خاتمة الكتاب

(١) نحو تفاؤلية فلسفية

«جبان من ييئَس من الوضعية الحالية للعالم، ومجنون من يأمل منها أي شيء.» هكذا قال ألبار كامو، لكن غرامشي يقول: «ينبغي أن نجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.» أما بنيامين فيحدثنا عن «أمل اليائسين»، في حين يذهب أدورنو إلى أن «الأمل هو التجلي الوحيد للحقيقة». على هذا النحو تتأرجح الإنسانية اليوم بين اليأس والأمل، وذلك على الإيقاعات الحزينة لوباء عالمي صُنِّف تحت راية الجائحة الكونية غير المسبوقة، لا فقط بالنظر إلى سرعة العدوى والانتشار، بل بالنظر إلى تغيير نمط حياة البشر، والسطو على عالمهم، وإجبارهم على البقاء في بيوتهم. وفجأة صارت البيوت سجونًا صغيرة، وتحول أصحابها إلى كائنات مذعورة تعيش على اللايقين وانعدام الأمن النفسي والصحي، وذلك في كل مكان من العالم، وبدأت مشاعر الاكتئاب والخوف تشتد بالجميع إلى حد انتشار موجات من التشاؤم بإزاء ما سيحدث في المستقبل، كما لو أن هذا الفيروس قد افتكَّ من البشر حاضرهم، وهو يهدد بالسطو على إمكانية المستقبل نفسها في قلوبهم. بعضهم استحضر فرضيات نهاية العالم حتى أصبحت سينما نهاية العالم وما بعد نهاية العالم الأكثر رواجًا بين الناس منذ أشهر، وبعضهم يروِّج لعقائد دينية حول بداية ظهور علامات يوم القيامة نفسها، لكنها تبدو كقيامة بلا نبي منقذ، ففيروس كورونا لا ينتمي إلى أية أجندة دينية، ولم يعبر بصراط الآلهة واللاهوتيين بمختلف تواريخهم وسردياتهم وأوهامهم حول أنفسهم، ولا يأبه بعقائد الدعاة أو بفتاوى الفقهاء، وهو فيروس أميٌّ جدًّا لم يقرأ أي كتاب، وكل كتاب قد يكون، على نحو ما، شكلًا من التدين الذي يخترعه البشر للاحتماء من كوارث الأقدار. كورونا لا ينتمي إلى حضارة الكتاب؛ لا لأنه فيروس لا يحب القراءة، بل لأنه سابق على تاريخ ظهور الكتاب والديانات والقراءة والفهم والعقل نفسه، وقد نكون إزاء أقدم الكائنات على الإطلاق، حيث كانت الحياة لا تزال بصدد الظهور، ولقد تركت وقتًا طويلًا جدًّا يُقاس بمليارات السنين البشرية من أجل أن تظهر. فالأرض قد كانت ملكًا للفيروسات وحدها قبل أن يظهر كل هذا المسرح الكبير لتاريخ البشر، بحيث يتوهم فيه الإنسان نفسه أنه أجمل وأحسن وأكمل وأذكى وأقوى الكائنات على الإطلاق. وها هي الفيروسات تعود كي تُعيد الإنسان إلى حجمه، وتذكِّره أنه ربما يكون أقل من حشرة، حشرة كافكا لم تكن مجرد استعارة أدبية إذن، لكن الإنسان، هذا الكائن الذي قد يعود في أصله الحيوي إلى مجرد حشرة مذعورة من هول كوارث الطبيعة، قد أثبت قدرته على البقاء بقدرته على التأقلم مع كل أشكال التطورات والكوارث والعواصف والزلازل والبراكين، تلك التي حدثت وتحدث ضمن منطق آليات اشتغال الطبيعة نفسها، بوصف الدمار والشواش والاندثار والموت والأوبئة هي صلب ميكانيزمات اشتغال الطبيعة نفسها، ولأن قوانين التطور الحيوي تقوم على قانون التأقلم مع البيئة بوصفه الشرط الأول للقدرة على البقاء على قيد الحياة، مثلما صاغه داروين، فإن الإنسان يُعتبر أكثر الكائنات قدرة على الحياة، وهذا وحده شرط كافٍ للدخول في أفق التفاؤل بالمستقبل.

