الفصل السابع

مشكلة عيد الفصح

١٥٤–١٩٨

وذكر المسيحيون الأولون صَلْب السيد وموته وقيامته في صبح كل أحد، فأموا الكنيسة باكرًا؛ ليجتمعوا ويصلوا ويذكروا الرب في مثل الساعة نفسها التي قهر فيها الموت، وأفردوا بالإضافة إلى هذا ثلاثة أيام متتالية مرة في كل سنة لذكر القيامة والآلام، فجعلوها تبدأ في الرابع عشر من نيسان القمري العبراني، وتنتهي في السادس عشر منه، وذلك لورود الآية: «وبلغ يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح.»

واختلف المؤمنون الأولون في اليوم الذي يذكرون فيه الآلام، وفي اليوم الذي يبتهجون فيه بالقيامة؛ فكنائس آسية الصغرى وقيليقية وسوريا الشمالية وبين النهرين كانت تقيم هذه الذكرى في أي يوم من الأسبوع وافَقَ وقوعه الرابع عشر من نيسان أو السادس عشر منه، أما كنائس بلاد اليونان وإيطالية وأفريقية ومصر وفلسطين والبونط، فإنها خصت يوم الجمعة وحده بالآلام ويوم الأحد بالقيامة، وكانت في السنين التي لا يوافق فيها الرابعُ عشر من نيسان يومَ جمعة، تذكر الآلام في أول يوم جمعة بعده ومثله يوم الأحد للقيامة.

واقترن هذا الخلاف بخلاف آخر، فاعتبرت كنائسُ آسية الصغرى ومَن شدَّ أزرها يومَ الآلام يومَ تحرير من العبودية وخلاص، فكانت تفرح في يوم موت الرب وتحل الحزن والصوم معًا مستشهدة بيوحنا الحبيب وبفيليبوس أيضًا، أما الكنائس الأخرى فإنها كانت تعتبر يوم الصلب يوم حزن، فلا تسمح بحل الصوم قبل تذكار القيامة، وكانت تستشهد بتعاليم بطرس وبولس في ذلك.١

واستمر هذا الخلاف وقتًا طويلًا، ولكنه لم يقطع ربط السلام والمحبة بين الكنائس، ثم كثر عدد المسيحيين وتغربوا، فاضطروا أن يقيموا في بلدان جرت كنائسها على غير عادة كنائسهم، فساءهم كما ساء غيرهم أن يختلفوا في موعد العيد الكبير، ولكنهم واظبوا على ممارسة التقاليد الموروثة بسلام ومحبة، وكثر عدد المسيحيين الآسيويين في رومة وجروا على عادتهم الخاصة في ممارسة عيد الفصح، ولم يعترضهم أسقف واحد من أساقفة رومة قبل فيكتور، ولم يقطعوا أحدًا من الشركة، بل إنهم ذكروا هؤلاء الآسيويين في صلواتهم، وأرسلوا لهم الأفخارستية في حينه.

بوليكاربوس وأنيقيطس (١٥٤)

وجاءت سنة ١٥٤ وكان القديس الشهيد بوليكاربوس أسقف أزمير قد ناهز الخامسة والثمانين، فقام إلى رومة لقضاء مصالح متعددة منها النظر في مسألة الفصح، والتقى بزميله أنيقيطس أسقف رومة وبحث معه أمر الخلاف، فاستمسك كل منهما بتسليم الرسل كما مارسه، ولم يستطع أحد منهما أن يقنع الآخر، ولم يؤثر هذا الاختلاف في ربط المحبة الأخوية، فإن الاثنين اشتركا في خدمة القداس الإلهي، وعند تقديس القرابين تنحى أنيقيطس لبوليكاربوس؛ لأنه كان شيخًا طاعنًا في السن، ورجلًا رسوليًّا تلميذًا ليوحنا الحبيب وأقرب منه إلى الرسل، ولا نرى في النصوص الأولية ما يبرر استنتاج المؤرخ شميدت الألماني في أن بوليكاربوس وُجِدَ في رومة في فصل الربيع، وأنه بعد اختلافه في الرأي مع زميله الأسقف الروماني أقام خدمة قداس الفصح لجماعته الآسيويين، بينما أقام أسقف رومة قداسًا آخر للرومانيين.٢

