الفصل الرابع

النُّظُم والعقائد في القرن الأول

الرُّسُل

وكانت أم الكنائس قد انتظمت حول الرسل الأطهار، معترفةً بسلطتهم المطلقة، صاغيةً لوعظهم وإرشادهم، طائعةً عن إيمان ومحبة، وتبعها في ذلك جميع الكنائس على الإطلاق.

واللفظ اليوناني Apostolos الذي يُطلَق في الأناجيل والرسائل على الرُّسُل الاثني عشر، وعلى قليلين غيرهم؛ مشتق من الفعل Apostellein، وهذا الفعل اليوناني مركب من Apo؛ ومعناه: بعيد، وStellein؛ ومعناه: أرسل أو أوفد. وقد ورد هذا اللفظ في الترجمة السبعينية للدلالة على حمل رسالة دينية ونقلها، ويؤكد أفسابيوس المؤرخ أن اليهود دعوا منذ عهد أشعيا مَن حمل منشور زعيم من الزعماء رسولًا، ويؤيد أفسابيوس كلٌّ من أبيفانيوس ومكاريوس المغنيسي، ويفيد أبيفانيوس أن يوسف الجليلي الذي عاصَرَ قسطنطين الكبير، وحمل رسالةً إلى يهود قيليقية سُمِّي لهذه الغاية رسولًا بوضع الأيدي. ويردُّ مكاريوس المغنيسي على بورفيريوس الفيلسوف فيقول إن الرسل الدجالين الذين أشار إليهم بولس الرسول، كانوا رسلًا من اليهود يحملون مناشير يهودية معينة.١
والرسول في سِفْر الأعمال هو أحد الاثني عشر الذين انتقاهم السيد المخلص، فتبعوه منذ اعتماده حتى صلبه، ومن هنا قول بطرس الرسول لمناسبة الخيانة التي ارتكبها يهوذا الأسخريوطي: «فينبغي إذن أن يُعين واحد من الرجال الذين اجتمعوا معنا في كل الزمان، الذي فيه دخل وخرج الرب يسوع بيننا، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع عنَّا ليكون شاهدًا معنا بقيامته.» وهؤلاء الرسل بموجب نص سِفر الأعمال هم الذين «اصطفاهم السيد وأوصى لهم بالروح القدس؛ ليكونوا له شهودًا في أوروشليم وجميع اليهودية وفي السامرة وأقصى الأرض». والرسل هم الذين «استقر عليهم الروح القدس في كل واحد منهم»، وهم أيضًا أولئك الذين «جرت على أيديهم آيات وعجائب كثيرة أهمها استحلال الروح القدس على غيرهم بالصلاة ووضع الأيدي».٢
ويقول مرقس الإنجيلي إن السيد اصطفى الرسل اصطفاءً، فإنه «فيما كان ماشيًا على شاطئ بحر الجليل، رأى سمعان وأندراوس أخاه يلقيان شباكًا في البحر، فقال: اتبعاني فأجعلكما صيَّادَي الناس.» وهم الذين انتقاهم بعد أن صعد إلى الجبل «ليكونوا معه وليرسلهم للكرازة، فأعطاهم سلطانًا أن يشفوا المرضى ويخرجوا الشياطين».٣ ويؤيد متَّى ولوقا ويوحنا هذه الرواية، ويضيف يوحنا أن الرب نفخ في الرسل بعد قيامته، وقال: «خذوا الروح القدس مَن غفرتم خطاياهم تُغفَر لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم تُمسَك لهم.»٤
وأطلق هذا اللقب على غير الرسل الاثني عشر، فقد جاء في الفصل الرابع عشر من سِفْر الأعمال أن بعض أهل أيقونية كان مع اليهود، وبعضهم مع «الرسولَين»، والإشارة هنا إلى بولس وبرنابا، وقد سلم بولس على أندروتيكوس ويونياس في رسالته إلى أهل رومية جاعلًا منهما «رسولين» في المسيح قبله (١٦: ٧). وجاء في الفصل الخامس عشر من رسالة بولس إلى أهل كورينثوس أن الرب تراءى لكيفا ثم للأحد عشر، ثم لأكثر من خمسمائة، ثم ليعقوب، ثم «لجميع الرسل». ويرى صاحب الذيذاخة أن كلَّ مَن حمل كلمة الله فهو رسول، وعندما يشير إلى الرسل الاثني عشر يستعمل اللفظين اثني عشر، ويبين أنه ليس للرسول العادي أن يمكث أكثر من يوم واحد في محل واحد، وأنه يجوز له أن يقيم يومين متتاليين عند الحاجة، ثم يؤكد أنه إذا أقام أكثر من يومين أصبح من الدجالين.٥

