الفصل الأول

المستقبل لم يعد كما كان

إن السؤال عن المستقبل لا يولَد مِن ضرب مِن الترف الفكري، أو من مجرد الرغبة في قول الحقيقة، بل هو إشكال خطير يولَد من قلق عميق إزاء ما يحدث لنا اليوم في عالم يبيع «الموت الكوني» في سوق حضارة السلع المثيرة للدوار. نعم المستقبل هو المكان الأكثر هشاشةً بالنسبة لنا نحن سكان الجغرافيا الأكثر استهدافًا، في عصر نهاية التاريخ ونهاية الإنسان، وانتعاشة تجارة الأديان. في هذه المواقع غير المضمونة يكتب فاليري، الشاعر والأديب الفرنسي المعاصر «أن المستقبل لم يعد كما كان». لكن كيف كان المستقبل؟ وهل للمستقبل ماضٍ قادر على التأريخ له؟ وهل يمكن للماضي أن يكون مكانًا مناسبًا لولادة المستقبل؟ تِلكم بعض من أسئلة الفلسفة حينما تجد نفسها أمام ضرورة التفكير بالمستقبل. لكن مَن بوسعه أن يقصَّ علينا قصة المستقبل؟ النبي أم العالِم أم الفنان؟

دعنا نقُل بشكل مؤقت إن السؤال عن المستقبل هو سؤال حديث في جوهره، وقد وُلد هذا السؤال حينما تمت إزاحة الإجابة اللاهوتية من سماء الإنسانية. ولْنقُل على عجلٍ ما يلي: إن الإنسانية القديمة كانت تتعلق بالآتي وفق مقولة القدر أو الغيب الذي هو دومًا من علم الله. أما الإنسانية الحديثة فقد أنجزت لنفسها مفهوم المستقبل كأفقٍ لما يمكن للبشر أن يفعلوه بحريتهم الجذرية. إن مفهوم الحرية الذي أصبح صفة ميتافيزيقية للإنسانية الحديثة هو الذي جعل السؤال عن المستقبل ممكنًا. هذا ما اكتشفه كانط، الذي أسس السؤال عن المستقبل في باحة السؤال الكبير: «ماذا يحقُّ لي أن آمل؟» لأن البشر ها هنا لا يأملون من المستقبل إلا ما هم قادرون على صنعه بوصفهم كائنات حرة؛ إذ لا أحد بوسعه توقُّع ما يفعلونه بحريتهم؛ لأنهم قد يفعلون الشر، وهذا أيضًا نتاج حريتهم الطبيعية.

كيف يمكن للمستقبل أن يكون ممكنًا رغم كل التصورات المتشائمة التي ما فتئت تفسد على البشر منطقة الحلم العميقة التي بحوزتهم؟

سوف نوزِّع خطاطة هذا الفصل على عناوين ثلاثة؛ (١) «أن المستقبل لم يعد كما كان». (٢) كيف نكتب تاريخ المستقبل؟ (٣) كيف صار المستقبل إلى كارثة؟

(١) حتى المستقبل لم يعد كما كان

هذه الاستعارة الشعرية لفاليري اختطفَتها ألسنٌ كثيرة، وسافرت في قلوب الكُتاب والمفكرين بعيدًا. ولأن المستقبل لم يعد كما كان، ولأنه لم يكن يومًا كما كان؛ يحذِّرنا بول فاليري، الكاتب والشاعر الفرنسي المعاصر (١٨٧١–١٩٤٥م) من الدخول في المستقبل بخطوات تمشي نحو الوراء. بحيث يعترف هذا الشاعر بأنه ليس من عشاق الماضي، ولا من الباحثين عن الزمن الضائع. ربما لأن الإدمان على الماضي يعطِّل إمكانية المستقبل، أو لأن المستقبل لا يأتي أبدًا من الماضي، أو لأنه لا ينبغي أن يتواصل الماضي بأي شكل؛ وذلك لفظاعته. فالماضي الذي يقصده فاليري هو واقع الحربين العالميتين بكل الفظاعات والآلام المخزَّنة في تلك القطعة الدموية من تاريخ الإنسانية؛ لذلك كان يصعب عليه تخيُّل وجه المستقبل، وهو ما عبَّر عنه في أسف شديد بقوله: «وا أسفاه … لم يحدث أبدًا أنْ كان المستقبل صعب التخيل كما هو اليوم»؛ وذلك لأن الإنسانية الحالية قد دخلت حقبة تاريخية حيث يحتدُّ «الصراع بلا أفق بين أشياء لا تتقن الموت، وأخرى لا تستطيع الحياة».

