الفصل الثالث

البِدَع والفِرق والهرطقة في القرن الأول

سيمون الساحر

وظهرت البِدَع في عصر الرسل أنفسهم، فإنه جاء في الفصل الثامن من سِفر الأعمال أن سيمون الساحر السامري تنصَّرَ واعتمد، وأراد أن يشتري موهبة الروح القدس بالمال، فزجره بطرس الرسول وطرده: «وانحدر فيلُبس إلى مدينة السامرة، وجعل يكرز لهم بالمسيح، وكان قبلًا رجل اسمه سيمون يسحر في المدينة، ويُدهِش شعب السامرة مدَّعِيًا أنه شخص عظيم، فأصغوا إليه من صغيرهم إلى كبيرهم، قائلين: هذا هو قوة الله التي تُدعَى عظيمة. وإنما أصغوا إليه لأنه كان منذ زمانٍ كثير يخلبهم بسحره، فلما آمنوا بما كان فيلبس يبشِّرهم به من ملكوت واسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالهم ونساؤهم، وسيمون أيضًا آمن واعتمد ولزم فيلبس، وإذ عايَنَ ما كان يُجرى من القوات والآيات دهش، ولما سمع الرسل الذين في أوروشليم أن أهل السامرة قد قبلوا كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا، فانحدرَا وصلَّيَا من أجلهم لكي ينالوا الروح القدس؛ لأنه لم يكن قد حل على أحد منهم، سوى أنهم كانوا قد اعتمدوا باسم الرب يسوع، فلما رأى سيمون أنه بوضع أيدي الرسل يُعطى الروح القدس، عرض عليهما نقودًا قائلًا: أعطياني أنا أيضًا هذا السلطان؛ حتى ينال الروح القدس كلُّ مَن أضع يدي عليه. فقال له بطرس: لتذهب فضتك معك إلى الهلاك؛ لأنك ظننت أن موهبة الله تُقتنى بالنقود، فلا حصة لك ولا نصيب في هذا الأمر؛ لأن قلبك غير مستقيم أمام الله، فتُبْ من شَرِّك هذا وتوسَّلَ إلى الرب، عسى أن يُغفَر لك وهْمُ قلبك، فإني أراك في مرارة العلقم ورباط المعصية. فأجاب سيمون: توسَّلَا أنتما إلى الرب من أجلي؛ لئلا يُصيبني شيء مما ذكرتما.» ومما جاء في بعض المراجع أن سيمون انطلق بعد هذا إلى رومة فعظم شأنه، وهو قول ضعيف؛ لأنه مأخوذ عن نصوص غير معترف بصحتها كسِفر أعمال بطرس ورسالة الرسل وغيرهما من كتب الأبوقريفة.

ويقول القديس يوستينوس الذي انتسب إلى منطقة السامريين إن أتباع سيمون كانوا كُثرًا، وإنهم اعتبروه الإله الأعلى، وأشركوا معه إنوية Ennoia الفكر الذي انبثق عنه، فتجسد في امرأة اسمها هيلانة،١ ومما جاء في الدفاع ضد الهرطقة للقديس إيريناوس أن سيمون قال بإله ذكرٍ أعلى Sublimissima Virtus وبفكرٍ Ennoia منبثق عن هذا الإله الأعلى أنثى موازية له، وأن إنوية هذه خلقت الملائكة الذين خلقوا العالم، وأن هؤلاء الملائكة حبسوا إنوية في جسم امرأة، وأوقعوا بها أنواعًا من الإهانات، وأن إنوية هذه هي هيلانة امرأة مينيلاوس Menelaus الزانية في صور. ومما قاله سيمون بموجب رواية القديس إيريناوس أن الإله الأعلى أظهر نفسه بصفة الابن بيسوع بين اليهود، وبصفة الآب بين السامريين في شخص سيمون، وفي بلاد أخرى بصفة الروح القدس.٢
ومما نقله أفسابيوس المؤرخ عن هيغيسبوس Hegesippus أن مينانذروس الكبَّاراتي Menandros Capparatea، وذوسيثفس Dositheus، وكليوبيوس Cleobius، جميعهم ادَّعوا الألوهية في القرن الأول، وعلموا مثل ما علم سيمون الساحر. ويرى البعض أن مينانذروس تتلمذ على يد سيمون، وعلم في السامرة وأنطاكية.٣

