الفصل الثالث

الفن في عصر الرقمنة

لا تزال الثورة الرقمية التي تسيطر على العالم برُمَّته حدثًا سحريًّا كونيًّا، يغري الجميع ويبتلعه في شبكاته المعولمة، كما كرونوس إله الزمن في الأساطير اليونانية القديمة وهو يلتهم أبناءه، فلا أحد بوسعه أن يفلت اليوم من الشبكة العنكبوتية، ومن منصات التواصل الاجتماعي، ومن حيل الإنستغرام وعمالقة العالم الرقمي غوغل ويوتيوب، وإغراءات النوافذ الافتراضية الصغيرة للرسائل الحميمة والعلاقات الأيروسية الافتراضية، وأساليب التدجين والبروبغندا والسيطرة على العقول والمشاعر على نحو عالمي، وذلك في ضرب من الرقابة المعولمة والمعممة لحياة الناس وأفكارهم ومشاعرهم الأكثر خصوصية. ماذا ستفعل بنا الثورة الرقمية؟ هل ستعزز التواصل العالمي بين البشر عبر منصات التواصل الاجتماعي كما يجسِّده فيسبوك، أم ستزيد من هشاشة الأفراد في عصر قيم السوق وبروبغندا رأس المال، ولوبيات القائمين على مصالح ما تبقى من الدول؟

(١) في مفهوم العصر الرقمي

يقول شارل بودلير: «ما دامت المخيلة قد صنعت العالم فإنها تحكمه.»١ على أي نحو ستحكم المخيلة العالم اليوم؟ قديمًا كانت المخيلة تحكم العالم وفق أمزجة الملوك، أما اليوم فالمخيلة خلقت عوالم جديدة لم يكن في وسع أي ملك أو فيلسوف قديم أن يتوقعها. لقد اخترعت المخيلة في عصرنا عوالم افتراضية لا تشبه أي صورة تقليدية نحملها عن العالم، الذي تخيلناه دومًا واحدًا وقد تم تصميمه كأجمل العوالم الممكنة. أيُّ نمط كينونة يمكن أن نقارب وفقَه العوالم الرقمية أو الافتراضية؟ هل تنتمي هذه العوالم إلى ثنائية الخيالي والواقعي، أم هي نمط مغاير من الوجود؟ ما هو مستقبل العالم بعد الثورة الرقمية؟ من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نعتمد على مقاربة طريفة لكينونة الرقمي، نجدها في كتاب للفيلسوف الفرنسي ستيفان فايل تحت عنوان الكينونة والشاشة: كيف يغير الرقمي الإدراك؟ (٢٠١٣م).
من أجل التأريخ لظهور المفهوم نشير إلى أهم اللحظات الحاسمة التي نختزلها في التواريخ التالية: انطلاقًا من ثلاثينيات القرن الماضي اخترع عالم الرياضيات الإنغليزي ألان تورينغ٢ آلة حاسبة قادرة على إنجاز عمليات حسابية هائلة، هي نوع من الحاسبة الكونية القادرة على البرمجة، وهي بمثابة التمثُّل الأولي للحاسوب. وفي سنة ١٩٤٣م تم تصميم أول حاسوب عملاق تم استعماله من أجل صناعة قنبلة. وفي سنة ١٩٤٧م ظهر مفهوم السيبرنيطيقا على يد الرياضي الأمريكي نوربارت واينر،٣ والتي تعني علم ميكانيزمات التواصل والمراقبة والآلات والأنساق المعلوماتية المنظمة. وفي سنة ١٩٥٠م ظهرت الصور الإلكترونية الأولى، وتم اختراع الغرفة السوداء سنة ١٩٥٩م من طرف وولف فوستال،٤ المصمم لأول عمل فني قائم على الصور الإلكترونية وعلى البرمجة الغرافية. وفي سنة ١٩٦٣م اخترع دوغلاس إنغلبارت أول فأرة.٥ وفي سنة ١٩٧٦م ظهر الحاسوب ماكينتوش آبل، وفي سنة ١٩٨١م تم تسويق الحواسيب من طرف شركة أ. ب. م.٦ وفي تسعينيات القرن الماضي ظهرت الإنترنت، وفي عام ٢٠٠٠م شهد العالم نموًّا مذهلًا للرقمنة عبر الإنترنت، والرسائل الإلكترونية، وواجهات الحاسوب، وبدأت الرقمنة تغزو كل المجالات الحيوية للبشر.
يكتب أستاذ الفلسفة الفرنسي ستيفان فيال في كتابه الذي خصَّصه للتفكير بالثورة الرقمية تحت عنوان طريف، «الكينونة والشاشة»، ما يلي: «الإنترنت هو في نظر بعضهم دين جديد. لم لا؟ لكن رجاء، لا نُشيِّدنَّ لأنفسنا أوثانًا جديدة.»٧ والسؤال الذي بوسعنا طرحه حينئذٍ هو التالي: انطلاقًا من أي نمط من السلوك النظري يمكن مقاربة الثورة الرقمية؟ ضد المواقف الانفعالية القائمة على ضرب من «كراهية التقنية» الشبيه بالشعارات اللاهوتية، والبكائيات على موت الإنسان، وخطورة التكنولوجيا على مصيره، علينا افتراع موقف نقدي استشرافي معًا؛ فإنترنت، التي تَسِم العصر الرقمي، ليست دينًا جديدًا بالمعنى التبشيري، وليست أيضًا كارثة تهدد إنسانية الإنسان كما يحلو لبعض المتشائمين القول؛ فهي ليست دينًا جديدًا لأنها ليست فاعلًا مباشرًا، بل هي مجرد وسيط خوارزمي، أي بعبارة ستيفان فيال هي مجرد «تجميع مفرط التعقيد لكثرة الفاعلين الإنسانيين وغير الإنسانيين، تجميع في تحول مستمر وسريع، إنه وسيط فوقي يمزج في ذاته عددًا كبيرًا من الوسائط؛ فالوسيط الخوارزمي لا يأخذ القرارات، ولا يتصرف بطريقة مستقلة.»٨
ورغم أن المبرمج هو الإنسان، فإن الثورة الرقمية قد أحدثت تحولات جوهرية في نمط إدراكنا للعالم، يتعلق الأمر بظهور «إبستمية جديدة»، وليس بمجرد اختراع تكنولوجي في تاريخ التقنيات. وفي هذا السياق تتنزل أطروحة كتاب الكينونة والشاشة، بحيث يَعتبر ستيفان فيال أن «هذه الثورة الرقمية ليست حدثًا تقنيًّا فحسب، بل إنها بالتوازي حدث فلسفي.»٩ وذلك انطلاقًا من تصور للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار الذي يُقر بأن «العلم يخلق الفلسفة فعلًا»،١٠ وعليه يتم تأويل الآلات التقنية بما هي «آلات فلسفية»، أي كما يسميها ستيفان فايل «أرحامًا أنطوفانية»١١ (أي: البنى القبلية للإدراك).
إن التفكير في العوالم الرقمية يتنزل تحديدًا ضمن مجال «فلسفة التقنيات»، وهي فلسفة تسعى، بحسب ستيفان فيال، إلى «تجاوز الإغراء الجذاب (حب التقنية الأعمى)، والخوف المحترم (فوبيا التقنية السهلة).»١٢ يتعلق الأمر بالتفكير في الطابع الشعري للكينونة، باعتبار القاسم المشترك بين التقنية والبويزيس، أو الإنشاء والصناعة؛ وذلك أن الوجود الإنساني نفسه هو نتاج صناعة.
وهنا علينا أن نشير إلى أن الأمر يتعلق تحديدًا بمعركة فلسفية حول ماهية التقنية، أقامها الفيلسوف الألماني سلوتردايك ضد التصور الهيدغري للتقنية. لقد آن الأوان للتفكير بالتقنية خارج هرمينوطيقا الكينونة في ضرب من الكلبية الخاصة بتحويل الكينونة نفسها إلى تقنية. لم يعد بوسعنا أن نفكر وفق التناقض التقليدي بين الإنسان كماهية والتقنية كأشياء. يكتب ستيفان فيال قائلًا: «ربما ستدرك آنئذٍ أن مفهوم التقنية هو نفسه بات متجاوزًا؛ لأنه ينطوي على الفكرة الماهوية التي تفيد بأن التقنية ستكون، إلى جانب عالم الذوات، مقابل عالم الأشياء. ولا يزال فلاسفة التقنية، للأسف، يغذُّون هذا الوهم، حين يتحدثون من دون كلل عن الأشياء التقنية، كما لو أن الأشياء وحدها هي التقنية.»١٣ هكذا يصبح من الضروري، وفق هذا المنظور، تغيير تأويلنا لمفهوم التقنية نفسها، وتحريرها من ثنائية الذات والموضوع. الكينونة نفسها هي هذا العالم التكنولوجي المعقد بآلاته وأشيائه ومساراته وأنظمته الرمزية، فالتقنية إذن «لا توجد في الأشياء فحسب، بل في الذوات أيضًا.»١٤

