الفصل الرابع

من هم أطفال الثورة الرقمية؟

(إجابة ميشال سار)

يحدِّثنا أطفال الثورة الرقمية من عمق الشاشة العنكبوتية كما من قلب أطلس جديد، لكننا لا نتقن الإنصات إليهم دومًا، وربما ليست لنا بعدُ الآذان المناسبة لأصواتهم. هم الذين يفضِّلون المكوث حذو حواسيبهم بدلًا عن السهر حذونا، هم الذين تؤنسهم الألعاب الافتراضية بدلًا عن حكايا الجدات حيث ترعرعنا، نحن آباءهم وأمهاتهم، الذين لا يكفُّون عن الشكوى مما آل إليه أبناؤهم، المدمنون على الحاسوب. لكن أبناءنا ليسوا أبناءنا، إنهم أبناء الحياة، هكذا قال جبران خليل جبران يومًا. وهكذا أيضًا لم يعد المستقبل كما كان، أي: كما انتظرناه أن يكون، مجرد تكرار منظَّم لعاداتنا القديمة، ولأوهامنا، لمؤسساتنا، لدياناتنا، ولدولنا. نعم أطفالنا قد صاروا أطفال الثورة الرقمية لا ينفصلون عن حواسيبهم أو لوحاتهم الافتراضية، لقد طرحوا رءوسهم جانبًا، واندفعوا نحو معابد جديدة.

نمط جديد من البشر يولَد أمام أعيننا، وفي بيوتنا، ومن أرحامنا، نحن الذين نتأرجح بين منظومة تقليدية منهوكة، وعالم جديد متمرد على قيمنا وأذواقنا، هو عالم أبنائنا. نعم، هم أبناؤنا، أطفال عالم الديجيتال، أطفال افتراضيون لا أحد قادر على أن يمارس عليهم وصايته القديمة، هم الذين اتخذوا من الحاسوب دماغًا جديدًا عوض كل أشكال التفكير التقليدية، ذاك الصندوق الإلكتروني الذي قد يجعل سلطة الآباء وبيداغوجيا الأستاذ والكتاب في شكله الكلاسيكي، وطقوسنا الدينية؛ أمورًا مثيرة للضحك في المستقبل القريب. لكن من هم أبناؤنا؟ لماذا لا يشبهوننا في أذواقنا وفي قيمنا وفي أحلامنا؟ يبدو أننا لم نفكر بعدُ بما يناسب في هذا التحول العميق الذي هو بصدد الحدوث على ماهية الإنسان نفسه، إنسان المستقبل، الذي قد لا يحتاج أفكارنا عن الله، ولا عن الدولة، ولا عن الحب والجنس. وربما لن تكون دولنا ودياناتنا غير ضرب من المزاح الميتافيزيقي لأبناء المستقبل. من الأفضل إذن أن نتحلى بقدر مناسب من الريبية تجاه فكرة المستقبل التي نعتقد فيها أو نخطط لها أو نحلم بها.

