الفصل الخامس

الزمان – السرد – الهوية: تأويلات ريكور

ليس ثمة من مجال أفضل لاختراع المستقبل صلب تشكيل الزمان وتنضيد القدرة على اللامتوقع كما التخييل والسرد؛ فإيقاع الزمن في مجال الفعل البشري يعدِّله الأدب والاستعارات والطابع الشعري للغة، وهو ما يمنحنا هوية سردية مفتوحة على العوالم التخييلية الممكنة فيما أبعد من كل أشكال الهويات الأخرى. فالممكن التخييلي الذي يمنحه لنا السرد ها هنا هو معنى المستقبل بوصفه مواجهة لقوة الزمان المدمرة، وهشاشة الحياة معًا. لكن الهوية التي تخترعها القصص ليست هوية فوق الزمان، بل هي هوية تاريخية زمنية تجيز العبور من التاريخ إلى السرد، وتنتصر لهوية التخييل الأدبي على هويات العقيدة، وهكذا يتم المرور من هوية تتأسس على ماضٍ كسول جاهز وقابل للاستعمال في جبَّة تجار اللاهوت، إلى هوية تاريخية تتملك الزمن بالشعر والأدب، وترتقي به إلى مصافِّ اللغة المنفتحة على كل عوالم التخييل الممكنة. هذا ما نظَّر له كتاب الزمان والسرد، للفيلسوف الفرنسي بول ريكور، في أجزائه الثلاثة. وهو تنظير يقوم على اشتباك فلسفي متوعر مع تاريخ التصورات الفلسفية للزمان منذ أرسطو، إلى حدود هيدغر، مرورًا بأوغسطين وكانط وهيجل. وفي الحقيقة يتعلق الأمر بثلاثة براديغمات كبرى للزمن؛ أرسطو الذي يعتبر الزمان كسمولوجيًّا في علاقة بالحركة وبالقبل والبعد، أي: بوصفه ترتيبًا للأحداث والأفعال، وأوغسطين الذي يعتقد أن الزمان هو زمن الأبدية، وهو ثلاثي الأبعاد، وهيدغر الذي أسَّس لزمن الكينونة التي تأتي من المستقبل، بوصفه التجربة الأصيلة للزمنية. ويتلخص الصراع بين هذه النماذج الثلاثة بخاصة في السؤال عن المستقبل من أين يأتي؟ فهو عند أوغسطين يبدأ من الحاضر، لكن عند هيدغر كل شيء يأتي من المستقبل، حتى الماضي نفسه. ومن أجل معالجة هذا النقاش الفلسفي حول مسألة الزمان في علاقته بالسؤال عن المستقبل، يقترح بول ريكور وساطة السرد، قائلًا ما يلي: «يصير الزمن إنسانيًّا بقدر ما يتم التعبير عنه من خلال طريقة سردية، ويتوفر السرد على معناه الكامل حين يصير شرطًا للوجود الزمني.»١ بهذا المعنى يقيم ريكور ضمن هذا الكتاب ضربًا من الوساطة بين تصور أوغسطين للزمن، ومفهوم أرسطو للحبكة، وهو ما يمثل عنده، وعلى حد تعبيره «مفتاح مشكلة العلاقة بين الزمان والسرد»،٢ وذلك انطلاقًا من أن «أرسطو قد تجاهل الجوانب الزمنية للحبك»،٣ في حين أن «مفارقات أوغسطين عن تجربة الزمن لا تَدين بشيء لفعالية رواية قصة.»٤ أما عن التحليل الوجودي للزمان الذي نجده لدى هيدغر، فيخصِّص له ريكور الفصل الثالث من الجزء الثالث من كتاب الزمن والسرد، مشتبكًا مع هذا التصور الفلسفي البراديغماتي الذي جعل الوجود في العالم يمر عبر السؤال عن الزمان، وأن ليس من زمان إلا صلب الكينونة، وذلك عبر مفهوم المستقبل بوصفه هو الذي يصنع الحاضر، وهو الذي يجعل الوجود في العالم ممكنًا أيضًا. وهنا ينطلق ريكور من الفقرة رقم ٦٥ من كتاب الكينونة والزمان، حيث نقرأ ما يلي: «فالكانيَّة تنبثق من المستقبل، بحيث إن المستقبل الذي قد-كان (وبعبارة أفضل: الذي كان-يكون) قد سرَّح الحاضر انطلاقًا من ذاته. وإن هذا النحو من الظاهرة الموحِّدة، من جهة ما هي مستقبل يكون-ما-كان-على-سبيل-الاستحضار، نحن نسميها الزمانية٥ وانطلاقًا من هنا نصبح كائنات مفتوحة على المستقبل بوصفنا «اعتزامًا مستبقًا»، وقدرة على الاستشراف، واستطاعة للإقبال على الممكن، وهو معنى أن نوجَد على نحو أصيل.٦