تكشف لنا الثورة الرقمية أن الكينونة والتقنية أمر واحد. لقد أتاحت لنا الثورة الرقمية اكتشاف كائنات جديدة وطرق جديدة في الإدراك، وعادات معرفية جديدة تزعزع فينا الفكرة التي كنا نحملها عما هو حقيقي وعما هو خيالي، وتدفعنا إلى التفكير مرة أخرى بما يمكن أن يعنيه مفهوم الواقع نفسه. ما هي كينونة هذه الكائنات الرقمية التي تظهر لنا في ألعاب الفيديو؟ ما الفرق بين المعلوماتي والافتراضي والرقمي؟ أيُّ معنًى لكينونتنا في زمن الرقمنة؟

من أجل التفكير بالثورة الرقمية علينا أولًا تنزيلها ضمن مسار التقنية كنسق من التحولات التاريخية. ولقد شهد مفهوم التقنية تحولات عديدة يمكن تجميعها في ثلاث مراحل؛ الثورة الصناعية الأولى (ثورة الفحم والآلة البخارية والمعادن)، ثم الثورة الصناعية الثانية (ثورة الكهرباء والمحرك الانفجاري والفولاذ)، وأخيرًا الثورة الرقمية (ثورة الحاسوب والشبكات العنكبوتية والإنترنت والخوارزمية الجماهيرية).١٥ يتعلق الأمر بالتأريخ للتقنية من خلال مفهوم تاريخ الثورات التقنية، مثلما يتكلم توماس كوهن عن تاريخ الثورات العلمية وفق نظرية البراديغم، بحيث يصبح «تاريخ الثورات التقنية هو إذن تاريخ التقدم المستمر لاستخدام الآلة»١٦ (ظهور المعلوماتية في الثمانينيات، وازدهار الإنترنت في التسعينيات، ونجاح الواب سنة ٢٠٠٠م، والشبكات الاجتماعية والأجهزة المحمولة عام ٢٠٠٠م). «تُعتبر المعلوماتية هي الابتكار الحقيقي لحقبتنا، الابتكار الذي يؤلِّف نسقًا.»١٧

