الملحق «ب»: المعرفة والمنطق

المنطق هو دراسة التفكير في معرفة معينة. إنه عام على نحوٍ تامٍّ فيما يتعلَّق بالموضوع؛ أي المعرفة يُمكن أن تكون مُتعلِّقة بأي شيء. ومن ثم فالمنطق يُعدُّ جزءًا لا غِنى عنه من فهمنا للذكاء العام.

إن المتطلب الأساسي للمنطق هو لغة «صورية» ذات معانٍ دقيقة للجُمَل التي في اللغة، بحيث تُوجَد عملية واضحة لتحديد ما إذا كانت إحدى الجُمَل صحيحةً أم خاطئة في موقفٍ مُعيَّن. هذا هو كل شيء. وبمُجرَّد أن يكون لدينا هذا، يُمكننا كتابة خوارزميات تفكير «جيد» تُنتج جُمَلًا جديدة من جُملٍ معروفة بالفعل. تلك الجمل الجديدة تنبع بالتأكيد من الجمل التي يعرفها النظام بالفعل، بمعنى أن الجمل الجديدة تكون صحيحة بالضرورة في أيِّ موقفٍ تكون فيه الجُمَل الأصلية صحيحة. يسمح هذا لأيِّ آلة بالإجابة عن أسئلة أو إثبات مُبرهنات رياضية أو إنشاء خُطط مضمون نجاحها.

إنَّ جبر المرحلة الثانوية يقدم مثالًا جيدًا (على الرغم من أنه قد يجعلنا نتذكَّر ذكريات مؤلمة). تتضمن اللغة الصورية جملًا مثل ٤س + ١ = ٢ص − ٥. هذه الجملة صحيحة في الوضع الذي يكون فيه س = ٥ وص = ١٣، وخاطئة في الوضع الذي يكون فيه س = ٥ وص = ٦. من تلك الجملة، يُمكن استنباط جملة أخرى مثل ص = ٢س + ٣، وعندما تكون الجملة الأولى صحيحة، يجب أن تكون الثانية كذلك أيضًا.

إنَّ الفكرة الأساسية للمنطق، التي جرى تطويرُها على نحوٍ مُنفصل في اليونان والصين والهند القديمة، تتمثَّل في أن نفس المفاهيم الخاصَّة بالمعنى الدقيق والتفكير السليم يُمكن تطبيقها على جمل تتعلَّق بأيِّ مجال، وليس على الأعداد فقط. المثال القياسي يبدأ بالآتي: «سقراط رجل» و«كل الرجال فانون» وينتهي إلى ما يلي: «سقراط فانٍ».1 هذا الاستنباط صوري تمامًا بمعنى أنه لا يعتمد على أيِّ معلوماتٍ أخرى متعلِّقة بماهية سقراط أو معنى كلمتي «رجل» و«فانٍ». إن حقيقة أن التفكير المنطقي صوري تمامًا تعني أنه يُمكن كتابة خوارزميات لتنفيذه.

(١) منطق القضايا

لأغراضنا المُتعلِّقة بفهم إمكانات وآفاق الذكاء الاصطناعي، نرى أن هناك نوعَين مُهمَّين من المنطق: منطق القضايا، والمنطق الإسنادي. والفرق بين الاثنين جوهري لفهم الوضع الحالي للذكاء الاصطناعي والكيفية التي من المُنتظر أن يتطور بها.

دعنا نبدأ بمنطق القضايا، والذي هو أبسط من النوع الآخر. الجُمل تتكوَّن من نوعَين فقط من الأشياء: الرموز المُمثِّلة للقضايا التي قد تكون صحيحة أو خاطئة، و«الروابط» المنطقية مثل and (و) وor (أو) وnot (ليس) وif … then (إذا كان … فإن …). (سنعرض لمثال بعد وقتٍ قصير.) تُسمَّى تلك الروابط المنطقية أحيانًا بالروابط «البولينية»، نسبة إلى جورج بول، وهو عالم منطق ينتمي إلى القرن التاسع عشر أعاد الحياة إلى المجال بأفكاره الرياضية الجديدة. إنها مُماثلة تمامًا «للبوابات المنطقية» المُستخدمة في رقاقات الكمبيوتر.
عُرفت الخوارزمياتُ العمليةُ الخاصة بالتفكير باستخدام منطق القضايا منذ أوائل ستينيات القرن الماضي.2،3 وعلى الرغم من أن مهمة التفكير العام قد تتطلَّب وقتًا أُسيًّا في أسوأ الحالات،4 فإن خوارزميات التفكير الحديث باستخدام منطق القضايا تُعالج مشكلات لها ملايين رموز القضايا وعشرات ملايين الجمل. إنها تُعدُّ أداةً أساسية لإنشاء خططٍ منطقية مضمونة والتحقق من تصميمات الرقاقات قبل تصنيعها والتأكد من صحة التطبيقات البرمجية وبروتوكولات الأمن قبل استخدامها. الشيء المذهل هو أن خوارزمية واحدة — خوارزمية تفكير يقوم على منطق القضايا — تحلُّ «كل» هذه المهام بمجرد صياغة تلك المهام على شكل مهامِّ تفكير. من الواضح أن تلك خطوة باتجاه غاية العمومية في النظم الذكية.
لسوء الحظ، هذه ليست خطوة كبيرة جدًّا لأنَّ لغة منطق القضايا ليست غالية جدًّا. دعنا نرى ما يعنيه هذا في الممارسة عندما نُحاول التعبير عن القاعدة الأساسية للحركات المسموح بها في لعبة جو: «يستطيع اللاعب الذي عليه الدور في اللعب وضْع قطعة اللعب على أي تقاطع خالٍ».5 الخطوة الأولى تتمثَّل في تحديد رموز القضية التي ستُستخدم في الحديث عن حركات اللعب والأوضاع على اللوح. إن القضية الأساسية المُهمَّة هي ما إذا كانت قطعةُ اللعب التي من لون معين موجودة في موضع مُعيَّن في وقتٍ مُعيَّن. ومن ثم، نحتاج إلى رموزٍ مثل القطعة_البيضاء_على_٥_٥_في_الحركة_٣٨، والقطعة_السوداء_على_٥_٥_في_الحركة_٣٨. (كما هو الحال مع كلمات «رجل» و«فانٍ» و«سقراط»، تذكَّر أن خوارزمية التفكير لا تحتاج إلى معرفة معنى الرموز.) ومن ثمَّ فإن الشرط المنطقي لقطعة اللعب البيضاء حتى تكون قادرةً على الانتقال إلى تقاطع ٥،٥ في الحركة ٣٨ سيكون:
(ليست القطعة_البيضاء_على_٥_٥_في_ الحركة_٣٨)
و(ليست القطعة_السوداء_على_٥_٥_في_الحركة_٣٨)

