا الطريق إلى «الكابيتول»، فإني سالك ذلك المنهج، جرد التماثيل إن وجدتها مزدانة بالحلي.
مارولاس : ألنا أن نفعل ذلك؟ أنت تعلم أنه عيد لوبركال.
فلافياس : لا بأس من ذلك، لا تدع أي هذه التماثيل يتوج بالأكاليل الدالة على انتصارات قيصر، سأجول هنا وهنالك لأطرد الغوغاء من الشوارع، وكذلك فلتفعلن حيث تراهم يحتشدون، هذه الصدمة ستهيض من جناح قيصر، فتهبط به إلى مستواه، وتقف به عند حده، ولولاها سما صعدًا حتى غاب عن أبصار العالم وأذاقنا جميعًا لباس الذل والرهبة.

المشهد الثاني

المنظر الأول

(مكان عمومي)

(الموسيقي: يدخل قيصر وأنطانيوس للسباق: كالبورنيا، بورشيا، ديسياس، شيشرون، بروتاس، كاسياس، كاسكا، يتبعهم جمع كثير بينهم عراف.)

قيصر : كالبورنيا.
كاسكا : صه! قيصر يتكلم.

(تسكت الموسيقى.)

قيصر : كالبورنيا.
كالبورنيا : ها أنا ذا مولاي.
قيصر : قفي في طريق أنطانيوس حينما يجري شأوه، أنطانيوس!
أنطانيوس : مولاي قيصر!
قيصر : لا تنسَ أثناء شدك أن تلمس كالبورنيا، فلقد قال أشياخنا: إن العاقر إذا لمست أثناء هذا السباق المقدس سقطت عنها آفة العقم.
أنطانيوس : سأذكر ذلك، متى قال قيصر: «افعل ذلك»، فكأنما قد فُعل.
قيصر : امضِ قدمًا.

(الموسيقى)

العراف : قيصر!
قيصر : من ذا ينادي؟
كاسكا : ليخفت كل صوت، عاودوا الصمت والسكينة!
قيصر : من ذا يناديني من بين هذا الزحام؟ إني أسمع لسانًا أعلى ضجة من رنة الموسيقى، يصيح: «قيصر»، تكلم إن قيصر ملتفت فمنصت.
العراف : احذر منتصف مارس!
قيصر : أي رجلٍ هذا؟
بروتاس : عراف يحذرك منتصف مارس.
قيصر : أحضره بين يديَّ، أرني وجهه.
كاسكا : أيها الرجل! اخرج من غمار القوم ثم واجه قيصر.
قيصر : ماذا قلت لي آنفا؟ أعد قولك.
العراف : احذر منتصف مارس.
قيصر : أحلام حالم، امضوا بنا عنه.

(أصوات أبواق، يخرجون جميعًا ما عدا بروتاس وكاسياس.)

كاسياس : أتذهب لرؤية السباق؟
بروتاس : ما كان مثلي ليذهب.
كاسياس : أرجوك أن تذهب.
بروتاس : لست إلى الألعاب ميالًا، إني ليعوزني بعض تلك الميعة والمرح الذي تفيض به نفس أنطانيوس، ولن أكون عقبة في سبيل رغباتك، لذلك أدعك الآن.
كاسياس : أي بروتاس، إني أتأملك اليوم كثيرًا، فأراك قد تنكرت، وأراني فقدت منك ذلك العطف والتودد، ومن عينيك تلك اللحظات اللينة الرفيقة، والنظرات الغضة الرقيقة؛ دليل الحب وعنوان الحنان. ولقد أصبحت اليوم تشتد على أخيك المحب الودود، وتقسو عليه قسوة عنيفة منكرة.
بروتاس : لا تخطئ يا كاسياس.
ولتعلمن أنه إن كانت حالتي تغيرت وتنكرت بشاشتي، فعلى نفسي لا سواي ذلك التنكر، لقد تكدر صفوي آنفًا، وأصابتني لواعج همٍّ شتى وهواجس أفكار لا تخص غيري، ولعل هذه قد غيرت قليلًا من مظاهري نحو الخلان، ولكن إخواني — وأنت أحدهم — لا يجدر بهم أن يتأذَوْا من ذلك، ولا أن يؤولوا تفريطي في واجباتهم بأكثر من أن بروتاس التعس لاستيائه من حالته، وثورانه ضد نفسه، قد أهمل أن يتحلى لإخوانه باللائق من مظاهر الحب والمودة.
كاسياس : أراني إذن أسأت فهم شعورك الحقيقي يا بروتاس، ومن ثم ما جال في ضميري من تلك الفكر الخطيرة الجديرة بالتأمل والتدبر، خبرني يا بروتاس ألا تستطيع رؤية وجهك؟
بروتاس : كلا يا كاسياس؛ لأن العين لا ترى نفسها إلا بانعكاس صورتها، أي بواسطة وسائل أخرى.
كاسياس : هذا هو الواقع، ومن أكبر دواعي الأسف يا بروتاس أنك لا تملك المرآة التي تستطيع أن تعرض على عينك فضائلك المكنونة كيما ترى خيال نفسك. لقد بلغني أن كثيرًا من وجوه روما وأعيانها «خلاف قيصر الخالد» كلما ذكروا بروتاس، وأخذوا يتوجعون من مظالم هذا العصر ودوا لو أن الهمام بروتاس أتيح له أن يفقه حقيقة نفسه، ويدرك ما له من جليل الفضائل والمناقب.
بروتاس : إلى أي أخطار تريد أن تسوقني يا بروتاس بحملك إياي على أن أبتغي عند نفسي ما ليس فيها؟
كاسياس : إذن فاسمع مني يا بروتاس! أما وقد علمت أنك لا تستطيع أن تعرف من صورة نفسك إلا ما ينعكس منها على نحو ما تنعكس الشخوص والأشباح؛ فسأكون لك كالمرآة أُريك بمزيد الخشوع والتواضع من شئون نفسك ما لم تعرفه حتى الآن، ثم لا يخالجنك فيَّ أدنى ارتياب يا بروتاس، فلو كنتُ ماجنًا هزالًا أو كنتُ مبتذلًا لمودتي مرتخصًا لها أكيلها جزافًا مزجاة بأغلظ الأيمان لكل متظاهر بالإخاء مدعٍ للصداقة، أو كنت ممن يتملقون الرجال ويعانقونهم ثم يوسعونهم بعد ذلك سبابًا، أو كنت ممن يتزلفون إلى الناس في المآدب ويجاهرون بالمحبة والوداد لكل عربيد صخاب من الطغام والدهماء — إذن لحق لك أن ترهب جانبي وتعدَّني خطيرًا مخوفًا.

