الفصل العشرون

الرُّهبان في القرنين الثالث والرابع

السوابق

وليس لنا أن نبحث مع كابلِّي ورايتزنشتاين١ السوابق اليونانية في ضبط النفس وجمود القلب؛ لنستعين بها على تفهم الزهد والترهيب في النصرانية، ولا أن نجعل من الرهبانية حلقة من سلسلة تشمل نساك بوذة، وإسيني يوسيفوس،٢ وثيرابيفتي فيلون،٣ والأفلاطونيين الجدد أمثال: أفلوطين، وبورفيريوس الحوراني الصوري، ويمبليخوس العنجري.٤

الأصل

والواقع الذي لا مفر من الاعتراف به هو أن السيد المخلص نفسه عاش عيشة فقر وتيه ومسكنة، وأنه علم باقتراب النهاية، وأرسل تلاميذه ليكرزوا بملكوت الله، وأوصاهم ألا يحملوا شيئًا للطريق، «لا عصًا ولا مزودًا ولا خبزًا ولا فضة»،٥ وألَّا يكون للواحد منهم ثوبان. والواقع أيضًا أن يعقوب أخا الرب لم يأكل لحمًا ولم يشرب خمرًا ولم يقتنِ سوى رداءٍ واحد، وأن الرسل جميعًا حضوا المؤمنين على العفة والبتولية، وأجازوا الزواج لمن خشي العنت فقط.٦
وجاء الاضطهاد في القرون الثلاثة الأولى، ففرَّ المؤمنون إلى البراري والقفار، وعاشوا عيشة البؤس والطهارة والتقوى،٧ واشتدت وطأة الحكم وكثرت الضرائب وتثاقلت، فتاه المؤمنون وتركوا القرى والمزارع محتجين على نظام المجتمع، حتى إذا أطل القرن الرابع، وجاء قسطنطين وخلفاؤه لم يكد يغير ذلك شيئًا من طريقة المؤمنين؛ إذ أصبحوا يقولون بوجوب الانكفاء والابتعاد عن العالم للتأمل والتفكير بالقيم الروحية والبشرية.

الرهبانية في أبرشيات أنطاكية

واعتكف أنطونيوس الكبير (٣٥٠–٣٥٦) على نفسه وذاع صيته في مصر، والتف الزهاد حوله متنسكين أفرادًا لا جماعات، وتقبل القديس باخوميوس (٢٩٠–٣٤٥) النصرانية وتنسك، فآثر أتباعه الرهبانية مجتمعين غير منفردين، وأقبل على القديسين المؤسسين مؤمنون أنطاكيون، فأخذوا عنهما وعادوا إلى فلسطين وسورية والرها والجزيرة وآسية الصغرى.