ما هو وقع هذا التشخيص لفكرة المستقبل علينا اليوم، نحن أبناء العولمة الذين يتأرجحون بين الموت والحياة كل يوم، حيث أُصيبَ العالم بضرب من الوهن الإيكولوجي، والإنسان بضرب من الهشاشة الميتافيزيقية، وصارت بعض شعوب العالم هائمة على وجهها تبحث عن أرض هادئة، وعن سماء رحيمة؟ ومن أية جهة سيأتي المستقبل إلى ديارنا كأكثر مساكن الكينونة ضررًا في العالم؟ أم أنه ليس ثمة مستقبل في انتظارنا؟ وماذا نفعل بالماضي؟ هل بوسعنا أن نلقي به في سلة مهملات التاريخ، أم علينا تأويله بما يجعله قادرًا على معاصرة أحلامنا؟ يقول نيغري، المفكر الإيطالي المعاصر: «نحن نعاني من المستقبل.» ويقول كاتب فرنسي آخر: «إن المستقبل ملك لمن هو جدير به.» فهل نحن نعاني من المستقبل مِن هَول ما يَعِد به، أم أننا لسنا جديرين به؟ وربما يكون برجسون على حق حينما قال: «إن فكرة المستقبل أكثر خصوبةً من المستقبل نفسه.»

«أن المستقبل لم يعد كما كان» استعارة شعرية يمكن تأويلها على معنيين؛ الأول: كيف كان المستقبل الذي «لم يعد كما كان»؟ وهل يمكن للمستقبل أن يكون ماضيًا؟ والثاني: كيف أصبح المستقبل بعد أن كفَّ عن أن يكون كما كان؟