الأنبياء والمعلمون

«وكان في الكنيسة التي بأنطاكية أنبياء ومعلمون، منهم: برنابا، وسمعان الملقب بالأسود، ولوقيوس القيرواني، ومناين.»٦ والأنبياء والمعلمون في نظر بولس غير الناطقين بالألسنة، فالذي كان ينطق بالألسنة كان لا يكلم الناس بل الله، أما الذي تنبَّأ فإنه كلَّمَ الناس كلام بنيان وموعظة وتعزية،٧ وبعض هؤلاء في نظر كاتب سِفْر الأعمال أنبياء ينبئون بما سيقع من حوادث، فإن أغابيوس أنبأ بالروح أن ستكون مجاعة شديدة في جميع المسكونة، فوقع ذلك في أيام كلوديوس.٨
وليس في المراجع الأولية ما يخولنا تحديد صلاحيات هؤلاء الأنبياء، أو يمكِّننا من القول بأنهم حازوا درجةً معينةً من درجات الكهنوت، فاهتمام صاحب الذيذاخة بهم واعترافه بحقهم في أخذ باكورة المواسم، وفي دعوة المؤمنين إلى الاجتماع والتمتع بلقب «رئيس الكهنة»؛٩ لا يكفي وحده لجعلهم رؤساء الكنائس وأصحاب السلطة فيها؛ فإن ظروف التبشير والوعظ في القرن الأول قضت بتسهيل مهمة الأنبياء، ولا سيما وأن معظمهم كان متجولًا غريبًا لا يملك ما يعتاش به، ولا يمارس مهنةً تدرُّ عليه بالمال اللازم لقضاء حاجاته.١٠
أما المعلمون Dedascales، فإنهم كانوا يقومون فيما يظهر بالعمل نفسه الذي قام به الأنبياء؛ أي التبشير والإرشاد. والفرق بين الاثنين نشأ عن مصدر الوعظ، فالأنبياء اعتمدوا الوحي، والمعلمون اجتهدوا اجتهادًا.١١

الأساقفة

وتوجب الذيذاخة على المؤمنين انتخاب أساقفة وشمامسة مستقيمين أمناء مجربين ذوي سهولة ودماثة في الأخلاق لا يحبون المال، فتنيط بالأساقفة ممارسة أقدس الأسرار وأرفعها وتعلمهم الصلاة لهذه المناسبة.١٢ وكان قد سبق لبطرس الرسول أن دعا المسيح أسقفًا على النفوس١٣ ولبولس أن جعله وكيل الله، وأوجب أن يكون بغير عيب رجل امرأة واحدة، صاحيًا عاقلًا مهذبًا مضيفًا للغرباء، قادرًا على التعليم، غير مدمنٍ الخمر ولا سريع الضرب، بل حليمًا غير مخاصم ولا محب للمال، يُحسِن تدبير بيته، ويضبط أبناءه في الخضوع بكل عفاف.١٤
والأسقف Episkopos: لفظ يوناني مركب معناه الرقيب أو الناظر، وهو مؤلَّف من Epi؛ ومعناه: «على»، وSkopein؛ ومعناه: لاحظ أو راقب. وقد اجتهد ابن السكيت وغيره من علماء اللغة في أصل هذا اللفظ، فجعلوا كلمة أسقف مشتقة من السقف، وهو عندهم طول في انحناء، فقالوا سُمِّيَ أسقفًا؛ لأنه يتخاشع، وهو اجتهاد في غير محله، واللفظ Episkopos قديم العهد عند اليونان؛ فقد جاء في أشعار هوميروس أن الآلهة أساقفة على القيام بالعهود المقطوعة،١٥ وجاء في شرائع أفلاطون أن ذيكي أرسَلَ نمسيس أسقفًا ليؤدِّب الأولادَ عمَّا ارتكبوه من ذنوب ضد الوالدين.١٦ وورد هذا اللفظ نفسه في الترجمة السبعينية بمعنى المراقب،١٧ والحاكم،١٨ ورئيس الكهنة.١٩