لقد اخترعت الثورة الرقمية للإنسانية عالمًا جديدًا هو عالم تصممه الآلات الرقمية التي تتضمن كمًّا هائلًا من الآلات، مثل الحواسيب المركزية الكبرى، والحواسيب الشخصية المحمولة، وخوادم الواب، ووحدات التحكم بالألعاب، والهواتف المحمولة والذكية، واللوحات الرقمية. والسؤال الخطير حينئذٍ هو التالي: أيُّ مستقبل تُعده لنا هذه الآلات؟ هل سيقع الاستغناء عن العقل البشري وتفويض مهارة الذكاء إلى الآلات الرقمية؟ أيُّ وعد بالسعادة تحمله لنا العوالم الافتراضية؟

لا بد أن نتوقف هنا عند معنى لفظة «رقمي»، التي تعني مباشرة الرقم، بحيث يتعلق الأمر بإيداع عمليات العقل كلها داخل الحواسيب. فالنسق الرقمي إنما هو توسيع لمجال الحساب، وذلك يعني أن كل أنشطتنا الذهنية يمكن اختزالها في المعلومة القابلة للحساب، بواسطة الحواسيب القادرة على معالجة عدد لا مُتناهٍ من المعطيات. لقد غيرت الثورة الرقمية وجه العالم، وذلك «منذ اختراع الحاسوب ١٩٤٠م، وبداية المعلوماتية ١٩٥٠–١٩٦٠م، ثم ازدهار الإنترنت ١٩٩٠–٢٠٠٠م.»١٨ لا يتعلق الأمر باختراع آلات جديدة، بل بولادة عالم مغاير تمامًا للعالم الواقعي التقليدي للبشر. إن الأمر يتعلق بولادة عالم المستقبل، أي: العالم الافتراضي. لكن ما معنى العالم الافتراضي، وأي نوع من الكائنات تسكنه؟ في الفصل الرابع من كتاب الكينونة والشاشة، يشتغل ستيفان فيال على جينيالوجيا هذا المفهوم بإعادتها إلى الأصل الفلسفي الأرسطي لها، فهي تعود إلى التمييز الأرسطي بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل، بحيث إن الشيء حين يوجد بالفعل فهو فعلي ومتحقق، وحين يوجد بالقوة فهو في حالة كمون فقط.١٩ ومن هنا، فإن الافتراضي كما يظهر في الميتافيزيقا القديمة هو نظام أنطولوجي يكمن في أن الوجود يمكن أن يوجد دون ظهور. غير أن هذا المعنى القديم تم تجاوزه داخل التصور الجديد لمفهوم الافتراضي نفسه، فمع الثورة الرقمية لم يعد الافتراضي «وهمًا أو استيهامًا، ولا مجرد احتمال مرمي في جوف الممكن. إنه واقعي وبالفعل. يعمل بصورة أصولية … وليس إذن لا واقعيًّا أو احتماليًّا، الافتراضي هو في نظام الواقع.»٢٠
لكن ثمة مفهوم جديد للافتراضي في عالم الرقمنة، وهو مفهومٌ تطوَّر خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بحيث صرنا نتحدث عن «ذاكرة رقمية» وعن «واقع افتراضي» وعن «كائنات افتراضية». وفي هذا المعنى يتم تنضيد تعريف جديد للافتراضي يصوغه ستيفان فيان كما يلي: «نسمي افتراضيًّا ضمن منظور الحاسوب كلَّ عملية قادرة بفضل تقنيات البرامج على تقليد سلوك رقمي، بمعزل عن دعامته المادية.»٢١

هل صار كل شيء في عصر الرقمنة إذن قابلًا لأن يتم تحويله إلى كائن افتراضي؟ هل صار الوجود الذي اعتقدنا أنه محصَّن ضمن ثنائية واضحة، هي ثنائية الواقعي والخيالي؛ قابلًا للاختزال في عملية رقمية؟

وبالتالي فالمعلوماتي هو شيء اصطناعي في معنى برنامج تمت إعادة إنتاجه صناعيًّا، أي: بالاعتماد على تقنيات البرمجة المعلوماتية، أي: على الحساب الخوارزمي، هل صار المبرمج يقوم مقام المبدع أو المفكر أو الفيلسوف الذي كان هو سيد العملية العقلية أو الإبداعية عمومًا؟

إن المعلوماتية هي محاكاة صناعية لا علاقة لها بالمحاكاة في المعنى الميتافيزيقي القديم؛ لذلك لا يتعلق الأمر بالخداع أو بالظل، بل إن الكائنات الافتراضية هي كائنات واقعية تمامًا. لقد أصبحنا في العالم الافتراضي نتحرك داخل «بيئات بصرية غامرة، فضاءات اصطناعية مركبة معلوماتيًّا يمكن لإنسان ما أن يندمج فيها، وأن يتجسد».٢٢