(موسيقي – ضجيج)

بروتاس : ما معنى هذا الصياح؟
أخشى أن يكون الناس قد همُّوا أن يختاروا قيصر ملكًا عليهم.
كاسياس : أوَتخشى ذلك؟ إذن فلي أن أعتقد أنك لا تود حصوله.
بروتاس : كلا يا كاسياس لا أود حصوله، على أني أحبه حبًّا جمًّا.
ولكن فيم تحجزني ها هنا هذه المدة المديدة؟ ماذا تريد أن تفضي به إليَّ؟ إذا كان من أجل الصالح العام، فاجعل الشرف في كفة والموت في كفة يتعادلا عندي ويتكافأا.
كاسكا : إني لأعرف من طيب مخبرك مثلما أعرف من حسن منظرك، وألمح من صفاء سريرتك، ما ألمح من ضياء أسرَّتك.٦ اعلم أن الشرف ديدانك ومذهبك، والشرف هو مغزى قصتي ومرمى حديثي الذي أفضي به إليك، لست أدري ما رأيك أنت وغيرك في هذه الحياة، أما أنا فالموت عندي أروح من الحياة أقضيها على مضض الخوف من مخلوق مثلي، لقد ولدت حرًّا مثل قيصر، وولدت أنت كذلك، وغذينا بمثل ما غذي مراءة وطيبًا، ولنا مثل طاقته على احتمال القر ونفحاته، ولقد أذكر أنه في يوم ريح صرصرٍ عاتية، وقد تمرد «التيبر» وثار يلاطم جنبيه، ويقذف بجرجرة الآذي عبريه،٧ قال لي قيصر: «أتجرأ الآن يا كاسياس أن تثب معي في هذه اللجة الجامحة، والموجة الطامحة، ثم تسبح إلى ذلك الموضع من الساحل؟ فما هو إلا أن فاه بهذا حتى اندفعت وسألته أن يتبعني، ففعل ولليم أيما ضجيج وعجيج، وطفقنا نجالد الغمار بسواعد مفتولة، وأعضاد مدمجة مجدولة، نمزق جحافل التيار، ونقذف بكتائب الموج ذات اليمين وذات اليسار، نصدها بجنان يحن إلى الكفاح، ويخف إلى الجلاد ويراح.٨ ولكن شاءت الأقدار أنه قبل بلوغنا المكان المعين صاح بي قيصر: «أغثني كاسياس وإلا غرقت»، فما كان إينياس جدنا الأعظم يوم ارتث من كبة النيران أنكيسيس الهَرِم، فاحتمله على عاتقه بأسرع مني غياثًا؛ إذ دلفت إلى قيصر فاختطفته من غاشيات اليم. ولقد أصبح هذا الرجل إلهًا معبودًا، وكاسياس إن هو إلا مخلوق ذليل حَتْمٌ عليه أن ينحني إجلالًا لأدنى تسليمة من قيصر، لقد شهدت قيصر في إسبانيا وقد أصابته الحمى، فلما كان في بعض نوباتها رأيته يجف٩ ويرجف، أجل لقد كان ذلك الإله يجف ويرجف، ورأيت شفتيه كشفتي الجبان قد نصلتا من صبغتهما، وعينه التي تروِّع العالمَ لمحاتُها قد طفئ رونقها وغاض ضياؤها، ولقد سمعته يئن أنينًا، ولسانه ذاك الذي أمر الرومان أن يسموا إليه بأبصارهم ويدونوا بسجلاتهم خطبه لقد صاح — وا أسفاه: «اسقني جرعة ياتيتنياس»، كما لو كان صبية عليلة! يا للآلهة، إني لأعجب لهذا الرجل الواهن القوى، كيف أتيح له أن يسبق إلى ذرا السؤدد والعلاء هذا العالم العظيم ويحرز قصب السبق وحده؟!