الشيوخ

وتشير رسائل الرسل في كثير من الأحيان إلى زعماء الكنائس، فتجعلهم رؤساء أو مدبرين أو ملائكة أو رعاة أو أساقفة أو شيوخًا؛ فقد جاء في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكية، وفي فصلها الخامس إشارة إلى الذين يتعبون «ويرأسون»، كما جاء في رسالة بولس إلى أهل رومية في فصلها الثاني عشر أمرٌ يوجب على المعلم التعليم، والواعظ الوعظ، «والمدبر العناية». وجاء أيضًا في الفصل الثالث عشر من الرسالة إلى العبرانيين «اذكروا مدبريكم»، والكواكب السبعة في الفصل الأول من الرؤيا هم «ملائكة» الكنائس السبع، والمسيح في رسالة بولس إلى أهل أفسس وفي فصلها الرابع هو الذي جعل بعضًا رسلًا، وبعضًا أنبياءَ، وبعضًا مبشِّرين، وبعضًا «رعاة» ومعلمين، وليس في هذه النصوص ما يمكِّننا من التعرُّف بوضوح إلى نوع العمل، الذي كان يقوم به كلٌّ من هؤلاء الرؤساء والمدبرين والرعاة والأساقفة والشيوخ، أو إلى درجة السلطة التي كانوا يمارسونها.

وأكثر هذه الألقاب استعمالًا في رسائل الرسل الأسقف، وقد سبقت الإشارة إليه والشيخ Presbyleros، وليس في استعمال هذين اللقبين ما ينبئ بوضوح أن أحدهما كان أعلى رتبةً من الآخر؛ فالشيوخ هم رؤساء الكنائس في رسائل بطرس ويعقوب،٢٠ والأساقفة والشيوخ هم رؤساء كنيستَيْ فيليبي وأفسس، والرؤساء في الرسائل الرعائية هم أساقفة أحيانًا وشيوخ أحيانًا أخرى.
ويصعب التفريق بين الأسقف والشيخ في رسالة إقليمس الروماني إلى أهل كورينثوس،٢١ كما يتعذَّر العثور على أية إشارة واضحة إلى الشيوخ في نص الذيذاخة،٢٢ وقد يكون السبب في هذا كله أن تنظيم الكنائس في القرن الأول لم يكن واحدًا مطردًا فيها جميعها.٢٣

الدرجات في أوروشليم

ولا يختلف اثنان فيما نعلم في أن أم الكنائس كانت في أوائل عهدها أخوية تعمل بقلب واحد وروح واحد، وأن الرسل كانوا قطب الدائرة فيها، فهم الذين شهدوا قيامة الجسد، وهم الذين حملوا التعاليم، وهم أيضًا الذين نقلوا هَدْيَ الروح القدس إلى جمهور المؤمنين.

ويشير صاحب سِفْر الأعمال (١١: ٢٩-٣٠) إلى المساعدة المالية التي قدَّمها الأنطاكيون إلى كنيسة أوروشليم، فيقول إنها أُرسِلت إلى «الشيوخ» على أيدي برنابا وشاوول، ونقرأ بعد هذا أن بولس وبرنابا شكوَا أمرَ النزاع حول الاختتان إلى «الرسل والشيوخ»، وأن «الرسل والشيوخ» اجتمعوا لينظروا في هذا الأمر (١٥: ٢ و٦)، ثم نرى «الرسل والشيوخ وجمهور المؤمنين» يختارون رجلين منهم ليحملَا نص القرار في هذه المشكلة إلى الإخوة في أنطاكية (١٥: ٢٢)، فيقولون في متن هذا القرار: «لأنه قد رأى الروح القدس «ونحن» ألَّا نضع عليكم ثقلًا فوق هذه الأشياء» (١٥: ٢٨).

