نبذة طريفة تتضمن وصفًا دقيقًا وشرحًا تحليليًّا عن أهم أشخاص الرواية

(١) يوليوس قيصر

عظمته ومهارته الحربية

هاتان المزيتان لم ينوه بهما شاكسبير إلا طفيفًا، ولم يشر إليهما إلا في بضعة مواضع قليلة من الرواية، وذلك حيث يقول مارولاس في المشهد الأول من الفصل الأول:

«أتنثرون اليوم الرياحين في طريق الذي قد جاءكم منتصرًا على أولاد بومبي وأفلاذ كبده؟»

وحيث يقول قيصر نفسه — يذكر فتوحاته وانتصاراته — في المشهد الثاني من الفصل الثاني:

«أوَيبعث إليهم قيصر بأكذوبة؟

أفبعد إمعاني في الغزو، وإيغالي في أقاصي الأرض فتحًا وامتلاكًا، وسعة باعي، وطول ذراعي في الحروب والوقائع — أخاف أن أنطق بالحق لفئة من الشيوخ الشيب؟!»

وحيث يخاطب أنطانيوس جثته الهامدة بعد مصرعه في المشهد الأول من الفصل الثالث:

«قيصر أيها الأجل الأعظم! أكذا تظل منبوذًا بأسفل مطرح لقًى صريعًا بأدنى مرقد ومضطجع؟! أكذا تقلصت فتوحاتك وانتصاراتك، ومغانمك ومساعيك، ومآثرك ومعاليك، فاضمحلت وتضاءلت إلى هذا القدر اليسير، والكم الزهيد؟!»

وفي موضع آخر:

«معذرة وغفرانًا — يا كتلة التراب الدامية — لما أبديت لأولئك السفاحين من التواضع والتخاضع، إني لأبصر فيك أطلال أسمى رجل، وأنقاض أشرف إنسان، عاش في مجرى الزمان، ومكر الدهور والآباد.»

مركزه في روما

إن مركزه في روما ونفوذ سيطرته وسلطانه على الشعب الروماني قد فطن إليهما شاكسبير أكثر مما فطن الرومان أنفسهم — مثل بروتاس وكاسياس.

لقد كان يوصف بأنه أوحد أهل عصره، وبديع زمانه، والمفرد العلم في روما، وهذا جلي بين في الشذرات الآتية المقتطفة من الرواية:

بروتاس إلى كاسياس «المشهد الثالث – الفصل الرابع»:

بروتاس: أنحن الألى ضربوا أوحد أهل هذا العالم، وإمامهم، وسيدهم، ونادرة الزمان، وبكره، ويتيمته … إلخ إلخ؟!»

أنطانيوس «المشهد الثاني – الفصل الأول»:

«سأذكر ذلك، متى قال قيصر افعل ذلك، فكأنما قد فُعل.» وقبل هذا بأسطر قليلة:

كاسكا: «صه! قيصر يتكلم.»

(يأمر الناس بالسكوت كأنما نبي قد هم أن ينطق بوحي الآلهة.)

وبعد هذا ببضعة أسطر:

كاسكا: «ليخفت كل صوت، عاودوا الصمت والسكينة.»

كاسياس إلى بروتاس «المشهد الثاني من الفصل الأول»:

«لقد أصبح هذا الرجل (يعني قيصر) إلهًا معبودًا، وكاسياس إن هو إلا مخلوق ذليل حتم عليه أن ينحني لأدنى تسليمه من قيصر.»

كاسياس يشير هنا بلهجة الحاقد الموغر الصدر المحترق الأحشاء إلى ما كان لقيصر في نفوس الناس في فرط المهابة والإكبار والإجلال.

كاسياس إلى بروتاس «المشهد الثاني – الفصل الأول»: «لا جرم أنه (يعني قيصر) ليذرع رقعة الأرض الضيقة بفسيح خطواته كأنه المارد، ونحن الأقزام الضئال نسعى تحت رجليه العظيمتين، ونتلفت حوالينا نبتغي لأنفسنا قبورًا مهينة.» يشير كاسياس بهذه الكلمة إلى فرط تسامي قيصر عن سائر الناس، وتعاليه، وإلى أن الشعب الروماني أصبح يخاله لبعد مسافته، وسحوقه إلهًا معبودًا.

