المقدمة

«طوبى لشيء غامض … طوبى لشيء لم يصل.» هكذا كتب محمود درويش عن ملحمة العرس الفلسطيني، كما لو كان الشاعر هو فقط مَن بوسعه أن يرسم «ما لم يصل» في شكل ملحمة، أو أن يلتقط المستقبل حيثما لم يحدث، لأنه قد لا يحدث أبدًا، بل قد يظل حلمًا أصدق دومًا فحسب، أو قد يكون المستقبل قد بدأ بعدُ، أو هو قد مرَّ دون أن ينتبه إلى مروره أحد. لكن هل لا يزال العالم يتسع لأحلام الشعراء في عالم القحط والتصحُّر، وطوفان البضائع والإرهاب المعولم؟ نعم تحتاج الشعوب دومًا إلى أحلامها، بل إلى أوهامها أيضًا. وقد يكون المستقبل هو مستقبل الوهم أيضًا، وخاصة داخل ثقافة لا تزال أوهامها أكبر من حقائقها، لكن ليس ثمة توصيفة وحيدة لما يكونه المستقبل، فكل شعب وقدرته على المستقبل بحسب مستطاع الكينونة التي بحوزته. وليس المستقبل قدرًا جاهزًا، بل هو فقط مسار طويل يقتضي قدرة على السرعة، لكن ثمة ثقافات تحتاج إلى بطئها إلى حد أن الزمنية الخاصة بها تتعثر وتنحدر، وتُصاب بالوهن الميتافيزيقي. هل ثمة مستقبل في انتظارنا؟ هل نحن ثقافة قادرة على اختراع المستقبل، ومن أية جهة سيأتي المستقبل؟ من جهة الكارثة، أم من ماضٍ دموي، أم من زمنية ما بعد إنسانوية لم يعد فيها مفهوم الإنسان نفسه غير طرفة عابرة؟ وعن أي مستقبل نتحدث هنا؟ عن مستقبل العلم أم عن مستقبل الأرض أم عن مستقبل الإرهاب؟

يترحَّل هذا الكتاب في حقول مفهومية متعددة عالقة بحقل السؤال عن المستقبل، لكنه لا ينخرط في أية نزعة تبشيرية بالخلاص، بالمعاني المسيحية السائدة. هو فقط كتاب يستضيف بعض الأحداث الفلسفية التي مرت بفكرة المستقبل بوصفه قد بدأ بعدُ. بدأ المستقبل حينما سقط العالم منذ الحربين العالميتين، فيما سماه الفلاسفة بالكارثة. كارثة هزيمة كل النزعات الإنسانوية منذ فلسفة التنوير القائمة على مفهوم التقدم، وصولًا إلى كل أشكال الإرهاب التي مر بها العالم؛ إرهاب الدولة الفاشية والنازية والاستالينية، إرهاب القوى الاستعمارية الذي عاشته أوطاننا على امتداد قرن من الزمن، وأخيرًا إرهاب الرأسمالية التي تسيطر على العالم وفق مصالح رأس المال. لكن الإرهاب الإسلاموي المعاصر يبدو آخر أشكال الكوارث التي تهدِّد العالم، ولا تَعِد بأي شكل من المستقبل غير الانحدار في البربرية المطلقة. هل نقول إن العالم لم يَعُد يتسع لأي شكل من المستقبل البهيج، وننخرط في بكائية لا تنتهي؟

