الفصل الحادي عشر

قانون الإيمان الأنطاكي قبل نيقية

وعني العلَّامة الألماني كتنبوش بتأريخ قانون الإيمان، ففتش وجمع ونقَّب ونقَّر، فأتحف الكنيسة بمجلدين مفيدين ظهر الأول منهما في السنة ١٨٩٤، والثاني في السنة ١٩٠٠،١ ونظر في تاريخ قانون الإيمان في كنيسة أنطاكية، فتسرع في الاستنتاج فقال إنه لم يكن لكنيسة أنطاكية قانون إيمان معيَّن محدَّد قبل بدعة بولس السميساطي، وإن دومنوس أسقف أنطاكية بعد بولس تقبَّلَ قانون إيمان كنيسة رومة وتبناه، فجعله قانون إيمان كنيسته.٢ ووجه الخطأ في استنتاج هذا العالم العلامة هو أنه اتخذ من سكوت المراجع حجة، ولم يدرِ فيما يظهر أن سكوت المراجع لا يصبح حجة إلا بشروط معينة قلَّمَا تتوفر لدى المؤرخ المدقق. وإليك حجة كتنبوش والرد عليها:

حجة كتنبوش

يبدأ كتنبوش بالرسالة السلامية، التي وجهها الأساقفة المجتمعون في أنطاكية إلى أسقف رومة وأسقف الإسكندرية وسائر أساقفة المسكونة، فيرى أن أساقفة أنطاكية يكتفون بالقول «إن بولس لا يريد أن يعترف معنا بان ابن الله نزل من السماوات، وأنه لم يحافظ على الإيمان الذي تسلمه».٣ ثم ينتقل كتنبوش من نص هذه الرسالة السلامية إلى نص رسالة الأساقفة الستة،٤ فيقرأ العبارة: «الإيمان الذي تسلمناه منذ البدء فحفظناه وحفظته الكنيسة الجامعة المقدسة، ذاك الذي انتقل إلينا بالتقليد من الرسل الطوباويين.» ويلاحظ أنها خالية من أية إشارة إلى قانون معين، فيخلص إلى القول بأنه لم يكن هنالك قانون معين محدد!
ثم يشير كتنبوش إلى ما جاء بعد ذلك في ذيامارتورية أفسابيوس الدورلِّي من قانون إيمان كنيسة أنطاكية، فيجده قريبًا جدًّا من قانون إيمان كنيسة رومة،٥ فيخلص إلى القول بأن كنيسة أنطاكية أخذت نص قانونها عن قانون كنيسة رومة، ويلاحظ أن الفرق بين القانونين موجه ضد بدعة معينة، فيرى أن هذه البدعة هي بدعة بولس السميساطي، فيحدد زمن الأخذ عن رومة، ويجعله في عهد دومنوس خلف بولس على السدة الأنطاكية.

الرد على كتنبوش

ونحن نرى أن سكوت المراجع لا يكون حجة قبل التثبت من أمور ثلاثة: أولها أن نكون على يقين جازم من أمر اطِّلاعنا على جميع المراجع، والثاني ألَّا يعترينا شك في أن ما لدينا من هذه المراجع هو «جميع» ما دوَّنه السلف، وأنه لم يضع منها شيء، والثالث أن نتثبت من استحالة السكوت في هذه المراجع عن الموضوع الذي ندرس. ونحن لا ننكر على كتنبوش إحاطته بأخبار الرواة عن قانون الإيمان وجده واجتهاده، ولكننا نرتاب في أمر إحاطته بها جميعًا، فقد جاء في رسالة أسقف أنطاكية العظيم أغناطيوس حامل الله إلى كنيسة ترولة ما يمكن اعتباره جزءًا من قانون إيمان معمول به. وجاء في رسالة القديس كبريانوس الخامسة والسبعين أن القديس فرميليانوس أشار إلى قانون إيمان معمول به في كنائس البونط، كان يردد في ظروف المعمودية؛ فإذا كان هذا أمر الكنائس الصغيرة التي كانت تتأثر أنطاكية، فما قول كتنبوش في كنيسة أنطاكية نفسها؟٦ وهل بإمكان كتنبوش أو غيره من العلماء أن يجزم في أن ما لدينا من المراجع الأولى لتاريخ كنسية أنطاكية قبل مجمع نيقية هو جميع ما دوَّنه السلف، وأنه لم يضع مما دُوِّن شيءٌ؟ ثم هل من المنطق بشيء أن نقول باستحالة سكوت الآباء المجتمعين في أنطاكية عن ذكر قانون الإيمان بكامله، في رسالة سلامية وجَّهوها إلى إخوانهم في المسيح في جميع المسكونة؟ أَلَا يجوز أن يكون هؤلاء الأساقفة اعتبروا نص قانون الإيمان أمرًا معروفًا لدى إخوانهم في الرب يسوع، فاكتفوا بالإشارة إلى المهم منه؛ أي إلى القول بأن بولس «لا يريد أن يعترف معهم بأن ابن الله نزل من السموات»؟ ثم هل نسي أن مرقس أفجينيكوس Eugenicos متروبوليت أفسس فاجَأَ إخوانه الغربيين مفاجأة في مجمع فرارة (١٤٣٨)، عندما صرَّح أمامهم بأن كنائس الشرق تجهل كل الجهل نصَّ إيمان الرسل Symbolum Apostolicum الشائع في الغرب؟