(موسيقى وهتاف)

بروتاس : صيحة عامة أخرى!
أظن هذا الهتاف لآيات تكريم جديدة تزف إلى قيصر.
كاسياس : لا جرم، إنه ليذرع رقعة الأرض الضيقة بفسيح خطواته كأنه المارد، ونحن الأقزام الضئال نسعى تحت رجليه العظيمتين ونتلفت حوالينا، نبتغي لأنفسنا قبورًا مهينة، إن الرجال ليكونون أحيانًا مُلَّاك حظوظهم يكيفونها كما يشتهون، ومسيطرين على الأقدار، قابضين على أزمتها، يصرفونها كما شاءوا. أي عزيزي بروتاس، لا ملام على نجومنا ولا جناح، إنما علينا اللوم والتثريب؛ إذ كنا عبيدًا أذلاء.
بروتاس وقيصر، أي شيء في هذا الاسم «قيصر»؟ ولماذا يظل أَذْيَعَ على الألسن وأكثر ترددًا من اسمك؟!

اكتبهما معًا تجدِ اسمك مضاهيًا اسمه ملاحة وحسنًا، وانطق بهما تجدْ لاسمك مثلما لاسمه من عذوبة في الفم وحلاوة على اللسان، زنهما في كفتين يتعادلا، استحضر بهما الجن يتكافأا أثرًا ومفعولًا، فبأسماء الآلهة جميعًا، أي شيء يغذي قيصرنا هذا حتى بلغ من العظمة هذا المبلغ؟! أيهذا الجيل لقد جللت خزيًّا وعارًا!

روما! لقد فقدتِ سلالةَ الأمجاد أولى الأحساب الوضاءة والأنساب الوضاحة، أي جيل جاء بعد الطوفان لم يحلِّ جِيده بأكثر من واحد من النوابغ؟! وفي أي آونة من الدهر قبل الساعة استطاع المتحدثون عن روما أن يقولوا: إنها لم تضم بين أكنافها الفيحاء إلا رجلًا واحدًا؟ فلتفخر١٠ الآن روما وليهنها أنها لا تحرز بين أرجائها الرحاب إلا رجلًا واحدًا! لقد سمعنا آباءنا يقولون: إنه كان مرة في روما رجل يدعى بروتاس، كان يحتفظ بكرامته وعزته كما لو كان ملكًا مهيبًا، ولو ألجأه ذلك إلى مطاوعة الشيطان اللعين.
بروتاس : لا شك عندي في حبك وولائك.
ولكني أفطن لما تريد أن تصل بي إليه، وسأحدثك فيما بعد بما خالج نفسي عن هذا الأمر وهذه الأوقات، أما الآن فأسألك بما بيننا من أواصر المودة أن تكف عن إثارة مكامن أشجاني، وحسبك أني سأجعل مقالتك موضع تأملي وتفكيري، وما سوف تنبئنيه أَتَلَقَّهُ منك بصبر وأناة، وأجعل من بين أوقاتي مجالًا أسمع فيه منك تلك المسائل الخطيرة وأجيبك عليها، أما قبل ذلك فقمين بك أن تطيل الفكرة في هذا المعنى؛ وهو أن بروتاس يؤثر أن يكون قرويًّا من السوقة عن أن يعد نفسه من أبناء روما، ثم يحتمل من المكاره ما يتوقع أن يصيبه من مساوئ هذا العصر.
كاسياس : يسرني أن أرى كلماتي الضعيفة قد اقتدحت من لهيب الحمية ما لاح لي منك الآن.
بروتاس : لقد انتهت الألعاب وعاد قيصر.
كاسياس : إذا رأيتهم مارين، فاجذب بكُمِّ كاسكا يحدثك بلهجته التهكمية عمَّا يستحق الذكر من حوادث هذا اليوم (يدخل قيصر وحاشيته).
سأفعل، ولكن تأمل يا كاسياس، كيف يتوقد الغضب على جبين قيصر؟ وعلى الحاشية أمارات الاستخذاء والخنوع وبوجنة كالبورنيا اصفرار، وشيشرون ينظر بعيني ابن عرس محتدمتين كما أبصرناه مرة بالكابتيول حينما انبرى له بالمعارضة بعض الشيوخ في حومة الجدال.
كاسياسا : سينبئنا كاسكا بما كان.
قيصر : أنطانيوس!
أنطانيوس : قيصر!
قيصر : ابغني من الرجال كلَّ شحيم، مبدان، لين الجمجمة، نوام الليل، فإن كاسياس ذاك شره العين منهوم النظرات، إنه لمطراق، كثير الهواجس، وإن مثله حري أن يكون خطرًا مخوف الجانب.
أنطانيوس : لا تخفه يا قيصر إنه ليس بالخطر المخوف الجانب، إنه روماني شريف حسن النية.
قيصر : ليته كان أكثر سمنًا! لست أخشاه، ولكني أقول: لو كان لقيصر أن يخاف مخلوقًا لما رأى في الناس من هو أولى بالمجانبة من كاسياس؛ ذاك الناحل المعروق.١١ إنه كثير الاطلاع، دقيق النظر يستشف بنافذ بصيرته كنه الأمور ومراميها، ثم هو لا يحب الألعاب مثلك يا أنطانيوس ولا يسمع الموسيقى، وقلما يبتسم، فإذا فعل كان كأنما يبتسم احتقارًا لنفسه وسخرية منها؛ إذ رأت في هذا العالم ما هو خليق أن يبعث منها ابتسامة. مثل هذا الرجل لا ينعم البتة براحة بال مادام يبصر في العالم من هو أسمى درجة منه وأرفع مكانًا، ومن ثم كان خطرًا مخوفًا. هذا، وإنما أحدثك بما ينبغي أن يُحذر ويُخاف لا بما أخافه وأحذره؛ لأني ما زلت قيصر. تحرك إلى يميني فإن أذني هذه صماء، وَأَبْدِ لي صريح رأيك عن هذا الرجل.

