الفصل السابع

الأدب ضد الطاعون

ألبار كامو والعبث
كل شيء ينبئ، في نظر بعض العلماء والمفكرين، بأن هذه الحضارة تنحو سريعًا نحو الانهيار التام.١ الأزمة الإيكولوجية، واستنفاد خيرات الأرض، وثقب الأوزون الذي يهدد بسقوط السماء فوق رءوسنا، الأزمة الاقتصادية وسقوط بلدان برُمَّتها في الفقر الفاحش وفي ديون لا تنتهي للبنك الدولي، الإرهاب العالمي المعولم الذي يهدد بتفجير صورة العالم الحديثة حيثما شاء. بعضهم تحدث عن نهاية العالم، وبعضٌ آخر انخرط بعد في تخيل الحياة بعد نهاية العالم، كما تفعل السينما الهوليودية منذ ثمانينيات القرن الماضي، لكن كيف ستكون نهاية العالم أو انهياره؟٢ أغلبهم توقع أنها ستكون نهاية نووية أو إيكولوجية، لكن أن ينهار العالم بسبب فيروس يهاجم الحياة فجأة ويفتك بها حيثما حل، هذا هو ما يوقِّع هذه الأيام الفزع العالمي من فيروس لا مرئي يداهم المدائن، ولا يترك غير جثث الموتى والرعب الكوني. وفجأة يصبح الرعب هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس. بعض المفكرين فسر هذه الكارثة الوبائية بأنها حرب جرثومية يشنها قادة الإمبريالية العالمية ضد الأجسام العارية إلا من مجرد الحياة، وذلك من أجل إعادة بناء النظام الرأسمالي، وبرمجة أجنداته وخرائطه ومصالحه الاقتصادية. أما العلماء فقد انصرفوا للعمل على إيجاد اللقاح المناسب لمقاومة المرض. لكن بين نظريات المؤامرة وخرافات العوام والمشعوذين، وطموح العلم إلى الانتصار الطبي على الوباء، يفترع الأدب لنفسه دومًا منزلة استثنائية؛ إنه يتقن الْتقاط تفاصيل الوضعيات القصوى، والتوغل في ظلمة سراديب الألم، فهو اقتدار على رسم تجليات الرعب، كما تذهب إلى ذلك جوليا كريستيفا، معتبرةً أن الفن، والأدب بخاصة، هو «مبحث أنطولوجي»٣ يصاحب الأفرادَ في هشاشتهم، وفي رعب المعاناة التي يعيشونها. وهي معاناة خاصة بعصر الكوارث، من قبيل ما عاشه العالم بعد الحربين العالميتين من أزمة وجودية وضعت معنى الوجود الإنساني موضع سؤال، وجعلت الأدباء ينخرطون في أدب العبث. وهو أدب تجلى في فن الرواية والمسرح والشعر، وظهر مع ألبار كامو، وسامويل بيكات، وسارتر، وليونسكو. وفي هذا السياق مثَّلت رواية الطاعون لألبار كامو، التي صارت الأكثر قراءة في هذه الأيام، براديغمًا استثنائيًّا للكتابة في زمن الكارثة، بحيث يمكن لهذه الرواية أن تمثِّل نموذجًا فنيًّا لتخييل ما يحدث لنا اليوم. إن الأطروحة التي سنختبرها في هذا المقال هي التالية: أن الأدب إن كان لا يمنحنا حلولًا لهذه الكارثة الوبائية العالمية، فهو يمنحنا إجابات عن خوفنا وهلعنا إزاء شبح الموت الذي يهدد الجميع. لكن كيف الكتابة على الأوبئة؟ وأي نوع من السرد يمكنه احتضان مساحة الألم التي تعيشها الأجسام المريضة وهي على حافة الهلاك؟ إن تسريد الموت كأفق وحيد للكارثة الوبائية يفترض تصورًا دقيقًا للإنسان بوصفه جسمًا حيًّا فقط، أي: مساحة جرثومية مفتوحة على الفيروسات القاتلة.