بعبارة أخرى، لا تُوجَد قطعة لعب بيضاء ولا سوداء. يبدو هذا بسيطًا بالقدر الكافي. لكن لسوء الحظ، في منطق القضايا، يجب كتابة هذا على نحوٍ مُنفصل لكل موضع ولكل حركة في اللعبة. ولأنَّ هناك ٣٦١ موضعًا ونحو ٣٠٠ حركة في كلِّ مباراة، فهذا يعني أكثر من مائة ألف نسخة من القاعدة! وبالنسبة إلى القواعد الخاصة بالاستحواذ والتَّكرار، التي تتضمَّن قطع لعبٍ ومواضع مُتعدِّدة، الوضع أسوأ وسنملأ بسُرعة ملايين الصفحات.

إنَّ العالم الواقعي، على نحوٍ واضح، أكبر بكثيرٍ من لوح لعبة جو؛ هناك عدد أكبر بكثير جدًّا من اﻟ ٣٦١ موضعًا والخُطوات الزمنية الثلاثمائة، وهناك أنواع عديدة من الأشياء بجانب قطع اللعب، لذا، فإنَّ احتمال استخدام لغةٍ تقُوم على منطق القضايا للمعرفة الخاصة بالعالم الواقعي مُستبعد تمامًا.

إنَّ «الحجم» السخيف لكتاب القواعد ليس فقط هو المُشكلة؛ وإنَّما أيضًا قدرُ «التجربة» السخيف الذي سيحتاجه أيُّ نظام تعلُّمٍ لتعلُّم القواعد من الأمثلة. وفي حين أن الإنسان يحتاج فقط مثالًا أو مثالَين لمعرفة الأفكار الأساسية المُتعلِّقة بوضع قطعة اللعب والاستحواذ على قطع اللعب وما إلى ذلك، فيجب أن يُقدم لأي نظام ذكي يعتمد على منطق القضايا أمثلة على التحريك والاستحواذ على نحوٍ مُنفصل لكلِّ موضع وخُطوة زمنية. إن النظام ليس بإمكانه التعميم من مجرَّد بضعة أمثلة، كما يفعل الإنسان، لأنه ليست لديه طريقة للتعبير عن القاعدة العامَّة. وهذا القصور ينطبق ليس فقط على النُّظم القائمة على منطق القضايا، وإنَّما أيضًا على أيِّ نظامٍ له قُدرة مُماثلة على التعبير. وهذا يتضمَّن الشَّبكات البايزيَّة التي هي النظير الاحتمالي لمنطق القضايا، والشبكات العصبونية، والتي تُعدُّ أساس نهج «التعلُّم المُتعمق» الخاص بالذكاء الاصطناعي.