وهكذا فإنه يجوز القول بناءً على هذه النصوص إن الشيوخ في كنيسة أوروشليم شاركوا الرسل في إدارة أم الكنائس، واشتركوا معهم في تحمل المسئوليات، وأبدوا رأيهم في العقيدة، ونقلوا هدي الروح القدس مع الرسل الأطهار.٢٤ ويجوز القول أيضًا بناءً على الآيتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة في الفصل الخامس من رسالة يعقوب أخي الرب، وأسقف أوروشليم نفسها؛ إن هؤلاء الشيوخ لم يكونوا وجهاء نافذي الكلمة في كنيسة أوروشليم فحسب، بل كهنة يمارسون الطقوس:٢٥ «هل فيكم مريض فَلْيدعُ شيوخ الكنيسة، وليصلوا عليه ويمسحوه بالزيت باسم الرب، فإن صلاة الإيمان تخلص المريض والربُّ ينهضه، وإن كان قد ارتكب خطايا تُغفر له.»
واللفظ اليوناني الذي استُعمِل للدلالة على هؤلاء الشيوخ في المراجع الأولية هو الكلمة Presbyteroi؛ ومعناها الشيوخ المتقدمون، ولعلهم كانوا في أم الكنائس أقدم المؤمنين في نعمة الإيمان وأوجههم.٢٦
وجاء بعد الشيوخ في أم الكنائس الشمامسة، والشماس لفظ سرياني معناه خادم ديني، وهو يقابل اللفظ Diakonos اليوناني الوارد في سِفر الأعمال وغيره من الرسائل المقدسة، وقد سبق لنا وأشرنا إلى كيفية انتقاء الشمامسة السبعة الأولين، فإن المؤمنين انتخبوهم انتخابًا والرسل باركوهم بوضع الأيدي، فقاموا بمهام روحية منذ البدء، وأشهرهم أسطفانوس الشهيد، ولعل السبب الرئيسي لانتقائهم كان إشراك العنصر اليهودي الهليني في الخدمة قبل أن يكون مجرد خدمة موائد.٢٧

وضيَّق أغريبة على المؤمنين في أوروشليم وشدَّد عليهم، فاستشهد يعقوب بن زبدي، وأُلقِي بطرس في السجن وأفلت، وقضت حرارة الإيمان بالتبشير، فتفرق الرسل الاثنا عشر، وتزعم يعقوب أم الكنائس، وما فتئ حتى استشهاده في السنة ٦٢.

ويعقوب هذا هو «أخو الرب» وأخو سمعان ويوسي ويهوذا الرسول، وهو الذي قال عنه بولس أنه رأى الرب وحده،٢٨ وهو الذي يعتزُّ بولس بموافقته، فيذكره قبل بطرس ويوحنا.٢٩ ولا نعلم بالضبط متى قبِلَ يعقوبُ الرسالةَ، ولكن صاحب الإنجيل إلى العبرانيين يؤكد أن يعقوب أقسم في ليلة العشاء أنه لن يذوق طعامًا قبل قيامة المسيح من الموت، وأن المسيح بعد أن داس الموت ذهب إلى يعقوب هذا، وقال له: «كُلْ خبزَكَ؛ لأن ابن الإنسان قد قام من بين الأموات.»٣٠ وجاء في التقليد أن يعقوب أخا الرب كان قد اشتهر بين اليهود بالورع والتقوى والمحافظة على الناموس، وأنه كان قد تقدَّمَ على كهنتهم فلبس القميص والجبة والعمامة، ووضع الصحيفة الذهبية على عمامته، ودخل قدس الأقداس وحده.٣١ ومما أجمع عليه الآباء أن يعقوب أخا الرب امتنع عن اللحم والخمر، وتقشَّفَ وتعبَّدَ وأكثر السجود، ولم يحلق رأسه ولم يحتذِ حذاءً، ويقول إقليمس الإسكندري إنه لم يتقدَّم أحدٌ على يعقوب، فانتُخِب أسقفًا على أوروشليم في اليوم الأول بعد الصعود.٣٢
ويرى رجال الاختصاص من علماء الكنيسة أن نصوص سِفر الأعمال ورسائل بولس تجعل من يعقوب خلفًا للرسل في أوروشليم، يمارس سلطتهم، ويقوم بالأعمال نفسها التي قاموا هم بها في أثناء وجودهم في أوروشليم؛ فهو في نظر هؤلاء العلماء رئيس أم الكنائس، يعمل على إدارتها وسياستها بالتعاون مع شيوخها، كما يرأس الأسقف الكنيسة في عهدنا.٣٣

الدرجات في أنطاكية

وليس لدينا من النصوص الأولية ما يخولنا التبسُّط في وصف هذه الدرجات في أنطاكية وتعيين الصلاحيات اللاحقة بكلٍّ منها، وجلُّ ما يجوز قوله هو أن بطرس كان راعي هذه الكنيسة منذ نشأتها، وأن أفوذيوس حلَّ محله، فلما توفي هذا أو استشهد تسلَّمَ زمامَ الأمور في هذه الكنيسة أغناطيوس ثيوفوروس؛ أي حامل الإله.