هنا تسعفنا الفلسفة أيضًا، بحيث نعثر لدى هيدغر على نقطة ضوء جميلة؛ لأن الفلسفة هي إحدى إمكانيات المستقبل. يقترح علينا هيدغر، وفق تأويل يقترحه المترجم العربي للكينونة والزمان، تعريفًا للدزاين، أي: الإنسان بوصفه كائنًا مستقبليًّا في ماهيته. وعلى هذا الأساس يتغير مفهوم الماضي نفسه بوصفه لم يعد ماضيًا، بل هو شيء ما يَرِد علينا من المستقبل. وفي هذا السياق يكتب فتحي المسكيني ما يلي: «ليس الماضي هو ما لم يعد كائنًا، بل هو ما كان الذي يَرِد علينا من جهة المستقبل. وكانيَّة ما-كان ليست خاصية زمانية طبيعية، خاصية الآن الذي مر ولن يعود، بل هو طبع وجوداني في زمانية الدزاين من حيث هو كائن مستقبلي في ماهيته. وهكذا فإن كل علاقة بالماضي لن تصبح علاقة أصيلة إلا متى تمَّت انطلاقًا من مستقبلنا. نحن نلتقي بماضينا في مستقبلنا، ما عدا ذلك سوف يكون الماضي ضيفًا ثقيلًا على الحاضر، وغريبًا عن المستقبل.»١ إن ما نظفر به من هذا التأويل للعلاقة بين الماضي والمستقبل هو أن الماضي ليس عبئًا علينا حَمله كالعبيد، بل هو إمكانية مستقبلية للِّقاء بأنفسنا على نحو مغاير. هذا النحو من الإقبال إنما هو، على حد عبارات هيدغر، «مستطاع الكينونة الفائق الأخصُّ له».٢ لكنَّ مستطاع الكينونة في صياغته الأكثر اقتدارًا غير ممكنة إلا «بقدر ما يستطيع الدزاين على العموم أن يُقبِل على نفسه ضمن الإمكان الأخص الذي له، وأن يحتمل الإمكان، ضمن هذا النحو من ترك النفس تُقدِم على نفسها، باعتباره إمكانًا، وذلك يعني أن يوجد.»٣ الكينونة إذن هي الظاهرة الأصيلة للمستقبل، لكن الكينونة لا يمكنها أن تكون أصيلة إلا بقدر ما تكون مستقبلية. ها هنا تأويل غير مسبوق لفكرة المستقبل لم تعد فيه الزمانية خطًّا يَعبُر من الماضي إلى الحاضر، ثم إلى المستقبل؛ وذلك لأن «مفاهيم المستقبل والماضي والحاضر هي في أول أمرها تنشأ عن الفهم غير الأصيل للزمان.»٤

كيف تستطيع الإنسانية الحالية استعادة قدرتها على المستقبل بما هو استباق نحو إمكانها الأقصى؟ لقد اقترح الفلاسفة معالجات مختلفة لهذا السؤال؛ منهم من اعتبر اليوتوبيا مخزونًا حيويًّا هائلًا للتوجه نحو مستطاع المستقبل الذي بحوزتنا (إرنست بلوخ)، ومنهم من اعتبر أن إنسان المستقبل يترجَّل من قلب الثورة الرقمية، موقِّعًا نمطًا جديدًا من الكينونة في العالم (ميشال سار)، ومنهم من تمسَّك بالبحث عن الواقع المفقود، وعن الحياة الحقيقية نمطًا من السعادة التي تكمن في الرغبة في تغيير العالم (ألان باديو)، ومنهم من يعتبر أن المستقبل لا معنى له؛ لأننا نحيا ضمن صيرورة دائمة (جيل دولوز)، ومنهم من اعتبر أنه لا وجود لغير «أنطولوجيا الحاضر» (ميشال فوكو). وفي الحقيقة بوسعنا القول بأن الفلاسفة المعاصرين قد انقسموا إزاء السؤال عن المستقبل إلى فئتين متناقضتين؛ فئة تعتقد أنَّ ثمة مستقبلًا ينبغي أن نريده بما هو أقصى اقتدار لوجودنا. وفئة ثانية تذهب إلى أننا صيرورات دون مستقبل. الأطروحة الأولى تمتدُّ من كانط، وتمر عبر إرنست بلوخ، وتصل إلى هيدغر، مع اختلاف في طرق المعالجة، واللغة التي تم بها التعبير عن هذه الأطروحة. أما الأطروحة الثانية فتجد في جيل دولوز تعبيرة قصوى عنها.