(٢) كيف نكتب تاريخ المستقبل؟

وهو سؤال طرحه الفيلسوف الألماني إيمنوال كانط وأجاب عنه وفق البناء الإشكالي التالي:
  • (١)
    يتعلق الأمر بضرب من التفاؤلية الفلسفية العميقة التي بدأت منذ نصِّه المعروف بعنوان تأملات في التفاؤلية (١٧٥٩م)، وصولًا إلى نصه نزاع الكليات (١٧٩٨م).
  • (٢)
    وهنا ينبغي التنبيه إلى نقطة الإشكال لدى كانط، والتي يصوغها ضمن القسم الثالث من نصه بعنوان «حول القول الشائع» (١٧٩٣م) (ضد مندلسون) في السؤال التالي: «هل ينبغي أن نحب النوع البشري؟ أو أن الأمر يتعلق بموضوع علينا النظر إليه بعين الريبة، ونحن الذين نتمنَّى له كل الخير، دون أن ننتظر منه أبدًا أي شيء في ذاك الخصوص؟»١ ثمة إذن ضرب من العلاقة بين محبة النوع البشري، وبين الأمل في أن يتقدم نحو الأفضل. وكانط يؤمن بهذه الفرضية ضد ماندلسون الذي يدحضها، بحيث نراه يجهد نفسه من أجل التأسيس لما يسميه استعدادًا أخلاقيًّا في الطبيعة البشرية، يجعلنا نأمل في أن البشر في تقدم مستمر نحو الأفضل، وبأن الشرور التي يقترفونها إنما هي آيلة إلى الاندثار! إن ما يبحث عنه كانط في هذا النص هو إذن «حب كوني»، هو شرط الأمل في التقدم نحو الأفضل؛ وذلك لأن الأمل في أزمنة أفضل، الذي ما بدونه لن يكون ممكنًا بالنسبة للبشر إنجاز أي فعل خير، يمثل بالنسبة إلى كانط الشعاع أو النور الذي لا ينفك يضيء قلوب كل العقول النيرة. وحده من يكره النوع البشري يعتقد في أن المستقبل لن يكون غير جملة الشرور والكوارث والتعاسات التي لا يقدر البشر على إتيان غيرها.
    إن كانط إذن يدحض ها هنا أطروحة ماندلسون، وينبِّه الفلاسفة إلى أنه قد آن الأوان لكي يساهموا في إنجاز الأمل في مستقبل أفضل، قائلًا: «إن الستار لا بد في النهاية أن يسقط»،٢ وعلينا ألا نكتفي بالفرجة على إنسانية تخبط خبط عشواء من سيئ إلى أسوأ.
  • (٣)
    أن فكرة نهاية العالم هي فكرة حمقاء لا تصلح إلا للفاشلين من البشر. ويسأل كانط مستنكرًا ضمن نصه الموسوم نهاية كل الأشياء (١٧٩٤م): لماذا نعتقد دومًا أنه ثمة نهاية للعالم؟ ولماذا نتصور دومًا أن هذه النهاية مرعبة بالنسبة إلى كل النوع البشري؟ إن السؤال عن نهاية العالم يضلل العقل، ويجعله يتيه في ثنايا لا تؤدِّي؛ لأن العقل البشري عقل مُتناهٍ، ولا يمكنه أن يتخطى حدود تناهيه.٣
  • (٤)
    في القسم الثاني من كتاب نزاع الكليات (١٧٩٨م) يستعيد كانط السؤال عن الأمل في التقدم مرة ثانية، ويُعنون هذا القسم «في استعادة السؤال التالي: هل النوع البشري في تقدم مستمر؟» وهنا تحديدًا يولَد السؤال عن كيف نكتب تاريخ المستقبل. وفي هذا السياق يفتتح كانط هذا النص كما يلي: «إننا نطالب بكتابة فصل عن التاريخ البشري، بالمعنى الحقيقي، لكن ليس تاريخ الماضي، إنما تاريخ المستقبل.»٤ وهنا يقع التمييز بين طريقتين لكتابة المستقبل؛ تلك التي تتم عبر التوقع (أي: الذي يخص المؤرخ)، وأخرى تتم عبر التنبؤ (الخاص بالنبي). ويجمِّع كانط كل الطرق التي كتبت بها الإنسانية تاريخ المستقبل في ثلاث أطروحات؛ الأولى تقوم على أن التاريخ البشري هو في سير دائم نحو الأسوأ. والثانية تقول بأن البشر في تقدم مطَّرد نحو الأفضل دومًا. أما الثالثة فتعتقد أن البشر لا يتقدمون نحو أي شيء، بل هم في حالة خبط عشواء وعبثية دائمة؛ ذلك أنهم يرسبون في نفس الوضع من التعاسة دومًا. أما الأولى فيَسِمها كانط بالإرهاب الأخلاقي. أما الثانية فهي استبشار مُشطٌّ وأحمق. والثالثة فهي عبثية تمامًا.٥ وخلاصة القول: أن هذه التصورات الثلاثة ليست ناجعة في إنجاز شكل أفضل من المستقبل.
  • (٥)
    إن الحل الذي يقترحه كانط لهذه الوضعية الإشكالية إذن هو التالي: أن التقدم البشري نحو الأفضل لا ينبغي التفكير فيه انطلاقًا من التجربة التاريخية فقط، فالماضي ليس هو الطريقة المناسبة لبناء المستقبل؛ ذلك أنه بوسع الإنسانية أن تتقدم رغم كل الشرور التي تنحدر بها نحو الأسوأ، وعليه فإنه حتى في حالة إدراكنا أننا نسير إلى الوراء، فإنه لا ينبغي علينا رغم ذلك أن نفقد الأمل في القدرة على إدراك «نقطة الانعطاف»٦ التي تقود مجرى الأحداث نحو الأفضل. كيف يحدث هذا الأمر؟ يجيبنا كانط: بفضل الاستعدادات الأخلاقية للنوع البشري.
    لكن فيمَ تكمن هذه الاستعدادات؟ إنها تكمن في قدرة البشر على الحرية، فنحن كائنات تسلك دومًا وفق الحرية؛ إذ بوسع هذه الحرية أن تملي علينا ما ينبغي علينا أن نفعله، لكنها لا تستطيع أن تتوقع ما سنفعل. فالبشر، بوصفهم كائنات حرة، بوسعهم أن يدركوا جيدًا صلب الشرور التي يقترفونها، إلى أي حد هم بصدد الانحدار، وفي تلك النقطة من الانعطاف بوسعهم أيضًا الظفر بدافع قوي لفعل الأفضل من هنا فصاعدًا، وذاك هو معنى الأمل في مستقبل أفضل. لكن المثير في هذا التأسيس الأخلاقي الميتافيزيقي لمفهوم المستقبل بما هو قائم على الأمل في تقدم نحو الأفضل؛ هو أن كانط يُرجِع النظرة التشاؤمية للتاريخ البشري كما لو كان ينحدر دومًا نحو الأسوأ، إلى الاختيار غير الصائب لنقطة النظر التي منها ننظر إلى المستقبل. وهو يكتب في هذا السياق ما يلي: «ألَا يعود ربما اعتبارنا لمسار الشأن البشري كما لو كان مسارًا عبثيًّا؛ إلى اختيارنا السيئ لوجهة النظر المناسبة؟»٧ ذلك أننا لو نظرنا إلى الكواكب من الأرض لرأيناها هي أيضًا تخبط خبط عشواء؛ فهي تارةً تتبع مسارًا منحدرًا، وأخرى هي ثابتة، وطورًا هي تسير نحو الأمام، بينما لو نظرنا إليها من السماء لأدركنا أنها تتَّبع المسارات المناسبة لها وفق ما حدده كوبرنيك. كذا حال مسار أفعال البشر؛ لو تسنَّى لنا النظر إليها من السماء، أي: من سماء العقل، لرأيناها تتَّبع مسارًا مناسبًا لفكرة الأمل، لكن كانط ينبِّهنا في أسف إلى عدم قدرتنا على ذلك كبشر يمثِّل التناهي صفة جذرية لعقولنا، قائلًا: «لكن وا أسفاه ما دمنا ممنوعين سلفًا من تخطِّي حدودنا والنظر من وجهة نظر حكمة إلهية بوسعها إدراك الأفعال الحرة، لكن ليس بوسعها التنبؤ بها على وجه اليقين!»٨
  • (٦)
    لذلك يقترح علينا كانط فكرة جديدة تتمثل في ضرورة البحث عن تجربة بشرية تشهد على وجود هذه الاستعدادات الأخلاقية للتقدم بفكرة المستقبل نحو الأفضل. ويسوق على ذلك مثلًا تاريخيًّا مشهودًا، هو مثَل «الثورة الفرنسية». وسيكون السؤال الحقيقي عندئذٍ هو: كيف تشهد ثورة ما على إمكانية إنجاز مستقبل أفضل؟ غير أن ما يهم كانط ليس ما فعلته هذه الثورة من تغيير دولة بدولة، أو حتى من الانحدار في كوارث وفظاعات وإعدامات، بل هو ينظر إليها من نقطة نظر مغايرة للفاعلين فيها، هي طريقة تفكير المتفرج الذي أبدى حماسة فائقة لمثل هذا الحدث التاريخي الهائل بمخاطره ومحاسنه معًا. المتفرج ها هنا هو كانط نفسه الذي وجد في هذه الثورة، وفق تعبيره، «علامة تاريخية»٩ على وجود استعدادات أخلاقية في الطبيعة البشرية على التقدم نحو الأفضل. لكن ما هو الأفضل ها هنا؟ وأي معنًى لفكرة المستقبل انطلاقًا من حدث الثورة؟ إن الثورة تشهد هنا على نوع من السبب التاريخي الكبير الذي يتدخل في مصير شعب ما من أجل إنجاز مستقبل مغاير، وتدخُّل هذا الحدث هو تدخُّل مضاعَف عند كانط؛ أولًا: لأن شعبًا ما لا يمكن أن يُعطَّل من طرف أية قدرة أخرى على منح نفسه المؤسسة السياسية المناسبة له، والتي تبدو له الأفضل، وثانيًا: لا أحد بوسعه منع شعب ما من تأسيس الدولة التي تحميه من حرب غاشمة (النظام الجمهوري عند كانط). إن فكرة الثورة تساهم إذن في إنجاز مستقبل شعب ما.