(٢) الصورة الرقمية والزمان الافتراضي

ليست الثورة الرقمية مجرد تغير تكنولوجي حصل في أدوات التواصل بين البشر، إنما هي حدث تاريخي نزَّله بعض المفكرين ضمن المسار المعرفي الطويل لاكتشاف الآلة وسطوها على الحياة الحديثة أكثر فأكثر، بحيث اعتبر الفيلسوف الفرنسي ميشال سار صاحب كتاب «الإبهام الصغير»، أن الرقمنة هي الثورة الثالثة الكبرى في تاريخ المعارف الإنسانية، وذلك بعد اكتشاف الكتابة منذ حضارات الشرق القديمة، واختراع الطباعة في عصر النهضة. إن ما حصل في رحاب المجال الرقمي هو تغير عميق في بنية المعرفة والذكاء والذاكرة معًا. إننا اليوم نودِع ذاكرتنا وذكاءنا إلى الكمبيوتر كما لو أننا لم نعد مجبرين على أن نكون أذكياء. لكن هل يمكن الاطمئنان إلى عمالقة الرقمي، أي: غوغل وفيسبوك وتويتر وجيمايل ويوتيوب، وائتمانهم على معطياتنا الشخصية وأسرارنا؟ وماذا عن هذا الاستسلام العالمي إلى هذه الكائنات الرقمية؟ هل صار الإنسان من الهشاشة إلى حدٍّ وجد فيه نفسه مجبرًا على تسليم نفسه طوعًا إلى المكنات الافتراضية؟ من الطبيعي، ربما، أن نكون مدفوعين دومًا إلى السير في ركاب التاريخ، الذي يتميز اليوم بديمقراطية رقمية رائعة، لكن، ومن جهة أخرى، يبدو أن هؤلاء العمالقة من المدبرين للشأن الرقمي على مستوًى عالمي، هم أيضًا على ضرب من الهشاشة القصوى، بحسب تعبير رشيق للفيلسوف ميشال سار.

فالذكاء نفسه أصبح صناعة مع تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي. وهذا التحول العميق الذي جعل الثورة الرقمية ممكنة لم يجد بعدُ، بعبارة لميشال سار، «التعبيرة الأصيلة الخاصة به». وربما لم تتحول هذه الثورة المعرفية الكبرى بعدُ إلى موضع للفلسفة والتفكير. لكن، ومع ذلك، ثمة إرهاصات لبراديغم معرفي جديد يشتغل عليه بعضٌ من أهل صناعة الفكر في الغرب اليوم، ومن بينهم الفيلسوفة الفرنسية بوسي غلوكسمان، التي تشتغل في أفق الرقمنة على التحولات الحاصلة في مفهوم الصورة والنظرة والزمان. فالصورة تحولت من «الصورة البلورية» إلى «الصورة المتدفقة»، وذلك في أفق ما تسميه «جماليات الزائل»،٢٣ بوصف الصورة تتبدل، تتموَّج، وتندفق في ضرب من المسار الضوئي وصيرورة الديجيتال مثلما يحدث في السينما؛ ذلك أن الصورة التي تظهر لنا على سطوح الشاشة ليست نسخة لأي نموذج خارج عنها، فالصورة الرقمية تقطع مع التصور التقليدي لها القائم على المحاكاة؛ لذلك سيكون دومًا بوسعنا تهجين هذه الصورة أو تغييرها أو تشويهها من أجل إنجاز كل أشكال العبور الحسية الممكنة بين الصورة والصوت والنص، فالصورة الافتراضية لا تملك شكلًا واحدًا، بل هي متعددة الأشكال. إنها صورة لينة سائلة متدفقة قادرة على اختراع مفاعيل مكانية وزمانية غير متوقعة. إننا إزاء «جلد جديد» كفيل بتغيير علاقاتنا التفاعلية بأنفسنا وبالآخرين وبالوجود معًا.

وبوسع هذه الصورة الافتراضية، بوصفها قابلة للبرمجة وللتخزين، اختراع حقل جديد بين الفن والبيولوجيا، كما يحدث داخل الفن العابر للجينات، حيث نشهد على ظهور أشكال جديدة من العبور من الأنا إلى الآخر المحوَّل جينيًّا، هذا الآخر الذي يشبهنا كما في حالة تجارب الاستنساخ.

لكن من يجلس قبالة هذه الصورة الرقمية؟ كيف يدركها إن لم تكن صورة ذات شكل وذات نموذج يمثِّلها؟ هنا يظهر تحت قلم غلوكسمان مفهوم «جنون النظرة»٢٤ كأحد عناوينها المثيرة للتفكير. والمقصود أننا صرنا ننتمي جميعًا إلى «عين العالم»، أي: «العين التكنولوجية الافتراضية العالمية» التي تتميز بالتدفق والسرعة وكثافة المعلومات والمعطيات. إن «عين العالم» تجعل الزمان مرئيًّا، وتشتغل انطلاقًا من كوجيطو جديد يصوغه كتاب جنون النظرة في العبارة التالية: «أن تكون، معناه أن ترى.»٢٥