ما يجوز قوله

والراهن الثابت هو أن الرسل أوجبوا منذ بداية التبشير والتعميد اعترافات معينة تنبئ باهتداء الموعوظ؛ ففيليبس فرض على الخصي الحبشي القول: «إني أؤمن بأن يسوع المسيح هو ابن الله.» وبولس استهل رسالته إلى الرومانيين بقوله: «المولود بحسب الجسد من ذرية داود المقام، بحسب روح القداسة في قدرة ابن الله بقيامته من بين الأموات يسوع المسيح، ربنا الذي به نلنا النعمة.» وقال هذا الرسول نفسه في رسالته الأولى إلى الكورنثيين (١٥: ٣–٥): «إن المسيح قد مات من أجل خطايانا، وإنه قُبِر وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب.» وقال بطرس في رسالته الأولى (٣: ١٨–٢٢): «إن المسيح مات مرة من أجل الخطايا وهذا الماء وما رمز به إليه — أي المعمودية — التي ليست إزالة أقذار الجسد، بل معاهدة الضمير الصالح لله، يخلصكم الآن بقيامة يسوع المسيح الذي هو عن يمين الله منذ انطلق إلى السماء، وأخضعت له الملائكة والسلاطين والقوات.»

وهكذا فإن الجوهر في نص قانون الإيمان يعود إلى عصر الرسل أنفسهم، أما صيغته فإنها تطورت تدريجيًّا بتطور ظروف الوعظ والمعمودية، ونظرًا لبُعد المسافات وتنوع الظروف، فإنه نشأ قبل نيقية فصيلتان من النصوص إحداهما شرقية والثانية غربية، وضاعت الأولى بعد نيقية وبقيت الثانية في الغرب، وهذه هي قانون الرسل المشار إليه آنفًا. وأهم الظروف التي دعت لاختلاف النصوص قبل نيقية ظهور البدع في الشرق ووجوب محاربتها، وأهم هذه النصوص الشرقية نصُّ كنيسة أوروشليم، كما ورد في إرشادات كيرلس ونص كنيسة قيصرية فلسطين كما حفظه لنا المؤرخ أفسابيوس.٧
١  Kattenbusch, F., Das Apostolische Symbol, Leipzig, 1894, 1900.
٢  Kattenbusch., F., op. cit., II, 199–202.
٣  Eusèbe, Hist. Ecc., VII, 30.
٤  Epist. Sex Episcop., Bardy, G., Paul de Samosate, 14.
٥  Loofs, F., Paulus, op. cit., 71; Cassien, De Incarn. Domini, VI, 3; Bardy, G., Paul de Samosate, 364-365.
٦  Sandy, Recent Research on the Origin of the Creed, Journ, Theol. Stud., 1899, I, 18.
٧  Hahn, A., Bibliothek der Symbole, Breslau, 1897; Lietzmann, H., Symbole der Alten, Kirche, Berlin, 1931; Ghellinck, J., Hist. du Symbole des Apôtres à Propos d’un Texte d’Eusèbe, Rech. Sc. Relig., 1928, 118–125; Carpenter, H. J., Creeds and Baptismat Rites in the First Four Centuries, Journ. Theol. Stud., 1943, 1–11; Cullmann, O., Premiéres Confessions de Foi Chrétienne, Paris, 1948; Quasten, J., Péres de l’Eglise, I, 29–36.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