ولم يكن تعاليه وتساميه مقصورًا على العامة بل كان يشمل الأشراف والشيوخ أيضًا، وشاهد ذلك أنه لما يدخل على الشيوخ مجلسهم، فيقفون له إجلالًا، يقوم ميتالاس فيحييه بالكلمة الآتية:

«قيصر يا ذا القوة والبطش والعظمة والجلال!»

ومن شواهد ذلك أنه متى غضب «فكلمهم يعنو ويخشع كما لو كانوا صبية صغارًا!»

أصبح قيصر في رأي الشعب وعقيدته وكأن شخصه نظام حكوميٌّ ضروريٌّ لا تقوم الدولة ولا تستقيم أمورها إلا به دون غيره، فلما مات وأراد الشعب أن يستخلف بروتاس مكانه صاحوا جميعًا: «اجعلوه قيصر»؛ أي اجعلوا بروتاس قيصر. وأيضًا «إن مناقب قيصر ومكارمه ستبلغ أقصى غايتها في بروتاس.»

هذا يدل على أن الناس كان يتعذر عليهم أن يتصوروا وجود حكومة دون أن يكون قيصر على رأسها، أو دون أن تكون هذه الحكومة متفانية في شخص قيصر، أو أن تكون الحكومة قيصر وقيصر الحكومة.

طغيان قيصر

يتكلم في عتو وجبروت «المشهد الثاني – الفصل الثاني»:

«إن ما تهددني من أمارات النحس والشؤم ومن نذر الشر والنكال لم يبصر مني سوى قفاي، فإذا ما أبصرت وجهي تلك النذر المتوعدة والأفؤل المتهددة ريعت مهابة فولت فرارًا وطاحت جبارًا.»

«لقد كنت أتأثر وأتحرك لو كنت مثلكم. ولو كنت أطيق أن أستعطف الناس بالملق وأستلينهم بالرجاء والتضرع لكنت خليقًا أن أستعطف وأستلان بمثل ذلك، ولكني ثبت المقام كالكوكب الشمالي … إلخ إلخ.»

«أتحاول اقتلاع أوليمب من مرساه وانتزاعه من مستقره؟!»

بيد أن كثيرًا من كلماته هذه الدالة على الزهو والخيلاء الصخابة بطنين السرف والغلواء، إنما كان يقوله ليستر به ما كان يكمن في أعماق صدره من الخوف.

ومن ثم كان الخوف والكبرياء لا يبرحان يتنازعان في صدره، ويتكافحان في حرب عوان مستمرة؛ ولذلك قال عنه النقادة «تشارلس نايت» أنه سلك خطة الكبرياء والعظمة ليظهر أمام الملأ في مظهر مخالف للحقيقة، إلى أن قال ذلك النقادة: إن قيصر كان ممثلًا حتى مع ألصق عشرائه وأخص جلسائه، مثال ذلك قوله لأنطانيوس «المشهد الثاني – الفصل الأول»:

«إنما أحدثك بما ينبغي أن يُحذر ويُخاف، لا بما أخافه أنا وأحذره؛ لأني ما زلت قيصر.»

إن تكراره أمثال هذه الألفاظ الطنانة تدل على أنه كان بلا شك يخاف. وعلى كل حال، فمهما كانت مخاوفه المكنونة المكتومة، فلا ريب هنالك في أن أعظم مخاوفه وأشدها تسلطًا على نفسه، هو خوفه أن يتهمه الناس بالخوف.

وقد فطن «ديسياس» إلى هذه الهنة من هنات قيصر، فولج بابها حين أراد أن يحمله على الخروج من داره إلى مجلس الشيوخ في يوم مصرعه، وقد أثمرت حيلته.

ديسياس: «أإذا اختبأ قيصر أما كان للقوم أن يتهامسوا قائلين: يا ويح قيصر! لقد جبن فزعًا ونكل رهبة وهلعًا!»