لكن كيف يكون هذا الاستشراف ممكنًا؟ لن يكون هذا الأمر ممكنًا إلا انطلاقًا من اللغة بوصفها الواسطة بين الزمان والكينونة. وذلك يتم عند ريكور انطلاقًا من تحويله السرد إلى ضرب من المعرفة، وليس فقط مجرد حكي. من هنا يتنزل السرد منزلة أساسية في تشكيل الزمن في علاقته بالتاريخ، وبمجال الفعل البشري، وبالمخيال وبالمستقبل معًا. والسرد هنا هو بمثابة المعمار الخيالي للغة. ولقد تم الاشتغال منذ الفلسفة التأويلية على النصوص بوصفها ما تبقى بعد موت الكاتب في أفق تأويلية كونية خاصة بالعلوم الإنسانية (غادامار نموذجًا)، أو على تفكيك النصوص خارج أسوار الأنطولوجيا، وذلك في أفق لغة بلا ذات (دريدا). لكن ريكور يقترح تجاوز هذه الإمِّية بين ذات تأويلية ولغة تفكيكية تأكل نفسها باستمرار، وذلك نحو علاقة تأويلية مغايرة بين الزمن والسرد، هدفه تجديد الخطاب الفلسفي حول الاستعارة وحول السرد القصصي وحول الزمان المروي معًا. وإن الأدب في ذلك هو الواسطة الوحيدة لتحرير الزمان من الْتباسه بتسريح الماضي، وفتح الحاضر على مستطاع الكينونة السردية.

لقد خصَّص بول ريكور الجزء الثاني من كتابه الزمان والسرد، لمناقشة إمكانية التأسيس لنظرية تأويلية جديدة حول ما يسميه «التجربة القصصية للزمن».٧ ومن أجل مقاربة هذه التجربة القصصية للزمن بوصفها تملك «أفقها في عالم تخييلي يبقى هو عالم النص»،٨ ينطلق الكتاب من مناقشة متوعرة لأهم النظريات المعاصرة في الأدب منذ الفهم البنيوي إلى النظرية السيميائية، وصولًا إلى ألعاب الزمن، واشتباك تأويلي مع مفهوم جينيت للعبة الزمن، والفرق بين زمن السرد وزمن الأفعال النحوية، بحيث تعلق الأمر باستشكال لما يسميه «طموحات علم السرد الساعي إلى العقلنة»،٩ انطلاقًا من رسم لحدود الحبكة الأرسطية، على ضوء مكتسبات الرواية الحديثة، حيث تم «توسيع فكرة فعل يحاكي أو يمثِّل إلى النقطة التي نستطيع معها أن نقول إن مبدأ شكليًّا للتأليف يحكم سلسلة التغيرات التي تؤثِّر في كائنات شبيهة بنا.»١٠
يتوقف بنا الكتاب منذ فصله الأول عند مسألة شائكة، تتعلق بالقول بأفول السرد، ونهاية الرواية الحديثة نفسها. وهو قول يجده ريكور بخاصة لدى والتر بنيامين الذي يذهب، وفق تعبير ريكور نفسه، إلى «أننا قد نكون نحيا حقبة لم يعد فيها للسرد مكان؛ إذ لم يعد لدى البشر تجربة يشتركون بها. وهو يرى في تجربة الإعلانات العلامة الدالة على تراجع السرد هذا، تراجع اللاعودة.»١١ ويتم تنزيل هذه المسألة ضمن نقاش حول علاقة القصص باللاهوت، كما لو كان الأمر يتعلق بضرب من الترحيل للأسطورة الإسكاتولوجية إلى الأدب، وهو ترحيل أفضى إلى تحويل السرد إلى «أسطورة محطمة» تجعل الأديب في شخص بيكيت، ذاك «اللاهوتي الضال لعالم عانى من السقوط، لكنه لن يحصل على الخلاص.»١٢ ومن جهة أخرى، يحيلنا ريكور على تصور نيتشه الداعم للمأساة، بوصفها حاجة حيوية من أجل مقاومة الموت، وذلك عبر «الافتتان الديونيزي بالفوضى».١٣ وخلاصة القول في هذا السياق هو استعادة الإيمان بقوة الوظيفة السردية رغم نهاية الرواية الحديثة، بحيث يعترف ريكور بذلك قائلًا: «ربما كنا بالفعل شهود — وصناع — موت معين، هو موت فن سرد القصص، وربما كانت الرواية أيضًا تُحتضَر كشكل سردي، ولكن ربما كان من الضروري أن أشكالًا سردية جديدة، لا نعرف كيف نسميها، تمر في طور الولادة، وأنها ستشهد على حقيقة أن الوظيفة السردية لا تزال قابلة للتحول، لكن تحوُّلها لن يصل إلى حد الموت.»١٤
«دفاعات عن السرد»،١٥ ذاك هو إذن مشروع ريكور في ثلاثية الزمان والسرد، ما يؤرِّق الفيلسوف ليس العلاقة بين الكينونة والزمان، كما كتب هيدغر اعتبارًا، وأن السؤال المنسي هو السؤال عن الكينونة، إنما هو السؤال عن مستطاع السرد في المصالحة بين التاريخ والشعر. كيف نفهم التأويل السردي للتاريخ؟ يعود بنا ريكور إلى الفلسفة التحليلية، بحيث ظهر أول شكل من الدفاع عن السرد التاريخي مع الفيلسوف الأمريكي آرثور دانتو١٦ الذي لم يكن هدفه الانخراط في مقاربة إبستمولوجية للتاريخ، بل الاشتغال على «الإطار المفهومي الذي يحكم استخدامنا لنوع معين من الجمل السردية».١٧ والمقصود به اشتغال الفلسفة التحليلية على اللغة التي بها نصوغ تصوراتنا حول العالم في قالب أفعال في صيغة الماضي. الأمر الذي تدحضه الفلسفة التحليلية، وتقترح فلسفة مغايرة للتاريخ «لا تتعامل إلا مع أفعال بصيغة الحاضر.»١٨ والهدف من هذه المقاربة الوصفية التجريبية هو تجاوز فلسفة هيغل القائمة على «فلسفة تاريخ ثابتة». وهذه الفلسفة تقوم في مجملها على الفرضية التالية التي يعبِّر عنها ريكور كما يلي: «الكلام على مجمل التاريخ يعني تشكيل صورة كاملة عن الماضي والمستقبل، ولكن الإعلان عن رأي في المستقبل يعني التقدير الاستقرائي انطلاقًا من تصورات الماضي ومتوالياته باتجاه ما يُنتظر أن يأتي، ولكن ليس ثمة تاريخ للمستقبل؛ وذلك بسبب طبيعة الجُمل السردية، التي تُعاود وصف الأحداث الماضية في ضوء أحداث لاحقة غير معروفة من قبل الفاعلين أنفسهم.»١٩