ومما لا ريب فيه أيضًا أن برنابا بذل بسخاء من وقته ونشاطه في خدمة الكلمة في أنطاكية، وأن عددًا من الأنبياء والمعلمين أقاموا في أنطاكية واشتركوا في تدبير كنيستها، وقد سبقت الإشارة إلى أسمائهم والظروف التي اقتادتهم إلى أنطاكية؛ فَلتُراجَع في محلها. وجلُّ ما لدينا عن صلاحياتهم مضمون الآية: «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس: افرزوا لي برنابا وشاوول للعمل الذي دعوتهما إليه. فصاموا حينئذٍ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي وأطلقوهما.»٣٤
ويجوز القول أيضًا إن مجمع الرسل والشيوخ في أوروشليم استمع إلى بولس وبرنابا يشرحان أمر المشادة، التي نشبت في أنطاكية حول ختن الأمميين فيها قبل دخولهم في النصرانية؛ وإن بطرس اشترك في البحث، وإن يعقوب أخا الرب قال كلمته أيضًا، فاتخذ المجمع قرارًا، وأوفد يهوذا وسيلا إلى أنطاكية؛ لينقلا قراره إلى الإخوة الأمميين في أنطاكية وسورية وقيليقية.٣٥

الدرجات في الكنائس المجاورة

وبشَّرَ بولس وبرنابا في قبرص وآسية الصغرى، وأسَّسَا الكنائس «وانتخبَا للمؤمنين شيوخًا Presbyleroi، ثم صلَّيَا بأصوام واستودعاهم للرب الذي كانوا قد آمنوا به.»٣٦
«ومن ميليتس أرسل بولس إلى أفسس، واستدعى شيوخ الكنيسة Presbyteroi، وقال لهم: ها أنا أذهب إلى أوروشليم مقيدًا بالروح، لا أعلم ماذا يصادفني هناك، فاحترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها «أساقفة»؛ لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.»٣٧ وهكذا فإننا نرى الرسول المؤسس مدبِّرًا أعلى لكل كنيسة أسَّسها في آسية الصغرى، ونراه أيضًا يقيم شيوخًا محليين في هذه الكنائس يدعوهم أساقفة في بعض الأحيان لرعاية الكنيسة.٣٨
وينبئنا البطريرك أفتيشيوس أن رئيس كنيسة الإسكندرية كان في بادئ الأمر الأول بين أقرانه الشيوخ أو الأساقفة Primus Inter Pares،٣٩ وكان هؤلاء يقيمونه رئيسًا بوضع الأيدي، كما أقام شيوخ أفسس تيموثاوس أسقفًا عليهم،٤٠ ولعل السبب في ذلك أن أسقف الإسكندرية ظلَّ الأسقف الأوحد في مصر حتى أوائل القرن الثالث، فالأسقف ديمتريوس الثالث (١٨٩–٢٣٢) كان أول مَن سام أساقفة في مصر خارج الإسكندرية، ولنا في نص اﻟ Ambrosiasler ما يؤيد هذه النظرية؛ فقد جاء في هذا المرجع الأولي (القرن الرابع) أن لكهنة مصر حق التثبيت في حال خلوِّ الكراسي من الأساقفة.٤١
وتطل علينا السنة ٩٧ فإذا بالقديس إقليمس الروماني، يحاول حل الخلاف الذي نشب في كنيسة كورينثوس، فيحثُّ المؤمنين على المحبة والتوبة والتواضع، ويذكرهم بأن السيد نفسه رفع الرسل إلى مرتباتهم، وأن الرسل هم الذين أقاموا الأساقفة والشمامسة، وأن هؤلاء انتخبوا خلفاءَهم، وأن الخضوع لهؤلاء واجب.٤٢

الذيذاخة

ويجيء القرن التاسع عشر، فيحرك الروح فيلوثيوس متروبوليت نيقوميذية، فيجد في السنة ١٨٧٣ نسخةً قديمة من «تعاليم الرسل» للأمميين الراغبين في تقبُّل رسالة السيد المخلص، ويتهافت علماء الكنيسة على قراءتها ودرسها، فتنقل في السنة الأولى لظهورها مطبوعةً إلى لغات الغرب (١٨٨٣).