ستورنينوس

ومن هؤلاء أيضًا ستورنينوس Saturninus، الذي علَّم في أنطاكية في عهد تريانوس الإمبراطور (٩٨–١١٧)، فصادَفَ نجاحًا ملموسًا، ومما يُعْزَى إليه أنه قال بإله واحد أب خلَقَ القوى والملائكة ورؤساءهم، وقال إن سبعة من هؤلاء الملائكة كوَّنوا العالم المنظور، ثم قُدِّر لهم أن يرمقوا الإله الأعلى بالرؤيا، فخلقوا الإنسان على صورة هذا الإله، ولكنهم جعلوه يزحف زحفًا فشمله الإله الأعلى بعطفه وحنانه؛ لأنه كان على مثاله، فأمر أن ينصب فيمشي على قدمَيْه. ومما يُعزَى إلى ستورنينوس أيضًا أنه جعل إله اليهود أحد هؤلاء الملائكة، وجعل الباقين مصدر وحي الأنبياء، وأشرك الشيطان في هذا الوحي في بعض الأحيان، وجعل الملائكة السبعة في نزاع متواصل مع الإله الأعلى، كما جعل هذا الإله يفصل عن نفسه مخلصًا؛ ليقضي على هؤلاء الملائكة ويخلص الإنسان أو أولئك البشر الذين أسعدهم الحظ بأن ينالوا من الإله الأعلى نعمةً تمكِّنهم من الخلاص. والمخلصُ في عُرْف ستورنينوس لم يُولَد ولادةً بشرية، ولم يكن له جسم بشري.٤
ورأى ستورنينوس أن الزواج والتوالد من أعمال الشيطان، وفرض عفة وزهدًا شديدين، ولم يدَّعِ الألوهية؛ فاحترمه الأنطاكيون وأعجبوا به.٥

كيرينثوس

واشتهر في هذا القرن الأول أيضًا مبتدع آخر اسمه كيرينثوس Cerinthos، ولا نعلم سنة ولادته كما أننا نجهل تاريخ وفاته، وجلُّ ما يمكن قوله عن أخباره الشخصية أنه كان يهوديًّا مصريًّا قدِمَ أوروشليم في أيام الرسل وأقام فيها، ثم انتقل إلى قيصرية فلسطين فأنطاكية وعلم فيهما، وألقى العصا في آسية الصغرى ولعله توفي فيها.
ومما دوَّنه القديس إيريناوس عن هذا المبتدع أنه أزعج يوحنا الحبيب بتعاليمه وضلاله؛ فاضطره أن يقول عنه لدى دخوله إلى أحد حمامات أفسس ووقوع نظره عليه: لنهرب مسرعين من هذا البيت قبل أن يتهدَّم علينا؛ فإن فيه كيرينثوس عدو الحق.٦ وقال هذا القديس أيضًا إن كيرينثوس أوجب حفظ السبت والاختتان وغير ذلك من فروض الناموس، وإنه ادَّعَى بأن السيد هو ابن يوسف ومريم، وأن ملاكًا من الملائكة خلق الكون، وآخَر الذي هو الله إله اليهود أعطى الشرائع والناموس، وأن شيئًا من الروح القدس المنبثق من الإله الأعلى حلَّ على يسوع عند اعتماده في الأردن، فرافقه حتى الصلب.٧ وأضاف القديس هيبوليتوس Hippolytus أن كيرينثوس نفى قيامةَ السيد بعد الصلب وأرجأها حتى قيامة «جميع الأتقياء».٨