إن النقاش الذي يهمنا هنا حول فكرة العلاقة بين السرد والمستقبل، هي إمكانية أن يتحول السرد إلى براديغم لكتابة التاريخ من جهة، بحيث لن يكون التاريخ مجرد علم، بل هو تأويل سردي لما يحدث، وهو أيضًا براديغم للزمن المروي، كما يحدث في كل أشكال القصص تعلق الأمر بالأسطورة أو الملحمة أو المأساة أو الملهاة أو الرواية الحديثة. لكن هل يمكن اختزال السرد التاريخي في مقاربة نظرية الجمل السردية؟

تقوم هذه النظرية على نقد الفكرة القائلة إن الماضي ساكن وأزلي، بينما المستقبل هو مفتوح وغير متوقع، وهي فكرة تفترض أن «الأحداث تسقط في وعاء تتراكم فيه دون أن يكون تبديلها متاحًا، فلا ترتيب ظهورها قابل للتغيير، ولا يمكن إضافة أي شيء إلى مضمونها إلا عبر الإضافة إلى ما يتبعها.»٢٠ إن هذا النقاش الذي يجريه ريكور حول علاقة السرد بالقدرة على الحكي عن زمن يكون فيه الماضي أزليًّا، والمستقبل مفتوحًا؛ يفترض إمكانية وصف تام لما حدث وفق الترتيب الذي حدث به. وهو أمر مستحيل إلا متى أدخلنا في اعتبارنا مفهوم «الراوي المثالي» القادر على سرد ما حدث كما حدث؛ وذلك لأن الحقيقة المتعلقة بهذا الحدث لا يمكن معرفتها إلا بعد الوقائع، لكننا — يقول ريكور — في ضرب من السخرية قد «نسينا أن نجهِّز الراوي المثالي بمعرفة المستقبل.»٢١ والنتيجة النهائية من هذا النقاش حول علاقة السرد بالمستقبل هي: «لا يوجَد تاريخ للحاضر، بالمعنى السردي حصرًا لهذا المصطلح. مثل هذا الشيء لن يكون إلا استشرافًا لِما يمكن أن يكتب المؤرخون مستقبلًا.»٢٢
ثمة حدود للسرد إزاء الْتباسية الزمان، وهي حدود تجد مصدرها في كوننا «لا نعرف أبدًا ما سيكتبه المؤرخون عنا مستقبلًا، كما أننا ليس فقط لا نعرف أي الأحداث سيكون مهمًّا.»٢٣