وهلا تستطيع أن تستبين شبح الخوف، وتسمع صوته يهتف من أعماق نفس قيصر في هذه الكلمات «المشهد الثاني – الفصل الثاني»:

قيصر: «إن من بين ما سمعت به من العجائب لم أرَ قط أعجب ولا أغرب من استيلاء الخوف على الرجال!»

ارتياحه لسماع الملق

إن الملق لا يؤثر في نفس قيصر إلا إذا دُسَّ له في أسلوب خفي بمنتهى الحذق واللباقة، أما الملق الصريح المكشوف فكان لا يفلح معه، وقد كان ديسياس قد فطن إلى ذلك وعرفه، ومن ثم نجاحه في التأثير بالملق على قيصر.

ديسياس «المشهد الأول – الفصل الثاني»:

«ولكنى إذا حدثته عن فرط كراهته للملق وأربابه، فأجابني أن هذا طبه ومذهبه، كنت في الحقيقة والواقع أتملقه، وكان هو يغتر بملقي وينخدع بزخارفه.»

ميله إلى التصديق بالخرافات

هذه ناحية ضعف أخرى، وقد عرف ديسياس كيف يؤثر على قيصر من هذه الناحية؛ إذ فسر له حلم زوجته كالبورنيا على أسلوب سره، وأبهجه، وأذهب مخاوفه، وقوى أمله؛ فذلك حيث يقول «المشهد الثاني – الفصل الثاني»:

«لقد أساءت تأويل هذه الرؤيا وإنه لحلم سعيد ميمون العواقب؛ إن تمثالك المنبجس بالدم من فوهات عدة حوله فتية عدة من الرومان، باسمة ثغورهم، بارقة أسرتهم يغمسون في ذلك الدم المراق أكفهم — كل ذلك يدل على أن روما المجيدة ستستمد منك دم الحياة المجدد لنشاطها المنعش لقوتها، وإن عظماء الرجال سيتهافتون على دمك فيغمسون فيه مناديلهم ليتخذوا منها — مصبوغة حمراء — آثارًا قيمة، ومخلفات نفيسة، وشعار شرف، ورموز رفعة وجلال يحتفظون بها ويفاخرون آخر الأبد، هذا تأويل حلم كالبورنيا.»

ومن دلائل اعتقاده في الخرافات أيضًا كلمته الآتية «المشهد الثاني – الفصل الأول»:

قيصر (إلى أنطانيوس): «لا تنسَ أثناء شدك١ أن تلمس كالبورنيا، فلقد قال أشياخنا إن العاقر إذا لمست أثناء السباق المقدس سقطت عنها آفة العقم.»

ومن أدلة ذلك أيضًا أن كاسياس جعل يشك في احتمال مجيء قيصر إلى دار الشيوخ لتسلط الأوهام الخرافية على نفسه «المشهد الأول – الفصل الثاني»:

كاسسياس: «ولكنا لا ندرى أيخرج قيصر اليوم أم لا؟ فلقد آض منذ قريب يعتقد بالخرافات على خلاف رأيه الثابت القديم في الخيالات والأحلام والفال.»

من متممات وصف قيصر التنويه بجلال «روحه القوية»؛ أعني ذاك النفوذ الهائل، والسلطان المدهش الذي أكسبه الفوز والظفر «بعد الموت» ومكنه من أن يدلي إلى خلفه وذريته بالنظام الحكومي الذي أحدثه، وقد سمى المؤرخون نفوذ قيصر هذا أو سلطانه أو شخصيته أو روحه «القيصرية»، فإلى هذه «القيصرية» كان يشير بروتاس بقوله:

«إنما نثور على روح قيصر، وروح الإنسان لا دم فيها فيا ليت في استطاعتنا أن نستحوذ على روح قيصر دون أن نضطر إلى تمزيق أشلائه!»

هذا النفوذ السحري الباهر، والسلطان الخلاب القاهر هو الذي جعل جثة قيصر «أطلال أسمى رجل وأنقاض أشرف إنسان عاش في مجرى الزمان ومكر الدهور والأباد.»