وأقدمُ الرهبان الأنطاكيين فيما يظهر هيلاريون غزة، فإنه بعد أن أخذ التقشف عن القديس أنطونيوس الكبير نفسه عاد إلى فلسطين في السنة ٣٠٧، واعتكف في برية غزة في اتجاه مصر، وبعد أن قضى عشرين سنة مفكرًا متأملًا، فاح عبير فضائله فالتف حوله وثنيون من مصر وسورية، وتقبلوا النعمة على يده، وثابروا على الزهد والتقشف، ونسج آخرون على منواله فانتشرت الرهبانية في فلسطين، وتعددت الأديار فيها، وأقام هيلاريون نفسه في أحد هذه الأديار، فاكتظ الرهبان حوله فتاقت نفسه إلى العزلة، فتركهم وشأنهم وعاد إلى البرية.٨ ويُلاحَظ هنا أن شك إسرائيل٩ وفاينغارتن١٠ وغيرهما في صحة أخبار هيلاريون واعتبارها أسطورة من الأساطير جاء متطرفًا مبالغًا فيها كل المبالغة،١١ ويلاحظ أيضًا أن القديس أيرونيموس لم ينفرد في رواياته عن هيلاريون، وأن صوزومينس المؤرخ يؤيده في أكثر ما ذهب إليه،١٢ وأن صفرونيوس نقل رواية إيرونيموس إلى اليونانية في النصف الثاني من القرن الخامس.
ويرى رجال الاختصاص أن الرهبانية في فلسطين اتخذت في القرن الرابع شكلين مختلفين، فبينما نرى الفلسطينيين وغيرهم من أبناء الأقطار المجاورة يزهدون فيتنسكون جماعات في ساحل فلسطين وبرية اليهودية، نلحظ عددًا من الحجاج الغربيين أيضًا يؤسسون الأديرة في أوروشليم وبيت لحم وغيرهما من الأماكن المقدسة، ويقيمون فيها معتكفين على الصلاة والصوم والزهد، والإشارة هنا إلى دير ميلاني للراهبات في أوروشليم، ودير روفينوس للرهبان على جبل الزيتون، وديرَيْ بفلا وأيرونيموس في بيت لحم، ويلوح لنا أن العذارى الصالحات آثرن في غالب الأحيان العيشة المنفردة، ولكنهن قمن بالصلاة مجتمعات.١٣
واعتكف مالك Malchus فيما يظهر في النصف الأول من القرن الرابع في برية قنسرين Chalcis، وروى ما قاساه من المتاعب والأخطار إلى القديس أيرونيموس في مارونية على بُعد ثلاثين ميلًا عن أنطاكية،١٤ ويذكر صوزومينس المؤرخ أكثر من ثلاثين ناسكًا في براري سورية الشمالية وسورية الوسطى،١٥ ويؤكد أنهم فاقوا نساك مصر في ممارسة «الفلسفة»، وزهد إبراهيم القيدوني لسبعة أيام من عرسه، واشتهر بالورع والتقوى، وقدر فضله أناس كثيرون، ولما فاضت روحه في السنة ٣٦٦ احتشد المؤمنون لتشييع جنازته، وتسابقوا لاقتطاع شيء من ثيابه تبركًا.١٦ وذكر ثيودوريطس أسقف قورش ثلاثين زاهدًا أقاموا الصلاة، واجترحوا المعجزات في براري أبرشيته، وأشار أيضًا إلى الدير الذي أنشأه الراهب ثيودوروس في أرسوز في ساحل سورية الشمالية، وإلى رهبانيات جسر شغور Seleucobelos وتوابعها.١٧
ويرى الأب هنري لامنس أن مدافن عدلون بين صيدا وصور أصبحت مناسك في أوائل عهد الرهبنة في ساحل لبنان، ففيها من شارات النصرانية والصهاريج ما يبرر هذا القول، وهذه المدافن مغاور مختلفة الحجم يربو عددها على المائتين، وفيها مراقٍ متقنة يصعد منها إلى طبقات المغاور العليا فتجمع بين القلالي، ولا يستبعد أن تكون أغوار وادي الفرزل التي تطل على البقاع قلالي أيضًا، ولا شك في أن مغارة الراهب عند نبع العاصي بالقرب من الهرمل هي أيضًا مجموعة من القلالي.١٨
ولنا في اسم مزرعة مندرة بالقرب من تعنايل البقاع أثر من آثار الرهبنة في أوائل عهدها في أبرشيات أنطاكية، ولا يخفى أن اللفظ اليوناني Mandra كان يعني حظيرة الغنم، ثم أطلق الرهبان هذا اللفظ على المكان الذي كانوا يجتمعون فيه، ومن هنا اللفظ أرشيمندريت الذي أُطلِق على رئيس الرهبان، فالأرشمندريت رئيس المندرة. ولنا في الاسم قنوبين أثر آخر من آثار الرهبنات الأولى، فبعض الرهبان الأولين أطلقوا على مكان اجتماعهم اللفظ اليوناني Choinobion ومعناه المنتدى أو المجتمع.

القديس باسيليوس الكبير (٣٢٩–٣٧٩)

وعاد باسيليوس من أثينة مدينة العلم والنور إلى مسقط رأسه قيصرية قبذوقية في السنة ٣٥٧، فعلَّم الفصاحة والبيان ولقي ترحيبًا وتقديرًا، فخشي الكبرياء، فوزع ماله على الفقراء وسار إلى البرية للتعبد والصلاة.