يذهب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز في كتابه الرئيس الذي ألَّفه صحبةَ فيلكس غاتاري، أي: ألْف مسطَّح، إلى تنضيد فلسفة جديدة مضادة لأوديب وللرأسمالية وللتحليل النفسي، ولكل فلسفات التاريخ بعامة. ومن أجل ذلك اخترع مفهوم الريزوم ضد مفهوم الذات وضد مفهوم الدزاين معًا. الريزوم هو نمط جديد من الصيرورات المضادة لبراديغم التاريخ من جهة، ولسياسات الذاكرة القائمة على الوعي التعيس من جهة أخرى. الريزوم، كما يعرِّفه دولوز، هو شخص رابع مضاد لضمائر النحو، بل هو «لا شخصي» مضاد لكل جينيالوجيا، أي: لكل شجرة نسب. إنه ليس هوية، بل هو صيرورة. إنه لا يكون، بل يصير مترحِّلًا على خرائط وخطوط إفلات. جغرافي هو، وصاحب ذاكرة قصيرة، بل هو مضاد للذاكرة أصلًا. وفي هذا السياق نقرأ ضمن المسطَّح الأول من كتاب ألْف مسطَّح ما يلي: «الريزوم … ذاكرة قصيرة، أو هو مضاد للذاكرة، إنه يعمل انطلاقًا من الاختلاف والتوسع والغزو والمطاردة والوخز.»٥ ليس ثمة مستقبل للصيرورات، ثمة فقط «أشكال من السرعة وأشكال البطء»،٦ وخطوط إفلات من كل أشكال الهيمنة على الفضاءات واعتقال الحياة من طرف أجهزة الدولة. وضد جهاز الدولة، تصير الريزومات المترحِّلة إلى مكنات رغبة، أي: إلى تنضيدات للإحساسات والإدراكات، أي: إلى تقلصات لطيات جديدة. إن رهان هذه الصيرورات هو ألا تكفَّ عن اختراع فضاءات صقيلة داخل المدينة المخددة بسلطة الدولة، وذلك عبر الترحال الإستطيقي الذي يجد في الفن فضاء لاختراع الحرية، ولتحرير الحياة. لكن هذه الفضاءات الصقيلة التي يخترعها الريزوم، أي: الفنان، لا يمكنها أن تحررنا؛ ذلك أن فكرة المستقبل بحسب دولوز قد استحوذ عليها لاهوت الخلاص؛ لذلك لا يريد دولوز أن يتفلسف في أفق هذه الفكرة؛ لذلك نراه يختتم كتابه ألف مسطح بنص مثير لمناخ من التشاؤم الفلسفي. نقرأ في آخر الكتاب ما يلي: «إن الفضاءات الصقيلة ليست فضاءات محررة في حد ذاتها، لكن صُلبها يتغير النضال ويتحول، وتعيد الحياة إعادة بناء رهاناتها؛ فتواجه عوائق، وتخترع ملامح جديدة، وتغيِّر أعداءها. لا ينبغي أن نعتقد أن فضاءً صقيلًا يمكنه أن ينقذنا.»٧
لكن الفضاءات الصقيلة التي نخترعها بالفن ليست أبدًا فضاءات حزينة أو يائسة، مهما كان بؤس الواقع الذي نرسم على سطوحه خرائط الترحال، وخطوط الصيرورة الطافرة. صحيح أننا، وفق عبارات دولوز نفسه، «أننا لا نملك مستقبلًا، مثلما أننا لا نملك ماضيًا»،٨ لكننا رغم ذلك لا ننفك ننخرط ضمن «برامج الحياة»،٩ وهي برامج تقتضي الاشتغال وفق السؤال التالي: «على ماذا يكون الجسد قادرًا؟ أيُّ عواطف تكونون قادرين عليها؟»١٠ وهنا يستعيد دولوز فلسفة الجسد الذي جعل منه سبينوزا السؤال الرسمي لفلاسفة المستقبل. لكن لا يتعلق الأمر بعواطف الجسد المعذَّب والمصلوب والضحية والخطَّاء البائس، ولا بجسد حائط المبكى، بل بجسد من نمط مغاير؛ فيما أبعد من جسد اللاهوت ثمة جسد الحياة وبهجة المتعدد؛ لذلك ينبِّهنا دولوز إلى أن الجسد في فلسفة المستقبل هو جسد بلا أعضاء، أي: حيث «ينبغي جعْل الجسد قوةً لا تُختزل في الجهاز العضوي، وجعْل الفكرة قوةً لا تُختزل في الوعي.»١١ وتبعًا لهذا التصور الجديد للجسد، ينبِّه دولوز إلى نمط العواطف التي تجعل من الجسد مجالًا للصيرورة البهيجة ضد كآبة اللاهوت، وسطوة الدولة على أجسادنا معًا. من أجل ذلك يكتب ما يلي: «نعيش في عالم هو بالأحرى مزعج، حيث تكون السلطات القائمة، وليس الناس فحسب، في حاجة إلى أن تمرر لنا عواطف حزينة. فالحزن والعواطف الحزينة هي التي تقلِّص كلها قدرتَنا على الفعل. تحتاج السلط القائمة إلى حزننا كي تجعل منا عبيدًا. يحتاج المستبد والكاهن وسالبو الأرواح إلى إقناعنا بأن الحياة صعبة وثقيلة.»١٢ إن هذا النص إنما يمثِّل بالنسبة لهذا الكتاب الحدس التأويلي الكبير، الذي يتخذ من الاستثمار الفلسفي في الأمل رهانًا أساسيًّا ضد كل قوى الإحباط، وخطابات اليأس التي تنشرها بيننا أجهزة الدول وقوى الاستعمار العالمية، لتحويل الإنسانية إلى سوق كبيرة للاتِّجار بالبشر.