(يخرج قيصر وجميع الحاشية إلا كاسكا.)

كاسكا : لقد جذبت بقبائي، أتريد محادثتي؟
بروتاس : أجل يا كاسياس، نبئنا ماذا جرى اليوم فاهتمَّ وأطرق من أجله قيصر؟
كاسكا : ألم تصحباه اليوم؟
بروتاس : لو كان ذلك لما سألت كاسكا عما جرى.
كاسكا : لقد أُهدي إليه تاج ولكنه نحاه بظاهر كفه هكذا، وحينئذٍ صاح الناس.
بروتاس : ولماذا كانت الصيحة الثانية بعد ذلك؟
كاسكا : من أجل هذا أيضًا.
كاسياس : لقد صاحوا ثلاثا، فلمَ كانت الثالثة؟
كاسكا : من أجل هذا أيضًا.
كاسياس : أَوَقَدْ عرض عليه التاج ثلاثًا؟
كاسكا : أجل، وقد رفضه ثلاثًا، ولكن كل رفضة كانت ألين وأرفق مما قبلها، وعند كل رفضة جعل جيراننا الفضلاء١٢ يصيحون.
كاسياس : ومن أهداه التاج؟
كاسكا : أنطانيوس بلا نزاع.
بروتاس : صف لنا ما كان من أمر ذلك، وبأي أسلوب جرى يا كاسكا؟
كاسكا : القتل أهون عليَّ من محاولتي وصف ذلك الأسلوب، لقد كان الحمقَ والسخفَ بعينه، لم أدقق النظر ولكنى رأيت مارك أنطانيوس يقدم تاجًا، على أنه ليس بتاجٍ ولكن إحدى هذه التويجات، فنحاه قيصر جانبًا كما أخبرتكما، ولكنه كان يود فيما أظن أن يناله ثم قدمه إليه ثانية، فنحاه ثانية، ولكنه كان يشتهي فيما أظن أن يتناوله بأصابعه، ثم قدمه الثالثة فرفضه الثالثة، وجعل الطغام يصيحون عند رفضه، ويصفقون بأكفهم المشققة، ويقذفون بقلانسهم المبتلة بالعرق، وتوالت بالصياح أنفاسهم النتنة الخبيثة «لرفض قيصر التاج» حتى كادت تخمد أنفاسه، فلقد خر مغشيًّا عليه من نتن أنفاسهم، ولم أجرأ على الضحك مع غلبته عليَّ؛ مخافة أن أفتح فمي فتنسرب فيه الريح الخبيثة.
كاسياس : على رسلك وخبرني، هل أغمي على قيصر؟
كاسكا : لقد خرَّ مغشيًّا عليه في السوق، وطفق يرغي ويزبد وقد احتبس منطقه.
بروتاس : هذا محتمل جدًّا، فإن به داء الصرع.
كاسياس : كلا ليس به ذلك، وإنما بي وبك وبالأمين كاسكا ما تذكر من داء الصرع.
كاسكا : لست أفهم ما تعني بقولك هذا، ولكني على يقين من أن قيصر قد خرَّ مغشيًّا عليه، وإني لكاذب أفاك إن لم يكن الغوغاء قد جعلوا يمجدونه تارة، ويحقرونه أخرى حسبما كان يسرهم أو يسوءهم كما هو شأنهم مع ممثلي المسارح.
بروتاس : وماذا قال عند ما رجعت إليه نفسه؟
كاسكا : إنه قبل سقوطه لما أبصر الغوغاء سُرُّوا برفضه التاج حسر عن نحره، وسألهم أن يقطعوا رأسه، فأصليت وهجَ الجحيم مع زمرة الطغام لو كنت رجلًا من العمال ثم ارتبت في صدق مقاله، وعلى أثر ذلك خرَّ مغشيًّا عليه، فلما ثابت إليه نفسه استماح معذرة حضراتهم، وسألهم إن كان قد بدرت منه هفوة أو سقطة أن يعزوها إلى علته، وكان إلى جانبي ثلاث فتيات، فسمعتهن يقلن: «يا لله! ما أبره، وما أكرمه!» ثم عفون عنه، ولكن هؤلاء لا يعبأ بهن ولا يحفل بمقالهن، فلو أن قيصر طعن أمهاتهن لما صنعن معه سوى ذلك.
بروتاس : وبعد ذلك عاد مطرقًا مفكرًا؟
كاسكا : أجل.
كاسياس : ألم يقل شيشيرون شيئًا؟
كاسكا : تكلم باليونانية.
كاسياس : ماذا قال؟
كاسكا : لو كان لا بد لي من إنبائك بذلك لما نظرت بعد اليوم قط في وجهك، ولكن الذين فهموا قوله تضاحكوا وهزوا رءوسهم، أما أنا فكان كلامه رطانة في أذني. ولتعلمن أيضًا أن مارولاس وفلافياس قد عوقبا على تجريدهما تماثيل قيصر من أوشحتها بالحرمان من امتياز النيابة الشعبية. وبعد، فسلام عليكما لقد كان ثمت من السخافات فوق ما سردت لو أني أستطيع أن أذكرها.
كاسياس : أتتعشى معي الليلة يا كاسكا؟
كاسكا : كلا، فلقد سبقت إلى الدعوة من بعض الخلان.
كاسياس : أتتغدى معي غدًا؟
كاسكا : أجل، إن عشت وبقيت أنت على عزمك وكان طعامك مما يستساغ١٣ ويستمرأ.١٤
كاسياس : سأنتظرك.
كاسكا : فليكن ذلك، وسلام عليكما.