ثم أشار عليه رئيسه الروحي الأسقف أفستاثيوس أن يرحل إلى مصر وسورية وما بين النهرين؛ لتفقد شئون الرهبان والنساك فيها، ففعل وعاد إلى بلاده في السنة ٣٥٩، فأنشأ ديرًا للرهبان على ضفة نهر الأيريس مقابل دير للراهبات كانت إميلية وشقيقته مكرينة قد أنشأتاه على الضفة الثانية، «وعاش باسيليوس مع رهبانه حياة قشفة، فكان يلبس قميصًا خشنًا في النهار، ويتمنطق فوقه بمنطقة من جلد، ويلبس المسح ليلًا فقط؛ لئلا يلحظه أحد في النهار فيسمو في عينيه، وكان لا يأكل إلا مرة واحدة في اليوم ويكتفي بالخبز والماء، ولا يسمح لنفسه بشيء من البقول إلا في أيام الأعياد، وكان يقضي أيامه في الصلاة والتأمل وعمل اليد، ويحيي لياليه ساهرًا مضحيًا إرادته على مذابح الصبر والاحتمال وطول الأناة، وكان إذا نام يفترش الأرض ويحتمل البرد إماتة لجسده».١٩
وأنشأ هذا القديس الكبير الدير بعد الدير حتى صار أبًا لمئات من الرهبان، ووضع قوانينه الكبرى والصغرى فعمت الشرق بأسره، وانتقلت في حينها إلى الغرب أيضًا، وتميزت الرهبانية الباسيلية عن الباخومية المصرية وغيرها بانتظامها وخضوع أفرادها خضوعًا تامًّا لرئيسهم ومدبر شئونهم، وبإصغاء هذا الرئيس إلى نصح الرهبان الشيوخ، فأصبح النذر مثلثًا يقضي بالطاعة والفقر والعفة، وخشي باسيليوس أثر الكسل في نفوس الرهبان، فحضهم على العمل اليدوي المشترك لمصلحة المجموع، وعلى مطالعة الكتاب المقدس والتأمل في محتوياته:٢٠

هَبْ لنفوسنا انسحاقًا، ولأفكارنا اهتمامًا بفحص دينونتك الرهيبة العادلة، سمِّر أجسادنا بخوفك وأَمِتْ أعضاءنا التي على الأرض لكي نستنير في هدوء النوم بتأمل تدابيرك، أبعد عنا كل تصور لا يليق وكل شهوة مضرة، وأنهضنا في وقت الصلاة موطدين في الإيمان، وناجحين في وصاياك بمسرة وصلاح ابنك الوحيد الذي أنت مبارك معه ومع روحك القدوس الصالح والمحيي.

أفرام البار (٣٠٣–٣٧٩)

وعاصر باسيليوس الكبير أفرام البار «معزي الحزانى ومرشد الشبان وهادي الضالين». وُلِد أفرام في نصيبين من أبوين مسيحيين حوالي السنة ٣٠٣، ولحق بأسقفها القديس يعقوب الشهير «فسقاه من التقى والعلم لبانًا نقيًّا، وقرأ كتاب الله فأحكمه»، وترك الدنيا وما فيها، واعتكف فأخذ عن يوليانوس الناسك طريقته، فأكب على الصوم والصلاة والإماتة، ولم يأكل سوى خبز الشعير والبقول المجففة، ولم يشرب سوى الماء، فأصبح جسده على حد تعبير غريغوريوس النيصي هيكلًا عظميًّا كأنه تمثال من الفخار.

وعلَّم أفرام القديس في مدرسة نصيبين، فلما سقطت بيد الفرس سنة ٣٦٣ جلا عنها وسار إلى آمد فالرها، وارتاح إلى سكنى الرها، وأشرف على مدرستها، فظهر فيها على أهل البدع، ولقن الطلبة حقائق الدين القويم، وزار النساك المنتشرين في ضواحي الرها، وفاقهم بالكمال والقداسة، فذاع صيته وجاءه الكثيرون لاقتفاء أثره، فوعظ وهدى حتى أصبح أبًا للمئات من النساك والرهبان.