(٢) المنطق الإسنادي

السؤال التالي هو: هل يُمكننا إنشاء لغة منطقية ذات قدرة أكبر على التعبير؟ إننا نُريد واحدةً من المُمكن فيها إخبار النظام المُعتمد على المعرفة بقواعد لعبة جو على النحو التالي:

«لكل» المواضع على اللوح، و«لكل» الخطوات الزمنية، ها هي القواعد …

إن المنطق الإسنادي، الذي قدَّمه عالم الرياضيات الألماني جوتلوب فريجه في عام ١٨٧٩، يُتيح للمرء كتابة القواعد بهذه الطريقة.6 إن الاختلاف الأساسي بين منطق القضايا والمنطق الإسنادي هو الآتي: في حين أنَّ النوع الأول يفترض أن العالم يتكون من قضايا صحيحة أو خاطئة، يفترض النوع الثاني أن العالم مُكوَّن من «عناصر» يُمكن «ربطها» معًا بطرقٍ مُتنوِّعة. على سبيل المثال، من المُمكن أن تكون هناك مواضعُ مُجاورة لبعضها، وأوقات تلي بعضها على نحوٍ مُتتالٍ، وقطعُ لعبٍ في مواضع في أوقات معيَّنة، وحركات مسموح بها في أوقات معينة. يسمح المنطق الإسنادي للمرء بالتأكيد على أن خاصية ما صحيحة بالنسبة «لكل» العناصر في العالم؛ ومن ثم يُمكن للمرء كتابة الآتي:

لكلِّ الخطوات الزمنية «ز»، ولكلِّ المواضع «م»، وللونين «ل»، إذا كان دور «ل» في اللعب في الوقت «ز» والموضع «م» خاليًا في الوقت «ز»، فإنه من المسموح به بالنسبة ﻟ «ل» لعب قطعة لعبٍ في الموضع «م» في الوقت «ز».

مع بعض المحاذير الإضافية وبعض الجُمل الأُخرى التي تعرف مواضع لوح اللعب واللونين ومعنى كلمة «خالٍ»، تكون لدينا بدايات القواعد الكاملة للعبة جو. وستجد أنَّ القواعد المكتوبة باستخدام المنطق الإسنادي ستشغل تقريبًا نفس المساحة التي تشغلها عند كتابتها باللغة الإنجليزية.

إن تطوير «البرمجة المنطقية» في أواخر سبعينيات القرن الماضي وفَّر تقنيةً رائعةً وفعَّالة للتفكير المنطقي والتي تجسَّدت في لغةٍ برمجيةٍ تُسمَّى «برولوج». عرف علماء الكمبيوتر كيف يجعلُون التفكير المنطقي في تلك اللغة يعمل بمُعدَّل ملايين خطوات التفكير في الثانية، مما جعل العديد من التطبيقات المنطقية عملية. وفي عام ١٩٨٢، أعلنت الحكومة اليابانية عن استثمارٍ هائل في مشروع خاص بالذكاء الاصطناعي قائم على تلك اللغة يُسمى «مشروع الجيل الخامس»،7 وردَّت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بجهود مُشابِهة.8،9
لسوء الحظ، فقد مشروع الجيل الخامس والمشروعات المشابهة زخمه، في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي، جزئيًّا بسبب عدم قدرة المنطق على التعامل مع معلومات غير مؤكَّدة. ولقد جسَّدت تلك المشروعات مُصطلحًا سرعان ما عُد انتقاصيًّا؛ وهو مُصطلح «الذكاء الاصطناعي الجيد القديم الطراز».10 وشاع اعتبار المنطق غير ذي صلة بالذكاء الاصطناعي؛ في واقع الأمر، لا يعرف العديد من باحثي الذكاء الاصطناعي العاملين الآن في مجال التعلُّم المتعمِّق أيَّ شيء عن المنطق. وهذا الشيوع يبدو أنه مُرشَّح للاختفاء؛ فإذا قبلت بأن العالم به عناصر مُرتبطة ببعضها بطرق متنوعة، فإن المنطق الإسناديَّ سيُصبح ذا صلة، لأنه يوفر الجوانب الرياضية الأساسية للعناصر والعلاقات. وهذا الرأي هو ما يعتقدُه ديمس هاسابس، المدير التنفيذي لشركة ديب مايند التابعة لشركة جوجل:11

يُمكنك النظر إلى التعلُّم المتعمق بالحال الذي هو عليه اليوم باعتباره المكافئ في الدماغ للقشرتين الدماغيتَين الحسيتَين الخاصين بنا؛ القشرة الدماغية البصرية والقشرة الدماغية السمعية. لكن، بالطبع، الذكاء الحقيقي أكثر من ذلك بكثير، فعلينا إعادة جمعه مع التفكير الرمزي والتفكير الأعلى مُستوى، وهي أشياء عديدة حاول الذكاء الاصطناعي الكلاسيكي التعامل معها في ثمانينيات القرن الماضي.

نريد [لتلك النظم] الاستعداد التدريجي لهذا المُستوى الرمزي من التفكير؛ الرياضيات واللغة والمنطق. ومن ثمَّ فهذا جزء كبير من عملنا.

ومن ثم فأحد الدروس المستفادة المهمة من أول ثلاثين عامًا من البحث في مجال الذكاء الاصطناعي هو أنَّ أيَّ برنامج يعرف أشياء، بأيِّ نحوٍ مُفيد، سيحتاج قُدرة على التمثيل والتفكير يُمكن على الأقل مُقارنتها بتلك التي يُتيحها المنطق الإسنادي. وحتى الآن، نحن لا نعرف الشكل الدقيق الذي سيتَّخذُه ذلك؛ إنه يُمكن دمجُه في نُظم تفكيرٍ احتمالي أو نُظُم تعلُّم مُتعمِّق أو تصميمٍ ما هجين لم يظهر للنُّور بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