الغنوسية

وأثر الغنوسية ظاهر في هذه التعاليم كلها، واللفظ اليوناني غنوسيس Gnosis معناه: المعرفة أو الحكمة، والغنوسية محاولة فلسفية دينية لتفسير الشر والخلاص منه، والغنوسيون قالوا بإله أعلى لا يُدرَك صدرت عنه أرواحٌ سمَّوها أيونات وأراكنة، وأن هذه صدرت زوجًا فزوجًا ذكرًا وأنثى، فتضاءلت في الألوهية كلما ابتعدت عن مصدرها الإله الأعلى. وقالوا إن أحد هذه الأراكنة أراد أن يرتفع إلى مقام الإله الأعلى، فطُرِد من العالم المعقول، ثم أضافوا أنه صدر عن هذا الأركون الخاطئ أرواحٌ شريرة مثله، وصدر العالم المحسوس الذي لم يكن ليوجد لولا الخطيئة؛ فهو والحالة هذه عالم شر ونقص بصانعه وبالمادة المصنوع منها. وقالوا أيضًا إن هذا الأركون الخاطئ حبس النفوس البشرية في أجسامها فكوَّن الإنسان، وإن هذه النفوس تتوق إلى الخلاص، وإن الناجين قليل؛ لأن الناس طوائف ثلاث متمايزة: طائفة أولى تشمل الروحيين الذين هم من أصل إلهي، وهم الغنوسيون صفوة البشر؛ وطائفة ثانية تتألف من الماديين، الذين لا يمكنهم الصعود فوق العالم السفلي؛ وطائفة ثالثة تجمع الحيوانيين الذي قُدِّر لهم الارتفاع والسقوط، النجاة والهلاك. واختلفوا في وسيلة النجاة؛ فمنهم مَن قهر الجسم وطرح كل ما يثقل النفس ويمنعها من الوصول إلى المقر الذي هبطت منه، ومنهم مَن قال بدناءة الجسم فأطلق العنان للشهوة. وعظموا الفراغ بين الإله الأعلى والعالم، وخشوا استحالة رجوع النفوس إلى هذا الإله، فقالوا بأيونات تصدر عن الإله الأعلى، ووجدوا فيها سلسلة من الوسطاء بين الأنفس والإله الأعلى، فإذا ما حاولَتِ الأنفسُ الاجتيازَ من عالمها السفلي إلى العلوي، قالت «كلمة السر» لكل أيون تصادفه وتحوَّلت إلى صورته. وكان القول بالوسطاء شائعًا؛ فسمَّاهم البعض مثلًا أخذًا عن الأفلاطونية، ودعاهم البعض الآخر «كلمات» Logos؛ أي القوى الطبيعية الكبرى بموجب الفلسفة الرواقية، وسمَّاهم فيلون اليهودي «الملائكة»، وغيره عبَّرَ عنهم ﺑ «الجن».٩

النصارى المتهودون

وهكذا فإن الرسل والتلاميذ والأساقفة الأولين عانوا مشقة شديدة في مكافحة هذه البدع والصمود في وجهها؛ كي لا تتسرب إلى أوساط المؤمنين الأولين، ولكن المشقة الكبرى جاءت من بعض فِرَق النصارى المتهودين؛ فإن بعض المسيحيين الأولين لم يذعنوا لقرارات مجمع السنة ٤٣-٤٤، ولم يباركوا عمل بولس الرسول وأتباعه في التبشير بين الأمم، والغريب المستغرب أنهم لم يقفوا عند هذا الحد من الاختلاف، بل تأثَّروا ببولس العظيم في آسية الصغرى وبلاد اليونان، مبينين خطأ الرسول، موجبين الاختتان وحفظ السبت وما شاكَلَ ذلك من فرائض الناموس، وعظم أمرهم فخشي بولس سوء العاقبة؛ فردَّ على هؤلاء برسائل ست بعَثَ بها إلى كنائس معينة، فلاقت رواجًا كبيرًا؛ فقد جاء في رسالته الأولى إلى أهل كورينثوس: «أدعي أحد وهو مختون فلا يَعُدْ إلى القلف، أدعي أحد وهو في القلف فلا يختتن، ليس الختان بشيء ولا القلف بشيء، بل حفظ وصايا الله، فليستمر كل واحد على الدعوة التي دُعِي فيها، أدعيت وأنت عبد فلا يهمك ذلك، ولكن إن أمكنك أن تنال الحرية فالأحرى أن تغتنمها؛ لأنه مَن دُعي في الرب وهو عبد فهو معتق للرب، وكذلك مَن دعي وهو حر فهو عبدٌ للمسيح، قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدًا للناس.»١٠ وأصغى المسيحيون في غلاطية إلى هؤلاء الدعاة، فاستحقوا وعظًا وإرشادًا شديدَي اللهجة، وكتب الرسول إلى أهل رومة بهذا المعنى فقال: «ليس اليهودي هو مَن كان في الظاهر، ولا الختان ما كان ظاهرًا في اللحم، بل إنما اليهودي هو مَن كان في الباطن، والختان هو ختان القلب بالروح لا بالحرف، ومدحه ليس من الناس بل من الله.»١١
ثم دخل في النصرانية المتهودة يهود آخرون، فأدخلوا آراء غريبة تمتُّ بصلة قوية إلى المذاهب اليهودية الرائجة آنئذٍ، وإلى الفلسفة الغنوسية اليونانية، ولاقت هذه الآراء أرضًا خصبة في وادي الليكوس Lycus بين فريجية وليدية وكارية في آسية الصغرى، وفي الأوساط المسيحية في هيرابوليس Hierapolis، واللاذقية، وكولوسي Colossae؛ فهرع إبفراس Epaphras «الحبيب» يخبر بولس بذلك في منفاه، فكتب بولس إلى أهل كولوسي يحذِّرهم «ألَّا يسلبهم أحد بالفلسفة والغرور بالباطل حسب سُنَّة الناس على مقتضى أركان العالم لا على مقتضى المسيح»، الذي «فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًّا»، وهم «مملوءون فيه وهو رأس كل رئاسة وسلطان»، وألَّا يحكم عليهم أحد «في المأكول أو المشروب، أو من قبيل عيد أو رأس شهر أو سبوت»، وألَّا يخيبهم أحد في جعالتهم مبدعًا مذهب تواضُع وعبادة للملائكة، وخائضًا في سبلٍ لا يبصرها.١٢