ويرى غبطة البطريرك أغناطيوس أفرام الأول أن هذا القديس البار هو إمام اللغة السريانية الأكبر، وفارس ميدانها الذي لا يُجَارى ولا يُطَاول، ويضيف غبطته أن أبرز مصنفات هذا القديس ميامره الشعرية على البحر السباعي في أسرار ربنا ومخلصنا، وفي البتولية والتوبة والإيمان والحياة المسيحية والكهنوت.٢١

مار مارون (٤١٠ +)

ويذكر ثيودوريطس أسقف قورش مارون الناسك في عداد نساك أبرشيته، ويقول إنه اعتكف على إحدى القمم بالقرب من هيكل وثني، وأنه قضى حياته بالصلاة والتوبة، وأن الله منَّ عليه بالقدرة على الشفاء، فتقاطر الناس إليه يتبركون ويلتمسون الدعاء، وأن بعض هؤلاء تتلمذ عليه واقتفى أثره.٢٢ وكتب يوحنا الذهبي الفم إلى هذا «الكاهن الناسك» في أثناء محنته في أرمينية سنة ٤٠٥ يستخبر عن أمره ويلتمس دعاءه.٢٣
ولم يذكر ثيودوريطس سنة وفاة هذا القديس الناسك ولا ذكرها غيره، ولكننا نعلم أن الذهبي الفم التمس دعاء هذا الناسك القديس في السنة ٤٠٥، وأن ثيودوريطس بدأ يدون أخباره في السنة ٤٢٣، ومن هنا تعيين الوفاة في السنة ٤١٠ أو حواليها،٢٤ ولا تزال الكنيسة الجامعة بفرعَيْها اليوناني واللاتيني تعيد لهذا القديس الأرثوذكسي حتى يومنا هذا.

القديس أيرونيموس (٣٤٧–٤٢٠)

وأمَّ أنطاكية في السنة ٣٧٣ أيرونيموس الشاب السلوفيني الإيطالي، الذي أصبح فيما بعدُ أكبرَ رجال التفسير في الكنيسة الغربية. وُلِد أيرونيموس في سلوفينية من أبوين شرقيين مسيحيين تقيين،٢٥ وفي الثانية عشرة أُرسِل إلى رومة، فدرس فيها الفصاحة والبيان، واستسلم حينًا لأهوائه، ثم قبل سر المعمودية على يد ليباريوس أسقف رومة سنة ٣٦٥، وعزم على التفرغ للعبادة، وسعى لاجتذاب أخته الصغيرة إلى حياة التبتل والتنسك، فغضبت عليه عمته وثارت في وجهه، فسافر إلى الشرق.
ولدى وصوله إلى أنطاكية حلَّ ضيفًا على إفاغريوس الكاهن٢٦ يمين بفلينوس زعيم الأفستاثيين الأرثوذكسيين، وفي أثناء إقامته في عاصمة الشرق درس اليونانية والعبرية، وأصغى لكبار رجال التفسير واللاهوت، وشعر بالدعوة إلى التبتل والتنسك، فانفرد في برية خلقيس (قنسرين)، وأقام فيها مدة مثابرًا على الصوم والصلاة والسهر والإماتة، وفي السنة ٣٧٧ عاد إلى أنطاكية فسعى بفلينوس أسقف الأفستاثيين وأقنعه بقبول درجة الكهنوت، ثم رحل إلى القسطنطينية ليأخذ العلم واللاهوت عن غريغوريوس الثيولوغس، فلبث فيها سنتين، وفي السنة ٣٨١ أصبح بعلمه وفصاحته مقررًا للمجمع المسكوني الثاني، وفي السنة التالية رافق بفلينوس إلى رومة، فاتخذه دماسوس أسقفها كاتبًا له، ووكل إليه وضع ترجمة موحدة للكتب المقدسة.
وتوفي دماسوس (٣٨٤)، فأراد البعض أن يخلف أيرونيموس هامة الرسل في رومة، فثارت ألسن الحساد ورشقوا هذا الراهب المسكين بسهام «القلوب الدنيئة»، فحمل أيرونيموس صليبه بصبر، وحمل مكتبته وترك رومة (٣٨٥)، وقام إلى الشرق إلى أنطاكية وعكة ويافة فأوروشليم وبيت لحم، وجاء برفقته إلى هذه الديار أخوه بولنيانس، والكاهن منصور، والتقيتان بولا Paula، وإفستوكيوم Eustochium، وشيدت بولا ديرين في بيت لحم في جوار «المذود المقدس» واحدًا للرجال وآخر للنساء، وتسلَّمت هي رئاسة دير النساء، وأشرف أيرونيموس على إدارة دير الرجال، وعكف أيرونيموس على تقديس نفسه في بيت لحم خمسة وثلاثين عامًا، وتوفي فيها (٤٢٠) ودُفِن بالقرب من المذود الشريف، ثم نُقِل جسده إلى رومة.
ونقل أيرونيموس خرونيقون أفسابيوس القيصري من اليونانية إلى اللاتينية، وأضاف إليه وأكمل أخباره حتى السنة ٣٧٨،٢٧ وفي السنة ٣٩٢ أخرج مجموعته في مشاهير أدباء النصارى De Viris Illistribus، وكتب رسائل عديدة بعث بها إلى أكابر رجال عصره ردًّا على كتاباتهم أو رسائلهم، وفي السنة ٤٠٥ أنجز هذا القديس العظيم ترجمة الكتب المقدسة التي طلبها منه دماسوس أسقف رومة، فكانت اﻟ Vulgata التي لا تزال مقبولة في الأوساط الكنسية الغربية حتى يومنا هذا.