والذيذاخة لمؤلف مجهول من أعيان كنيسة أنطاكية (أو مصر) عاش ما بين السنة ٥٠ والسنة ١٥٠، وجمع في كتاب واحد التعاليمَ المنقولة عن الرسل التي يجب تلقينها للأمميين الراغبين في الدخول في النصرانية.٤٣
ويتضح من هذه الذيذاخة أن نظام الكنيسة عند نهاية القرن الأول قضى بالاعتراف بسلطة الأنبياء بعد الرسل، وسلطة المعلمين واﻟ Episcopoi-Presbyteroi فالشمامسة.٤٤

الأسرار

ومارَسَ المؤمنون في القرن الأول أسرارًا ثلاثة: المعمودية، ووضع الأيدي، وكسر الخبز. فكان على المؤمن أن يعتمد باسم الرب أولًا ليتحد بشخص المسيح السري الذي كان ولا يزال حيًّا بالكنيسة، وكان عليه أن يتثبت بوضع الأيدي ليتغلغل في نفسه فعلُ الروح القدس فيطهِّرها، وباشتراكه بسر الأفخارستيه كان يترجى الاتحاد مع الحاضر تحت أعراض الخبز والخمر.٤٥

الليتورجية والطقوس

وكان على المسيحي في القرن الأول أن يصلي ثلاث مرات في اليوم الواحد،٤٦ وذلك في الساعة الثالثة والسادسة والتاسعة،٤٧ أي في الساعة التاسعة صباحًا، وعند الظهر، وفي الساعة الثالثة بعده، وكان عليه أن يصلي واقفًا حاسر الرأس رافع اليدين حتى الكتفين، وحضت الذيذاخة المؤمنين على الاتصال في كل يوم بالقديسين أيْ بإخوانهم المسيحيين؛ ليجدوا في كلامهم عزاءً وغذاءً للنفوس، وأوجبت التراضي والاعتراف بالخطايا قبل تقديم الذبيحة الإلهية في يوم الأحد.٤٨ والصلواتُ في الذيذاخة: الصلاةُ الربانية، وصلاةُ المعمودية، وصلاةُ الذبيحة المقدسة، وقد جاءت الصلاة الربانية متوَّجةً بالذوكسولوجية: «لأن لك القوة والمجد إلى الأبد.»٤٩
ولا نعلم الشيء الكثير عن المعمودية في القرن الأول؛ فالذيذاخة توجب وعظ المهتدين وتدريبهم في مبادئ النصرانية، وتفرض صوم يوم أو يومين على كلِّ مَن يصبح مستعدًّا للمعمودية، وتحضُّ مرشده وغيره من المؤمنين على الاشتراك معه في الصوم التمهيدي، وتعين الذيذاخة أيضًا نوع المياه، فتوجب الاعتماد بالمياه الجارية، ولكنها تسمح باستعمال غيرها في حال تعذُّرها، كأنْ تجمع كمية كافية من المياه في أحد الأوعية، وهي تجيز تسخينَ المياه في بعض الأحيان، والتغطيس واجب، وقد يكتفى بالرش إذا قضَتِ الظروف باللجوء إليه. ويجب على مَن يتولَّى أمر التعميد أن يعمد باسم الآب والابن والروح القدس،٥٠ ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا لم يكن كل ما في المعمودية، وأن المسيحيين آنئذٍ قالوا بماء جاء في رسالة بطرس الأولى (٣: ٢١)، فاعتبروا الماء «رمزًا لاختيار الضمير الصالح الذي يخلصهم بقيامة يسوع المسيح»، كما قالوا مع بولس الرسول «برب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة»،٥١ ومع فيليبوس والخصي «بأن يسوع المسيح هو ابن الله».٥٢