هذه هي الروح التي تنبأ بها أنطانيوس وتكهن بما سوف يكون من هول آثارها في أنحاء العالم الروماني أجمع:

«وروح٢ قيصر مطل من فوق ذلك، طواف في أرجاء البلاد، مطالب بالثأر، تسعى إلى جانبه شيطانة الانتقام والعذاب منبعثة من أعماق جهنم تلتهب التهابًا، يصيح: ويل لكم ثم ويل لكم! لا هوادة، ولا هدنة، ولا موئل، ولا معاذ، ولا عاصم اليوم من أمر الله.»

(٢) بروتاس

إن أظهر صفات بروتاس وأقواها وأغلبها على سائر صفاته هي «الروح الجمهورية» وهذه الروح عند بروتاس هي نفسها «وطنيته».

هذه الوطنية قد ورثها بروتاس كابرًا عن كابر،٣ فقد اشتهرت عشيرته بالروح الجمهورية في روما منذ أجيال عدة: «أو لم يطرد أسلافه طرقوين من مدينة روما لما لقب ملكا؟» هذا هو ما لم يزل يذكره بروتاس، وهذا هو ما لم يبرح يذكره به كاسياس، ويضرب على نغمته كلما بدا له أن يحرض بروتاس على قيصر: «لقد سمعنا آباءنا يقولون: إنه كان مرة في روما رجل يدعى بروتاس كان يحتفظ بكرامته وعزته كما لو كان ملكا مهيبًا، ولو ألجأه ذلك إلى مطاوعة الشيطان اللعين.»

ثم تأمل خطاب ليجارياس له، وما تضمن من التنويه بوطنيته، وبشرف حسبه ونسبه «المشهد الأول – الفصل الثاني»:

«أي بروتاس يا روح روما ويا دم شريانها ويا منبع حياتها وقوتها، ومصدر مضائها وهمتها، يا نجلها الأروع الشجاع ويا فتاها الشهم الجريء، سلالة الأُسد الغضافرة، والليوث القساورة!»

ولقد كان شعاره «السلام والعزة والحرية»، «الفصل الثالث: المشهد الأول»:

«هلموا معشر الرومان فانحنوا ودعونا نغمس في دم قيصر أذرعنا إلى المرافق ونخضب أسيافنا، ولنسرِ بعد ذلك إلى مكان السوق، فنهز نصالنا الحمراء فوق رءوسنا ثم لنصحْ جميعًا: «مرحبًا بالسلام والعزة والحرية»!»

وعلى هذا المثال نرى أن العذر الذي أداه إلى الشعب عن اشتراكه في مقتل قيصر هو «المشهد الأول – الفصل الثالث»:

«إن خروجي وثورتي لم يكن لأن محبتي لقيصر كانت أقل مما ينبغي، بل لأن محبتي لروما هي أكثر وأعظم.»

وقد كان رأيه الحر النزيه أنه من المحال أن يكون الإنسان من الخسة والدناءة بحيث لا يحب وطنه:

«أيكم بلغ من ضئولته وخسته ودقته أنه لا يحب بلاده؟ إن كان فيكم مثل هذا فليتكلم!»

وأخيرا تجيء شهادة أنطانيوس التي أداها فوق جثته عن سمو مكانته في الوطنية، وما أصدقها لصدورها عن عدو ألد — والفضل ما شهدت به الأعداء:

«هذا كان أفضل روماني من بينهم جميعًا.

إن المتآمرين كلهم — ما عداه — قد آتوا ما آتوا من حسد وحقد على قيصر الأعظم.

ولقد دخل هو في زمرتهم وانخرط في سلكهم متفردًا من بينهم بحسن القصد والنية، وشرف المذهب والمطلب والحرص على منفعة الأوطان والصالح العام.»