الوثنيون والرهبان

واعتبر الوثنيون المثقفون الرهبان أعداء ألداء لجميع المسرات الطبيعية وخونة، سخفاء الذمة لم يثبتوا على عهد الولاء للمجتمع المدني، وقالوا إنهم لا يدخلون المدن إلا لبذر الشقاق في المجتمع وإلحاق الضرر بهياكل الآلهة. وجاء في رسالة يوليانوس الجاحد التاسعة والثمانين أن في الرهبان أرواحًا نجسة تجعلهم يتغالظون ويشاكسون ثم يبتعدون عن الناس، وكتب ليبانيوس الفيلسوف الوثني الأنطاكي في السنة ٣٨٤ إلى ثيودوسيوس الإمبراطور، يطلب تدخله الفعال ضد «هؤلاء الذين يخربون الهياكل ويملئون الكهوف والمغاور، وليس لديهم من الزهد والتقشف سوى معاطفهم، هؤلاء الذين يرتدون الأسود، ولكنهم يأكلون أكثر من الفيلة، ويشربون أثناء الترتيل ما يتعب الأرقاء من كثرة السكب، يصفِّرون وجوههم ولكنهم يخبئون تحت هذا التصفير بلبلة وتشويشًا، هؤلاء أيها الإمبراطور هم الذين يهجمون على الهياكل عابثين بالقانون، حاملين الأخشاب لإضرام النار، والحجارة والحديد للتقويض والنهب».٢٨