صفوة القول أن هذه الفكرة التي اقترحها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط — أن المستقبل هو التقدم الأخلاقي — هي فكرة ساهمت في تأسيس عصر التنوير على نحو عميق، وانتشر هذا المفهوم منذ القرن الثامن عشر، وصار إلى حركة فكرية وثقافية واسعة، أنجزت فيها الإنسانية الحديثة كل معالم العالم الحديث القائم على التقدم العلمي والحضاري بعامة. غير أن ما حصل في القرن العشرين من حروب وكوارث جعل الأمل الكانطي في التقدم يتحول إلى كابوس يجري تشخيصه ونقده من طرف رواد مدرسة فرنكفورت بخاصة، ومع بنيامين تحديدًا.

لكن قبل التوقف عند مفهوم الكارثة علينا الإشارة إلى أن المفهوم الحديث للمستقبل قد مرَّ بلحظة حاسمة جعلته يتخذ معنًى مغايرًا أثَّر أثرًا عميقًا في كل فلاسفة القرن العشرين. يتعلق الأمر طبعًا بنيتشه١٠ الذي أودع المستقبل بأيادي «العقول الحرة»، تلك التي تستطيع تجاوز نمط الإنسان النظري نحو مرتبة ما فوق الإنسان، حيث الاقتدار البهيج على خَلق قيم الحياة المضادة للقيم العدمية الحديثة. ها هنا يتحول المستقبل من لحظة زمانية أو تاريخية إلى صيرورة لا زمنية تتدفق من براءة وعفوية صيرورة هيرقليطس، الذي لن تصيبه الشيخوخة أبدًا.١١

لكن لا مفهوم التقدم الكانطي، ولا بهجة الصيرورة النيتشوية أسعفت الإنسانية المعاصرة من بشاعة المستقبل، بحيث تحوَّلنا من الأمل إلى خيبات الأمل، ومن الصيرورة البهيجة إلى دموية الحروب وبؤس البشر.