وهكذا فإنه يستدل من كلام بولس الرسول أن هؤلاء الدخلاء علموا بحفظ أعياد خصوصية وحفظ رءوس الأشهر وحفظ السبت، وأنهم حرَّموا بعضَ المآكل وأوصوا بعبادة الملائكة.

وينبِّه يوحنا الحبيب في رسالته الأولى إلى «مسحاء دجالين» كثيرين (٢: ١٨)، ويقول: «منَّا خرجوا، ولكنهم لم يكونوا منَّا؛ لأنهم لو كانوا منَّا لاستمروا معنا.» (٢: ١٩) ثم يستطرد فيقول: «مَن الكذاب إلا الذي يُنكِر أن يسوع هو المسيح.» (٢: ٢٢) ويرى أهلُ العلم أن الإشارة هنا هي للإبيونيين Ebionaioi، الذين تفرعوا عن كنيسة أوروشليم، وتفرقوا مبشرين معلمين أن المخلص هو ابن يوسف، وأن بولس مرتد عن الدين القويم، متمسكين بالإنجيل إلى العبرانيين، مستمسكين بالناموس، متخذين أوروشليم قبلةً لهم في صلواتهم.١٣ ويختلف رجال البحث في أصل هذا الاسم، فينسبه بعضهم إلى أبيون المؤسس — وهو قول ضعيف — ويقول آخرون إنه مشتق من العبرية إبيونيم ومعناه الفقراء، وإنه مأخوذ من الآية: «طوبى لكم أيها المساكين، فإن لكم ملكوت الله.»١٤
ويذكر يوحنا الحبيب في الفصل الرابع من رسالته الأولى، الأنبياءَ الكَذَبة الكثيرين الذين خرجوا إلى العالم، فيوجب على المؤمنين اختبارهم فيقول: «وبهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بأن يسوع المسيح قد أتى (في الجسد) فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع ليس من الله.» والفرق هنا هو بين مَن يعترف بتجسُّد الكلمة وبين مَن ينكر المسيح في ناسوته أو لاهوته، ولعل هؤلاء الملحدين هم الدوكينيون الذين قالوا إن يسوع المسيح لم يُولَد من لحم ودم، ولم يكن له جسد ولم يتألم ولكن شُبِّه لهم، واللفظ Dokein يوناني معناه لاح وبَدَا.١٥ وعاد يوحنا الحبيب إلى هؤلاء مرة ثانية في رسالته الثانية فقال: «لقد دخل إلى العالم مضلون كثيرون لا يعترفون بيسوع المسيح آتيًا في الجسد، هذا هو المُضلُّ والضدُّ للمسيح، كل مَن تعدَّى ولم يثبت في تعليم المسيح فليس له الله، ومَن يثبت في تعليم المسيح فهذا له الآب والابن جميعًا. إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلام؛ لأن مَن يسلم عليه يشترك في أعماله الشريرة.»
وينبه الرسول الحبيب في الفصل الثالث من رسالته الأولى إلى نوع ثالث من الضلال فيقول: «لا يضلكم أحد، مَن يفعل البر فهو بار، ومَن يفعل الخطية فهو من إبليس.» ويرى المجتهدون من علماء اليوم في هذا التنبيه إشارةً إلى ضربٍ من الأنتينومية Antinomism، التي ذرت قرنها منذ ذلك العهد، أي إلى القول بأن مَن يؤمن لا يخطئ، وبالتالي فلا يربطه ناموس.١٦
وتوجِّه رؤيا يوحنا الحبيب ما بين السنة ٧٥ والسنة ٨٥ إنذارًا إلى ثلاثٍ من الكنائس السبع التي في آسية إلى تيتيرة وبرغامون وأفسس، إنذارات بوجوب الابتعاد عن النيقولاويين، الذين يتمسكون بتعليم بلعام الذي علم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل «حتى يأكلوا من ذبائح الأوثان ويزنوا»، وتأخذ الرؤيا على ملاك كنيسة تيتيرة أنه يَدَع المرأة إيزابل الزاعمة أنها نبية تعلم وتضل العباد حتى يزنوا ويأكلوا من ذبائح الأوثان، ولا سيما أنها أُمهِلت مدةً لتتوب من زناها فلم ترضَ أن تتوب؛ ولذا فهي تُطرَحُ في فراش، والذين يزنون معها في ضيق شديد إن لم يتوبوا من أعمالهم، «ولسائر مَن في تيتيرة من جميع الذين ليس لهم هذا التعليم، والذين لم يعرفوا أعمال الشيطان، إني لا ألقي عليكم ثقلًا آخر، ولكن تمسَّكوا بما هو عندكم إلى أن آتي.»١٧
ولا نعلم بالضبط من هم هؤلاء النيقولاويون، ويذهب البعض إلى أنهم شيعة نيقولاوس الأنطاكي أحد الشمامسة السبعة الذين رسمهم الرسل، وأن نيقولاوس هذا ضل في الإيمان وخرج عن الكنيسة، ولكن مراجع أصحاب هذا الرأي متأخرة ونصوصها مبهمة غامضة؛ فلا بدَّ والحالة هذه من الاعتراف بأننا لا ندري مَن هم هؤلاء بالضبط؛ أما تعاليمهم التي استوجبت هذه الإنذارات الشديدة اللهجة، فإنها قد تكون من نوع التعاليم الأنتيمونية التي سبقت الإشارة إليها. وقد يكون الزنى المشار إليه في هذا الفصل من الرؤيا، هو النوع نفسه الذي ورد في الفصل الخامس عشر من سِفر الأعمال، ذاك الذي عُبِّرَ عنه بالكلمة اليونانية Porneia؛ أي التزاوج بين الأقرباء الذي نهى عنه الناموس، فإذا كان هذا هو الواقع يصبح النهي عن الزنى وعن الآكل من ذبائح الأوثان، نهيًا عن قلة الاكتراث بتعاليم التوراة والناموس وارتكاب ما يخلُّ بالآداب.١٨