ويبقى السؤال المحرج لدينا دومًا هو التالي: نحو أية جهة يحقُّ لنا أن نحدِّق، نحن الذين لا تزال أنظارُنا منبهرة بمنجزات العقل التكنولوجي العالمي، وقلوبنا مُتيَّمة بماضٍ يعتقلنا، لكننا لم نتقن بعدُ تدبير سياسات للذاكرة تليق به؟ تلك هي الإمِّية المحرجة لنا اليوم بعد آخر الحروب الدينية والنووية والفيروسية والإيكولوجية. وربما نكون بذلك قد جربنا كل أشكال التدرب على الموت، لكن يبدو أن الحياة هي التي تنتصر دومًا.

في كتاب تحت عنوان المستقبل: مقدمة وجيزة، للكاتبة البريطانية جينيفر م. غيدلي، رئيسة الاتحاد العالمي لدراسة المستقبليات، نعثر على نوع من التفاؤلية الفلسفية التي تجعل من قدرتنا على إبداع أشكال مختلفة من المستقبليات اقتدارًا عمليًّا على تغيير العالم. بحيث نقرأ تحت قلمها ما يلي: «نمتلك جميعًا المقدرة على إبداع ما نرغبه من مستقبليات، أكثر بكثير مما يدركه معظمنا. وما دام المستقبل هو الفضاء الوحيد الذي نمتلك فيه شيئًا من الحرية، فإنه موقع سلطة عظيمة.»١٣ لا يتعلق الأمر إذن بمستقبل واحد، بل بمستقبليات، أي: بإمكانات لا متناهية من القدرة على التغيير الإيجابي للعالم. وهي فكرة لم تولَد بولادة الدراسات المستقبلية، بحيث يعود المفهوم إلى أواخر ستينيات القرن العشرين بظهور أول مجلة مستقبليات في بريطانيا، بل يعود الانشغال بالمستقبل إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد مع العرافات والأنبياء، ثم مع الكهنة، وأخيرًا مع العلماء. بحيث نقرأ تحت قلم جينيفر م. غيدلي في كتابها الرائع حول تاريخ فكرة المستقبل: «لقد استوحاه الأنبياء، وتنبأ به الكهنة، وجرى تخيله واستعماره، والخوف منه، والتكهن به، ووضع استراتيجيات له، وخلقه.»١٤ يزوِّدنا هذا الكتاب حول المستقبل بتأريخ دقيق حول ولادة الفكرة وأهم التحولات الكبرى لها، بحيث تعود إذن فكرة المستقبل إلى الديانة الزرادشتية (حوالي ٦٢٨ق.م.)، ثم تتأسس فكرة الجمهورية العادلة مع أفلاطون على تصوُّر يوتوبي للمدينة (٣٨٠ق.م.)، وتليها «مدينة الله» للقديس أوغسطين (٤٢٦م)، وفي سنة ١٣٧٨م تظهر مقدمة ابن خلدون بنظرية جديدة في التغير الاجتماعي، وفي سنة ١٦٠٢م تظهر «مدينة الشمس» لكامبانيلا، ثم كتاب «أطلانتس الجديدة» لفرنسيس بيكون، بتاريخ ١٦٢٧م. ومثَّلت الثورة الصناعية والثورات العلمية وعصر التنوير والثورات الحديثة؛ تجسيداتٍ مختلفة لمستقبليات ممكنة، إضافةً إلى كتب فلسفية أساسية من قبيل «العقد الاجتماعي» لروسو (١٧٦٢م)، وكتاب «نقد العقل المحض» لكانط (١٧٨١م)، وصولًا إلى ظهور علم المستقبليات، في علاقة بحلم غزو الفضاء، كما في فيلم «أوديسة الفضاء» (٢٠٠١م)، وفيلم «ماتريكس».١٥

