الفصل الثاني

ما ليس بعدُ … المستقبل وأحلام اليوتوبيا

هل ما زال ممكنًا الاستثمار في اليوتوبيا بعد أن تم الإعلان عن نهاية اليوتوبيات بنهاية عصر السرديات الكبرى؟ الفيلسوف الإيطالي أغمبان يوصينا ﺑ «الشجاعة على اليأس»، في حين يقترح علينا فوكو «شجاعة الحقيقة»، وبين اليأس والحقيقة ثمة دومًا مساحة للأمل كما عبَّرت عنه كلمة لماركس: «إن ما أعيشه داخل مجتمعي من كوارث يمنحني القدرة على الأمل.» ولقد مثلت اليوتوبيات دومًا مخزنًا روحيًّا للأمل في مستقبل أجمل.

اليوتوبيا كلمة يونانية الأصل، وتعني حرفيًّا «اللامكان»، وتعني مجازيًّا مدينة السعادة حيث يتساوى جميع الناس في الخيرات والحقوق والواجبات، لكن بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي ثمة تواطؤ تأويلي سري؛ أن يوتوبيا هي مجرد تخييل أدبي افترعه المخيال البشري منذ جمهورية أفلاطون، والمدينة الفاضلة للفارابي، وجزيرة يوتوبيا لتوماس مور، وصولًا إلى كتاب مبدأ الأمل لإرنست بلوخ. لكننا نتكلم اليوم منذ ستينيات القرن الماضي عن نهاية اليوتوبيات، في سلسلة من النهايات الرمزية التي وقَّعها العقل الحديث منذ إعلان هيغل عن نهاية الفن، وتوقيع ألبار كامو نهاية الإيديولوجيا، وإعلان ليوتار عن نهاية السرديات الكبرى، وصولًا إلى إعلان فوكو عن نهاية الإنسان، وتوقيع فوكو ياما نهاية التاريخ، وإعلان دريدا عن نهاية حضارة الكتابة والدخول ضمن عصر الكتابة، هل يعني هذا أن عصر النهايات قد أغلق باب الأمل أيضًا، وهرَّب الأفق بعيدًا عن عيوننا المتعبة بكآبة هذا العالم المعطوب؟ هل بوسعنا منع المخيال البشري من الحلم بعالم أفضل؟ وهل يمكن الإيمان بالمستقبل دون يوتوبيا؟

(١) يوتوبيا عنوان كتاب وقَّعه توماس مور بتاريخ ١٥١٦م١

وهو بذلك قد سجَّل هذا المفهوم ضمن البيت الداخلي لتاريخ أفكار العقل البشري العالمي، من أجل أن تتحول اليوتوبيا بذلك إلى حقل بحث وإبداع أدبي وفلسفي مستقل بذاته، ويُعَد هذا الكتاب مشروعًا سياسيًّا وأدبيًّا وفلسفيًّا يقترح فيه مور تخييلًا أدبيًّا لعالم مغاير لما كانت عليه بريطانيا في عصره. ويوتوبيا هو اسم لجزيرة خصَّص مور القسم الثاني من كتابه لرسم معالمها، والقيم التي تنظِّمها، ومعتقدات سكانها، ونمط تدبير اقتصادها. ولقد اختار مور أن يجسِّد يوتوبيا على سطح جزيرة من أجل تحصينها جيدًا عن كل أشكال الفساد التي قد تأتيها من المدن المجاورة. في هذه الجزيرة المثالية التي تتخذ من «أموروت»، أي: «المدينة القاتمة»، عاصمةً لها. ليس ثمة ملكية فردية، والكل فيها مجبَر على تغيير مسكنه مرة كل عشر سنوات، وكل المنازل هناك متماثلة، وليس ثمة أقفال لإغلاقها. وكل شيء فيها متماثل، وهو ما يكتبه مور قائلًا: «وبالجزيرة أربع وخمسون مدينة كبيرة جميلة، تتكلم جميعًا بنفس اللغة، ولها نفس التقاليد والعادات، وتسودها ذات القوانين والنُّظم.»٢ بالإضافة إلى أن البطالة ممنوعة في هذه اليوتوبيا، وليس ثمة نساء رهينات بالبيوت، ولا قساوسة ولا كهنة معابد، ولا نبلاء ولا متسولون.