كيف يمكن التفكير بالتوافق بين السرد التاريخي والسرد القصصي؟ أي: بأيِّ معنًى يمكن للطابع السردي للغة أن يقاوم الْتباسية الزمان، وأن يرتقي بالزمان إلى اللغة؟ تلك هي الإشكاليات التي يعالجها الجزء الثالث من كتاب الزمان والسرد تحت عنوان دقيق، هو «الزمان المروي». وهو زمان يمنح الزمن شكلًا عبر القارئ كهوية سردية تتوسط بين العالم المتخيَّل والعالم المَعيش، أي: بين زمن السرد التاريخي وزمن السرد القصصي.

(١) في الهوية السردية

ضمن دفاعه عن السرد بما هو قدرة على مواجهة سر الزمان الذي يحيط بنا، يقترح علينا بول ريكور ضمن الجزء الثالث من الزمان والسرد مفهومًا يغير عميقًا تصورنا التقليدي لهوياتنا، هو مفهوم الهوية السردية.٢٤ وهو مفهوم نحَتَه ريكور في أفق براديغم أدبي جديد يختلف عن براديغم الفضاء الأدبي (بلانشو)، والنص (البنيوية)، والرواية (لوكاتش)، والأدب بوصفه التزامًا (سارتر).
لكن ما معنى الهوية السردية؟ يتم التمييز هنا بين دلالتين لمفهوم الهوية؛ الهوية في معنى الهو نفسه، أي: «الهو هو»، التي تُقال على كل موضوع يستمر في الزمن على شاكلة الحجر أو الشجر. والهوية في معنى «الهو عينه»، أي: القدرة على التماسك أو الثبات الإرادي للذات أمام الآخر عبر النمط الذي وَفْقه يسلك شخص ما، بحيث بوُسع الغير أن يعوِّل عليه. وهذا النوع من الهوية يجسِّد مفهوم الوعد الذي ألتزم به، «أنا الذي يوجَد»، وليس فقط «ما أنا كائن بعدُ». فأنا لست مجرد هوية مغلقة عما كنت عليه، إنما أنا هوية مفتوحة على وعد ألتزم بالإيفاء به. وهنا يظهر مفهوم الهوية السردية بوصفه المكوِّن الثالث للهوية الشخصية، أي: قدرة الشخص على سرد أحداث وجوده على نحو منتظم. لكن هذا النوع من الهوية السردية غير ممكن إلا عبر الاشتغال على قصص التاريخ والمخيال. وهو ما جعل ريكور يقسِّم ثلاثيته المعروفة تحت عنوان الزمان والسرد، بحيث يقع تقسيم هذا الاشتغال التأويلي على براديغم جديد للهوية، إلى ثلاث مراحل؛ السرد التاريخي (الجزء ١)، السرد القصصي (الجزء ٢) وأخيرًا الزمان المروي (الجزء ٣). وإن ما يحرك مكنة التأويل هنا سؤال أساسي: هل يمكن القول بنهاية فن الحكي بكل أشكاله؛ الأسطورة والقصص الديني والرواية نفسها؟ وكيف بوسعنا تصوُّر عالم بدون قصص؟ وماذا تبقى لنا — نحن الذين ننتمي إلى عالم فلسفات النهايات، أي: نهاية الذات والتاريخ والإنسان ونهاية السرديات — من أجل أن يقول كل منا: «أنا كائن» أو «أنا موجود»؟ إن ما هو مزعج هنا هو تحطيم فكرة الشكل نفسها إلى حد نصير فيه هيولى، كتل من الغرائز الاستهلاكية، أشبه بالسلع في عالم البضاعة المطلقة، وهو ما يهدد بحسب ريكور فكرة «العيش معًا». ومن أجل تحصين هذا الأفق الإتيقي والسياسي معًا علينا أن نستعيد فكرة الحكي والقصص والسرد. وفي هذا المعنى يكتب ريكور: «ليس لدينا أدنى فكرة عما ستكونه ثقافة لا نعرف فيها ما يعنيه الحكي.»٢٥