وهكذا يتضح لنا أن بروتاس كان نبيلًا كريمًا وطنيًّا، ينزل من نفوس الشعب بأسمى منزلة وأخص مكانة، ثم نرى أنه على الرغم من كل ذلك قد باء بالفشل والخيبة، ولماذا؟ نقول: إن معظم السبب في هذا يرجع إلى أنه لم يكن رجلًا عمليًّا، إنما كان نظريًّا خياليًّا، كان لا يعرف كيف يهيئ ما لديه من الوسائل التهيئة الكفيلة بإدراك بغيته وغايته، فهو أحرى أن يعد فيلسوفًا من أن يعد رجلًا عمليًّا ولذلك كان منطقيًّا حاذقًا، وسياسيًّا أخرق، لقد كان يعالج المتعذر، ويحاول المستحيل، فيجلب بذلك على نفسه وعلى حزبه الأرزاء والكوارث، إنه لم يكن مثل صاحبه كاسياس ثاقب النظر إلى أكناه الحقائق بصيرًا بمغبات الأمور والعواقب؛ لذلك لما قام خطيبًا في الجماهير المهتاجة لرؤية الدماء السائلة من جراح قيصر جعل يخاطبهم بأسلوب هادئ رزين، ويحاول إقناعهم بالبراهين الصريحة البسيطة، في حين كان يجب عليه استعمال العبارات المهيجة والأساليب المثيرة المستفزة.

لقد غاب عنه أن المذهب الجمهوري في روما كان في الحقيقة قد باد وانقرض، وأصبح لفظًا بلا معنى وشبحًا بلا روح، وإن الشعب كان لا يريد إلا قيصر ولا يقنع إلا بقيصر، وإن من كان ينطوي تحت لوائه من المتآمرين لم يكونوا مدفوعين بعامل غيرة ولا وطنية ولا تأييد لنظام جمهوري؛ بل بدافع الحسد والحقد.

ومما يعزى إليه فشل بروتاس أيضًا:

دماثته وحنانه

إن رقته ورأفته كانت ظاهرة في معاملته مع كل من عاشر ولابس، ولا سيما زوجته وغلامه، فلزوجته يقول: «لأنت زوجتي الحرة الصادقة الكريمة، ولأنت أعز علي من روحي التي بين جنبي، ومن القطرات القانية الموردة التي تتدفق في قلبي الحزين.»

وأيضًا في المحاورة ذاتها، «المنظر الأول – الفصل الثاني»:

«أيتها الآلهة! اجعليني أهلًا لهذه الزوجة الكريمة!»

«سأجعل صدرك يا بورشيا وعاء لسري، وسأطلعك على جميع أمري، وعلى كل ما هو مسطور على جبيني الشاحب أسًى وحزنًا.»

أما غلامه، فقد كان ينزله منزلة الابن محبة وشفقة، فله يقول «المنظر الثالث – الفصل الرابع»:

«لشد ما ألححت عليك إضجارًا ونصبًا ولكنك مطواع٤ مذعان.» وأيضًا:

«ستعاود النوم عما قليل، فلن أحجزك طويلًا، ولئن عشت لأحسنن إليك ولأكرمن مثواك.»

وأيضًا:

«تعسًا لك أيها النوم! ما أشد فتكاتك وسطواتك، أإن أقبل عليك غلامي يغنيك ويعزف لك أنحيت عليه بمخصرتك، طبت ليلة أيها الصبي السمح الوديع، لن أوذيك بإيقاظك.»

وأيضًا: «الفصل الثاني – المنظر الأول»:

«لوسياس، يا غلام! تغطَّ في نومك؟ لا بأس عليك، تلذذ بحلو مذاق النعاس ومعسول طله العزيز وأندائه الثرة المتحلبة.»

هاتان الخلتان: دماثته وخياليته — أي ميله للخياليات والنظريات — إليهما تعزى غلطاته الأربع الخطيرة التي سببت فشله وخيبته.

  • (١)

    عدم موافقته على قتل أنطانيوس مع قيصر.

  • (٢)

    موافقته على قيام أنطانيوس خطيبًا في الجماهير أثناء جنازة قيصر.

  • (٣)

    امتناعه — عملًا بمبادئه الفلسفية وتمسكًا بمذهبه الأدبي — عن التجاوز عن زلة لوسياس بيلا.

  • (٤)

    عزمه — ضد رأي كاسياس الأصح الأسد — على المبادرة بأسرع ما يمكن إلى المخاطرة بكل شيء في موقعة حربية.