ليس في الأمر أي انزلاق دلالي حينما نخرج من سجل حيوي بيولوجي إلى سجل فكري رمزي وأخلاقي معًا؛ فالتفاؤل يقوم أولًا على ثقةٍ ما في أن الأشياء تسير نحو الأفضل، أو أن الأشياء في أسوأ الحالات تنحو نحو حل ما، أو أفق مغاير، أو معالجة ممكنة، ومن هذه الجهة علينا أن نبقى على ثقة بأن العلماء قادرون على الانتصار على هذا الوباء مثلما انتصروا سابقًا على الطاعون والسل وأنفلونزا الخنازير، لكن هذه الثقة في العلماء لا تكفي من أجل الانتصار النفسي على مشاعر الخوف والتشاؤم التي بدأت تسيطر على الكثير من الأفراد والشعوب في العالم برُمَّته. وهنا علينا أن نذكِّر بدور المعارك الفكرية التي يخوضها المفكرون والفلاسفة من أجل اختراع ميكانيزمات جديدة للدفاع عن أنفسنا، وللانتصار على مشاعر الهلع والقلق والاكتئاب الذي يهدد بتدميرنا من الداخل. وفي هذا السياق يأتي حديثنا عن مفهوم التفاؤل كأفق معنًى جديد يمكن للإنسانية أن تنشِّطه مرة أخرى في هذا العصر الوبائي العالمي. لكنْ أيُّ معنًى للتفكير مرة أخرى في التفاؤل بعد انهيار المنظومة الثقافية التي أنتجتها، أي: عصر التنوير، حيث كان التفاؤل مرتبطًا رأسًا بمقولة التقدم التنويرية؟ هل لا يزال يحق لنا الحديث عن التفاؤل بمستقبل أفضل، وبالتقدم الأخلاقي لإنسانية لم تعد تؤمن بأي شكل من اليوتوبيا، أم هو تفاؤل بلا أرضية ميتافيزيقية تؤسسه؟

تعود عبارة التفاؤل في أصلها اللغوي إلى عبارة الفأل، والمقصود بها عامة الفأل الحسن، ويمكن أن تُقال أيضًا على الفأل السيء، الذي يعبر عنه العرب القدامى بالطِّيَرة والتطيُّر والشؤم. والفأل الحسن أمر مطلوب ومحمود لدى كل الناس الصالحين، أي: المؤمنين بأن ثمة حكمة إلهية فيما يحدث لنا، وأنه مهما حدث لنا من مصائب فعلينا أن نأمل دومًا في انفراج لكربتنا، وهذا التصور المبثوث لدى العوام، والذي يجد في اللاهوت عامة دعامة ميتافيزيقية له، قد وقعت ترجمته بشكل مغاير عند الفلاسفة والأدباء العرب الذين أسسوا لأخلاق السعادة، من قبيل الفارابي وكتابه «تحصيل السعادة»، أو ابن سينا بعده وكتاب «التنبيه على سبيل السعادة»، أو كتب الجاحظ في الضحك والسخرية والمرح وآداب الفكاهة التي نعثر عليها كثيرًا في مصنفات أدباء العرب، وجُمَّاع الأخبار منهم، من قبيل كتاب الأبشيهي «المستطرف في كل أدب مستظرف»، أضف إلى ذلك آداب الإمتاع والمؤانسة التي نعثر عليها في كتاب التوحيدي المعروف بهذا العنوان، حيث كان الأدب شعرًا أو خبرًا أو حديثًا لدى العرب القدامى يعج بمساحات الأمل والتفاؤل والبهجة وقيم محبة الحياة، ونكران الشؤم والنحس والنكد وطرد الكآبة، وإنعاش النفوس وشفائها بالموسيقى والقصص والقصائد، وكل هذه المفاهيم والتعابير إنما هي معانٍ دالة على مساحة الفرح والتفاؤل المودَعة في لغة الضاد بوصفها مسكنًا للكينونة الخاصة بعقولنا الحالية.