إنه من أجل التأسيس ثانية لثقافة السرد يستعيد ريكور نظرية أرسطو في المحاكاة بوصفها «منبعًا للسرد التاريخي وللسرد القصصي معًا»، وذلك في ثلاثة معانٍ؛ «المحاكاة ١»، بوصفها فهمًا مسبقًا للتجربة البشرية، أي: شبكة الرموز التي يجسدها التراث والتقاليد والقيم العابرة للأجيال. و«المحاكاة ٢»، أي: جملة الأعمال الأدبية التي تتنزل ضمن دائرة «التفسير». و«المحاكاة ٣»، التي تتعلق بإعادة التصور، أي: بفعل القراءة، وذلك باعتبار القارئ قطبًا أساسيًّا ضمن حقل الوظيفة السردية التي تخرج من الرمز إلى النص إلى الفعل. وضمن هذا الحقل التأويلي للهوية السردية كنموذج أدبي مغاير ينشِّط ريكور مفهوم الحبكة، ويُدرِج هذا المفهوم ضمن جدلية خاصة بين التاريخ والأحداث السردية. فإذا كان التاريخ يحدث وفق «مبدأ انتظام تتالَى فيه الأحداث»، فإن الحدث السردي الذي يحدث بمحض الصدفة إنما يساهم في إنجاز معقولية الحبكة نفسها؛ ذلك أنه من دون أحداث سردية، أي: مفاجآت وطفرات، يفقد التاريخ كل دينامية زمنية. ومن جهة أخرى، من دون نظام تاريخي تتحول الأحداث العرضية إلى مجرد مصادفات دون أي أمل في توحيدها. وهنا تتدخل «الجدلية التشكيلية» القائمة بين أشكال الانسجام التاريخي وأشكال التنافر السردي، وهي جدلية تمنح هيئة للأحداث، وهو معنى إنجاز الحبكة نفسها. وهنا يولَد مفهوم السرد بوصفه تلك القدرة على تشكيل الأحداث بمنحها حبكة سردية تخلق الانسجام بين التاريخ الكلي، والأحداث التي قد تحدث فتعرِّض الحبكة إلى الخطر.

ما يهمنا في هذا السياق هو هذا «التناظر الفعلي بين السرد التاريخي والسرد القصصي»،٢٦ الذي يكمن في قدرة السرد على تصوير ما يمنعه التاريخ؛ وذلك لأنه «في السرد القصصي فقط يضاعف صانع الحبكات الالتواءات التي تسمح بإقامة تقسيم إلى زمن يستغرقه زمن السرد وزمن الأشياء التي تُسرد.»٢٧ والجدير بالذكر هنا هو أن السرد القصصي لا يكتفي بإعادة تصوير الزمان ومضاعفة الْتواءاته، إنما هو لا ينفك في كل مرة عن أن «يفتح فضاء لا محدودًا أمام تمظهُر الزمن».٢٨ وهنا يتجلى الانفتاح على الزمن بوصفه انفتاحًا على المستقبل، ما دام المستقبل تخييلًا لزمنية مغايرة دومًا؛ لذلك ينتصر السرد القصصي على السرد التاريخي انتصار المستقبل على الماضي. فإذا كان التاريخ هو القدرة على الكلام على الماضي، أي: تصوُّر للزمان الفعلي، فإن السرد القصصي يعيد تصور الزمان وهو يدخل تحت راية نظرية في الفعل، أي: في تغيير تصوُّر الناس لأنفسهم ولعالمهم المَعيش. وهو ما يكتبه ريكور منذ الجزء الأول من الكتاب قائلًا ما يلي: «إن السرد يدل من جديد على العالم في بُعده الزمني، بقدر ما يكون القص والحكي والإنشاد إعادة تكوين للفعل متابعة لدعوة القصيدة.»٢٩
لكن السرد القصصي لا يمنح الأحداث شكلًا فقط، إنما هو يقترح عالمًا. وهو ما عبَّر عنه ريكور: «إن العالم عندي هو الشبكة الكاملة من الإحالات التي تفتحها جميع أنواع النصوص الوصفية والشعرية، التي قرأتها وفهمتها وأحببتها.»٣٠ كيف العبور من النص إلى العالم؟ إن وساطة القارئ فقط هي التي تجعل هذا الأمر ممكنًا، القارئ ليس فقط بوصفه مصاحبًا للتخييل الذي يقترحه النص، بل بما هو «متملك»٣١ لهذا العالم نفسه. يتعلق الأمر بإنجاز العبور من السرد التاريخي إلى السرد القصصي، وهو أمر لا يمكن تصوره إلا عبر القارئ، أي: «عندما يواجه عالم النص عالم القارئ. عندها فقط يكتسب العمل الأدبي معنًى بكل ما تعنيه الكلمة، عند التقاطع بين العالم الذي يسقطه النص، والعالم المَعيش للقارئ.»٣٢