(٢) رواية «٢٤٤٠: حُلم لو يتحقق يومًا» (١٧٧١م)

بعد يوتوبيا لتوماس مور، تُعَد رواية «٢٤٤٠: حلم لو يتحقق يومًا» (١٧٧١م)،٣ للروائي لويس سيبستيان مارسييه (١٧٤٠–١٨١٤م)، أهمَّ رواية يوتوبية استبقت على فلسفة التنوير نفسها. ولقد وقع اعتبارها أول يوتوبيا تتخذ من الزمان موقعًا لها، وذلك بدلًا عن المكان، مثلما هو الأمر لدى كل اليوتوبيات السابقة منذ تخييل المدن الفاضلة (أفلاطون والفارابي)، إلى جزيرة توماس مور نفسه. ويتعلق الأمر بحلم دام سبعة قرون يستيقظ بعده الروائي من أجل أن يجد فرنسا في زمان أجمل، وفي عالم تحكمه الحكمة والعقل والحرية وقيم التقدم. وقد كتب صاحب الكتاب مارسييه بأنه «النبي الحقيقي للثورة»، بوصفه قد استبق على قيم الثورة الفرنسية قبل وقوعها. ولقد أثَّرت هذه اليوتوبيا بعنوان ٢٤٤٠ تأثيرًا كبيرًا في الفلاسفة والرومانسيين الألمان في القرن الثامن والتاسع عشر، من قبيل فيخته وغوته وهردر وياكوبي وريختر وشيلر، بحيث سيكتب شيلر رسائل في التربية الجمالية للإنسان (بتاريخ ١٧٩٤م) في أفق مشروع طوباوي تنويري يراهن على تربية النوع البشري وتدريبه على قيم الحرية والعقل والجمال.

(٣) إرنست بلوخ ومبدأ الأمل

يُعتبر كتاب الفيلسوف الألماني المعاصر إرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م) مبدأ الأمل،٤ بتاريخ ١٩٥٤–١٩٥٩م؛ أول اشتغال فلسفي حاسم على فكرة اليوتوبيا، التي لم تعد مجرد تخييل أدبي، بل صارت إلى مفهوم فلسفي له حقل تشريع خاص. ولقد عاش إرنست بلوخ فترة الحربين العالميتين حيث انهارت فكرة اليوتوبيا، وأُصيبت الإنسانية بأبشع خيبات الأمل. وضد هذه الصورة القاتمة يعيد بلوخ للبشر قدرتهم على الحلم في مستقبل أفضل. وفي هذا السياق ينشِّط فكرة اليوتوبيا معتبرًا أن العالم يفتقر اليوم إلى الأمل. وفي هذا المعنى تقوم يوتوبيا بلوخ على مقاومة كل أشكال التشاؤم الذي تميزت به مدرسة فرنكفورت، بخاصة مع لوكاتش الماركسي الأورذودوكسي. واليوتوبيا هنا تعوِّل كثيرًا على الحلم بوصفه قدرة على تخزين كمية كبرى من الأمل الموجَّه نحو المستقبل. وهنا يميز بلوخ بين نوعين من الأحلام؛ أحلام ليلية وأحلام نهارية. ويعول بلوخ كثيرًا على هذه الأخيرة، معتبرًا أن الأحلام النهارية تخص أساسًا حياة فردية أفضل. وبعيدًا عن كل أشكال اليوتوبيا المتعالية عن وجود البشر، والتي تعتبر الخلاص بيد قوًى مفارِقة لتاريخ الناس الفعلي. يؤسس بلوخ لما يسميه «يوتوبيا ملموسة»، أي: تلك التي بوسعها تسجيل الأمنيات وضخُّها ضمن العالم المادي للبشر. لكن كيف يتم تحويل اليوتوبيا من أفق لاهوتي فوق بشري، إلى أفق تاريخي مادي ملموس؟ ها هنا ينبغي التشديد على تصور طريف للمستقبل لا بوصفه ركحًا للصدفة أو للمعجزة أو للخرافات، بل بوصفه هو فقط «ما ليس بعدُ»، وذلك يعني أنه لم يعد بوسعنا اختزال العالم فيما يحدث فقط، أو فيما ينبغي أن يحدث وفق ضرورة أخلاقية أو لاهوتية أو سياسية جاهزة، إنما يقع نحت مفهوم جديد للمستقبل تحت راية مفهوم طريف، أي: «ما ليس بعدُ»، أي: ما يمكن أن يحدث. ها هنا ينفتح أمام البشر أفق مغاير، هو أفق الإمكانات اللامتناهية التي بحوزتهم، والتي بوسعهم التوجه نحوها وجعلها ممكنة أيضًا. إن باحة الممكن هي إذن حديقة وسيعة مفتوحة أمام كل المؤمنين بقدرتهم على إنجاز أشكال جديدة من الحياة، وهو ما يقترحه بلوخ معتبرًا أن الحياة بين أيدينا، وما علينا إلا أن نحيا. ووفقًا لهذا المعنى ينفتح مبدأ الأمل بوصفه مبدأ لليوتوبيا الفلسفية أيضًا على باحة من الأهواء التي يجمِّعها بلوخ ضمن ما يسميه «هذا الاندفاع الدائم إلى الأمام»، بوصفه محركًا وجوديًّا لليوتوبيا بما هي توجُّه نحو المستقبل؛ ذلك أن الحاضر يفلت منا دومًا، ولا نستطيع أن نكون أسيادًا لما يحدث لنا فيه، فنحن دومًا في حالة صيرورة، ونحن دومًا قيد الحدوث فقط؛ ذلك أن وجودنا نفسه إنما يستمد أصله من المستقبل وليس من الماضي، وربما يكون الماضي نفسه أحد انفعالات المستقبل؛ لذلك نحن نتمسك به من أجل العبور دومًا إلى ضفة أخرى. لكن كيف العبور إلى ممكن جديد؟ ما هي شروط إمكان انبثاق هذا «الليس بعدُ» في أفق حضارة ما؟ يتعلق الأمر بأشكال من التوجه نحو المستقبل يجسِّدها الفن، وكل أشكال الإنتاج الفكري والمعرفي والإبداعي عمومًا. وهكذا لا يتم العبور نحو «ما ليس بعدُ» عبر أي شكل مفارِق للعقل البشري ولمخيِّلته التي لا حدود لها. فما ليس بعدُ بوصفه العبارة اليوتوبية النموذجية إنما ينبثق دومًا ضمن التاريخ الحقيقي للشعوب، وهو بهذا المعنى يوتوبيا ملموسة؛ وذلك لأن الزمن الذي تبشر به هذه اليوتوبيا هو الزمن التاريخي، وليس زمن الميثولوجيا، أو أبدية الآلهة، أو كرونوس الذي يأكل أبناءه.