(٣) كاياس كاسياس

كاسياس نقيض بروتاس في كل شيء.

كان حسودًا

يحسد قيصر العظيم وينفس عليه عظمته ورفعته، وجلاله وعزته، ويبغضه شخصيًّا، ومن ثم كان شديد البحث عن عيوبه، دائب التفتيش عن مثالبه ومناقصه، كليل البصر، مغمض العين عن فضائله ومحاسنه.

وهو لما كان يعد نفسه نظيرًا لقيصر وندًّا — إن لم يكن أجل منه وأفضل — فقد عز عليه أن يرى نفسه أقل من الزعيم الأكبر منزلة وخطرًا، وأحط منصبًا ومرتبة وقدرًا.

ولقد أخذ يقارن ما بين نفسه وقيصر من حيث القوة البدنية، وطفق يتعجب كيف قد: «أصبح هذا الرجل إلهًا معبودًا، وكاسياس إن هو إلا مخلوق ذليل حتم عليه أن ينحني لأدنى تسليمة من قيصر!»

إن كاسياس لفرط حقده وشدة حسده لا يطيق أن يرى «مثل هذا الرجل الواهن القوى قد سبق هذا العالم العظيم إلى ذرا العلاء والسؤدد وأحرز قصب السبق وحده.»

هذا، وإن غريزة حقده وحسده بادية على وجهه، منقوشة على صفحاته، قد قرأها قيصر في غضون أسرَّته؛ فذلك حيث يقول الزعيم الأوحد:

«إن كاسياس هذا شره العين، منهوم النظرات، إنه لمطراق كثير الهواجس، وإن مثله حرًى أن يكون خطرًا مخوف الجانب.»

«ليته أكان أكثر سمنًا، أبغني من الرجال كل شحيم مبدان، لين الجمجمة، نوام الليل …»

«لست أخشى كاسياس، ولكني أقول: لو كان لقيصر أن يخاف مخلوقًا لما رأى في الناس من هو أولى بالمجانبة من كاسياس، ذلك الأعجف المعروق.»

«مثل هذا الرجل لا ينعم البتة براحة بال ما دام يبصر في الدنيا من هو أسمى منه درجة.»

حذقه بالسياسة

كان كاسياس محرزًا لكل الصفات التي من مجموعها تتألف المهارة السياسية، أوَلم يقل عنه قيصر «المشهد الثاني – الفصل الأول»:

«إنه كثير الإطلاع دقيق النظر، يستشف بنافذ بصيرته أكناه٥ الأمور ومراميها، ثم هو لا يحب الألعاب مثلك يا أنطانيوس ولا يسمع الموسيقى.»

كان كاسياس داهية أريبًا، عظيم الحذق والبراعة، فكان بين زمرة المتآمرين جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، بعيد الغور، واسع الحيلة، لطيف التدبير، خفي الكيد، قوي الحجة، شديد العارضة لسنًا مفوهًا منطيقًا، شديد الإفحام للمعارض، لعوبًا بألباب من يخاطب ويحادث، ويعرف كيف ينفث في قلوبهم من الأفكار والأوهام والعقائد ما يشاء ويطبع ميولهم وأهواءهم بالطابع الذي يشاء، وكيف يصب رغباتهم وطلباتهم في القالب الذي يهوي.

وكان فوق ذلك ماضي الهمة صارم العزيمة، سريعًا إلى انتهاز الفرص، وكان شديد الحذر والحيطة، ولكنه لم يكن شديد التمسك بناموس الفضيلة، فإذا سنحت له فرصة فائدة أو غنيمة، لم يبالِ بالمبادئ الشريفة، ولم يتردد في الإخلال بواجبات الفضيلة وفي عق حقوقها وانتهاك حرمتها، وكان لعظم خبرته ومعرفته بطبائع البشر قد أدرك أن الناس كلهم — إلا النادر الشاذ — بعيدون من الكمال، يمكن إغواؤهم، واستهواؤهم، واشتراء ذممهم وضمائرهم بالمال وغيره من وسائل الترغيب والاستمالة.