وهنا يقع تحرير السرد من النص المغلق وفتحه على عالم القراءة. إننا نكتب من أجل القراء، وتبعًا لذلك، فما نكتبه يخرج عن حدود الأسوار الداخلية للنصوص. إن السرد يؤرخ للحياة، وبما هو كذلك فهو يعيد تشكيل الذات التي تسرد نفسها أو تمنح حياتها للسرد. والسرد هنا هو الأدب بما هو هذه الورشة الوسيعة، حيث يختبر السرد مصادر تنوع الهوية السردية، رُب هوية هي الشكل الوحيد لمستقبل الهويات، التي لن يكون بوسعها المكوث في علبة الماضي المغلق على استعارات ميتة، بل هي مطالبة بتجديد سردياتها بما يجعل الزمان يرتقي إلى مصافِّ اللغة، من أجل تصميم معمار الخيال. وحده الخيال الذي يتغذى من السرد القصصي بوسعه أن يسرِّح الماضي من أسره، وأن يفتح لغة ما على الممكن المستقبلي الذي بحوزتها.

ثمة إذن نوع من النضال السردي الدائم من أجل تجديد الهوية وإثرائها، وتحويلها إلى هوية مرنة ودينامية تقوِّي من مناعة الأشخاص ضد التحجُّر في حدود الهويات المغلقة. لكن وفق أيِّ نموذج يسلك هذا النضال السردي؟ إن التعامل مع الحياة بوصفها نسيجًا من القصص المحكي إنما يوقِّع إمكانية تأويلية للمصالحة بين التاريخ والتخييل. فنحن نحكي من أجل أن نتعرف على أنفسنا، ومن أجل أن نفهم أنفسنا، ومن أجل أن نتقاسم التجربة المعيشة مع الآخرين كما لو كانوا أنفسنا، أو كما لو كنا نحن آخرين أيضًا. فعن السؤال الفلسفي الكبير: من أكون؟ يمكننا أن ننتهي مع ريكور إلى الإجابة التالية: «أنا سردية فحسب». لكن بشرط أن أكون قادرًا على إنجاز الحبكة الخاصة بي، أي: على منح مبدأ انسجام لكل الأحداث العارضة التي تحدث في وجودي. أنا سردية نفسي، بشرط أن أكون قادرًا على منح المعنى لأفقر الأحداث الخاصة بي، أي: إلى درجة قدرتي على تحويل الصدفة إلى قدر. لكن الهوية السردية لا تحيل هنا إلى أي ضرب من الذاتوية الميتافيزيقية على طريقة ديكارت وكانط، أو ظاهراتية على طريقة هوسرل، أو النرجسية الفردية على طريقة فرويد، بل هي هوية زمنية تاريخية معًا. إن الزمن نفسه هو زمان مروي أو لا يكون، وهذا هو عنوان الجزء الثالث من كتاب الزمان والسرد. كيف يمكن للسرد القصصي أن يخترع الزمان نفسه صلب التاريخ الكلي؟ وهنا نجد أنفسنا أمام إحراج فلسفي عميق؛ من جهة لا يوجَد الزمان بالنسبة إلينا إلا بوصفه حدثًا سرديًّا يحتاج كي يكون إلى الرموز والعلامات والنصوص، ومن جهة أخرى يهزم الزمان السرد نفسه بأن يبقى مستغلقًا عن اللغة. وهنا يظهر مدى «الْتباس الزمان» إزاء «قوة السرد في الارتقاء به إلى اللغة»؛٣٣ وذلك لأن الزمان يمكن الحديث عنه بطرق أخرى، مما يجعله «يظل مستغلقًا حتى على السرد نفسه»٣٤ لأنه يفلت من حدود التشكيل. وفي هذا السياق يظهر مفهوم الهوية السردية في نوع من النتائج الأخيرة التي يرسمها ريكور لورشته الكبرى عن السرد التاريخي، ثم عن السرد القصصي، وأخيرًا عن الزمان المروي نفسه. ويكتب ريكور في آخر فقرة من كتابه ما يلي: «والحقيقة أنه لا شيء يُلزمنا بالانتقال من فكرة الهوية السردية إلى فكرة وحدة التاريخ، ثم الاعتراف بحدود السرد وهو يواجه سر الزمان الذي يحيط بنا.»٣٥ ها هنا نجد أنفسنا أمام مفارقة عجيبة بين قوة السرد في تشكيل الزمان، واستغلاق الزمان نفسه، وكأنه يخرج منتصرًا رغم وقوعه أسيرًا في حبكة السرد. إن الزمان المروي يضعنا إذن أمام ضرب من إخفاق السرد عن السطو على الزمان نفسه. غير أن ما يخفق هنا ليس التفكير، بل هو الغرور، الذي يحرِّض فكرنا على اعتبار نفسه سيد المعنى وسلطانه. إن الهوية السردية إذن ليست حرة تمامًا من هذا الضرب من الادعاء المُلازِم لها بوصفها «ذاتًا فاعلة تهيمن على المعنى كله».٣٦ لكن هذا الادعاء الذي يخفق عبره السرد في أن يستنفد قوة التكلم التي تعيد تصوير الزمان؛ ليس أمرًا مذمومًا، إنما هو محرِّض على مزيد من البحث من لدن الأفراد والجماعات عن «هوياتهم السردية الخاصة».٣٧ يتعلق الأمر إذن بوضعية تأويلية تسمح باللقاء بين ما يسميه ريكور في آخر صفحة من الجزء الثالث من ثلاثية الزمان والسرد «الْتباسية الزمان وشعرية السرد».