غير أن كتابنا هذا لن يكون تأريخًا لفكرة المستقبل من وجهة نظر علم المستقبليات كما تؤسس له الدراسات المستقبلية، وهو ما أنجزته جينيفر م. غيدلي في كتابها المذكور، إنما غرضنا هو مقاربة إشكالية المستقبل من وجهة نظر فلسفية، أي: بوصفها موضعًا لتشغيل الأسئلة والإحراجات والمفارقات الثاوية في السؤال عن المستقبل بوصفه سؤالًا عن الأمل، وذلك ضمن أفق تأويلي يسعى إلى الانخراط في ضرب من التفاؤلية الفلسفية التي تكون انشغالًا ومسئولية تجاه فكرة أكثر إيجابية عن المستقبل. مَن بوسعه إبداع المستقبل على نحو أجمل؟ وبأي معنًى نخترع تجارب جديدة عن إمكانية المستقبل في أوطاننا؟ وأي مستقبل نريد الانتماء إليه؟ هذا الكتاب يقوم على أطروحة فلسفية نسعى إلى اختبارها؛ أنه ثمة مستقبل، لكنه لا ينتظرنا في أي مكان، نحن من يملك سلطة تخيُّله والاقتراب منه بقدر المستطاع. ونحن في ذلك نعوِّل على الفنون تحديدًا كإمكانية كبرى لجعل الحلم بمستقبليات جديدة ممكنًا في ثقافتنا. إن جعل الحلم ممكنًا ليس أمرًا هينًا؛ لأن الأمر لا يتعلق هنا بالأحلام الشخصية، بل بأحلام جماعية ننخرط فيها كجموع تنبثق من رحم إبداع الكينونة المضادة لكل الصحراء التي تنمو في قلوبنا، فتعطِّل اختراع الأمل بعوالم أفضل بيننا.

لكن بأي مستقبل يتعلق الأمر؟ يحيلنا هذا السؤال إلى ثنايا متعددة وعرة ومعقدة، لكنها ترسم جميعها شكلًا من التقاطع حول حلم الإنسان بأن يبقى العالم في صحة جيدة، بما يجعل إمكانية استمرار الحياة على الأرض ممكنة بأقل الكوارث وأخفِّها قساوة. وفي الحقيقة ثمة العديد من المقاربات حول مفهوم المستقبل، ومنها المقاربة التكنولوجية التي يتم فيها اليوم التساؤل حول «المستقبل النانوي»، حيث يمكن للتكنولوجيات النانوية أن يصل مداها إلى إمكانيات تحوير الكائن البشري نفسه،١٦ أو المقاربة الجندرية، حيث يتم فتح آفاق جديدة أمام «مستقبل النسوية» عبر مقاربات متعددة الاختصاصات، تتقاطع فيها الثقافة بالبيئة بالتنمية من وجهة نظر نسوية ما بعد كولونيالية.١٧