هذا هو ما الْتقطَته فلسفات الكارثة التي انخرطت في نقد الحداثة برُمَّتها، والإلقاء بالرضيع مع ماء الغسيل. وبدأ العالم الحديث في الانهيار بمكنته المفهومية والرمزية أيضًا. سنتوقف فقط عند اللحظات الفكرية التالية بوصفها أحداثًا رمزية عميقة في كتابة تاريخ المستقبل بوصفه كارثة، وذلك من خلال الأطروحات التالية:

(٢-١) التقدم هو الكارثة

يُعتبر والتر بنيامين أكثر المفكرين تشخيصًا لفكرة الكارثة، وهو ما سنجده أيضًا في صياغة مغايرة لدى أدورنو في كتبه الجدلية السالبة، والأدب الصغير، والنظرية الجمالية. يذهب الفيلسوف الألماني المعاصر في كتابه أشكال العبور (الذي كتبه بين ١٩٢٧–١٩٢٩م، وهو كتاب لم يُنشر إلا في سنة ١٩٨١م) إلى أننا «ينبغي أن نؤسس التقدم على فكرة الكارثة، وأن الجحيم ليس أمرًا ينتظرنا، إنما هو ما نعيشه الآن.»١٢ ومن أجل بيان هذه الفكرة سيجد بنيامين في لوحة بول كلي «الملاك الجديد» تجسيدًا لدلالة عصر ملتفت نحو أشلاء الماضي، لكن عاصفةً تبسط أجنحته، وتدفعه نحو مستقبل لا يكفُّ عن الالتفات عنه. وإن ما نسميه تقدمًا ليس في تصور بنيامين غير «كارثة الغرب الإمبريالية» (الحرب العالمية)، هي كارثة بلا أنوار. والسبب في هذه الكارثة هو غياب نظرية إتيقية، كفيلة بأن تمنع تحول التقدم إلى ضرب من البربرية. نحن هنا إزاء ما يسميه بنيامين «صوفية الموت الكوني التي تنتشر في العجيج المزعج لآلاف الأقدام المفهومية». إن والتر بنيامين لا يؤثِّم العقل التكنولوجي فقط، بل يؤثِّم الفلسفة الألمانية أيضًا. فهو يرى أن المثالية الألمانية قد حولت النجاح التكنولوجي إلى فشل وتعاسة ومنطق تدمير، فهي بهذا المعنى فلسفة لم تساهم فعلًا في بناء أخلاقي ينمو على وتيرة التقدم التكنولوجي. إن الحل الذي يقترحه بنيامين هو التالي: ضرورة تجميع كل القوى العقلية، لا فقط من أجل مقاومة المخاطر الكارثية لحرب جديدة، بل وبخاصة من أجل مقاومة كل الحيل الضمنية للخطابات المفهومية، أي: أشكال التمويه والمُخاتَلة التي تقع للطبيعة وللتكنولوجيا.

(٢-٢) أطروحة نهاية التاريخ

وهي أطروحة نعثر عليها في كتاب فرنسيس فوكوياما١٣ «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، الذي يقترح فيه تحليلًا مثيرًا للسياسة العالمية الحالية، انطلاقًا من مفهوم أساسي الْتقطه لدى الفيلسوف الألماني هيغل، هو مفهوم نهاية التاريخ. والمقصود بهكذا مفهوم هو انتصار الديمقراطية الليبيرالية والنموذج الليبيرالي الاقتصادي الحالي بوصفه الأفق الوحيد للإنسانية الحالية، والمعنى النهائي للمستقبل معًا. ونهاية التاريخ عنده تقترن بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، بما أدى إلى انتصار الليبيرالية نهائيًّا على كل أشكال الإيديولوجيا السياسية الأخرى. ولقد وقع نقد هذه الأطروحة (نهاية التاريخ) خطرًا حقيقيًّا على فكرة المستقبل نفسها؛ وذلك أن «نهاية التاريخ» تغلِّق باب التفكير بالمستقبل نفسه؛ لأنها تفيد بأنه لم يعد بوسع الجنس البشري أن يخترع أي شيء جديد، ولن يكون لنا إذن أي شكل من الحقيقة المغايرة لليبيرالية، سواء تعلَّق الأمر بحقيقة سوسيولوجية أو اقتصادية أو بشرية. وبالرغم من أنه قد تحدث لنا صراعات عرَضية أو حروب أو حتى ثورات، لكن لن يكون بوسع النوع البشري أن ينتظر ما هو أفضل من الوضع الليبيرالي الراهن، بوصفه قد صار ضربًا من القدر.