هكذا يقع التجديد في مفهوم الهوية عبر براديغم الهوية السردية الذي يفتح به ريكور أفقًا تأويليًّا وإتيقيًّا جديدًا يحرر الهويات من الهوية الثقافية المغلقة على دين أو عرق أو قومية ما. فالهوية السردية تمنح الأفراد والجماعات الثقافية القدرة على تملُّك سردياتها الخاصة، وعلى تجديدها على الدوام معًا، وذلك باعتبارها سرديات تحدث صلب الزمن، وهي في نفس الوقت تمنحه شكلًا مغايرًا معًا. والزمن ها هنا هو زمن القارئ الذي بوسعه إعادة تشكيل السرد وتجديد الزمن المروي عبر تجربة القراءة والتأويل. نحن إذن هويات سردية في معنًى يمنحنا فيه السرد — بأشكاله أدبًا أو شعرًا أو أساطير — الزمنَ الخاص بنا في كل مرة. فالزمان نفسه لا يحدث إلا على نحو سردي، رغم كونه يهزم السرد باستغلاقه عليه، والْتباسه صلب استعارات القصص وطياته الرمزية. لكن الزمان المروي هنا هو زمان مستقبلي في جوهره؛ لأنه ينبع من التخييل من جهة، وبما هو زمن الفعل، أي: تجديد تأويلنا للعالم عبر وساطة القارئ من جهة ثانية. هكذا تتكون هوياتنا الشخصية نفسها عبر تفاعل دينامي بين السرديات الخاصة وقصص المخيال الجمعي. لكن الهوية السردية ليست ثابتة ولا مغلقة حول نفسها؛ لأنها زمنية تنسج نفسها صلب نسيج الحكايات التي تندمج ضمنها على نحو متجدد على الدوام.

تمثِّل العلاقة بين الزمان والسرد — التي بسطنا أهم ملامحها من خلال ثلاثية بول ريكور — البراديغم السردي الكبير لإمكانية الحديث عن قدرة الأثر الفني الأدبي نموذجًا على اختراع عالم الزمنية، وفتحه على المجال العملي للتجارب الرمزية عمومًا. فالسرد بوصفه «ينقل إلى اللغة تجربة»٣٨ يمثِّل نموذج نظرية الفعل، وهو ما يعبِّر عنه ريكور قائلًا: «وهكذا فالأدب السردي، من بين جميع الأعمال الشعرية، هو نموذج للفعلية العملية، من خلال انحرافاته ونماذجه أيضًا.»٣٩ فكل تجربة قصصية تخترع عالمها الخاص وتمنحه للقارئ كما لو كانت ضربًا من مضاعفة تجاربنا عن «الأبدية»، بل كما لو كان «الزمان يتيح لنفسه أن تتخطاه الأبدية في عالم ممكن.»٤٠ والممكن ها هنا هو إحالة على مفهوم المستقبل بوصفه مجالًا سرديًّا وأدبيًّا يكلف الأدب بمهمة مواجهة قوة الزمان المدمِّرة بقدرة الأدب على بسط عوالم تخييلية، حيث يجعل «الخيال من اللغة ذلك الخطر الأدهى».٤١ وهو خطر يدفعنا إلى الاعتراف بهشاشة الحياة وقوة الزمان على تدمير كل شيء.٤٢

ماذا يحدث في حالة الإعلان عن نهاية فن القصص؟ وكيف يمكن تصور مستقبل بلا قصص؟ سيخرج الزمان يومئذٍ منتصرًا، وسيعلن الشاعر عن عبثية الشعر في أزمنة البؤس، حيث قد نتحول عندئذٍ إلى مسوخ تعبر السوق الكبيرة للعالم، مسوخ لا تتقن غير الاستهلاك والقتل. لكن حذارِ من السرديات المغلقة؛ لأنها لا تنتج سوى كائنات فقدت علاقتها بالزمن، وتحولت إلى مسوخ تراثية لا تتقن غير التحديق بالظلام. إن سردية تشتق نفسها من هوية مغلقة على ماضٍ أزلي غيرُ قادرة على تخيل مستقبل ممكن.