(يخرج)

بروتاس : لشد ما تبلد هذا الرجل وخبا زناده وعهدي به أول دخوله المدرسة أروع ذكي القلب ألمعيًّا.
كاسياس : وإنه لكذلك إلى اليوم لركوب الهول وإنفاذ الخطر النبيل من المقاصد، ليس هو بالغبي ولا البليد ولكنه يتغابى ويتبالد، وهذا الجفاء منه يكون لذكائه وفطنته بمثابة التوابل المشهية، يستخف الناس إلى استماع كلماته فتكون أسوغ في الآذان وأنفذ إلى الضمائر.
بروتاس : وإنه لكذلك. ثم إني منصرف عنك الساعة، وإن رمت محادثتي غدًا آتك في دارك، وإلا وافني بمنزلي أكن في انتظارك.
كاسياس : سأفعل، وإلى حلول موعدنا أَجْلِ فكرتك في شئون هذا العالم. (ويخرج بروتاس.) أي بروتاس! إنك لنبيل! ولكن شيمتك النبيلة قد تحول فيما أراه عن مبدئها ومنهاجها، ومن ثم يجدر بالنفوس الشريفة أن تألف أمثالها أبدًا، وأي امرئ ثابت المبدأ راسخ القدم لا يستمال ولا يستهوى، إن قيصر موغر الصدر عليَّ ولكنه يحب بروتاس، ولو كنت بروتاس وكان بروتاس كاسياس لما حالاني١٥ قيصر ولا طايبني. وبعد، فسأعمد الليلة إلى نافذة بروتاس فأقذف خلالها برسائل شتى الخطوط، كأنها مرسلة من أناس شتى، وكلها يرمي إلى عظيم إعجاب روما به وإجلالها لاسمه، وسيكون بها إشارة خفية إلى مطامع قيصر، وبعد ذلك فليتماسك قيصر وليثبت قدمه، فإنَّا — وايم الحق — لمزعزعوه فمزلزلون به زلزالًا، وإلا استحالت الحال إلى ما هو أمر وأدهى.

(يخرج)

المنظر الثاني

(المكان بعينه: شارع)

(رعد وبرق – يدخل من بابين متقابلين كاسكا مسلول السيف وشيشيرون.)