يقول بلوخ عن هذه اليوتوبيا ما يلي: «إن الوعي اليوتوبي يريد أن يبصر بعيدًا جدًّا، من أجل اختراق أفضل للظلام القريب جدًّا من المعيش.» وهنا علينا التشديد على أن الأمل يعني ها هنا «الجديد على الدوام»، أي: إنه ينبغي على كل شعب أن يخترع العالم الذي يريد العيش فيه. ليس ثمة من عالم جاهز ثابت غير قابل للتغيير، بل ثمة فقط عوالم ممكنة بوسعنا أن نختار من بينها أفضلها أو أقبحها، كلٌّ واقتداره على إنجاز الممكن الذي بحوزته. ثمة لحظة لقاء ما تحصل دومًا بين وعينا الاستباقي بما يمكن أن ننجز، وبين العالم بوصفه قدرة على الكينونة، وإن هذا اللقاء وحده هو الذي يجعل «اليوتوبيا الملموسة ممكنة»، لكن هذا اللقاء لا يحدث دومًا بنفس الطريقة، فلكل شعب ولكل عصر طريقة لقائه بالعالم، وهذا يعني أن لكل مجتمع يوتوبيا خاصة به، ولا يمكن أن نحلم إلا صُلب التاريخ الذي ننتمي إليه، وكل من يواصل حلمًا لا يخصه لا يمكنه اختراع الحياة المناسبة لطموحاته، فنحن جميعًا كأفراد أو كشعوب جملةُ ممكنات بوسعها أن تكون دومًا على نحو جديد، وهو معنى العلاقة التأويلية التي تقرِّب العالم من أحلامنا، أي: إن اليوتوبيا تكمن في كل إمكانية لإدراك الوجهة التي بوسع التاريخ أن يتخذها في مسار ثقافة ما من أجل عالم مغاير، وهذا يعني أن الأمل إنما يتجذَّر دومًا بالنسبة إلى ثقافة ما أو شعب ما فيما هو «بصدد الصيرورة»، أي: فيما «سوف يأتي» دون أن تقترن هذه العبارات بشحنة سالبة من قبيل الأوهام الكاذبة التي حدَّثنا عنها نيتشه، بما هي ضرورية من أجل «ألا نموت من الحقيقة».

لكن إرنست بلوخ ينظِّر لشكل مغاير للحقيقة، يقول: «إن العالم كما هو ليس حقيقيًّا، ثمة مفهوم ثانٍ للحقيقة، ليس مفهومًا وضعيًّا، وليس قائمًا على معاينات وقائعية، إنما هو مفهوم محمَّل بقيمة ما.»٥ وهنا ينبغي الإشارة إلى أن اليوتوبيا التي نظَّر لها كتاب «مبدأ الأمل» هي يوتوبيا ثورية قائمة على فكرة الشيوعية كما نظَّر لها ماركس، لكن هذا النمط من اليوتوبيا لا يمكن فصله عن نوع من التصور المهدوي المضاد لمقولة التقدم التنويرية. وفي هذا السياق يذهب قراء بلوخ إلى أهمية الدين داخل الوعي اليوتوبي، لكن الأمر يتعلق ﺑ «دين من نوع خاص جدًّا؛ إنه دين ملحد، هو مملكة الرب دون رب، بحيث يمكن الحديث عنده عن ضرب من الديمقراطية الصوفية.»٦ وفي هذا السياق يكتب إرنست بلوخ ما يلي: «ليس الإلحاد عدوًّا لليوتوبيا الدينية إلا قليلًا، بل هو يمثِّل الفرضية الخاصة بها؛ فمن دون النزعة الإلحادية لا يمكن للنزعة المهدوية أن تكون.»٧ وضمن أفق هذه اليوتوبيا الدينية الملحدة يحرص إرنست بلوخ على تمييز إلحاده عن المادية المبتذلة. إن ما يراهن عليه تحديدًا هو «إنقاذ مضامين الدين اليوتوبية التي نعثر فيها على الفكرة الشيوعية.»٨ لكنْ أيةُ علاقة حينئذٍ بين النزعة المهدوية والشيوعية؟ يجيبنا بلوخ بأن الأمر يتعلق باليوتوبيا الملموسة التي تقدِّمها الشيوعية للتصور الديني المهدوي، وذلك انطلاقًا من الإرادة الثورية التي توجِّه الفكر اليوتوبي نحو تغيير عملي للعالم. إن المستقبل الذي يكمن ضمن اليوتوبيا الملموسة التي تجمع بين الدين والماركسية؛ هو ما ليس بعدُ في كل تجلياته، إنه ما لم يحدث في وعي الإنسان بعدُ، وما لم يحدث في التاريخ، وما لم يوجد في العالم أيضًا، هو عالم يخلو من الآلام والرعب والاغتراب، ذاك هو المقصد اليوتوبي الكبير. إن الفلسفة التي يراهن عليها إرنست بلوخ هي الفلسفة التي تدافع عن المستقبل بوصفها «معرفة بالأمل، وإلا لن تكون لديها أية معرفة أصلًا.»٩ لكن أكثر ما يؤاخَذ عليه هذا الكتاب هو أنه بالرغم من كونه لا يكفُّ عن التنظير للمستقبل، إلا أنه لا يخبرنا شيئًا عنه؛ وذلك لأن هذا الفيلسوف إنما «يبحث عن المستقبل ضمن آمال الماضي، المستقبل بما هو وعد لم يُنجَز بعدُ.»١٠ وهكذا يقع شطب الحدود بين المستقبل والماضي؛ لأن المستقبل وإن لم يحدث بعدُ، فلقد كان مرئيًّا في أحداث الماضي.