في هذا الأفق الرقمي الوسيع ظهر ضرب جديد من الزمن الذي يكسر الزمن الخطي الكرونولوجي التقليدي، زمن الذاكرة وزمن التقدم. إنه الزمن الرقمي أو الافتراضي الذي لا يقف في مستوى القبض على الأفراد فرادى أمام شاشاتهم الصغيرة، وحواسبهم أو هواتفهم الذكية، بل تتعدى مفاعيله إلى أبعد من ذلك بكثير. وقد تصل هذه المفاعيل إلى توفير مساحات افتراضية لاستراتيجيات فيروسية أو للوبيات إرهابية تولَد وتنمو وتزحف وتدير ألعابها على شبكات الثورة الرقمية بكل صفاقة لا إنسانية، ساخرة من كل علم بريء، ومن كل عقل رصين، ومن كل مكاسب الحداثة الإنسانوية. إلى جانب ذلك ثمة ديمقراطيات تُدار أيضًا وتُبنى أو تُهدم على ظهر الزمن الرقمي، وصفقات تهريب، وشبكات اتِّجار بالبشر تمر أيضًا فوق السطوح الرقمية دون أدنى شعور بالذنب من طرف أحد؛ وذلك لأن الزمن الرقمي هو زمن اللاأحد، وزمن أيٍّ كان معًا، هو مساحة للعبور غير الشرعي لكل من يملك القدرة على العبور إلى أي عقل أو قلب أو مدينة. ها هنا لا شيء يحصِّن الذوات التي تبحر في الزمان الرقمي من خطورة ما يمكن أن يحصل لهم، فالجميع يسقط في أحابيل الشبكة، فيصطدم بخطوط إفلات من الواقع تتيه في أي اتجاه لا متوقع. كل الأفراد في هذا الزمان والمكان الرقميَّين هائمون صلب الشبكات بلا رقيب، خاصة أطفالنا، أطفال عالم الديجيتال، ولكن أيضًا بدون أية ضمانات أخلاقية.

إن الزمن الرقمي الذي يولَد فوق سطوح العالم الافتراضي، وفي فخاخ شبكاته، هو زمن آلي يُزعزِع — عبر مسطح المحايثة العالمي الذي يخترعه — كل مسلَّماتنا البيولوجية والإتيقية والسياسية، بل هو يمثل ضربًا من الأرضية الأركيولوجية لما يسميه الفلاسفة اليوم «الفكر ما بعد الإنساني». لكنْ أيُّ معنًى لهذا الزمن الرقمي؟ وأيُّ فكر يمكن توقيعه في أفقه؟ وماذا عن مفهوم «ما بعد البشر» هذا؟ هل يعني هذا أن نهاية الإنسان البشري تبشِّر بولادة نمط جديد من سكان الأرض من نوع الربوتات، التي صارت إلى واقع علمي تحتفي به تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والثورة السيبرنيطيقية؟ وماذا عن الإنسان كبشر يأتي من أديم الأرض، هل سينجح في البقاء بشريًّا جدًّا، أم هو مهدَّد بالسقوط إلى مرتبة «ما دون الإنسان»؟

إذا كان التصور الحديث للعالم قد قام على التمييز بين الخصوصي والعمومي، فإن هذا الحد قد سقط صلب الزمنية الرقمية، وصار الفرد منا يبسط مشاعره الأكثر خصوصية أحيانًا على سطوح العالم الافتراضي، حيث يتم تقاسمها على نحو عمومي. وتتزعزع كل الفواصل بين الزمن الاجتماعي الواقعي، والزمن الحميم الذي أصبح مباحًا على شبكات التواصل الاجتماعي. هكذا يخترع الزمن الرقمي مجتمعات الهشاشة، أو ما يسميه المفكر البولوني زيغمونت بومان (١٩٢٥–١٩٩٨م) «المجتمعات السائلة». إن مجتمعات التواصل مسكونة بمفارقة مفزعة؛ في حين توهمنا التكنولوجيات الرقمية أننا نتقاسم معًا فضاء الحياة والآمال والآلام، فإنها تخلق في نفس الوقت أشكالًا جديدة من العزلة، بحيث نفقد الصلات الحقيقية بيننا كأفراد اجتماعيين، من أجل أن نستسلم لتواصل افتراضي لاكتئاب عالمي معولم.

هو البؤس الرمزي المعمم تخفيه إغراءات الشبكة وحلولها الوهمية، وعيون المتطفلين على حيواتنا الحميمة، واستسلامنا إلى المجهول بعد أن خنقَنا الواقع في لحميَّته المفزعة. إن ما يحدث هو إذن تسليم أنفسنا عن طواعية إلى شبكات افتراضية، هي في نفس الوقت شبكات مراقبة معولمة تنزع إلى القبض على العالم برُمَّته، فهي تنزع المواطن من وطنه، وتلقي به في فضاء افتراضي سائل زائل، هو اللامكان، هو أيضًا الترحل والضياع. إنه الزمان يخرج عن طوره، كما في مجاز شعري جميل لشكسبير.