شيشيرون : عم مساءً كاسكا، هل شيعتم قيصر إلى داره؟ لمَ أراك مقطوع النفس مبهورًا؟١٦ وفيم تحميجك١٧ وحملقتك؟
كاسكا : أفلا يحركك أن ترى الأرض ذات الحركة المتئدة١٨ المنتظمة ترتجف كالشيء المزعزع المضطرب؟! أي شيشيرون! لقد شهدت العواصف فأبصرت هوج الرياح تمزق صلاب الدوح، ورأيت البحر الطموح يعب عبابه١٩ ويطمو٢٠ ويطغو٢١ ويرغي ويزبد، ويحاول أن يساور٢٢ الرواعد سرفًا ويطاول البوارق زهوًا وصلفًا، ولكني إلى الليلة والساعة لم أخضْ عاصفة تمطر نارًا، وترسل من اللهب ديمة مدرارًا، فإما أن تكون بالسماء حرب عوان، وإما أن يكون أهل الأرض قد أحفظوا الآلهة، واستثاروا نقمتها، واستمطروا من سجال عذابها وابل التلف والدمار.
شيشيرون : أرأيت ما هو أعجب من ذلك؟
كاسكا : رأيت عبدًا عموميًّا — تعرفه أنت لرؤيته — يرفع يسراه وكانت تلتهب التهابًا وتتأجج ببريق عشرين شعلة، وهي مع ذلك لقلة تأثرها بالنار لم تحترق ولا أصابها أذًى.
ولقيت أيضًا — ومذ ذاك لم أغمد حسامي — أسدًا بالسوق فحملق إليَّ ثم مضى ولم يمسني بأذًى، ورأيت مائة امرأة محتشدات متكاثفات قد أشحب الرعب وجوههن، ونكَّر الفزع صورهن يحلفن أنهن أبصرن رجالًا قد استطارت النيران في أشخاصهم، وارتدوا من وهج الحريق معصفرات الوشح والمجاسد، غادين رائحين في الشوارع، وبالأمس جثم طائر الليل «البومة» بالسوق إبان الظهيرة يصيح ويصرخ، ومتى اجتمعت نذر السوء هكذا فلا يقولن الناس: إنها فعلت ذلك لأسباب طبيعية، أما أنا فأعتقد أنها فأل نحس وشؤم على المكان الذي إليه عمدت ونحوه أشارت.
شيشيرون : حقًّا إن هذه لأوقاتًا منكرة، ولكن الناس قد يؤولون مظاهر الأشياء كما يبدو لهم على خلاف ما ترمي إليه الأشياء ذاتها وتقصد، هل قادم قيصر إلى السوق غدًا؟
كاسكا : سيفعل، فلقد أمر أنطانيوس ينبئك أنه سيكون هنالك غدًا.
شيشيرون : عم مساءً يا كاسكا، إن هذا الجو المضطرب لا ينبغي أن يسلك.
كاسكا : سلامًا يا شيشيرون.

(يخرج شيشيرون.)

(يدخل كاسياس.)

كاسياس : من هنا؟
كاسكا : رجل روماني.
كاسياس : كاسكا من صوتك.
كاسكا : إن أذنك لمرهفة حديدة، ما أهول هذه الليلة يا كاسياس!
كاسياس : ليلة بهجة لذوي البر والتقوى.
كاسكا : من ذا الذي عهد السماء تتوعد وتتهدد كما تفعل الآن؟
كاسياس : الذين عهدوا الأرض مفعمة بالذنوب، مملوءة بالخطايا. أما أنا فلقد جبت الطرقات مستسلمًا إلى هذه الليلة الروعاء وأخطارها، ولقد كشفت صدري أتلقى به الصاعقة، ولما لمعت أسنة البرق وتألقت زرق نصاله كأنما تهم أن تمزق صدر السماء عرضت لها واعترضت سبيلها ومنحاها أواجه وميضها المستطير وبريقها الخاطف.
كاسكا : ولكن لماذا بالغت إلى هذا الحد في إغراء السماء بك واستثارتها عليك؟ إنه لمن واجب الناس أن يفزعوا ويرتعدوا كلما أرسلت الآلهة العظام بالآيات البينات أمثال هذه النذر المرهوبة لتروعنا وتدهشنا.
كاسياس : إنك بليد الفهم يا كاسكا، وإن جذوات الحياة وجمرات الحدة والذكاء التي يجب أن تكون في كل روماني ليست فيك أو أنك لا تستعملها، إنك ليعلوك الشحوب ويمتقع لونك، ويشخص بصرك ويسهو طرفك وتكتسي ثياب الفزع والرعب، وتسلم نفسك لعوامل الحيرة والدهشة حينما تبصر غضب السموات وحنقها، أما إذا بحثت عن كنه علة هذه النيران وهذه الخيالات السانحة وهذه الطيور والبهائم المتنكرة الأشكال، المستحيلة عن نوعها وجنسها، وسألت نفسك ما معنى ذلك الحمق والسخف من الرجال، وذلك التشاؤم والتطير من الأطفال، ولمَ هذه الأشياء قد طفقت تحول عن حالها وتستبدل بعتيد صفاتها وطباعها حالات منكرة غير مألوفة ولا معهودة — علمت أن السموات قد بثت فيها هذه الأرواح والمعاني لتجعلها أداة رهبة، ووعيد تنذر بأمور منكرة خارقة للعادة. وبعد، فقد أستطيع أن أسمي لك رجلًا جِدَّ شبيه بهذه الليلة المخوفة التي ترعد وتبرق وتفتح القبور وتزأر زئير الأسد الرابض بالسوق، رجلًا ليس بأجل فعالًا ولا أعظم أثرًا منك ولا مني، ولكنه قد أصبح اليوم هائل الخطر مخشي العواقب يصرف بكفه أعنة القدر، مخوفًا مرهوبًا كهذه الزعازع الكونية والاضطرابات العالمية التي ترى الآن.
كاسكا : أنت تعني قيصر، أليس كذلك يا كاسياس؟
كاسياس : فليكن أيًّا كان، لست اسميه، إن للرومان الآن عضلًا وأوصالًا، ولكن بؤسًا لهذا الجيل، لقد فقدنا ألباب آبائنا وحِجاهم، وأصبحنا الآن نعيش ونفكر بعقول ربات الحجال، وتدبر أمورَنا فِطَنُ٢٣ أمهاتنا وعزائمهن، فإن ذلتنا وهواننا واحتمالنا الضيم وإقامتنا على الخسف تنم عن غلبة الأنوثة علينا، وإننا بمخضوبات البنان وبمن يُنَشَّأ في الحلية٢٤ أشبه وأشكل.
كاسكا : لقد زعموا أن مجلس الشيوخ يريد أن يتوج قيصر غدًا ملكًا، وسيلبس التاج برًّا وبحرًا وفي كل مكان سوى هنا بإيطاليا.
كاسياس : سأعرف إذن أين أُلبس٢٥ خنجري هذا؟ إن كاسياس سيخلص كاسياس من ربقة الرق والعبودية. أيتها الآلهة، إنكم بمنحكم كل امرئ القدرة على الانتحار تُكسبون الضعيف قوة، وتخذلون الطغاة، وتفتون في أعضاد الجبابرة. فلا الأبراج المشيدة، ولا أسوار الفولاذ، ولا السلاسل والأغلال، ولا السجون المطبقة تستطيع أن تفل العزائم الماضية، أو تشل حركة الروح القوية. ولكن الحياة متى سئمت هذه القيود الدنيوية لم تعدم في نفسها القوة على صدعها والخلاص منها. وإذا كنت أعلم ذلك من نفسي، فليعلم الناس طرًّا أن ما أحتمله الآن من مكاره الجبروت والطغيان، أنا قادر على إطراحه ونبذه متى شئت.