وهو في جميع مجادلته مع بروتاس كان محقًّا من الوجهة السياسية، وإن لم يكن كذلك من الوجهة الأخلاقية.

كان كاسياس المؤسس والمدبر والمنظم والمحرك للمؤامرة، كان جرثومة الفتنة ولقاحها وثقابها ومسعرها، وقد كان مضمونًا نجاحه لولا رضوخه لآراء بروتاس فيما يتعلق بأهم الشئون والمسائل، أما رضوخه هذا فيرجع إلى:

الناحية الكريمة من أخلاقه

هذه الناحية الكريمة من خلقه هي التي أهلته لفهم ما تحلى به بروتاس من المحامد والمكارم، ولإجلال تلك الشيم الغراء والمناقب الزهراء. ولا يعزبن عن البال أن بروتاس ما كان ليؤاخي كاسياس ويصافيه ويختاره ويصطفيه ويجعله محل ثقته واعتماده لو لم يكن كاسياس على جانب عظيم من المحامد والمكارم، ألم ترَ إلى بروتاس كيف أثنى على كاسياس عقب ما كان بينهما من المشاحنة، وبأي ألفاظ أقبل عليه يمجده ويكرمه:

بروتاس «إلى كاسياس»: «اغضب متى شئت وكما شئت، فسأفسح مجالًا لسطوات غضبك، ولتعلمن أنك تصطحب مني شريك عنان سلس المقادة، سهل الجانب، لين العريكة … إلخ إلخ.

كاساياس: هات يدك.

بروتاس: وقلبي أيضًا.» «الفصل الرابع – المنظر الثاني».

ولما أبصر بروتاس جثتي كاسياس وتيتنياس أبنهما بهذه العبارة المفعمة بآيات الإجلال والإكبار: «الفصل الخامس – المنظر الثالث»:

«سلام عليكما يا بقية السلف الصالح، وآخر السادة من الرومان، إن من المحال أن تنجب روما نظيريكما وشبيهيكما.

أيها الأصحاب، إن لهذا القتيل في ذمتي أضعاف ما سترونني أذرفه عليه من المدامع، ولكني يا كاسياس سأفسح من وقتي مجالًا أقضي به ما لك عليَّ من حق البكاء والرثاء.»

مصرعه

كان مصرعه نبيلًا مجيدًا شأن أبطال الرومان ودأبهم، ولقد كلل ميتًا بإكليل النصر الذي حرمه حيًّا، ولقد أبنه بهذه العبارة البليغة صاحبه تيتنياس الذي عز عليه أن يبقى بعده فانتحر فوق جثته:

«أيتها الشمس الغائرة، كما أنك تغيبين الليلة في أشعتك الحمراء؛ فكذلك في دماء كاسياس الحمراء يغيب نوره ويفنى نهاره، لقد غربت شمس روما وانقضى يومنا وباخ ضياؤه، وقد أقبل السحاب بمدامع الطل، وأشرفت الأهوال والمخاطر.» «الفصل الخامس – المنظر الثالث».

١  الشد: العدو؛ أي الجري، قال الشاعر يصف كلاب الصيد في شدة عدوهن نحو الصيد:
ينتهبن المدى إليه ويضرمـ
ـن له الشد أيما إضرام
٢  الروح تذكر وتؤنث.
٣  الكابر: الكبير والرفيع الشأن والشرف، يقال: توارثوا المجد كابرًا عن كابر؛ أي كبيرًا شريفًا عن كبير شريف.
٤  الحاضر الطاعة السلس المقادة، قال الساجع «الحريري»: أصحبت أصحاب المطواعة، وانخرطت في سلك الجماعة.
٥  أكنه الشيء واكتنهه: بلغ كنهة؛ أي أصله أو غايته، وقولهم: لا يكتنهه الوصف: أي لا يبلغ كنهه؛ أي قدره وغايته، الكنه: جوهر الشيء وحقيقته وغايته، والكنه أيضًا: الوقت، قال الشاعر:
فإن كلام المرء في غير كنهه
كنهه: أي وقته

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