الدولة والرهبان

ولم يرضَ والنس عن تدخُّل رهبان النطرون في قضية خلف أثناسيوس في الإسكندرية، فأصدر في السنة ٣٧٥ قانونًا قضى بإكراه الرهبان على القيام بالخدمة العسكرية، وهبَّ عماله في مصر والشرق يسوقون الرهبان والنساك فيعزرونهم ويهزءون بهم، وقضوا على عدد غير قليل منهم تحت ضرب السياط وسفع الحديد.٢٩
واضطر ثيودوسيوس على الرغم من ورعه وتقواه أن يصدَّ الرهبان ويمنع تدخلهم في الأمور المدنية، فإنه تألم من تدفُّقهم على أنطاكية في السنة ٣٨٧ كما سبق وأشرنا، ومن تهافتهم في الغرور في السنة ٣٨٨ في كلينيكوم في مقاطعة الرها، عندما انقضُّوا على فئة من الغنوسيين، فأحرقوا هيكلها وطمعوا في اليهود فخربوا كنيسهم، وأراد ثيودوسيوس أن يكره أسقف كلينيكوم على إعادة تعمير الكنيس على نفقة المسيحيين، ولكن تدخل القديس إمبروسيوس رفع عن زميله في كلينيكوم عبئًا ثقيلًا،٣٠ فسنَّ الإمبراطور قانونًا في الثاني من أيلول سنة ٣٩٠ منع به الرهبان من الإقامة في المدن، وأجبرهم على البقاء في البراري الفسيحة،٣١ وفي الثاني من نيسان سنة ٣٩٢ حرَّم الإمبراطور على الرهبان التدخل في الأحكام والتشفُّع أمام السلطات.٣٢

موقف الأوساط المسيحية

ولم يجمع المسيحيون على تقرير التبتل والزهد والتنسك، ولم يشاركوا كلهم الذهبي الفم في قوله إن رهبان الفيافي في مصر ملائكة في شكل بشري،٣٣ فإنه قام من أبناء أنطاكية نفسها من المسيحيين من قرَّف بالرهبان وعدَّ تقشفهم ضربًا من الجنون، واستفرغ كل ما في وسعه لمنع الناس عن اقتفاء آثارهم.٣٤ وإذا جاز لنا أن نأخذ بشهادة سالفيانوس قلنا معه: «إذا خرج رجال الله من أديرتهم في مصر أو من أماكن أوروشليم المقدسة أو من البراري، وأموا المدن بوجوههم الصفر وشعورهم المجزوزة حتى الجلد، قُوبِلوا بالضحك والصفير والاستهزاء.»٣٥

الأساقفة والرهبان

وليس لنا أن نغالي مع مؤرخ الكنيسة لويس دوشان Duchesne، فنرى في مجرد التنسك انتقادًا للحياة الإكليريكية آنئذٍ، وليس لنا أيضًا أن نقول معه إن البقاء في الكنيسة في نظر نساك ذلك العصر أضحى مستحيلًا لمن أراد منهم أن يحيا حياة مسيحية حقيقية،٣٦ بل يمكننا أن نقول إن الرهبانية، رغم بعض التطرف في التبتل والتعبد، كانت بمثابة تنفس للقوى الروحية الفائضة في الأفراد الذين اضطروا إلى الاعتزال لمتابعة الجهد الروحي، وتكشف المثل العليا دون الاعتداء على نظم الكنيسة وأوضاعها القائمة. والواقع أن تشريع والنس وثيودوسيوس وحده يثبت تدخل الرهبان والنساك في أمور الكنيسة، وأن أخبار ثيوفيلوس الإسكندري تؤكد أيضًا تعاونًا وثيقًا بين الأسقف وبين الرهبان،٣٧ ويجب ألَّا ننسى أن مجمع أسنة Latopolis بحث ادِّعاء باخوميوس أنه «يرى ويقرأ الأرواح»،٣٨ ولا يخفى أيضًا أن علاقات باخوميوس مع أساقفة مصر كانت حسنة، وأن عددًا كبيرًا من رهبانه تقبلوا درجة الكهنوت، وأن أثناسيوس يبين بوضوح تام احترام أنطونيوس الكبير للسلطة الدينية. ويُلاحَظ هنا أن العالمين الكبيرين هارناك وغروتزماخر الألمانيين تطرَّفَا في خروجهما عن المألوف، فاستحقَا نقْدَ زميلهما شيفيتز.٣٩
ويُلاحَظ أيضًا أن النساك المتبتلين من أبناء كنيسة أنطاكية ساهموا منذ القرن الرابع في أعمال الكنيسة الخيرية وفي التبشير أيضًا، فكان بعضهم يخرج من الصوامع عند اقتضاء الحاجة للعمل والتبشير، ثم يعود إلى العزلة بعد إنجاز المهمة، وقد أجاد الأب أولاف هندريك في إظهار هذه الناحية من الحياة الرهبانية الأنطاكية، ولكنه تطرَّفَ في الاستنتاج عندما رأى أن اشتراك هؤلاء في هذه الأعمال هدف بعد مجمع خلقيدونية إلى الاستقلال عن بيزنطة، ولعله يقصد الرهبان الذين قالوا بالطبيعة الواحدة لا رهبان كنيسة أنطاكية، فهؤلاء ظلوا أبناء الكنيسة الأم الجامعة!٤٠