(قصف الرعد.)

كاسكا : وأنا أيضًا على ذلك قدير، وكذلك كل من كان أسيرًا في وطنه يملك القدرة على فك أساره وإعتاق نفسه.
كاسياس : فيمَ إذن طغيانه وجبروته؟ ضلة له! أنا أعلم أنه ما كان ليستحيل ذئبًا لو لم يرَ الرومان حوله نعاجًا، وما كان ليبدو أسدًا لو لم يجد من الرومان ظباء. إن الذين يريدون أن يعجلوا بإشعال نار عظيمة يبدءون بدقيق الحطب وخواره. أي حثالة ونفاية وأي أقذار وأرواث، أنتم أبناء روما؛ إذ تكونون الحطب الخبيث الذي يسبغ ضياءً باهرًا، ويفيض رونقًا زاهرًا على من هو مثل قيصر خسة وخبثًا، أيها القلب الحزين لقد تجاوزت مقدارك، إلى أي حد ذهبت بي؟! فلعلي أخاطب الآن رجلًا راضيًا بأسره مستكينًا إلى عبوديته ورقه، وإذن أكون مسئولًا عن مقالتي، ولكني مسلح ولست بالأخطار حافلًا، ولا للأهوال مكترثًا.
كاسكا : إنك تتحدث إلى كاسكا، وليس إلى صاحب وشاية ونميمة، أعطني يدك ولك العهد والميثاق على الوفاء مني والحفاظ الدائم، وتحفَّز وشمِّر عن ساعد الجد لرفع هذه المظالم برمتها، تجدني إلى الغاية المقصودة والبغية المنشودة أسبق الناس قدمًا وأبعدهم شأوًا.
كاسياس : هذه منك معاهدة وبيعة، فلتعلمن الآن يا كاسكا أني قد أغريت فئة من أشرف الرومان وأرجحهم لبًّا وأسماهم همة، بأن يحاولوا معي أمرًا له ما بعده، شريف المغبة مرهوب العافية، واعلم أنهم ينتظرونني الآن عند باب بومبي.
وهذه الليلة الهائلة الروعاء قد حبست الناس عن المرور والحركة، ومشهد الجو يشبه ما نهمُّ به من هذا الأمر الجلل؛ كلاهما ناري دموي رائع هائل.
كاسكا : تلبث قليلًا واتئد؛ لأني أرى شخصًا يعدو مسرعًا.
كاسياس : هذا سينا، إني أعرفه بمشيته، إنه صديق وصاحب (يدخل سينا).
إلى أين تسرع يا سينا؟
سينا : أبتغيك وألتمسك، من هذا؟ ميتالاس سمبار؟
كاسياس : كلا، هذا كاسكا، رجل متكاتف معنا على تنفيذ نياتنا مؤازر لنا على تحقيق بغياتنا، أليس القوم في انتظاري يا سينا؟ خبرني.
سينا : بلى، إنك لمنتظَر، أي رجل أنت يا كاسياس لو استطعت أن تستميل إلينا النبيل بروتاس فتضمه إلى حزبنا!
كاسياس : اطمئن من هذه الناحية وأرح نفسك يا سينا، وخذ هذه الرقعة فضعها على كرسي القضاء، فإنها واقعة لا محالة في يد بروتاس، ثم اقذف بهذه خلال نافذته، وأَلصِقْ هذه بالشمع على تمثال سلفه «يونيوس بروتاس»، فإذا ما فرغت من كل هذا فعد إلى باب بومبي تجدنا به، أهنالك ديسياس بروتاس وتريبونياس؟
سينا : كلهم ما عدا ميتيلاس سمبار، فلقد ذهب يلتمسك في دارك، وبعد فإني مسرع فواضع هذه الأوراق حيث أمرتني.
كاسياس : متى ما صنعت ذلك فارجع إلى مكان بومبي. (يخرج سينا).
هلم بنا يا كاسكا، سنتمكن على أي حال من لقاء بروتاس قبل الشروق في داره، لقد استحوذنا الآن على ثلاثة أرباع نفسه وفي المقابلة الآتية نتملكه بأسره.
كاسكا : إن له في صدور القوم المكانة العليا، وما يرونه الناس إثمًا منا وجناية فتحبيذ بروتاس يحيله في رأيهم فضيلة ومحمدة كالكيميائي يرد المعدن الخبيث ذهبًا إبريزًا.
كاسياس : لقد أحطت علمًا بكنه هذا الرجل وبفضله وفرط حاجتنا إليه، فلنوقظنَّه قبل الشروق ثم لنضمنه إلينا.