مليتون وبلاستوس

واستشهد بوليكاربوس في السنة ١٥٥ وحذا حذوه أنيقيطس في السنة ١٦٦، وظل الخلاف قائمًا بين المؤمنين، وتكاثرت صفوف الهراطقة وتراصت، وحوالي السنة ١٧٠ انبعثت حركة التهود في كنيسة لاذقية فريجية، فهبَّ مليتون يصنف في عيد الفصح، ونهض أبوليناريوس هيرابوليس يقاوم التهود بكل ما أُوتِيَ من حكمة ومقدرة،٣ وخشي كل من أقليمس الإسكندري وهيبوليتوس العلاقة بين رأي الآسيويين المسيحيين وبين فكرة الفصح عند اليهود، فصنفا في عيد الفصح دفاعًا عن الدين القويم، ولكن شيئًا من هذين المصنفين لم يبقَ حتى عهدنا هذا.٤

فيكتور وبوليكراتس

ودب الشقاق إلى كنيسة رومة نفسها من جراء ما قاله بلاستوس Blastus، فهرع فيكتور أسقفها (١٨٥–١٩٧) إلى درس الموقف مجددًا، ورأى من مصلحة الكنيسة جمعاء أن تقول كلمتها في عيد الفصح، فكتب بذلك إلى بوليكراتس أسقف أفسس، ولعله كتب إلى غيره من الأساقفة أيضًا، ولم يأمر فيكتور أسقف رومة بوليكراتس أمرًا بذلك، بل رجاه رجاء فيما يظهر، فالكلمة التي أشار بها بوليكراتس إلى رغبة فيكتور في الاجتماع هي Exiosate ومعناها رمتم أو طلبتم،٥ أما رسالة فيكتور فإنها ضائعة!
والثابت الراهن هو أن أساقفة الشرق عقدوا قبيل نهاية القرن الثاني مجامع مكانية في قيصرية فلسطين وفي البونط وغلاطية، وبين النهرين وكورينثوس، بحثوا فيها أمر الفصح، وأقروا رأيًا واحدًا وهو أن تراعى عادة ذكر القيامة يوم الأحد، وألَّا يُحل الصوم إلا فيه.٦

مجمع قيصرية فلسطين (١٩٨)

وجاء في كتاب الاعتدال الفلكي٧ لبيد المحترم Venerable Bede (٦٧٣–٧٣٥) أن مجمع قيصرية انعقد برئاسة ثيوفيلوس أسقف قيصرية ونركيسس أسقف أوروشليم، وبحضور كاسيوس أسقف صور وكلاروس أسقف عكة وغيرهما، فتداول الأساقفة كيفية خلق العالم، فأقروا أن يوم الرب هو أول أيام الخلق والسبت آخِرها، ثم بينوا أن الربيع هو أول فصول السنة، وأن العالم وُجد في الخامس والعشرين من آذار، حينما كانت الشمس في وسط المشرق والقمر بدرًا، ثم شرعوا بتعيين عيد الفصح، فأجمعوا على أن يقع في يوم الرب؛ لأن الظلام انقشع في هذا اليوم وأشرق النور، ولأن الشعب تحرر فيه من أرض مصر كما من ظلام الخطيئة، ولأن الشعب مُنِحَ فيه طعامًا سماويًّا، ولأن موسى أوجب تكريمه، ولأن المرتل قال عنه إنه اليوم الذي نبتهج ونفرح فيه، ولأنه هو اليوم الذي قام فيه الرب.٨
وبعد أن تمَّ كل هذا كتب الأساقفة المجتمعون في قيصرية فلسطين إلى إخوانهم في الكنائس الأخرى؛ ليجتهدوا فيرسلوا صورة رسالتهم إلى الكنائس لئلا «يصيروا سببًا للذين يخدعون أنفسهم بسهولة»، وأضافوا: «ونعلمكم أنه في اليوم الذي نحتفل فيه نحن يحتفلون في الإسكندرية أيضًا، وقد تبودلت بيننا وبينهم رسائل حول هذه المسألة لكي نحتفل معًا بهذا اليوم المقدس.»٩