نحن إذن بإزاء براديغم جديد للزمن، هو ما تسميه الفيلسوفة الفرنسية بوسي غلوكسمان؛ كوجيطو الزائل، بحيث يتمثَّل هذا الكوجيطو في هذا التحول العميق الذي حدث في الثورة الرقمية من ثقافة السلع إلى ثقافة الصور المتدفقة، أي: ثقافة الشاشات والأشباه والأشباح. إن هذا النوع الجديد من ثقافة الشاشات لا يعيد إنتاج الزمن بالمعنى التقليدي الخطي له، إنما هو ينتج زمنا آليًّا خاصًّا، زمن التأثير والإثارة، زمن الآلات المجردة المعولمة، بحيث توقِّع مكنات الزمن الرقمي المرور مما يسمَّى «الصورة البلورية» إلى «الصورة المتدفقة» الخاصة بالشاشات والصيرورات، تلك التي تنتج كوكبات من الصور والزمن الرهيف جدًّا.

غير أن الزمن الرقمي هو زمن المفارقات بامتياز؛ فهو زمن افتراضي زائل، لكنه مخزن ومبرمج ببرمجيات دقيقة ومضبوطة، إنه صيرورة بلا ذاكرة، لكنه زمن مكتظٌّ بالمعطيات والمعلومات. هذا الزمان لا يسيل على إيقاعات الزمن التقليدي والبيولوجي للإنسان، هذا الإنسان الذي يجد نفسه منفصمًا ومنقسمًا بين الواقعي والافتراضي. لكن على سطح الزمن الرقمي لا يحدث فقط التواصل الاجتماعي، ولا تشتغل شبكات الإرهاب والتهريب، ولا ترعبنا الشبكات الرقمية بألعاب الفيديو التي يدمن عليها أطفالها إلى حد تحولها إلى ألعاب قاتلة، بل ثمة مساحات خلاقة وموجبة للعوالم الرقمية، تجد في الفن الرقمي عبارتها المبدعة.

(٣) الفن في عصر الرقمنة

إن الفن الرقمي بوسعه أن يؤثث العالم الافتراضي على نحو مغاير، وذلك بأن يمنحنا أشكالًا جديدة من الذاتية لا تعيش وفق الزمانية البيولوجية، بل وفق زمنية الآلات. لكن لا ينبغي التفكير في هذا النمط من الزمن على نحو سالب؛ إذ بوسعنا التفكير فيه على نحو موجب عبر الفن الرقمي، الذي يجد صياغته ضمن نموذج أو برنامج من قبيل النماذج الافتراضية لفن المعمار. وهنا تشير علينا بوسي غلوكسمان مرة أخرى، ضمن أفق جماليات الافتراضي التي توقِّعها، إلى أن أهم ما يمكن أن نغنمه من الفن الرقمي هو ما يلي:
  • أولًا: ظهور أشكال جديدة من الوساطات بين الفن والعلم.
  • ثانيًا: هو فن ما بعد استعماري يربط بين الثقافات، بحيث يمكن للصورة الرقمية أن تحتضن كل الأرشيفات الافتراضية للاختلافات بين الثقافات.
  • ثالثًا: تنصيب مدن افتراضية تقترح طريقة جديدة في هندسة المدن وتنظيم الفضاء، وتخترع فضاءات ذكية مغايرة للفضاءات الواقعية.
  • رابعًا: أصالة الفن الرقمي وجِدَّته، ضد حداثة تفصل بين المرئي والمقروء، وضد حداثة قائمة على استقلالية الفن عن بقية مجالات المعرفة، بحيث إن جماليات الافتراضي إنما هي جماليات «متعددة الأحاسيس، أي: هي جماليات بوسعها إعادة تنضيد المحسوس وتأسيس المعنى.
  • خامسًا: الفن الرقمي يخترع مكنات للنظر، ومفاعيل جديدة، ومشاعر مغايرة، وكائنات رقمية، هي أكثر مما يقع، وأبعد مما نتوقعه من أحداث. تهجين للكائنات وللأمكنة داخل براديغمات جديدة تواصل صناعة المعنى، وتأثيث العالم الذي يكاد يسقط كل يوم، تحت سطوة حضارة السلع، في قحط الثقافة، وبؤس عزلة الأفراد، والاكتئاب العالمي المعولم.