(٢-٣) صراع الحضارات

وهي طريقة أخرى في حكي تاريخ المستقبل نعثر عليها في كتاب ساموال هنتنغتون «صدام الحضارات وإعادة تأسيس النظام العالمي»،١٤ وهو كتاب يقترح فيه هنتنغتون ترسانة مفهومية جديدة من أجل تفسير العلاقات الدولية الحالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية ثمانينيات القرن العشرين. وتقوم أطروحته على القول بضرب من الصدام الديني بين الحضارات ضمن نوع من التأويل الجيوسياسي للمشهد العالمي؛ وذلك أن العالم قد صار ينقسم عنده إلى حضارات كبرى دخلت في حقبة جديدة للسياسة المعولمة. وقد اعتُبرت فكرة صدام الحضارات براديغمًا سياسيًّا جديدًا لكل ما يحدث وما سيحدث في المستقبل، وكأنما الإنسانية لن تنجو من هذا الصدام بين الديانات والهويات والحضارات، مما أثار العديد من السجالات والنقاشات الحادة لهذه الفكرة. وقد وقع اعتبار هذه الطريقة في سرد المستقبل طريقة مُشطَّة وخطيرة أيضًا مثل فكرة نهاية التاريخ تمامًا. وفي هذا المعنى كتب إدغار موران ما يلي: «إنه بقدر ما نعتقد في صدام الحضارات بقدر ما نتخذ إجراءات سياسية وعسكرية من أجل مواجهة هذا الصراع الحاسم. وبالمثل، بقدر ما نعتقد في نهاية التاريخ، بقدر ما نعتقد أنه لن يكون بوسعنا أن نجد أي شيء خارج الديمقراطية البرلمانية والاقتصاد الليبيرالي، وبالتالي لن نذهب للبحث عن حلول من نمط مغاير، وهكذا سوف يرهن الحاضر المستقبل.»١٥

(٢-٤) الأزمة الإيكولوجية وإتيقا المستقبل

تتمثل هذه الأزمة في الضرر الذي أصاب الطبيعة وكوكب الأرض عمومًا من جرَّاء التلوث والتجارب النووية، والتضخم السكاني، والحروب المتتالية، والاحتباس الحراري، كل هذه العوامل جعلت فكرة المستقبل تتحول شيئًا فشيئًا إلى فكرة هشة ومقلقة إلى حد اقترنت فيه بمفهوم الكارثة والقيامة ونهاية العالم. ولقد وجدَت هذه الأزمة الإيكولوجية صياغتها الفلسفية العميقة ضمن كتاب للفيلسوف الألماني المعاصر هانس جوناس تحت عنوان «مبدأ المسئولية».١٦ وهو كتاب يشخِّص فيه صاحبه الملامح الأساسية للأزمة الإيكولوجية ومخاطرها على إمكانية الحياة على الأرض في المستقبل. وهو ما جعله يقترح ضرورة التفكير بإتيقا كفيلة بتوجيه الإنسانية الحالية الوجهةَ الكفيلة بضمان شروط إمكان مستقبل الأرض، بما هي مسكن الكينونة بالنسبة للإنسانية برُمَّتها. وتقوم هذه الإتيقا على المسئولية الأخلاقية تجاه العالم، وتجد في المبدأ التالي رهانها الرئيس: «أن إنسانيةً ما ينبغي أن تكون»، وهو مطلب لا يستقيم إلا متى كانت كل أفعال البشر قائمة على الأمر القطعي التالي: «اعمل على نحو تكون فيه نتائج عملك متلائمة مع استمرارية حياة بشرية أصيلة على الأرض».١٧

إن أهم ما نظفر به من هذه المقاربة هو بخاصة اختراع مفردات جديدة للتفكير بالمستقبل. وتبعًا لذلك، وبعيدًا عن التفاؤل والتشاؤم، ينبغي التفكير بمفهوم جديد، هو مفهوم المسئولية. إن المشكلة لا تكمن في التقدم ولا في الكارثة، بل في أن المستقبل لم يعد ممكنًا أصلًا لو واصلَت الإنسانية سياساتها الإيكولوجية والحربية الحالية.