يذهب الفيلسوف الإيطالي المعاصر جورجيو أغمبان في كتابه «الإنسان المهدور دمُه: سلطة السيادة ومجرد الحياة»،٤ إلى أن الأفراد تحت سيادة حالة الاستثناء التي دخلت فيها الإنسانية الحالية قد صاروا إلى ضرب جديد من «الإنسان المهدور دمُه»، الذي يجسِّده المنفيون واللاجئون والمرحَّلون، وكل الذين يهربون من بلدانهم التي صارت تضيق بهم. من ذلك ما يحدث منذ سنوات تحت راية سفن الموت والمنتحرين غرقًا. وفي هذه الوضعية الاستثنائية التي تمثِّل ضربًا من المنفى العالمي المعمم، يعيش الفرد مفارقة مقلقة؛ فهو بالرغم من كونه لا يزال يستأنف حياته بالمعنى البيولوجي للكلمة، فهو لا يملك حياة سياسية. لقد صار إذن الإنسان إلى مجرد الحياة. لكن يبدو أن الإنسانية اليوم في سياق هذه الحرب الجرثومية المرعبة، قد صارت مهددة حتى في مجرد الحياة، أو في الحياة العارية من كل طموح غير قيد الحياة في المعنى البيولوجي المحض. لقد حوَّل فيروس كورونا البشر إلى أموات مع تأجيل التنفيذ، وأقحم الجميع في حالة من الحجر والتعطيل لكل أنماط الحياة المشتركة. إن هذا الوباء العالمي يدفعنا إلى تنزيل هذا الوضع العام ضمن براديغم معارك الحياة ضد معارك الهوية، أو «حروب المناعة ضد معارك الجماعة»، وفق عبارة رشيقة للمفكر التونسي فتحي المسكيني، الذي يكتب في مقال له عن الفلسفة والكورونا أن البشر قد صاروا اليوم إلى «مجرد مساحة بكتيرية أو فيروسية عابرة للأجسام الحيوانية»، وأنه قد تم الانتقال منذ اكتشاف الفيروسات بتاريخ ١٨٩٢م من عصر الأمراض التقليدية، بحيث تصبح أجسامنا «مساحة عدوية مفتوحة لا معنى فيها لأي احتياط أخلاقي.»٥
وفي الحقيقة لقد دخلت الإنسانية منذ ثورة الجينوم ضمن براديغم بيوسياسي، وفق تشخيص لميشال فوكو، يستأنفه جيورجيو أغمبان الذي يكتب ما يلي: «إن عتبة الحداثة البيولوجية بحسب فوكو، إنما تتنزل هناك حيث يصير النوع البشري والفرد، بوصفهم مجرد أجسام حية، رهانًا للاستراتيجيات السياسية.»٦ إن تسييس ميدان الحياة، وجعل البشر مجرد أجسام حية تحت سلطة السياسة، التي صارت هي بدورها جهازًا للتحكم بالأجساد بوضعها تحت المراقبة البيوسياسية؛ هو ما يجعل الكارثة الوبائية كارثة سياسية بامتياز. يقول أغمبان حول هذا البراديغم البيوسياسي ما يلي: «… إن تسييس الحياة العارية بما هي كذلك إنما يمثل الحدث الحاسم للحداثة.»٧ لكن إذا كان للسلطة سياساتها الخاصة بالأجسام الحية، فإن للأدباء أيضًا، بحسب أطروحة ينظِّر لها الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير، سياسة خاصة بالأدب الذي «يمارس السياسة بوصفها أدبا».٨ ما هي سياسة الأدباء إزاء الوباء؟ ومن أجل الانخراط ضمن هذا السؤال، سنتولى في هذا البحث استعادة رواية الطاعون لألبار كامو، بوصفها قد صمَّمت براديغمًا سرديًّا فريدًا يتعلق بأدب الأوبئة، ويمكنه حينئذٍ أن يساعدنا في اختراع أفق رمزي لمقاومة الكورونا بالفن والخيال، واستعادة العالم على نحو تخييلي أيضًا. سوف نختبر معًا إلى أي مدًى يستطيع الأدب، من خلال هذه الرواية، أن يصاحبنا في جحيم الوضعيات العبثية القصوى، كيف للأدب أن يُخاتل الموت بالسرد وبالتضامن وبالتصالح مع الألم إلى حد الشعور بالارتياح ضمن الرعب. من أجل ذلك سنقرأ معًا هذه الرواية، وسنسير في تضاريسها الوعرة، ونتعلم كيف نحيا مع الوباء، وكيف نصارع من أجل الانتصار عليه معًا. وسيكتشف القارئ كم يمكن لهذه الرواية أن تشبه وجه العالم في زمن الكورونا؛ سياق كولونيالي عالمي، وباء مصدره حيواني، وحيث يقع ذكر تجربة الصين مع الوباء، إضافة إلى تجارب العزل والحجر والألم، وشبح الموت الذي يسطو على مناخ الرواية وشخصياتها وأحداثها.