هذا النمط الجديد من الإنسان ينبِّهنا إلى ضرورة التفكير فيه الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال سار في كتاب صغير له (٢٠١٢م)، ترجمه إلى العربية د. عبد الرحمن بو علي، تحت عنوان «الإصبع الصغيرة».١ والإصبع الصغيرة، أو الإبهام الصغير، رمز لهوية مجهولة، فلانيَّة، فردية وعالمية، سرية حميمية وتواصلية مشتركة في آن معًا. كيف وُلد هذا النمط الجديد من البشر؟ بأي عالم يحلم؟ وبمَ يحدِّثنا؟
لقد دخلنا عالمًا جديدًا كلُّ شيء فيه تغيَّر. لقد كنا نعيش في القرى، فتحولت أريافنا إلى أماكن لقضاء العطل، فصارت القرى فارغة، في حين تعجُّ المدن بالسكان. لقد امتلأ العالم فجأة، فقفز النمو السكاني من مليارين إلى سبعة مليارات. لم يعد هذا النمط الجديد من البشر يتألم كما نتألم، ولا هو سيموت كما نموت. إنه يستفيد من كل الثورات الطبية، ومن مسكنات الألم، ومن إمكانيات الموت الناعم أيضًا. والسؤال الذي كان من المفروض الانتباه إليه هو: «قبل أن نعلِّم أي شيء لأي شخص، يجب — على الأقل — معرفته، فمن ذا الذي يتقدم اليوم إلى المدرسة الإعدادية، الثانوية، أو الجامعية؟»٢ بدلًا إذن من الاستمرار في خطابات التشكي من التلميذ الجديد، الذي لم يعد يطالع الروايات كما كنا، ولم يعد يخاف من الأستاذ كما خفنا، ولم يعد منضبطًا طيعًا كما انضبطنا، علينا الانتباه إلى هذا العالم الجديد الذي دخلناه؛ عالم الإنترنت بوصفه ثورة معرفية ووجودية عميقة لا أحد منا بوسعه التنبؤ بشكل المستقبل الذي تحمله لأطفالنا.
من هو إنسان السبابة الصغرى؟ هي «السبابة»، أو هو «الإبهام»، كي نحافظ على الاختلاف الجنسي كما يصرُّ على ذلك الفيلسوف عمدًا، «لم يعودا يسكنان الزمن نفسه، بل أصبحا يعيشان قصة أخرى جديدة».٣ هما وقَع تشكيلهما تحت مجهر التكنولوجيات الحديثة منذ أن كان كلٌّ منهما في رحم أمه، إلى أن أصبح إزاء صور يومية للجثث، بحيث «منذ سن الثانية عشرة، يقوم هؤلاء الكبار بإجبارهم على رؤية أكثر من عشرين ألف جريمة.»٤ هما وقَع صنع العالم أمامهما عن طريق الإشهار، بحيث يهمِّش الإعلام المدرسة والجامعة، ونتحول إلى مجتمع مشهدي قائم على زمن جديد، ليس زمن متعة المطالعة أو التفكير أو الاكتشاف، بل هو زمن المشاهدة والاستمتاع والإغراء والنجاعة والبضاعة، هذا النوع الجديد من الإنسان، «إنسان السبابة وإنسان الإبهام» هما، بتوصيف ميشال سار، لا يملكان الرأس نفسه، إنهما لا يعيشان في المساحة نفسها، بل «لم يعد لديهما الجسم نفسه، والعمر المتوقَّع نفسه، ولا يتواصلان بالطريقة نفسها، ولا يريان العالم نفسه، ولا يعيشان في الطبيعة نفسها، ولا يسكنان الفضاء نفسه.»٥ ورغم ذلك، لا أحد منا قد لاحظ ولادة نمط جديد من الإنسان نفسه. يكتب ميشال سار ما يلي: «ومن دون أن نلاحظ نحن أي شيء، فقد وُلد الإنسان الجديد الذي يفصلنا عن سنوات السبعينيات.»٦ إن الأمر يتعلق بحدث أساسي في تاريخ الإنسانية، أو هو فجوة شبيهة، على حد عبارات ميشال سار، «بتلك الفجوات التي وقعت في العصر الحجري، في فجر نشوء العلم اليوناني، في بداية العصر المسيحي، وفي أواخر العصر الوسيط، وعصر النهضة.»٧
ما الذي حدث؟ ما حدث هو أن إنسان الإبهام الصغير لم يولَد كما كنا قد وُلدنا، في شكل من الصدفة البيولوجية العمياء، بحيث بعضنا لم يكن مرغوبًا في ولادته، في حين أن ولادة إنسان «السبابة الصغيرة» هي ولادة مبرمجة، وهو أو هي مرغوب في ولادته ومُحتفًى بها. هو نوع من الهدية، ونحن بعضنا كان قد وُلد كما لو كان زائدًا على اللزوم في نظر بعض من آبائنا. لم نولَد بنفس الطريقة، ولن نموت بالطريقة نفسها؛ لذلك نحن لا نتكلم اللغة نفسها، ولا نسكن نفس العالم.
«السبابة الصغيرة» تحمل رأسها بين يديها. تتنقَّل حيثما شاءت بلمسة لطيفة لأزرار الحاسوب. تفتح حاسوبها، وهي تضع رأسها أمامها، وتمسك بخلايا الذكاء البشري بين يديها. إنها تملك رأسًا مليئًا بمعطيات ومعارف لا تحصَى. وهنا يستعيد ميشال سار أسطورة قديمة للأسقف المسيحي القديس «دنيس»، الذي حمل رأسه المقطوعة بين يديه إلى أعلى التلة بعد أن قُطعت من طرف الجنود الفرنسيين في منتصف الطريق. يقول: «في الآونة الأخيرة، أصبح جميعنا سان دنيس، مثلنا مثله؛ بين أيدينا مربَّع الحاسوب، ذاكرة أقوى ألف مرة من ذاكرتنا، وخيال مليء بملايين الأيقونات، لقد تم طرح رءوسنا في هذا الصندوق المعرفي المجسد.»٨
ثورة جديدة، هي الإنترنت، وعلينا التأريخ لها جيدًا. ولقد شهدت الإنسانية، بحسب ميشال سار، ثلاث ثورات معرفية؛ الكتابة، ثم الطباعة، ثم الإنترنت. وإذا كانت الكتابة قد أعفت البشر من حفظ كل شيء، وإذا كانت الطباعة قد ساهمت في صنع دماغ جيد، فإن الإنترنت قد جعلت المعرفة في متناوَل الجميع. فكيف يمكن اليوم أن نعلِّم أبناءنا وهم يملكون كل المعارف، وبإشارة إبهام واحد يمكن للمدرسة والجامعة والمكتبة أن تتحول إلى متحف قديم للزيارة وللذكرى؟ هكذا لم يعد «رأس الإصبع الصغيرة» مطالَبًا بأن يشتغل كثيرًا كي يحصِّل المعرفة، فكل المعارف متوفرة أمامه في دماغ الحاسوب، وكل معطيات الذكاء البشري مطروحة بين يديه، مجمَّعة ومجسَّدة ومنظَّمة وموصولة. والسؤال الذي يحرجنا نحن الجيل الذي قضَّى حياته في تحصيل شاقٍّ ومملٍّ للمعارف، هو: «هل تحتفي الإصبع الصغيرة بنهاية عصر المعرفة؟»٩