(٤) هل يمكن القول بنهاية اليوتوبيا؟

بالرغم من كل أشكال الديستوبيا، أي: اليوتوبيات المضادة، من قبيل تلك التي كتبها ألدوز هكسلي صاحب رواية «أفضل العوالم الممكنة» بتاريخ ١٩٣٢م،١١ ومن بعده جورج أوروال صاحب رواية «١٩٨٤»،١٢ التي كتبها بتاريخ ١٩٤٩م، وفيها يصور لنا عالمًا مرعبًا بعد حرب نووية بين الجنوب والشمال، فإن الحاجة إلى اليوتوبيا لا تزال ضرورية في هذا العصر المصاب بالاكتئاب والبؤس المعولم، وهو ما كتبه راسل جاكوبي في كتابه «نهاية اليوتوبيا» بتاريخ ١٩٨٢م قائلًا: «لقد تلاشت الروح اليوتوبية بمعناها المتمثل في أن المستقبل يمكن أن يتجاوز الحاضر.»١٣ ورغم ذلك يكتب جاكوبي ضد أطروحة نهاية اليوتوبيا قائلًا إن «المستقبل يمكن أن يتجاوز الحاضر، وإن نسيج الحياة والعمل وحتى الحب في المستقبل، قد لا يحمل سوى تشابُه ضئيل بما هو مألوف لنا اليوم، وأنا أُلمح هنا إلى أن فكرة التاريخ تحمل إمكانات للحرية وللمتعة لم تكد تُستغل بعدُ.»١٤
ينبغي الدفاع عن اليوتوبيا ضد كل القائلين بنهايتها. ذاك هو هدف جاكوبي في هذا الكتاب الذي كتبه في آخر سبعينيات القرن الماضي حيث ازدهرت فلسفات النهايات، بدءًا بنهاية الإيديولوجيات، ونهاية السرديات الكبرى، ونهاية التاريخ والإنسان، وموت الإله والذات، وولادة مشهد الحداد المعمَّم، والاكتئاب البائس في نهاية قرن الحروب والفاشيات بألوانها، وإهدار الدماء، وتراكم آلام الضحايا في ضمير الإنسانية المعذَّب. ويلخِّص صاحب كتاب نهاية اليوتوبيا هذا المشهد قائلًا: «إنني أرسم في هذا الكتاب لوحة للتراجع الثقافي؛ خسر الراديكاليون نصيبهم، وفقد الليبيراليون عزائمهم.»١٥ إن الأمر يتعلق بمشهد الانهيار العالمي بعد انهزام الشيوعية، وفتور الليبيرالية بتحويلها الإنسانية إلى سوق كبيرة، لكن المشكلة لا تكمن في الهزيمة فقط، إنما في «الإنهاك الثقافي» العام الذي ظهر بعد الإعلان عن دخول العالم في سلسلة من النهايات. ولقد مثَّلت أطروحة «نهاية الإيديولوجيات» أولها. وهي فكرة يؤرخ لها جاكوبي انطلاقًا من ألبار كامو بتاريخ ١٩٤٦م، وخاصة انطلاقًا من نص للمفكر اليميني رايمون آرون بتاريخ ١٩٥٥م، في نص له بعنوان «أفيون المثقفين»، وذلك إثر موت ستالين، وانتشار ضرب من القناعة بأن «الشيوعية قد خسرت معركة الأفكار مع الغرب.»١٦ ومن نتائج هذا التصور الإقرار بنهاية إيديولوجيا الثورة، وظهور دولة الرخاء، والإعلان عن الرأسمالية بديلًا وحيدًا للعالم. وهو ما جعل الإقرار بنهاية اليوتوبيا والراديكالية، وانتصاب الليبيرالية وإيديولوجيا السوق منظومةَ حياة شموليةً للعالم برُمَّته. وهو ما سيستأنفه فرانسيس فوكو ياما بطريقة مغايرة، بإعلانه عن نهاية التاريخ التي لا تعدو، وفق عبارات جاكوبي، غير «إعادة صياغة — ذات زخرف فلسفي — لتلك الحُجج المبتذلة حول نهاية التاريخ.»