(١) رواية الطاعون بين عبثية الموت والصراع من أجل الحياة

شخصيات معطوبة وحب مستحيل

تمثِّل هذه الرواية أول تجريب قصصي في أدب العبث ذات موضوع خاص بالوباء. وهي رواية صممها ألبار كامو في خمس لوحات سردية تنتمي إلى جنس الرواية الدرامية ذات الحبكة السردية. وتقع أحداث الرواية في مدينة وهران الجزائرية سنة ١٩٤٠م، حيث تفشى الطاعون بين سكان المدينة، مما أجبر السلطات على غلق المدينة وعزلها. ويمثل الدكتور برنار ريو بطلًا لهذه الرواية، وهو طبيب مطالب طيلة أحداث الرواية بمقاومة عدوى الطاعون، ومساعدة المرضى ورعايتهم ومحاولة شفائهم. والطريف هو أن هذا الطبيب لا يؤمن بأي تبرير ميتافيزيقي لهذا الوباء القاتل، ويتخاصم في ذلك مع الكاهن بانولو. وهي بذلك رواية تصوِّر الطابع العبثي والتراجيدي للوجود الإنساني؛ فالبطل طبيب يقضي حياته في مداواة المرضى، لكنه ليس قادرًا على مداواة زوجته التي تموت وحيدة في مدينة أخرى بعيدة عنه. والأب بانولو الذي يعتقد أن الطاعون هو لعنة الرب على خطايا البشر، يلقى حتفه إثر مشهد طفل بريء يقتله الطاعون، كأنما هو بذلك يكتشف عبثية القدر الإلهي، وانهزام التبرير اللاهوتي إزاء الوباء. كاتارو الشخصية الكلبية التي استغلت الوضع بشكل انتهازي، فراح يستثمر في آلام الآخرين بالتجارة الموازية، انتهى مجنونًا. تارو الذي ساعد الطبيب ريو على إدارة مؤسسة صحية للتخفيف من معاناة المرضى ومساعدتهم في محنتهم مع الوباء، يموت أخيرًا هو الآخر بالطاعون. ريو الطبيب الذي يأتيه خبر وفاة زوجته بعد صراع طويل مع المرض. ها هنا كل الشخصيات معطوبة، وأقدارها لا معقولة، والسعادة لديها مستحيلة. ذاك هو معنى العبثية كجنس أدبي جسَّدته رواية الطاعون التي توقِّع على نحو نموذجي عبثية الوباء نفسه بما هو كارثة تحدث للبشر على نحو غير معقول وغير متوقع، وتراجيدي بامتياز.