هذا الكتاب يطلب العبور بلغة الضاد عبر ثنايا مرت بها فكرة المستقبل في مهجة بعض أقطاب الفلسفة، الذين راهنوا على الأمل في المستقبل ضد الإعلان عن الكارثة. لقد حاولنا أن ننجزه بمثابة ترحال متوعِّر في ثنايا مرَّت بها فكرة المستقبل في معانٍ عدة؛ بوصفه «لم يعد كما كان»، أو بوصفه يوتوبيا لما «ليس بعدُ»، أو باعتباره رغبة في اختراع الحدث بما هو لقاء بالحقيقة (القسم الأول). ولقد خصصنا الفصل الأخير من القسم الأول للاشتغال على السؤال العربي حول المستقبل؛ كيف نعبر من ذاكرة مجروحة بشتى أشكال الاستعمار، إلى مستقبل بهيج في ثقافة الضاد، رغم كل الأزمات والتحديات الثقافية التي تعيشها أوطاننا في زمن العولمة وتوحُّش الإمبريالية العالمية. ومن أجل فحص تعبيرات المستقبل، وأشكال تحقُّقه؛ اعتبرنا الفن في القسم الثاني من الكتاب أحد أشكال اختراع المستقبل، وذلك وفق تحولات ساهم الفن في توقيعها، من بينها ولادة مفهوم القارئ ونهاية مفهوم الكاتب، وإبداع أشكال جديدة من الحياة المشتركة يلعب فيها الرقمي دورًا أساسيًّا.

ولا يفوتنا أن نشير أخيرًا إلى أن كتابة هذا الكتاب قد عاصرت انتشار فيروس كورونا، الذي وقَّع مناخًا عالميًّا من الخوف الكوني من المستقبل؛ لذلك كان اشتغالنا على «سينما نهاية العالم»، وعلى «هوية الفيروسات»، ثم على «الأدب ضد الطاعون» بمثابة تجسيدات مختلفة للأطروحة الفلسفية القائلة بأن «الفن هو الوجه المشرق من الكارثة».

هذا الكتاب مناسبة أخرى لاختراع الكوني في لغتنا؛ ذلك أن «الفكر هو الوسيلة المناسبة للكوني»١٨ (وفق عبارة رشيقة لألان باديو). والكوني هنا ليس فيه أية تبعية فكرية لأي غرب مهما كانت هويته استعمارية أم ثورية، بل هو لقاء بالفكرة حيثما تحدث على نحو استثنائي يجعل حدوث اللامتوقع ممكنًا في أوطاننا، أي: في عقولنا بوصفها الوطن الحقيقي لنا. فإذا كان من الممكن احتلال جغرافيا الأجساد فإنه «لا يمكن السيطرة على عقول البشر»، على حد تعبير لسبينوزا. إن العناية بحياة الفكرة وقدرتها على النمو في ثقافتنا هو الأفق الوحيد لاختراع مستقبليات ممكنة؛ لأن المستقبل نفسه فكرة قد تكون أشد خصوبةً من حدوث أي مستقبل نأمل حدوثه. ولا مجال لحدوث الفكرة دون انتماء إلى حقل إنتاج الأفكار الكونية بجعلها ممكنة في لغتنا بإعادة إنتاج مساراتها، وتدريب العقل على فحصها وتأويلها، واختراع المعاني المناسبة لها في كل مرة؛ لذلك جعلنا من هذا الكتاب ورشة عبور بأشكال المستقبل الممكنة التي أنتجتها الفلسفة منذ أوغسطين ومدينة الله، إلى آخر روايات اليوتوبيا والديستوبيا الحديثة. وهذا العبور هو بمثابة الأرضية التأويلية لاختبار مدى قدرة الفنون على اختراع المستقبليات، وذلك على أرضية الشعر أو الأدب أو المسرح أو السينما أو الفنون الرقمية.

يراهن هذا الكتاب على ضرب من التفاؤلية الفلسفية التي تستعيد كل المخزون اليوتوبي للفلسفة وللفن وللعلم معًا، بوصفه شكلًا من النضال ضد كل سياسات اليأس التي تنثرها القوى الرأسمالية، وتغوُّل الإمبريالية، ووحشية العالم الحالي المدجَّج بالخوف من المستقبل.

وأخيرًا، لقد حاولنا إنجاز ورشات مفتوحة على حقول فلسفية وإبداعية متعددة عابرة للاختصاصات، بحيث تراوحت اشتغالاتنا بين حقل الفلسفة، وميدان الإبداع الفني والأدب، واختصاص البيو-إتيقا وعلم الفيروسات، وذلك في أفق البراديغم المعرفي الجديد، الموسوم بالفكر المركَّب، أو البراديغم القائم على تضافر الاختصاصات وتداخُلها، بحيث لا أحد يمكنه اليوم أن يعزل الظواهر الاجتماعية عن المقاربة الاقتصادية أو السياسية أو الإيكولوجية أو الجمالية أو البيو-إتيقية.