١٧ لكن إذا كانت أطروحة نهاية التاريخ لفوكو ياما تَعتبر أن انتصار الغرب قد نتج عن إنهاك كامل لأي بدائل أخرى غير الرأسمالية، وهو ما أدى إلى انتصار الليبيرالية الاقتصادية، وانهزام الراديكالية وإفراغها من القدرة على اختراع المستقبل؛ فإن جاكوبي يرسم حدود هذه الأطروحة قائلًا: «غير أن الهواجس تشوِّش ابتهاج فوكو ياما، فموت المعارضة الراديكالية سيصحبه أيضًا رحيل المثالية والعاطفة، ولن تبقى سوى التنظيمات التجارية، والتعريفة الجمركية.»١٨ كم هو حزين عالم ليس فيه غير السلع والأسواق والحوانيت! بلا يوتوبيا وبلا راديكاليين وحالمين، ولا شعراء ولا فلاسفة ولا مغامرة ولا خيال، هكذا أيضًا تحسَّر فوكو ياما نفسه على عالم بلا يوتوبيين ولا فوضويين. ستكون حينئذٍ «نهاية التاريخ حدثًا جد حزين»، ولن يبقى فيه «غير الحسابات الاقتصادية، والاهتمامات البيئية، وإشباع المطالب المتحذلقة للمستهلكين، لن يكون ثمة لا شعر ولا فلسفة، فقط الوصاية الدائمة على متحف التاريخ الإنساني.»١٩
وفي الحقيقة إن الحديث عن نهاية اليوتوبيا يعود إلى نص محاضرة ألقاها هربرت ماركوز سنة ١٩٦٧م.٢٠ وتجد هذه المحاضرة نقطة انطلاقها في فكرة أساسية يعتبرها ماركوز بمثابة المسلَّمة، تتمثَّل في أن «كل تغيير للعالم قد صار اليوم إلى إمكانية حقيقية، لها مكانها الفعلي في التاريخ.»٢١ ووفقًا لهذه المسلَّمة التي صارت كذلك منذ ماركس، فإنه قد صار بوسعنا اليوم أن نجعل من العالم جحيمًا، أو أن نسير في الطريق المضاد تمامًا. وضمن هذا السياق يعالج ماركوز مسألة نهاية اليوتوبيا، وذلك في معنى هذا الدحض للنظريات التي استخدمت اليوتوبيا من أجل الاعتراض على بعض الإمكانيات التاريخية والاجتماعية. وبهذا الاعتبار يفترض ماركوز أن «نهاية اليوتوبيا» هي «نهاية التاريخ»، في معنًى مفاده أن الإمكانات الجديدة للمجتمع البشري لا يمكن تخيُّلها بما هي مواصَلة للمجتمعات القديمة، وبالتالي إن كل تغيير للعالم يستوجب قطيعة مع الاستمرارية التاريخية للوضع الحالي للعالم، أي: يستوجب فرقًا نوعيًّا بين المجتمع الحر والمجتمعات القمعية، وهنا يتنزَّل نقد ماركوز لفكرة اليوتوبيا مثلما رسمها ماركس. وهو يقول في هذا الصدد ما يلي: «أنا أعتقد أن ماركس كان هو بدوره متمسكًا جدًّا بفكرة استمرارية التقدم، وأن تصوُّره للاشتراكية لم يَعُد يمثِّل هذا النفي المتعين للرأسمالية.»٢٢