تطرُّف في التبتُّل والتأبُّد

وتطرَّفَ بعض المؤمنين في موقفهم من لذات الجسد، ولا سيما في أمر الزواج، فافترق الزوجان ليلة العرس٤١ أو حافظَا على العفة إلى ما شاء الله،٤٢ أو ترك أحد الزوجين الآخر على الرغم من فائق المحبة وشدة التعلق،٤٣ وعاد البعض إلى تمجيد التأبد والتبتل والدفاع عنهما دفاعًا عقليًّا منطقيًّا، ولا تخلو بعض مصنفات الآباء القديسين من التأسف الشديد على وجوب المحافظة على الجنس بالطريقة الجسدية المعروفة، وعلى ما يتبعها من عواقب «نجسة قذرة».٤٤
ويُستدَل من مقررات مجمع غنغرة المحلي الذي انعقد في منتصف القرن الرابع، أن المؤمنين في أبرشية سبسطية في أرمينية الصغرى اعتبروا المتزوجين منهم موبوئين لا خلاص لهم، وامتنعوا عن التعبد في الكنائس التي قام بالخدمة فيها كهنة متزوجون، وقالوا إن الأغنياء لن يدخلوا ملكوت السماوات، وحضوا الأرقاء على عدم الطاعة، وطالبوا بجزء كبير مما قُدِّم للكنيسة مدَّعين أنهم أحق بذلك من سواهم؛ نظرًا لمستواهم الأدبي العالي،٤٥ فأوجب الآباء المجتمعون الابتعاد عن كل بدعة لا تقرها الأسفار المقدسة أو قوانين الكنيسة، وأكدوا احترامهم في الوقت نفسه للتنسك والعفة والطهارة.
والتأم في هذا القرن نفسه مجمع محلي آخر في لاذقية فريجية ضمَّ عددًا غير قليل من أساقفة آسية، ويتضح من خلاصة أعمال هذا المجمع أن الأساقفة المجتمعين حرَّموا الربا على الكهنة، ومنعوا رجال الإكليروس من التردد إلى الفنادق، وأوجبوا خروجهم من العُرُسات قبل بدء الرقص، وابتعادهم عن الحمامات عند دخول النسوة إليها، وحرموا إقامة حفلات الأغبَّة في الكنائس، وأوجبوا على الكهنة ألا ينقلوا إلى بيوتهم فُضالة الموائد بعد هذه الحفلات، ثم منعوا النساء منعًا باتًّا من الاقتراب من المذبح، ولعلهم أوصوا بسيامة الشماسات خارج الكنيسة لا داخلها، ولم يرضوا فيما يظهر عن اشتغال الكهنة بالسحر والتنجيم، وعن إعداد التعويذات والأحراز لصيانة حاملها من الأمراض والأرواح النجسة.٤٦
١  Capelle, W., Altgriechische Askese; Reitzenstein, Hellenistische Wundererzaehlungen.
٢  De Bello Judaico, II, 119–121.
٣  «Therapeutes»: Vie Contemplative, VI, 49–71.
٤  Keim, Th., Aus dem Urchristentum.
٥  لوقا، ٩: ٣.
٦  ١ كو، ٧: ٨-٩.
٧  Sozomène, Hist. Ecc., I, 11, 12.
٨  Saint JérÔme, Vita Hilarionis, III, XIV, XXIV.
٩  Zeitschrift fur Wissenschaftliche Theologie, 1880, 129–165.
١٠  Weingarten, Realencyk. Prolest. Theol., X, 789.
١١  Labriolle, P., Débuts du Monachisme, Fliche et Martin, op. cit., III, 310.
١٢  Sozomène, Hist. Ecc., V, 10, 15.
١٣  Labriolle, P., op. cit., 346; Cavallera, F., Saint JérÔme, I, 127-128.