ويجب ألَّا يغيب عن البال أن اليهود مارسوا آنئذٍ معمودية شابهت في بعض مراحلها ومظاهرها معمودية النصارى، فإنهم أوجبوا على الداخل في دينهم أن يتعلم مبادئ هذا الدين، وأن يُختتَن ويُعمَّد بالماء،٥٣ ولكن هذا التشابه وسكوت الذيذاخة عن مغفرة الخطايا وعن المقصود بالضبط من العبارة باسم الآب والابن والروح القدس، وعدم توضيح علاقة المسيح بالمعمودية، لا يعني أن معمودية الذيذاخة تقع في صعيد واحد مع معمودية اليهود؛٥٤ فالسكوت لا يُتَّخَذ حجة Argumentum ex Silentio إلا في ظروف منطقية يصعب توفرها في غالب الأحيان، وهي غير متوفرة في هذه الحالة، وقد سبقت الإشارة إلى هذا النوع من الخطأ في عرض الكلام عمَّا قاله بعض العلماء المتحذلقين عن دور السيدة العذراء في أداء الرسالة، فَلْيُراجَع في محله.
ومارس المسيحيون في القرن الأول سر الأفخارستية؛ فقاموا باكرًا في يوم الرب في الساعة نفسها التي تغلَّبَ فيها على الموت، وأموا الكنيسة للصلاة، فبارك الأسقف وشكر من أجل الخبز والخمر، وناول مَن اعترف بالخطايا وتقدَّمَ بنية صالحة وقلب طاهر،٥٥ «فإذا قدَّمت قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أن لأخيك عليك شيئًا، فدَعْ قربانك هناك أمام المذبح وامضِ أولًا، فصالح أخاك وحينئذٍ ائتِ وقدِّم قربانك.»٥٦
ورُبَّ معترض يقول: ولكن الذيذاخة لا تذكر الاستحالة. وجوابنا على هذا ذو حدين: أولهما أن المسيحيين كانوا قد أجازوا التقية للتحاشي وللمحافظة على قدسية هذا السر، والثاني أن السكوت لا يكون حجةً إلا بشروط معينة لا تتوفر في هذا المقام.٥٧
وتناول المسيحيون في عشية الأحد عشاء الأغبة Agapé؛ أي المحبة، مجتمعين حول مائدة واحدة ناظرين في أمورهم المشتركة، ولا سيما في حاجة المعوزين منهم، وبدءوا حفلتهم بالشكر وأنهوها بالشكر وبقبلة المحبة، وكان الروح يرافقهم ويحل على بعضهم، فيتكلمون بلغات أو يتنبئون.٥٨ وأساء بعض الكورنثيين السلوكَ في هذه الحفلات المسائية، فاستحقوا تأنيب بولس الرسول: «فحين تجتمعون معًا ليس هو لأكل عشاء الرب؛ لأن كل واحد يسبق، فيأخذ عشاء نفسه في الأكل، فالواحد يجوع والآخَر يسكر، أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا؟»٥٩