هذا الكتاب هو إذن عبارة عن قطوف فكرية من حديقة الفلسفة المعاصرة، فهو يحاول أن يزوِّد لغة الضاد بأجمل ما وصلت إليه العقول الحرة التي تنبت هنا وهناك من لدن نفسها. هو ملاحقة «للنوابت»١٩ حيث ترحَّلت على خطوط الحرية المبحرة نحو آفاق جديدة، من دون وعي تعيس، ولا ضغينة حضارية، ولا «كوجيطو كراهية». ها هنا تجدون محاولة لتحرير الرغبة من الانفعالات الحزينة، وإبداع قدرات جديدة على الحياة. وها هنا أيضًا ترحال في خرائط فكرة المستقبل بمختلف صياغاتها المبتهجة، والرومنسية حينًا (اليوتوبيا)، أو القلقة والمتشائمة (فلاسفة الكارثة). فالمستقبل لن يكون كما نريد دومًا؛ لأنه ينتمي إلى مجال اللامتوقَّع بكل غموضه المشتهَى، وتوتراته المرعبة معًا. إن مفهوم المستقبل ليس مناسبة للتفاؤل دومًا، بل هو فكرة مرعبة أيضًا، لن يكون المستقبل أبدًا كما كان: غدًا أفضل كما يحلم الجميع، بل قد يدفعنا إلى الكارثة والديستوبيا، حيث ينتعش العدميون والكلبيون والإرهابيون وكل فنون الرعب. ربما نحتاج أحيانًا إلى «شجاعة اليأس» حتى لا نسقط في الآمال الكاذبة، لكن «شجاعة الحقيقة» تطالبنا دومًا بالانتصار للحياة، وتحويل التفاؤل إلى شكل من النضال اليومي ضد كل سياسات البؤس المعولم.
١  مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق د. فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديدة المتحدة، ٢٠١٢م، ص٥٦٨، هامش رقم ١.
٢  نفسه، ص٥٦٦.
٣  نفسه.
٤  نفسه، ص٥٦٩.
٥  Gilles Deleuze, Felix Guattari, Capitalisme et Schizophrénie 2, Mille Plateaux, Paris, Minuit, p. 32.
٦  Ibid., p. 327.
٧  Ibid., p. 625.
٨  جيل دولوز، كلير باني، حوارات في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة، ترجمة عبد الحي أزرقان، أحمد العلمي، بيروت، أفريقيا الشرق، ص٦٤.
٩  نفسه.
١٠  نفسه، ص٨٠.
١١  نفسه.
١٢  نفسه.
١٣  جينيفر م. غيدلي، المستقبل: مقدمة وجيزة، ترجمة رندة بعث، بيروت، ٢٠١٨م، ص٢٠٣.
١٤  نفسه، ص٢٠١.
١٥  انظر: نفسه، ص٢٠٥–٢١٣، بحيث نعثر على «جدول زمني للمستقبليات العالمية»، وفيه عرض دقيق للتواريخ التي ظهرت فيها فكرة المستقبل في جميع الثقافات العالمية، وتأريخ لثلاثة آلاف سنة من المستقبل.
١٦  ج. ستورس هول، المستقبل النانوي، ترجمة صباح صدِّيق الدملوجي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية ٢٠٠٩م.
١٧  انظر كتابًا جماعيًّا: مستقبل النسوية: قصص نساء من حول العالم، ترجمة نانسي محمد، القاهرة، العربي للنشر والتوزيع ٢٠١٩م. وفي كتابنا هذا لن يتعلق الأمر بمقاربة جندرية، بل فقط بمقاربة فلسفية وجمالية لفكرة المستقبل. ونشير إلى أننا خصصنا لمسألة مستقبل النسوية كتابنا بعنوان «صخب المؤنث»، وهو قيد الطبع.
١٨  ألان باديو وسلافوي جيجاك، الفلسفة في الحاضر، تحرير بيتر إنغلمان، ترجمة وتقديم: يزن بالحاج، بيروت، دار التنوير، ٢٠١٣م، ص٣٥.
١٩  فتحي المسكيني، فلسفة النوابت، دار الطليعة، بيروت، ١٩٩٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