(١) ماذا فعلت بنا الأصابع الصغيرة؟

لقد تغيرت كل المفاهيم والخرائط على يد هذا الإنسان الجديد؛ الحدود بين الصعب والسهل، المرور من الصفحة إلى الشاشة، وتغير مكان المعرفة، وبالتالي لقد أصبحنا أمام شيء مغاير غير الكتاب، وربما لن يحتاج أبناؤنا إلى مكتباتنا القديمة، ولا إلى كتبنا التي تتحول يوميًّا في عالمهم إلى مجرد طعام مناسب للغبار. وهو ما يعلن عن ولادة «اقتصاد جديد، اقتصاد جذري هذه المرة؛ فلا أحد يحتاج إلى التفكير في المكان (الذي نضع فيه الكتاب)، فمحرك بحث يتكفل بذلك.»١٠ نحن «أطفال الكتاب وأحفاد الكتابة»، لن يكون بوسعنا ربما مصاحبة هذه الأصابع الصغيرة، التي أصبحت تكتب بأصابعها العشرة، وتحررت من «الشكل الفضائي الذي يعكسه كلٌّ من الكتاب والصفحة».١١ ماذا تبقى فوق الأعناق المقطوعة؟ يبدو أن الرأس الذي قُطع هو رأس قديم استنفد معارفه، وآن الأوان لدماغه أن يستقيل من باحة صناعة الذكاء البشري. أما عن الرأس الجديد الذي بوسع الجميع اللعب معه وبه، وفي باحته الافتراضية الوسيعة، فهو رأس فارغ؛ لأنه لا يحتاج لا إلى أن يكون ممتلئًا (حفظًا)، ولا إلى أن يكون جيد الصنع (عصر الطباعة). هو رأس لا يخشى الفراغ، بل يمتعه التحليق فيه «بصراحته الفارغة البيضاء».١٢ لم يعد هذا الرأس المقطوع — المحلِّق في عمق هذا الصندوق الإلكتروني العجيب — يؤمن بالكوجيطو، فهو لا يحتاج إلى الوضوح المنهجي، بل فقط إلى السرعة، سرعة المحرِّك في استحضار المعرفة.
مكان جديد متحرك حيوي وطافر، هو مكان افتراضي لا يحتاج إلى أساطيرنا، ولا إلى لاهوتنا القديم كي يضمن استمراريته؛ لأن هذا المكان لا يستمر، بل يصير على الدوام. إنه زمن الصيرورة، بدلًا عن زمن الخلق أو زمن الكينونة، إنه «زمن الضوء الشفاف المنبثق عن الانفصال، أي: عن هذا اللاشيء.»١٣

«إنها نهاية عصر المعرفة»، والدخول في عالم التواصل والاتصال. نعم هو نمط جديد من البشر لا يحتاج إلى دعاة ولا إلى ساسة ولا إلى جامعات؛ إذ بإصبع واحدة بوسع هذا الإنسان أن يتواصل مع أي إنسان آخر في العالم، وبوسعه أيضًا إدراك ما يرغب في معرفته حول تاريخ الأرض، أو مستقبل الدين، أو إمكانية السكن في المريخ.