الدوغمة أو العقيدة

وتوجب الذيذاخة على المؤمن القول بإله واحد في أقانيم ثلاثة؛ الآب والابن والروح القدس، والله في هذه الذيذاخة هو الآب السماوي الخالق ذو القدرة والجلال، به كان كل شيء وبدونه لم يكن شيء، له المجد إلى الأبد باسم ربنا يسوع المسيح، ويسوعُ المسيح ابن الله وربنا ومخلصنا، وهو حي في كنيسته وسيجيء في يوم الدينونة، والروح القدس هو الله مع الآب والابن وقد نطق بالأنبياء، وكنيسة الله جامعة مقدسة!

١  Epiphaneos, Haer. XXX, 4 ff; Makarios, III, 22, 29.
٢  سِفْر الأعمال، ١: ٢١-٢٢، و٢: ١–٤، و٥: ١٢، و٨: ١٤–٢٤.
٣  إنجيل مرقس، ١: ١٦–٢٠، و٣: ١٣.
٤  إنجيل يوحنا، ٢٠: ١٩–٢٤.
٥  Kleist, J. A., Didache, 11.
٦  رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورينثوس، ١٣: ١؛ سِفْر الأعمال، ١٣: ١.
٧  رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورينثوس، ١٤: ٢-٣.
٨  سِفْر الأعمال، ١١: ٢٧-٢٨.
٩  Kleist, J. A., Didache, 11, 13.
١٠  وهنالك مَن يجتهد في نص الذيذاخة، فيخلص إلى التفريق بين النبي العادي الضارب في الأرض، وبين النبي المستقر في كنيسة متينة، فيجعل من هذا الأخير رئيسًا على كنيسته.
Prophéte: Dict. Apolog. de la Foi Cath., I, 1768; Goguel, M., Eglise Primitive, 141–144.
١١  Mourret, Rev. Fernand, S. S., Hist. of Cath. Church, I, 83.
١٢  Didache, 15.
١٣  رسالته الأولى، الفصل الثاني.
١٤  رسالته إلى تيطس وتيموثاوس.
١٥  الإلياذة، ٢٢: ٢٥٤ وما بعده.
١٦  الشرائع، ٤: ٧١٧.
١٧  سِفْر أيوب، ٢٠: ٢٧.
١٨  سِفْر المكابيين الأول، ١: ٥.
١٩  نحميا، ١١: ٩؛ Reville, J., Orig. de l’Episcop, I, 152 ff.
٢٠  رسالة بطرس الرسول الأولى، ٥: ١–٥؛ ورسالة يعقوب، ٥: ١٤.
٢١  Kleist, J. A., Epistle of Clement of Rome, 21, 42, 44, 47, 54, 57.
٢٢  Kleist, J. A., Didache. Introduction, PP. 4 and 6.
٢٣  Prat, F., Evéques, Dict. Théol. Chrét.; Goguel, M., Eglise Primitive, 137–144.
٢٤  Colson, J., L’Evéque dans les Communautés Primitives, “Unam Sanctam” 17–21.
٢٥  Zeller, J., La Vie Chrét. a la Fin du Premier Siécle (Fliche et Martin), I, 271.
٢٦  Colson, J., op. cit, 18.
٢٧  Colson, J., op. cit., 18, N. 2; Goguel, M., Naissance du Christianisme, 190-191.
٢٨  رسالة بولس الأولى إلى أهل كورينثوس، ١٥: ٧.
٢٩  رسالة بولس إلى أهل غلاطية، ٢: ٩.
٣٠  Jérome, De Virris Inl., 2.
٣١  Eusèbe, Hist. Ecc. II, 23; Epiphanios, Haer., XXIX, 4, LXXVIII, 13.
٣٢  Eusèbe, Hist. Ecc., II, 1, 2.
٣٣  Colson, J., op. cit., 21–26.
٣٤  سِفر الأعمال، ١٣: ٢-٣.
Goguel, M., Naissance du Christianisme, 211–220; Loisy, A., Actes, 501.
٣٥  سِفْر الأعمال، ١٥: ٢٢–٢٧.
٣٦  سِفْر الأعمال، ١٤: ٢٣.
٣٧  سِفْر الأعمال، ٢٠: ١٧ و٢٢ و٢٨.
٣٨  Colson, J., op. cit., 39–44.
٣٩  Patrologia Graeca, Vol. 61, 982.
٤٠  رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس، ٤: ١٤.
٤١  Ambrosiaster, Eph., 4, 11 ff.
٤٢  St. Clement of Rome, Epistles, Newman, 42–44.
٤٣  Quaesten, J., Initiation aux péres de l’Eglise, I, 36–48.
٤٤  Kleist, J. A., Didache, 11–15.
٤٥  Batiffol, P., Etudes d’Hist. et de Théol. Positive, I, 1–41.
٤٦  Didache, 11.
٤٧  Clement of Alexandria, Stromata, 7.
٤٨  Didache, 4, 14, 16.
٤٩  سِفْر أخبار الأيام الأول، ٢٩: ١١؛ «لك يا رب العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد.»
٥٠  Didache, 7.
٥١  رسالته إلى أهل أفسس، ٤: ٥.
٥٢  سِفْر الأعمال، ٨: ٣٧.
٥٣  Abraham, I., How Did the Jews Baptize? Journ. Theol. STudies, London, 1910, 437–445, 609–612; Benoit, A., Baptéme Chrétien, 12–16.
٥٤  Benoit, A., op. cit., 24–33.
٥٥  Didache, 14, 15.
٥٦  إنجيل متَّى، ٥: ٢٣-٢٤.
٥٧  Cagin, P., Te Deum ou Illatio, 342; Souben, Canon Primitif de la Messe, 12; De Rossi, G. B., Bull. Arch. Crist, 1886, 23.
٥٨  Tertullianus, Apolog., 39; Baumgartner, E., Eucharistie und Agape im Urchristentum; Battiffol, P., Nouvelles Etudes, Rev. du Clergé Francais, LX, 513.
٥٩  رسالته الأولى إلى أهل كورينثوس، ١١: ٢٠–٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