(٤) الفن الرقمي وأسئلة المستقبل

لقد بدأ الفن الرقمي يفرض وجوده كشكل جديد من الممارسة الفنية منذ عشرين عامًا، لكن تاريخ ظهوره يعود إلى خمسينيات القرن الماضي وظهور الصور الأولى التي نسميها صورًا إلكترونية. وفي سنة ١٩٦٦م ظهر أول عمل رقمي يعتمد على التكنولوجيات الرقمية. وفي سنة ١٩٧٠م ظهرت فنون الفيديو، والفنون الأدائية المباشرة. وحين نتكلم عن الفن الرقمي فإننا نقصد لا فقط فن الغرافيك والفوتوغرافيا وفنون الفيديو، بل وأيضًا الفنون التشكيلية والأدائية والتنصيبات والشعر والأدب أيضًا. ينبغي إذن الاعتراف أولًا بأن الفن الرقمي يوجد فعلًا، وهو في نمو مستمر، وله تاريخ كوني يعود إلى أكثر من أربعين سنة، وله جمهوره ومدارسه ونقاده أيضًا. لكن ما هو الفن الرقمي؟٢٦ إنه ذاك الفن الذي يعتمد على الحاسوب بوصفه آلة محاكاة رقمية للرسم والصورة والصوت البشري، وحتى للأوركسترا. وهو يقوم أساسًا على الخوارزميات والبرمجة المعلوماتية واختراع أعمال افتراضية. وهو فن يتغذى بخاصة من فن الهجانة. وبوصفه فنًّا افتراضيًّا يقطع مع النمط التقليدي للفنون، ويخترع نمطًا مغايرًا من الوجود؛ فإنه يطرح علينا اليوم أسئلة جمالية وفلسفية ونقدية حول مفهوم الفن نفسه، والفواصل بين الفن واللافن، وحول ماهية العمل الفني وعلاقته بالجمهور وبالمؤلف، وبالجمال، وبالصناعة الثقافية، وبسوق الفن. ويمكننا اختزال هذه الأسئلة الجديدة التي يطرحها الفن الرقمي على المشتغلين بالفن، وبالجماليات بعامة، من فنانين ونقاد وفلاسفة، في أربعة أسئلة:
  • الأول: خاص بمفهوم الزمن الرقمي؛ أيُّ زمنية يخترعها الفن الرقمي اليوم حينما نعلم أنه يحدث صلب زمنية الزائل التي يتحكم فيها منطق الخوارزميات والمعلوماتية؟ «إن الرقمي يقلب علاقتنا بالزمان، وطريقة عيشنا صلبه، ونمط إعادة إنتاجه، أو الاستباق عليه أو الانسحاب منه عبر الفن.»٢٧ إضافةً إلى ذلك، فإنه وانطلاقًا من الزمن الرقمي نغير أيضًا التاريخ؛ لأن اختياراتنا الفنية تعيد اختراع تاريخ ما، عبر ضرب من مقاومة «الزمن الواقعي». إن الفن الرقمي لا يحدث في الزمن الرياضي العادي الواقعي، بل ضمن شبكة من البيانات الدقيقة التي تمت برمجتها عن طريق الذكاء الاصطناعي. إن الزمن الرقمي هو زمن تم إنتاجه تقنيًّا، وبالتالي فهو ليس الزمن المعطى في التجربة اليومية الواقعية.
  • ثانيًا: في علاقة بكيفية نشر الفن الرقمي، ونمط جوَلانه داخل الثقافة الفنية. فالفن الرقمي هو فن يقوم على التفاعل والمحادثة والمشاركة؛ لذلك هو يُحدِث انقلابًا رمزيًّا في علاقتنا لا فقط بالمؤلف وبالعمل الفني والجمهور، بل في ميكانيزمات انتشار الفن ومساهمته في بناء الثقافة. وفي حين يعوِّل الفن المعاصر على الوصول إلى الناس عبر مجال الفن، أي: الفنانين أنفسهم، ومجمل المؤسسات الثقافية الحكومية أو الخاصة، وسوق الفن، والنقد الفني، والتاريخ، والجماليات، من أجل الوصول إلى الجمهور، وهو يَدين إلى هذه الوساطات بوجوده وقيمته، فإن الفنون الرقمية تهدف إلى إقامة علاقة مباشرة بين العمل الفني والجمهور دون أي شكل من الوساطة الخارجية.
  • ثالثًا: الفن الرقمي في علاقة بعصر العولمة، أي: بسوق الفن والاقتصاد والصناعات الثقافية وبالعلم وبالتكنولوجيا، أي: العولمة بوصفها نسقًا لتكنولوجيات التواصل، وإعادة الإنتاج، وحفظ المعلومات، والانتشار الجماهيري، وهي بذلك تمارس تأثيرات مباشرة بالفن، وبالتالي بالفن الرقمي أيضًا. كيف يتم ذلك؟ من خلال توقيع أشكال جديدة من الأنماط العلائقية والتشاركية التي تتجلى ضمن مجال العلاقة بالفن وبالمجتمع وبالصناعة. ومن جهة أخرى يمكننا أن نلاحظ كيف أن الصناعات الرقمية هي بصدد القطع مع المنطق الناظم لوسائل الإعلام التقليدية.
  • رابعًا: يتعلق الأمر هنا بمسألة حفظ الأعمال الفنية الرقمية، وهنا نطرح السؤال التالي: أيُّ شكل من الذاكرة هي الذاكرة الرقمية؟ سوف يكون لزامًا علينا أن نفهم كيف يتم استبدال ما سماه مالرو بالمتحف الخيالي بمتحف جديد، هو العالم الافتراضي. وإن هذا النوع من الذاكرة الرقمية إنما يطرح علينا مشاكل من نوع جديد خاصة بالحدود بين المحلي والعولمي، العمومي والخصوصي، والجماعة والفرد. ومع الرقمي يتم إذن تجاوز السؤال القديم حول مكان العمل الفني (الشرق والغرب، والفن الإسلامي، والفن المسيحي، والفن الأمازيغي …) وإعادة طرحه بشكل مغاير. سنتكلم حينئذٍ عن جغرافيا جديدة، وشكل جديد من الانتماء لا تكون فيه القوميات الحالية غير مزحة ميتافيزيقية. إن الفن الرقمي يطرح علينا أفقًا جديدًا من الانتماء إلى العالم، أفق يعلو فوق عقولنا التقليدية والهوياتية، هو الانتماء الرقمي.