والمقصود بهذا النقد لماركس هو ضرورة مراجعة فكرة نهاية اليوتوبيا، وذلك بإعادة النظر في تعريف جديد للاشتراكية نفسها بوصفها توقيعًا لنهاية اليوتوبيا، وتحقيقًا لليوتوبيا في التاريخ. إن ما يقترحه ماركوز في هذا النقد لماركس هو ضرورة «فحص ما إذا كانت النظرية الماركسية للاشتراكية لا تنتمي إلى لحظة تطور قوى الإنتاج التي قد وقع تجاوزها بعدُ.»٢٣ لكن من أجل أن نعالج مسألة اليوتوبيا بما هي «مفهوم تاريخي، هو سمة مشاريع التغيير الاجتماعي التي نعتبرها مستحيلة»،٢٤ كما يعرِّفها هربرت ماركوز، فإننا مطالَبون بتحديد الإمكانات التاريخية للتغيير وفق براديغم القطيعة والنفي والفرق، بدلًا عن الاستمرارية مع التاريخ الماضي، وعن فكرة التقدم التنويرية التي لم يستطع ماركس نفسه تجاوزها؛ وذلك لأن هذا الأخير قد اعتقد، تبعًا لموقف ماركوز، أن مملكة الحرية لا تتحقق إلا خارج مملكة الضرورة، وأننا لا نتحرر إلا خارج العمل المغترب، في حين يقترح هربرت ماركوز فكرة جديدة حول معنى الحرية، أي: حول معنى اليوتوبيا نفسها. إن الفرق النوعي بين المجتمع الحر والمجتمعات القمعية يكمن في القدرة على جعل الحرية تنبثق وتزهر ضمن مجال الضرورة نفسها، أي: صلب التاريخ وليس خارجه، وذلك يعني تحديدًا أنه لا ينبغي علينا أن نفهم، من هنا فصاعدًا، فكرة نهاية اليوتوبيا، أي: انفتاح العالم على إمكانية التغيير الحقيقي له، في أفق براديغم التقدم التنويري، إنما وفق براديغم القطيعة والفرق والنفي. لكن كيف يتم ذلك؟
يقترح علينا هربرت ماركوز ما يسميه «إعادة تنشيط للبُعد البيولوجي للوجود الإنساني، أي: تغيير الحاجات.»٢٥ والمقصود بهذا الأمر هو إعادة تنشيط حاجات جديدة غير الحاجات التي تعيد إنتاج منظومة المجتمعات القمعية. من هذه الحاجات: الحاجة إلى الحرية نفسها، بوصفها حاجة حيوية؛ ذلك أن الحاجة إلى الحرية لم تَعُد ضرورة حيوية بالنسبة إلى معظم السكان المغتربين للدول الرأسمالية. من أجل تطوير حاجات إنسانية نوعية جديدة يقترح هربرت ماركوز ما يلي: «فكرة أنثروبولوجيا جديدة، ليس فقط بوصفها نظرية، وإنما أيضًا بوصفها نمط حياة، إنه ظهور ونمو حاجة حيوية للحرية، وللحاجات الحيوية المرتبطة بها، حرية لا يتم تأسيسها أبدًا على العمل المغترب داخل الحماقة والضرورة.»٢٦ إن هذه الأنثروبولوجيا التي تعيد إذن تنشيط الحاجة الحيوية إلى الحرية ضد المجتمعات الرأسمالية القمعية؛ تقتضي أيضًا تأسيس أخلاق جديدة مضادة للأخلاق المسيحية واليهودية التي هيمنت على الحضارة الغربية إلى حد الآن، وهي أخلاق لم تنفك عن إعادة إنتاج المجتمع القمعي داخل الأفراد أنفسهم؛ وذلك لأن تغيير مجتمع ما يقتضي تغيير منظومة الأخلاق التي أسَّس عليها ذاك المجتمع تصوره للحرية أيضًا. وفي هذا السياق يكتب ماركوز ما يلي: «إن استمرارية الحاجات التي تم تطويرها وإشباعها في مجتمع قمعي هي التي تعيد، أولًا وقبل كل شيء، إنتاج ذاك المجتمع القمعي داخل الأفراد أنفسهم.»