بوليكراتس أسقف أفسس

وتشاور أساقفة آسية الصغرى، فأصروا على إبقاء القديم على قدمه، وكتب بوليكراتس أسقف أفسس بذلك إلى أسقف رومة، فانتفض فيكتور وكتب يهدد بالقطع، فجمع بوليكراتس مجمعًا مكانيًّا اشترك فيه خمسون أسقفًا، وبعد التداول كتب بوليكراتس بلسان مجمعه يؤكد أنهم لا يزيدون على التسلم الرسولي ولا ينقصون منه، وأنه رقد في بلادهم يوحنا الذي اتكأ على صدر الرب، وفيليبوس أحد الاثني عشر، وبوليكاربوس الشهيد، وأن هؤلاء جميعهم حافظوا على اليوم الرابع عشر للفصح وفقًا للإنجيل؛ ومما قاله بوليكراتس موجهًا كلامه إلى كنيسة رومة: «أنا أصغركم جميعًا، وما دام لي خمس وستون سنة في الرب، وقد اجتمعت بالإخوة الذين من المسكونة، وقرأت كل كتاب مقدس، لا أجزع ولا أخاف؛ لأن الذين هم أعظم مني قالوا إنه يجب الخضوع لله أكثر من البشر، وكنت أستطيع أن أذكر الأساقفة الحاضرين معي الذين «رمتم» أنتم أن أجمعهم، وقد جمعتهم ووافقوا على الرسالة لعلمهم أني لم أحمل هذه الشيبة عبثًا، بل سلكت بالرب دائمًا.»١٠

تدخُّل إيريناوس

ومما جاء في تاريخ أفسابيوس أن فيكتور أسقف رومة غضب، وأراد أن يعتبر كنائس آسية خارجة عن الدين القويم، فاعترضه في ذلك عدد من الأساقفة، وكان بين هؤلاء إيريناوس القديس أسقف ليون، فإنه كتب يقول: «إن الخلاف ليس في اليوم فقط، بل في نوع الصوم أيضًا، وإن هذا الاختلاف لم يحدث في أيامنا فقط، بل قبلنا بكثير في عهد أسلافنا، ومع ذلك كانوا ولا يزالون متسالمين، ومنهم الشيوخ الذين تولوا الكنيسة التي تتولاها أنت إلى الآن، وكانوا يشتركون وهم غير محافظين مع الآتين إليهم من الكنائس المحافظة.» ويعلق أفسابيوس فيقول إن فيكتور اتبع نصيحة أسقف ليون، وإن إيريناوس استحق شكر الكنيسة لعمله السلمي.١١
ولا نعلم بالضبط متى عدل الآسيويون عن تقليدهم الخاص،١٢ ولا يجوز القول إن ذلك تمَّ في مجمع نيقية؛ لأن مشكلة الفصح التي أُثيرت أمام المجمع المسكوني الأول لم تكن التي بُحثت في أواخر القرن الثاني.١٣
١  Eusèbe, Hist. Ecc., V, 23–25.
اطلب أيضًا رأي الأستاذ بومشتارك Baumstark في نقده لكتاب شميدت عن عيد الفصح في آسية الصغرى، في مجلة اللاهوت الألمانية Theologische Revue، في أعداد السنة ١٩٢١، ص٢٦٤ وما يليها.
٢  Schmidt, C., Die Passahfeier inder Kleinasiatichen Kirche, 577–725.
٣  Eusèbe, Hist. Ecc., V, 26; Chronique Pascale Prooemium, Patr. Gr., Vol. 42, Col. 80.
٤  Lebreton, J., Querelle Pascale, Fliche et Martin, Hist. de l’Eglise, II, 90.
٥  Eusèbe, Hist. Ecc., V, 24.
٦  Hefele-Leclerq, Hist. des Conciles, I, 150 ff.; Batiffol, L’Eglise Naissante, 271 ff.
٧  Commentarius de Aequinoctio Vernali.
٨  وقد سبقنا إلى هذه الخلاصة بالعربية المطران سويروس يعقوب في كتابه الكنيسة السريانية الأنطاكية، ج١، ص١٢١-١٢٢.
٩  Eusèbe, Hist. Ecc., V, 26.
١٠  Eusèbe, Hist, Ecc., V, 24.
١١  Eusèbe, Hist. Ecc., V, 24.
١٢  Schmidt, C., op. cit. 725.
١٣  Lebreton, J. op. cit., II, 93.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