١٤  Patrologia Latina, Vol. 23, Col. 29–54.
١٥  Sozomène, Hist. Ecc., VI, 23-24; Baur, C., Chrysostomus und seine Zeit, I, 85 f.
١٦  Martin, P., Zeit. fur Katolische Theologie, 1880, 426–437.
١٧  Théodoret, Hist. Ecc., X.
١٨  تسريح الأبصار فيما يحتوي لبنان من الآثار، للأب هنري لامنس اليسوعي، ج١، ص١٠٩-١١٠.
١٩  Assaf, M., Synxarion, Jan. 1.
٢٠  Patrologia Graeca, Vol. 31, Col. 619–1428; Clarke, W. K. L., St. Basil the Great; Murphy, Sister, St. Basil and Monasticism.
٢١  كتاب اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية، تأليف البطريرك أغناطيوس أفرام الأول برصوم، ص١٩٦–٢٠٢؛ وله أيضًا الدرر النفيسة في تاريخ الكنيسة، ص٥٢٣–٥٢٦.
٢٢  Théodoret, Hist. Ecc., XVI, XXI, XXII, XXX.
٢٣  Chrysostomus, Epist., XXXVI.
٢٤  Dib. Mgr. Pierre, L’Eglise Maronite, 41.
٢٥  Cavallera, F., Saint JérÔme, Sa Vie et Son CEuvre, 2 Vols., Louvain, 1922; Monceaux, P., Saint JérÔme, la Jeunesse, l’Etudiant, l’Ermite, Paris, 1932.
٢٦  Morin, G., Qui est l’Ambrosiaster? Riv. Bib., 1914, I; Rev. Bénéd., 1928, 251.
٢٧  Helm, R., Hieronymus Zusatze in Eusibius Chronik.
٢٨  Libanius, Oratio, II, 32.
٢٩  Saint JérÔme, Chron., 248; Orose, Adv. Pag., VII, 33; Théodoret, Hist. Ecc., IV, 19.
٣٠  Labriolle, P., Saint Ambroise, 109–125.
٣١  Cod. Theod., XVI, 3.
٣٢  Cod. Theod., XI, 36.
٣٣  In Mat. Hom., VIII; Baur, C., Chrysos. und seine Zeit, I, 91 ff.
٣٤  Chrysostomus, Contre les Détracteurs de la Vie Monastique, I, 2 f, II, 6 f, III, Trad. Legrand, (Paris, 1933), 89 ff.
٣٥  De Gubernatione Dei, VIII, 4.
٣٦  Duchesne, L., Hist. Anc. de l’Eglise, II, 491.
٣٧  Baur, C., Chrysos. und Seine Zeit, II, 294.
٣٨  Labriolle, P., La Crise Montaniste, 126, 158, 320, 451.
٣٩  Schiwietz, Das Morgenlandische Monchtum, I, 303 ff.
٤٠  Olaf Hendriks, Activité Apost. des Premiers Moines Syriens, Proche-Or. Chrét., 1958, 25.
٤١  Socrates, Hist. Ecc., IV, 23.
٤٢  Saint JérÔme, Epist. LXVI, 3.
٤٣  Palladius, Hist. Laus., LXI, 2.
٤٤  Saint Augustin, Soliloq., I, 9, 17, Conf., X, 30, De Civitate Dei, XIV, 16; Chrysostomus, Saint Jean, De Virgin, XIV.
٤٥  Mansi, II, Col. 1095 ff.; Socrates, Hist. Ecc., II, 34; Sozomène, Hist. Ecc., III, 14.
٤٦  Labriolle, P., Morale et Spiritualité, Fliche et Martin, Hist. de L’Eglise, III, 382–384.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