(٣) لكن كيف يمكن إنقاذ المستقبل؟

عن هذا السؤال يجيبنا إدغار موران في أحد أهم كتبه الأخيرة بعنوان السبيل لأجل مستقبل البشرية، وفيه يشتغل الفيلسوف الفرنسي على «البحث عن السبيل التي من شأنها أن تنقذ البشرية من الكوارث التي تهددها».١٨ أما عن الرهان الكبير فهو التدرب على صناعة الأمل علمًا، وأن «ما نستطيع أن نأمل فيه ليس أفضل العوالم الممكنة، بل إقامة عالم أفضل.»١٩
ينطلق إدغار موران من تشخيص لوضعية العالم اليوم منذ ثمانينيات القرن الماضي، التي تزامنت مع سقوط الاقتصاديات الاشتراكية، وانحدار العالم نحو الرأسمالية المتوحشة كنظام عالمي للسيطرة على كل مجالات الحياة. وهو نظام أدى إلى ظهور العديد من الأزمات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والديمغرافية والسياسية. هي الأزمة العميقة للعولمة التي تحولت منذ ١٩٨١م إلى ما يسميه إدغار موران الكوننة، التي أدت إلى موجة من الدمقرطة الواسعة، وأنتجت مسارات ثلاثة؛ هي مسار التنميط على نموذج أمريكي، ومسار ثقافات السكان الأصليين، ومسار تهجين ثقافي. ما حدث من أزمات عالمية صلب العولمة الغربية والنيوليبيرالية جعل «الغرب يشعر في داخله بنقص حاد؛ إذ تتزايد العقول العاجزة المنادية باستخدام التحليل النفسي، وتمارين اليوغا الهندية، والتأملات البوذية، وباللجوء إلى المشعوذين.»٢٠
لقد دفعت هذه المسارات نحو الهاوية بالعالم إذن إلى سلسلة من الأزمات المعقدة والمتشابكة والمتداخلة معًا؛ أزمة في توحيد الإنسانية بانهيار أسطورة التقدم الغربية، وعودة الهويات الثقافية؛ أزمة بيئية مع تزايد تدهور المحيط الحيوي والاستغلال المُشطِّ للطبيعة؛ أزمة اجتماعية صلب الحضارة الغربية نفسها القائمة على أنانية الأفراد التي دمرت أواصر التضامن التقليدية؛ أزمة ديمغرافية تمظهرت مع تزايد عدد السكان في البلدان الفقيرة، وانخفاضها في البلدان الغنية؛ أزمة سياسية تتجلى في عدم قدرة السياسيين على التفكير في هذه الكوارث معًا ومواجهتها؛ أزمة دينية، بحيث «تعيش الأديان بدورها أزمة، فهي من جهة قد تراجعت بسبب تطور العلمانية على حسابها، ومن جهة أخرى تعاني من الصراعات الداخلية بين الطوائف المتناحرة.»٢١ حول هذه الوضعية الكارثية التي تهدد الإنسانية يكتب إدغار موران ما يلي: «إننا نغرق في عصر حديدي كوكبي؛ ذلك أن الرأسمالية المتوحشة ليست هي الخطر الوحيد الذي يهدد الإنسانية اليوم، بل هناك أيضًا التعصب المسعور، والديكتاتوريات المتصلبة.»٢٢

أما عن السبيل نحو مستقبل البشرية، فقد تم تفريعها إلى سبل كثيرة من أجل الأمل في مستقبل أفضل. السبيل الأولى هي «الوطن-الأرض» بوصفها مشتركًا كونيًّا يجمع الإنسانية جمعاء خارج حدود الدول والخرائط الاستعمارية التي صممتها الدول الإمبريالية. ثانيًا: ضرورة التخلص من وهم السيطرة على العالم القائمة على أسطورة التقدم الغربية. ثالثًا: الإصلاح المعرفي، والتحول من الفكر البسيط إلى الفكر المركَّب، أي: إدراك ترابط المعارف وتشابكها في أفق إصلاح شامل لنمط تفكيرنا ولنمط حياتنا، وذلك عبر إصلاح تربوي شامل أيضًا، وسياسات تكافلية وتهجينية. رابعًا: على الإنسانية أن تدرك أنها تتقدم باتجاه الكارثة، وذلك يعني أن المشترك بيننا اليوم هو الهلاك، لكن الاستباق على الكارثة يمكن أن ينقذنا منها. خامسًا: ينبغي علينا أن نخفف من سقف طموحاتنا. المطلوب ليس السعادة، بل التخفيف من البؤس الناتج عن التفقير والتصحير والعنف والحروب الدائمة بين الأصوليات. سادسًا: أن هذا التاريخ هو الذي أُنهِك، وليست قدرات البشرية الخلَّاقة.