خلاصة

إن التفكير بالفن الرقمي اليوم يدفعنا إلى إنشاء نموذج منهجي فيما أبعد من الخصومة بين أنصار التكنولوجيا وأعدائها، أي: فيما أبعد من الاعتقاد في القدرات المذهلة للتكنولوجيا على إنقاذ العالم من جهة، ومن الاعتقاد في أن التقدم كارثة، وأن التكنولوجيا الحديثة ستجعل العالم يسقط في البربرية الكبرى من جهة أخرى. وعلينا أيضًا أن ننتبه إلى خطورة الخصومة حول مصير الفن بين من يروِّج للفن المعاصر الذي يتم استثماره ضمن سوق العولمة، ومن يكتفي بالفن التكنولوجي الذي يظهر دومًا على هامش الفن الرقمي. إضافةً إلى ذلك، نحن مطالَبون بإعادة التفكير في الحدود بين ما هو فن وما ليس بفن، وبين الفن والعلم وبين الفنون نفسها، من أجل إسقاط الجدران بينها، انطلاقًا من نظرية التفاعل بينها، ومن براديغم التقاطع والتداخل بين الاختصاصات. إن ظهور الفن الرقمي يدفعنا إلى إعادة تنضيد فضاء الإستطيقا بما هي جملة التمثلات الفلسفية حول الفن، بحيث لم يعد بوسعنا التفكير في الفن والأعمال الفنية انطلاقًا من التناقضات الثنائية بين التقليد والحداثة، وبين النزعة الأكاديمية والنزعات المتمردة عليها.

نحن نعيش اليوم بعد نهاية السرديات الكبرى، وانفجار الحدود بين الثقافات، وتحوُّل العالم إلى مساحات عبور وهجرات وهويات هجينة، وظهور أشكال جديدة من الانتماء والمواطنة، ومفهوم جديد للإنسان نفسه، وتحوُّل مفهوم الشعب نفسه من هوية قومية جغرافية وثقافية إلى جموع إنترنتية افتراضية، مما يفرض علينا تعديل عقولنا على هذه الثورة الرقمية التي منحت شعب الإنترنت مساحات مغايرة للوعد بالحرية وبالفرح الرقمي أيضًا، كما تمنحه لأبنائنا ألعاب الفيديو. إن قوة الفن الرقمي اليوم تكمن في إعادة وضع البراديغمات القديمة موضع سؤال، أي: تلك النماذج التي تقوم على التناقض بين الثقافي والتقني، وعلى اعتبار التقني يهدد الحياة الرمزية والقيم الروحية، في حين أن الثقافي هو وحدة الوجود والمعنى معًا.

تبقى في الأخير الإشكالية المحرجة في الفن الرقمي هي التالية: أية مقاييس يمكن اقتراحها اليوم للفن؟ هل يمكن القول إننا بإزاء عصر غير قادر على إنتاج المقاييس الجمالية؟ ذلك أن الفن الرقمي لا يخضع إلى تقييمات ثقافية أو أسلوبية جمالية تقليدية، وجماليته تخرج من أفق التمييز الكلاسيكي بين الجميل والقبيح. ما ينتجه الفن الرقمي هو القدرة على التفاعل، وعلى عبور الحدود، والسخرية من صراع الثقافات. بقي علينا فقط أن ندافع عن خصوصيات التجارب الفنية، سواء كانت رقمية أو غير رقمية، وعن تحرير الفنان اليوم من أمرين اثنين؛ أن يتحول إلى مجرد تاجر، أو إلى مجرد مهندس أو مبرمج تقني.

١  شارل بودلير، ما وراء الرومنطيقية: كتابات في الفن، ترجمة أم الزين بنشيخة المسكيني وكاظم جهاد، أبو ظبي، دار كلمة، ٢٠١٩م، ص٩٠.
٢  Alan Turing.
٣  Norbert Wiemer.
٤  Wolf Vostell.
٥  Douglas Engelbart.
٦  IBM.
٧  ستيفان فيال، الكينونة والشاشة: كيف يغير الرقمي الإدراك؟، ترجمة إدريس كثير، بيروت، هيئة البحرين للثقافة والآثار، ٢٠١٨م، ص١٣.
٨  ستيفان فيال، نفسه، ص١٤.
٩  نفسه، ص٢٥.
١٠  نفسه.
١١  matrices ontophaniques.
١٢  ستيفان فيال، الكينونة والشاشة، ترجمة إدريس كثير، المنامة، ٢٠١٨م، ص٢٦-٢٧.
١٣  نفسه.
١٤  نفسه، ص٢٩.
١٥  نفسه، ص٦٤.
١٦  نفسه، ص٦٥.
١٧  نفسه، ص٧١.
١٨  نفسه، ص٧٧.
١٩  انظر، المصدر نفسه، ص١٤٠.
٢٠  نفسه، ص١٤٢.
٢١  نفسه، ص١٤٤.
٢٢  نفسه، ص١٥٥.
٢٣  Christine Buci-Glucksmann, Esthétique de l’Ephémère, Paris, Gallilée, 2003.
٢٤  Christine Buci-Glucksmann, La Folie du voir, De l’Esthétique Baroque, Paris, Galilée, 1986.
٢٥  Ibid., p. 29.
٢٦  Voir: E. Couchot et N. Hillaire, L’art numérique, comment la technologie vient au monde de l’art, Paris, Champs art, 2003.
٢٧  Ibid., p. 11.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