أما عن التفاؤل كمفهوم فلسفي، فقد وُلد هذا المفهوم في معركة فلسفية لاهوتية أسست لها الفلسفة الحديثة أفقها الميتافيزيقي الخاص، حيث يقع التحول من آداب السعادة اليونانية العربية (أرسطو والفارابي) إلى مسألة التفاؤل كمسألة مؤرِّقة للميتافيزيقا الحديثة إزاء مسألة البرهنة على وجود الله من جهة، وإمكانية تبرير أو تفسير وجود الشر في العالم من جهة أخرى. والسؤال الذي كان يحرج الفلاسفة في هذا السياق كان هو التالي: كيف نبرر أن العالم قد خلقه ربٌّ خيِّر بشكل مطلق، ومن جهة أخرى نبرر وجود الشر في العالم؟ كيف يصدر الشر عن الذات الإلهية ذات الكمال التام؟ حول هذا السؤال دارت المعركة الفلسفية بين كانط وليبنتز ومالبرانش، وكان اختلافهم حول علاقة الشر بالله وبالعالم وبالتفاؤل هو مربط الفرس. وفي هذا السياق يذهب ليبنتز إلى أننا نسكن في أحسن العوالم الممكنة، وأن الذات الإلهية هي التي اختارت هذا العالم كأحسن عالم من بين إمكانيات لا متناهية من العوالم الأخرى، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن كتاب ليبنتز بعنوان الثيوديسا، بتاريخ ١٧١٠م، هو النص الفلسفي الحديث الذي نعثر فيه على النظرية الفلسفية في التفاؤل. وتمثل أطروحة ليبنتز حول أحسن العوالم الممكنة حُجته الأساسية لحل مسألة الشر في العالم؛ وذلك لأن الله قد خلق بعض الشرور في العالم من أجل أن يجعله أحسن العوالم الممكنة، فالشر هو الذي يولِّد أجمل خاصيات الإنسانية من جهة حرية الإنسان في الاختيار، وبوصف الشر ضروريًّا أيضًا. وهنا لا يتعلق الأمر بتبرير الشر أو عقلنته، بل بجعله ينتمي إلى التصور العام لأحسن اختيار إلهي لأفضل العوالم الممكنة. فالعالم بالنسبة إلى هذه الفلسفة ليس خيِّرًا بعامة، بل هو كذلك بالنظر إلى التشابك بين الخير والشر. فالشر بالنسبة إلى ليبنتز يكمن في طبائع الأشياء. لكن مالبرانش لا يوافق على هذا التصور، ويقر أن الرب إنما يفعل وفق كماله المطلق، وعليه فإن الشر ليس سوى نتيجة ضرورية مرتبطة بمشروع الخلق الإلهي نفسه. أما كانط الذي يتدخل في هذا النقاش منذ أول نص له بعنوان «اعتبارات حول التفاؤل» (١٧٥٩م)، فهو يرى أن ليبنتز قد اقتصر على تبرير الشر دون أن يفسر كيف أن جمال وتناغم العالم هو ما يمثِّل كمال العالم، وأن العالم لم يصمَّم من أجل سعادة الإنسان، بل قد صُمم أيضًا من أجل الدمار، وأن كل أشكال الكوارث الطبيعية، من زلازل وأوبئة وأعاصير وعواصف، إنما هي نتيجة لآليات اشتغال الطبيعة نفسها، وأن كل أشكال الدمار هذه إنما تحرر فيها الطبيعة مادة ما لم تعد قادرة على إنتاج الكمال، وتنثرها في أمكنة أخرى من المنظومة الشمسية من أجل إعادة تشغيلها وتنشيطها. وبصرف النظر عن تعقُّد هذا الجدل الفلسفي الذي يخترق الفلسفة الحديثة حول الشر والتفاؤل، فإنه جدير بأن نشير هنا إلى أن فلسفة كانط الأخلاقية قد حوَّلت النقاش حول الشر والتفاؤل من أرضية لاهوتية خاصة بالعدل الإلهي، إلى مجال الفلسفة الأخلاقية التي تتأسس داخل الحرية الإنسانية، بوصفها الباحة الوحيدة للحقل العملي بما هو مسئولية الإنسان وحده، وحتى الله في هذه الباحة هو حاجة أخلاقية محضة.

لكن هذه المعارك الميتافيزيقية قد غيَّرت من أسئلتها اليوم في عصر لا يتسم فقط بكونه ما بعد إنساني، وما بعد ميتافيزيقي، وما بعد ديني، بل هو عصر عادت فيه الطبيعة لإعادة ترتيب نظامها من خلال عودة الفيروسات لشن حرب ضد الخلايا. لم تعد المعركة الفلسفية إذن معركة لاهوتية أو ميتافيزيقية، أو حتى لغوية تأويلية أو براغماتية، بل نحن مجبرون للعودة إلى السؤال عن الحياة، في عصر تحكُّم التكنولوجيات الحيوية بالكائنات الحية.