(يخرجان)

١  المصنوعة من الأدم وهو الجلد المدبوغ.
٢  اللفظة الإنكليزية soles يئول منطوقها على وجهين؛ الأول: النعال، والثاني: النفوس أو الضمائر، وقد حملها مارولاس على المحمل الثاني، ومن ثم حنقه على الرجل واغتياظه.
٣  المخصف: المخرز، وكل ما ظوهر بعضه على بعض فقد خصف، وخصف العريان الورق على بدنه ألصقه وأطبقه عليه، وبه فسر قوله: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ.
٤  ضحل الماء يضحل ضحلًا: رق، والغدير: قل ماءه، والضحل: الماء القليل على الأرض لا عمق له، جمعه أضحال وضحول وضحال، ومنه قول الساجع: بلدكم محل، وماؤه ضحل.
٥  الوشل: جمعه أوشال، هو الماء القليل والكثير ضد.
٦  الأسرة: خطوط الجبهة، واحدها سرار، قال الشاعر:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
برقت كبرق العارض المتهلل
٧  الآذي: الموج. عبريه: شاطئيه. الجرجرة: صوت يردده البعير في حنجرته يشبه به هدير الموج، قال الشاعر:
كأن ضجيج البحر بين رماحهم
إذا اختلفت ترجيع عود مجرجر
٨  راح للشيء يُراح «من باب منع» راحة وروحًا: أخذته له خفة وأريحية، وراحت يده لكذا: خفت، وراح له رواحًا وراحًا: أشرف له وفرح به.
٩ 
وجف يجف ارتعد قال الشاعر
والأرض واجفة تكاد تميد
١٠  هذا على سبيل التهكم.
١١  عرق العظم عرقًا: أكل ما عليه من اللحم وأخذه، وعُرق الرجل «على البناء المجهول»، فهو معروق: كان قليل اللحم.
١٢  على سبيل التهكم، والمقصود العكس.
١٣  ساغ الشراب والطعام سوغًا وسواغًا وسوغانا: هنأ وسلس وسهل مدخله في الحلق، وساغ فلان الشراب يسوغه ويسيغه: سهَّل مدخله، لازم متعد، والأجود أساغه إساغة، والعرب تقول: أسغ لي غصتي أي أمهلني، والسواغ ما أسغت به غصتك.
١٤  مرأ الطعام ومرئ يمرأ، ومرؤ يمرؤ مراءة: صار مريًّا وساغ من غصص، يقال: هنأني الطعام ومرأني للازدواج، فإن أفرد قيل: أمرأني، من باب أفعل.
١٥  حالاه محالاة: حاسنه ولاطفه وطايبه، قال الشاعر:
فإني إذا حوليت حلوٌ مذاقتي
ومرٌّ إذا ما رام ذو إحنة هضمي
وطايبه مطايبة: لاطفه ومازحه.
١٦  بُهر الرجل على البناء للمجهول: عدا حتى انقطعت أنفاسه فهو مبهور وبهير، وبهره: كلفه فوق طاقته، وبهره الأمر: كربه، وانبهر الرجل: انقطع نفسه وتتابع من الإعياء.
١٧  حمج: شدد النظر، وحمج عينه: صغرها يستشف النظر، أو أدام النظر مع فتح العينين وإدارة الحدقة؛ فزعًا أو وعيدًا.
١٨  توأد واتَّأد في حركته: ترزن وتثبت.
١٩  عبَّ البحر عبابًا: ارتفع وكثر موجه، والعباب: معظم الماء وارتفاعه وكثرته.
٢٠  طما الماء يطمو طموًا ويطمي طميًّا: ارتفع وملأ الوادي — وطما البحر امتلأ.
٢١  طغا البحر يطغو طغوًّا وطغوانًا، وطغى يطغي طغيًا وطغيانًا: ارتفع وهاجت أمواجه، وطغى السيل: جاء بماءٍ كثير.
٢٢  سار الحائط يسوره سورًا: تسلقه، وسار إليه سورًا: وثب وثار، وسار الشراب في رأسه: ارتفع، وساوره مساورة وسوارًا: واثبه.
٢٣  جمع فطنة بمعنى العقل.
٢٤  أعني النساء، قال عز وجل: أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ.
٢٥  يريد أنه سيغمده في صدره هو نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