هذه أهم أنواع البدع والهرطقات، التي اعترضَتْ في القرن الأول سُبَلَ الآباء في الكنائس في الشرق، وليس غريبًا أن تظهر هذه البدع والهرطقات في الشرق في القرن الأول من تاريخ الكنيسة؛ فالشرق كان لا يزال منذ عهد خلفاء الإسكندر أشد اهتمامًا بالفكر والفلسفة من الغرب، وأكثر إقبالًا على كل جديد.

١  S. Justinus, Apol., I, 26, 56; Dial., 120.
٢  S. Irenaeus, Haer., I, 23.
٣  Eusebius, Hist. Ecc., IV, 22.
٤  Eusebius, Hist. Ecc., IV, 22; Irenaeus, I, 23-24.
٥  Duchesne, Mgr, Louis, Early Hist. of Christian Church, 114–119.
٦  Irenaeus, Haer., III, 3; Eusebius, Hist. Ecc., IV, 14.
٧  Irenaeus, Haer. I, 26.
٨  Pseudo-Tert., 48; Epiph., 28; Philastr., 36.
٩  بتصرف عن تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم، ٢٤٤–٢٤٦.
١٠  رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورينثوس، ٧: ١٨–٢٤.
١١  رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية، ٢: ٢٨ و٢٩.
١٢  رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي، الفصل الثاني.
١٣  James, M. R., Apocryphal New Testament, Gospel of Ebonites, 8–10.
١٤  إنجيل لوقا، ٦: ٢٠؛ وإنجيل متَّى، ٥: ٣.
Barelle, G., Ebionites, Dict. Théol, Chrét.
١٥  Barelle, G., Docetisme, Dict. Théol. Chrét.
١٦  Goguel, M., Naissance du Christianisme, 445.
١٧  رؤيا يوحنا، ٢: ١٤ و١٨–٢٦.
١٨  Goguel, M., Les Nicolaites, Rev. de l’Hist. des Relig., 1937, 5–36.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