«إنها نهاية عصر صانع القرار»، بحيث لم يعد أطفال الديجيتال في حاجة إلى منظومتنا البيداغوجية والتربوية. لقد وقع تحرير الجسم من سلطة المعرفة القديمة المناظِرة لملوك الحق الإلهي التي كانت تقتضي «الإذلال من الأجسام»،١٤ من المحكمة إلى المسرح، ومن الكنيسة إلى المذبح، وعليه تم الإفراج عن الجسم، وصارت الإصبع الصغيرة تملك «جيوبًا مليئة بالمعرفة». وربما لن يكون أطفالنا في حاجة إلى الأستاذ القديم، بل «لقد مات فصل الأمس، ولقد تحررت الأصابع الصغيرة من سلاسل الكهف التي كانت تربطها، جامدةً وصامتة، في مكانها، بأفواه مخيطة، ومؤخرات مسمَّرة فوق الكراسي.»١٥ وانطلقت الأصابع الصغيرة تسطو على كل الفضاءات؛ الجميع يأخذ الكلمة، ويملك المعرفة، ويشارك في سياسة ما يحدث؛ «فلا كهنة في مكان المعبد، فالمعبد قد امتلأ بالمتعبِّدين، ولا وجود للمعلمين في المدرجات، هناك، وحيثما ولَّيتَ وجهك، ستجد الأساتذة، ونستطيع أن نقول: لا وجود للأقوياء فوق الساحة السياسية التي أصبح يحتلها المأمورون. إنها نهاية عصر القرار.»١٦

(٢) ماذا تقول لنا الأصابع الصغيرة؟

  • أولًا: إن كنتم تعيبون عليَّ فرديتي وأنانيتي، فمن علَّمني إياها غيركم؟! وأنتم هل استطعتم أن تشكِّلوا فريقًا، أو أن تعيشوا حتى أزواجًا؟! لقد اندثرت في عالمكم كل الانتماءات القديمة (الأخوة، الرعايا، الأوطان …) لا شيء تبقَّى غير زراعة الأحقاد وصناعة القتل المتوحش. أنتم الذين تسخرون من الشبكات الاجتماعية، يكفينا فخرًا أن كلمة «صديق» تمكِّننا من جمع مجموعات هائلة قد يقترب عددها من عدد البشرية. هكذا يتكلم إنسان الثورة الرقمية.
  • ثانيًا: ضد الانتماءات القديمة المتعطشة إلى الدماء، إن الفضاء الافتراضي أفضل لأنه «لا يطلب الموت من أحد»؛ فنحن «لا نبني أية مجموعة بذبحنا لمجموعة أخرى». هذا ما تحدِّث به الإصبعُ الصغيرة: «إنني بدل هذه الانتماءات المعلنة بافتراضات تجريدية، حيث كُتُب التاريخ تَنشُد الأمجاد الدموية، وبدل هذه الآلهة المزيفة، آكلي الضحايا الذين لا يُحصَى عددهم، أفضِّل افتراضنا المحايث الذي لا يطلب الموت من أي أحد. إننا لا نريد من تجمعاتنا أن تتجلط مع الدم. والافتراضي، على الأقل، يتجنب هذا الحسِّي. ألا نبني أية مجموعة بذبحنا لمجموعة أخرى، هو ذا مستقبلنا في الحياة أمام تاريخكم وسياسيِّيكم، سياسيِّي الموت.»١٧
  • ثالثًا: إن إنسان الأصابع الصغيرة ينتمي إلى أنواع متعددة من التهجين الإنساني، إلى هذه الخلائط الإنسانية التي تسيل مثلما تسيل الأنهار، إنه يسكن نسيجًا مركَّبًا، مشهد بصري ثري وفوضى غامضة من الأصوات والمعاني التي تتنبأ بانقلابات جديدة.

وختامًا، ربما يكون أطفالنا قد اخترعوا بعدُ لأنفسهم وجهة مغايرة لانتماءاتنا الضيقة، فلنتركْ لهم باحة المستقبل؛ لأننا لا نملك منها غير أوهامنا ومخاوفنا الكسولة.

١  انظر: ميشال سار، الإصبع الصغيرة، ترجمة عبد الرحمن بو علي، قطر، ٢٠١٤م.
٢  نفسه، ص٦.
٣  نفسه، ص١٠.
٤  نفسه.
٥  نفسه، ص١٢.
٦  نفسه، ص١١-١٢.
٧  نفسه، ص١٤.
٨  نفسه، ص٢٣.
٩  نفسه، ص٢٤.
١٠  نفسه، ص٢١.
١١  نفسه، ص٢٧.
١٢  نفسه، ص٢٩.
١٣  نفسه، ص٢٨.
١٤  نفسه، ص٣٣.
١٥  نفسه، ص٣٤.
١٦  نفسه، ص٣٥.
١٧  نفسه، ص٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