١  بول ريكور، الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، مراجعة جورج زيناتي، الجزء الأول، دار الكتاب الجديد المتحدة، ٢٠٠٦م، ص٩٥.
٢  نفسه، ص٩٧.
٣  نفسه.
٤  نفسه، ص٩٥.
٥  مارتن هيدغر، الكينونة والزمان، ترجمة فتحي المسكيني، مصدر سابق، ص٥٦٨-٥٦٩.
٦  نفسه، ص٥٦٦.
٧  نفسه، ص١٧١.
٨  نفسه.
٩  نفسه، ص٢٧.
١٠  نفسه، ص٣٢-٣٣.
١١  نفسه، ص٦٠.
١٢  نفسه، ص٥٦.
١٣  نفسه، ص٥٩.
١٤  نفسه، ص٦٠.
١٥  نفسه، ص١٩٣.
١٦  نفسه، ص٢٢٧.
١٧  نفسه.
١٨  نفسه.
١٩  نفسه، ص٢٢٧-٢٢٨.
٢٠  نفسه، ص٢٢٩.
٢١  نفسه، ج١، ص٢٣٠.
٢٢  نفسه، ص٢٣٢.
٢٣  نفسه، ص٢٣٣.
٢٤  من أجل فهم أهمية هذا المفهوم في تنضيد مغاير لمسألة الهوية كما تسود في الدلالة الأنثروبولوجية لها، بوصفها هوية قومية أو دينية أو عرقية، وإضافة ريكور الأساسية انطلاقًا من استئناف تأويلي لما افترعه هيدغر في الفقرة ٢٥ من الكينونة والزمان، وذلك تحديدًا في كتابه «الذات عينها كآخر»، انظر: فتحي المسكيني، الهوية والزمان: تأويلات فينومينولوجية لمسألة النحن، بيروت، دار الطليعة، ٢٠٠١م، ص١٠. حيث يتم جمع أهم المكاسب التي افترعها ريكور حول مفهوم الهوية. وأهم هذه النتائج عندنا يتصل بأن الهوية لا يمكنها من جهة أن تتقوَّم إلا بوصفها استمرارًا في الزمان، ومن هنا وُلدت الهوية السردية، بوصفها قدرة تخييلية على تحويل الزمن إلى زمن مروي عبر القصص. وذلك في معنًى دقيق، هو «أن السرد يساعدنا على بيان أصيل لوجه تقوُّم «الهو» بالزمان»، وهذا الضرب الطريف من الهوية إنما يقطع من جهة أخرى، وفق عبارات المسكيني، مع «النزعة التأسيسوية لفلسفات الكوجيطو، ومن ثمة تأويله لمسألة الهوية ليس فقط بأنها لا تعدو أن تكون هوية سردية، وليس هوية قومية فوق الزمان، بل بخاصة أن تأسيس الهوية على العقيدة، في عصر انحسار كل أنواع التأسيس الميتافيزيقي، هو موقف ليس له من قوام سوى البعد الروحي للنداء، وليس البعد الفلسفي للسؤال». انظر: المسكيني، المرجع المذكور، ص١٠.
٢٥  بول ريكور، الزمان والسرد: التصوير في السرد القصصي، الجزء الثاني، ترجمة فلاح رحيم، راجعه عن الفرنسية د. جورج زيناتي، طرابلس، دار الكتاب الجديد المتحدة، ٢٠٠٦م، ص٦٠.
٢٦  نفسه.
٢٧  نفسه، ص٢٦٢.
٢٨  نفسه، ص٢٦٢.
٢٩  نفسه، ج١، مذكور سابقًا، ص١٣٧-١٣٨.
٣٠  نفسه، ص١٣٦.
٣١  نفسه، ج٣، ص٢٣٩.
٣٢  نفسه، ج٢، ص٢٦٣.
٣٣  نفسه، ج٣، ص٤١٠.
٣٤  نفسه.
٣٥  نفسه، ص٤١٢.
٣٦  نفسه.
٣٧  نفسه، ص٤١٣.
٣٨  نفسه، ج١، ص١٣٤.
٣٩  نفسه، ص١٣٥.
٤٠  نفسه، ج٣، ص٤٠٨.
٤١  نفسه، ج١، ص١٣٥.
٤٢  نفسه، ج٣، ص٤١٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