٢٧ وهكذا سيستمر الأفراد أنفسهم في إعادة إنتاج المجتمع القمعي نفسه داخل حاجاتهم الخاصة، وذلك إنما يتم حتى عبر الثورة. وهذا الأمر هو تحديدًا ما عطَّل إلى حد الآن تحقيق نهاية اليوتوبيا، أي: تحقيق القفزة النوعية من الكم إلى الكيف، من أجل إدراك تاريخي وفعلي لمجتمع الحرية.
١  انظر: توماس مور، يوتوبيا، ترجمة وتقديم د. أنجيل بطرس سمعان، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٧م. وقد ظهر الكتاب باللغة اللاتينية في طبعته الأولى تحت عنوان «كتاب مفيد وممتع حقًّا عن الحكومة المُثلى للدولة، والجزيرة الجديدة المسماة يوتوبيا». ويوتوبيا هو اسم للجزيرة المثالية التي أرادها توماس مور (١٤٧٧–١٥٣٥م)، وتعني حرفيًّا لا-مكان. وينتمي الكتاب إلى مجال فلسفي وسياسي وأدبي عريق بدأ مع جمهورية أفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، وآراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي، ومدينة الشمس لكامبانيلا.
٢  نفسه، ص١٤٢.
٣  Louis-Sébastien Mercier, Rêve s’il en fut jamais, Paris, La découverte, Poche littérature, 1999.
٤  Ernest Bloch, Le principe espérance (Volume I, II, III), Paris, Gallimard, 1976, 1982, 1991.
٥  Michael Lowy, “Le principe Espérance” d’Ernest Bloch face au “Principe responsabilité”, in https://f.hypotheses.org/wp-content/blogs.dir/203/files/2013/01/LOWY_Bloch.Jonas_.pdf.
٦  Ibid., p. 7.
٧  Ibid.
٨  Ibid.
٩  Ibid., p. 4.
١٠  Ibid., p. 6.
١١  Aldous Huxley, Le meilleur des mondes, Paris, Plon, 1932.
١٢  George Orwell, 1984 (Roman), Paris Gallimard, 1950.
١٣  راسل جاكوبي، نهاية اليوتوبيا … السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، ترجمة فاروق عبد القادر، الكويت، عالم المعرفة، عدد ٢٦٩، ٢٠٠٢م، ص٩.
١٤  نفسه.
١٥  نفسه، ص١٠.
١٦  نفسه، ص١٢.
١٧  نفسه، ص٢١.
١٨  نفسه.
١٩  نفسه، ص٢٢.
٢٠  Herbert Marcuse, La Fin de l’utopie, Paris, Seuil, 1968.
وينبغي الإشارة هنا إلى أن هذه المحاضرة قد تمت في إطار جملة من المحاضرات والنقاشات التي نظَّمتها لجنة الطلبة الخاصة بالجامعة الحرة لبرلين الشرقية من ١٠ إلى ١٣ جويلية ١٩٦٧م.
٢١  Ibid., p. 7.
٢٢  Ibidem.
٢٣  Ibid., p. 8.
٢٤  Ibid.
٢٥  Ibid., p. 10.
٢٦  Ibid., p. 11.
٢٧  Ibidem.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