إن ما يهمنا من هذا الجدال الفلسفي الذي وُلدت فيه النظرية الحديثة في التفاؤل هو أن مسألة التفاؤل كانت ذات منزلة أنطولوجية عميقة تقوم على السؤال التالي: كيف يمكن تبرير وجود الشر في العالم الصادر عن ذات إلهية تتصف بالكمال المطلق؟ لقد كان التفاؤل بأن العالم يسير دومًا نحو الأفضل هو الحُجة الميتافيزيقية الكبيرة على كل المنظومة الفلسفية الحديثة، وعلى كل التصور اللاهوتي المسيحي الذي قامت عليه الحداثة الغربية، وذلك ما يفسر كيف استوجب نقد الحداثة، من جهة أخرى، تنشيط كمية هائلة من فلسفة التشاؤم (خاصة انطلاقًا من شوبنهاور)، من أجل هدم كل الميتافيزيقا الحديثة القائمة على مفهوم التقدم التنويري، وهي فلسفة سوف يستأنفها نقاد الحداثة بتوقيعهم نهاية التنوير واليوتوبيا، ونهاية السرديات الكبرى، من قبيل بنيامين الذي فتح الكارثة على مصراعيها، وليوتار الذي حول الفلسفة إلى حائط للمبكى ما بعد الحديث على الضحايا، ضحايا الحرب، وخاصة ضحايا المحرقة اليهودية، وهذا ما قام به معظم الفلاسفة من أصل يهودي، مثل دريدا وليفيناس، وآخرين.

إن علاقة الفلسفة بالتفاؤل هي علاقة معقدة، وتستوجب اشتغالًا أكثر عمقًا، لكن يمكننا أن نصنف الفلاسفة إلى متشائمين ومتفائلين وفلاسفة عدميين. المتشائمون يمثلهم شوبنهاور، والمتفائلون يمثلهم ماركس، والعدميون يمثلهم نيتشه وألبار كامو وسيوران، وذلك في معانٍ عديدة تستوجب الكثير من الاشتغال على تفاصيل هذه المعركة، لكن مهما كان من أمر هذا التصنيف للفلاسفة، فنحن نعتقد أنه على الفلسفة اليوم أن تستأنف الاشتغال في الفضاء العمومي على دعم قيم التفاؤل، أي: قيم الأمل والحياة، ضد مشاعر الخوف والقلق إزاء الموت، وهي مشاعر تحبط من عزائم الأفراد، وتنشر بينهم قيم النكد والكآبة والحزن والبؤس المعمم. إن قيم التشاؤم مشاعر عدمية مضادة للحياة تحوِّل الناس إلى كائنات أكثر هشاشة، وأكثر وهنًا واختلالًا، وتُضعِف الإرادة، وتُدمِّر مشاعر الاقتدار والأمل والقدرة على إبداع آفاق مغايرة للمعنى، لا ينبغي أن نتخلى عن العالم مهما حدث لهذا العالم من أشكال الانهيار والدمار، ولا ينبغي أن نترك مجال الحياة بين أيادي العلماء الذين حولوا الكائن الحي إلى موضوع تحكُّم أو تحويل أو تعديل جيني، كما أنه لا يليق بكل المنتمين إلى مجال سياسات الحقيقة التخلي عن الحقيقة لصناع الأوهام، والمتاجرين بعقول الناس وبأجسامهم وبمشاعرهم. بوسعنا دومًا أن نتمسك بالحياة وأن نقاوم، وذلك بالعمل على جعل ثقافة الأمل والإبداع والفرح أفقًا عموميًّا للعقل اليومي في ديارنا. فالعمل على الاستثمار في التفاؤل والأمل وقيم الإبداع والفرح هو شكل من النضال ضد دعاة الخراب، والمبشرين بالنهايات، والمدمنين على العدم. وأخيرًا نحن نعتقد أنه بوسعنا الدفاع عن شكل من التربية الفلسفية، التي تهدف إلى تحويل الناس إلى كائنات إيجابية ونشيطة، تؤمن بأن المستقبل يأتي دومًا من جهة مغايرة. وهذه الفلسفة يمكن اختزالها في أربع أفكار:
  • الفكرة الأولى: الثقة بأنه مهما حدث من كوارث يمكنك دومًا أن تعثر على حل ما أو أفق آخر.
  • الفكرة الثانية: لا ينبغي أبدًا أن تتخلى عن مشروع حياتك لأيٍّ كان.
  • الفكرة الثالثة: ألا تكون حائط المبكى لأحد، ألا تجعل نفسك قربانًا لأية جهة سياسية أو دينية أو حتى عائلية.
  • الفكرة الرابعة: ثمة دومًا مستقبل سوف يأتي من جهة مغايرة، إن خسرت الواقع فالمستحيل لا يزال يخبئ لك إمكانيات لا متناهية. لا تيئَس، فاليأس علامة الفاشلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