خلاصة القول: الفلسفة مطالَبة بالاستثمار في صناعة الأمل. أما المبادئ الكبرى لفلسفة في الأمل فهي تقوم على أن «السبيل العظمى لا باب لها. إن آلاف الطرق تؤدي إلى هناك»، وهو مثل بوذي. وهي خمسة مبادئ، هي: (١) انبثاق اللامتوقع وظهور اللامحتمل. (٢) الفضائل التوليدية والإبداعية المتأصلة في الإنسانية. (٣) فضائل الأزمات. (٤) فضائل الخطر. (هولدرلين «حيثما يتعاظم الخطر يتزايد عدد المنقذين»، وحيثما ينمو اليأس، يتعاظم الأمل أيضًا.) (٥) تطلع البشرية التليد إلى التآلف.٢٣
هكذا تحدث سرديات المستقبل اليوم، وهكذا تقع كتابة تاريخ هذا المستقبل، منذ التقدم التنويري، إلى الكارثة ما بعد الحديثة، مرورًا باستعارة هيدغر الرومنسية «وحده إله بوسعه أن يسعفنا.» لكن رغم ذلك، ربما لا أحد بوسعه التنبؤ بما سيكون عليه هذا المستقبل؛ لأنه إنما يأتي دومًا من الجهة التي قد لا نتوقعها، فقد تظهر عقائد جديدة أو حتى أديان جديدة، وقد تظهر أيضًا إبداعات ثورية أفضل، وفي كل الحالات يبدو أن الإنسانية الحالية قد دخلت بعدُ فيما يسميه الخبراء بمجتمعات المخاطرة،٢٤ والمغامرة المجهولة. وصفوة القول أن هذه التحولات البيولوجية والتكنولوجية والرقمية التي تعيشها الإنسانية الحالية تقتضي أن تصاحبها تحولات ثقافية واجتماعية عميقة، بحيث لا ينبغي إيداع ما تبقى من الإنساني فينا بين أيادي التكنولوجيا والآلات والعلوم بعامة؛ لأن العلم لا يفكر. وربما يتوجب على الإنسانية الحالية السيطرةُ على أحلامها، بحيث يكون بوسعها أن تقترف أخطاء أقل فظاعة، وأن تمتلك أوهامًا أقل خسائر وتكاليف.
١  Kant, E., Sur le lieu commun: Il se peut que ce soit juste en théorie, mais en pratique, cela ne vaut point, in: Œuvres philosophiques, T. III, Paris, Gallimard, 1986, p. 292.
٢  Ibid., p. 294.
٣  Kant, E., La Fin de toutes choses, in: œuvres Philosophiques III, Op. cit., p. 318.
٤  Kant, E., Le conflit des facultés, in: Œuvres philosophiques III, op. cit., p. 887.
٥  Ibid., p. 890.
٦  Ibid., p. 892.
٧  Ibid., p. 893.
٨  Ibid.
٩  Ibid., p. 894.
١٠  انظر: فريديريش نيتشه، ما وراء الخير والشر: تباشير فلسفة المستقبل، ترجمة جيزيلا فالور حجَّار، لبنان، دار الفارابي، ٢٠٠٣م، فقرة رقم ٤٢، حيث نقرأ ما يلي: «فلاسفة للمستقبل، يلوح في الأفق جنس جديد من الفلاسفة، وأجرؤ على أن أعمِّدهم باسم لا يخلو من الخطر، فإن فلاسفة المستقبل هؤلاء يودون … أن يُسموا مجربين …»
١١  انظر كتابنا: الفن في زمن الإرهاب.
١٢  Benjamin, W., Livres des passages, Cerf, 2006.
١٣  Y. F. Fukuyama, The End of History and the last Man, Free press, 1992.
١٤  Samuel Hintington, The Clash of Civilizations and the Remaking World Order, Harvard, 1996.
١٥  Morin, Edgar, Le paradigme perdu: la nature humaine, Paris, Seuil, 1973, pp. 92-93.
١٦  Hans Jonas, Le principe respon sabilité, Paris, Cerf, 1996.
١٧  انظر كتابنا: كانط والحداثة الدينية، بيروت، المركز الثقافي العربي، ٢٠١٥م، ص١٣٩–١٧٩.
١٨  إدغار موران، السبيل لأجل مستقبل البشرية، ترجمة وتقديم وتعليق: بشير البعزاوي، بيروت، منشورات الجمل، ٢٠١٩م، ص٢٧.
١٩  نفس المصدر، ص٤٢١.
٢٠  نفسه، ص٣٦.
٢١  نفسه، ص٤٠-٤١.
٢٢  نفسه، ص٤٩.
٢٣  نفسه، ص٤٢٤.
٢٤  Ulrich Beck, La société du risque, Paris, Aubier, 2001.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