(٢) قبح المدينة

كل ذلك يظهر منذ بداية الرواية التي تنفتح على وصف للمدينة التي أصابها الطاعون: «مدينة عادية»، وهي أيضًا «مدينة قبيحة»،٩ وهي مجرد مستعمرة على شاطئ جزائري. هي وهران، مسرح الرواية حول الطاعون، ومسرح الطاعون كما حدث فعلًا في ربيع ١٩٤٠م. ويوغل ألبار كامو في وصف هذه المدينة بالهدوء والقبح وتفاهة مظهر الحياة معًا، فهي «مدينة بلا حمام ولا أشجار ولا حدائق، حيث لا خفقات أجنحة ولا حفيف أوراق»، ربيعها «يُباع في الأسواق»، وخريفها «فيض من الوحل»،١٠ لا شيء يتقنه أهلها حتى الحب؛ لأنهم منغمسون في التجارة وكسب المال. أما أكثر الأشياء طرافة في هذا الفضاء السردي للمدينة قبل أن يفتك بها الطاعون، فهي «الصعوبة التي يمكن أن يلقاها الناس بأن يموتوا.»١١ وسيعرف القارئ لهذه الرواية أن المدينة ستدخل في معاناة طويلة مع الموت تستغرق حياة برُمَّتها، حياة القصة نفسها التي لا موضوع لها غير الطريقة العبثية التي سيموت بها الناس بالطاعون.
هنا سياق الرواية التاريخي سياق استعماري في عالم لم يخرج بعدُ من الحرب العالمية الثانية. إنه سياق الموت كعلامة كبرى على عصر الكارثة بوصفها قد دفعت العالم إلى شكل جديد من الموت، يصفه كامو بالموت العصري. لذلك من المزعج جدًّا أن يموت الشخص في مدينة كهذه «حتى ولو كان موتًا عصريًّا».١٢ وما أشبهه بعالمنا في هذا الزمن الكولونيالي الموحش، حيث لا شيء يعلو فوق سلطة رأس المال وأجنداته المفزعة. هدوء المدينة ورتابتها وقبحها، وضجر الحياة فيها، كلها مقدمات سردية لتناقض سردي يُعِد له المؤلف بكل حنكة: «لم يكن ثمة شيء يدفع مواطنينا إلى ترقب الأحداث التي وقعت في ربيع ذاك العام.»١٣ إن للطاعون إذن سياسته الوبائية الخاصة؛ إنه يحدث على نحو لا متوقع، فيظهر على نحو صادم بحيث يُحدِث اختلالًا على نمط حياة المدينة التي يصيبها. هدوء المدينة وقبحها وتفاهة الحياة فيها، كلها عناصر لا تنبئ بأي تغير.

(٣) أصل الوباء حيواني

إن الطاعون يحدث فجأة دون أي شكل من التبرير الميتافيزيقي ولا اللاهوتي. هو يحدث من جهة مغايرة لكل مخيال عقائدي جاهز. إن للوباء أسبابًا حيوية خالصة، إنه يأتي من مجال الحياة. وهنا يظهر أول «جرذ ميت في وسط سطيحة الدرج»١٤ منذ السطر الأول من بداية الرواية. تنفتح الرواية إذن على واقعة عبثية لا تسترعي اهتمام الطبيب برنار ريو لأول وهلة؛ لذلك يقول: «فأزاحه على التو من غير أن يكترث له، وهبط السُّلم، وقرَ له أن هذا الجرذ لم يكن في محله»، أما عن بواب العمارة فظن أنها «قضية مزاح أو دعابة»، بحيث «لم يكن في البيت جرذان، ولا بد أن يكون هذا الجرذ قد نُقِل من الخارج». وتتواصل حكاية موت الجرذان وظهورها أمام الطبيب، لكن لم يكن الطبيب يتوقع أن الأمر يتعلق بعلامات حيوية على مرض الطاعون. «وفي المساء نفسه، كان برنار ريو واقفًا أمام البناية، فرأى جرذا كبيرًا»، هذا الجرذ الثاني هو علامة حاسمة؛ لأنه سقط ميتًا أمام الطبيب، «وسقط أخيرًا وهو يرسل الدم من شفتيه.»١٥ لكن الطبيب سينشغل هذه المرة عن الجرذ الميت بأمر زوجته المريضة التي سيرسلها إلى محطة جبلية للاستشفاء. هكذا تكتمل العتبة السردية بتجميع ملامح المشهد العام للرواية، التي اتخذت منذ البداية من المرض (الزوجة)، والموت والدم (الجرذان)، وجهة أساسية. لن يكون ثمة حب وشوق وحبكة درامية كلاسيكية، ولن يكون الصراع مع الآلهة كما في التراجيديا اليونانية، ولا صراع حول الملك والسلطان كما في الحكايا التقليدية. لقد غير القصص من عناوينه؛ الموت هنا كتجربة إنسانية قصوى، والصراع مع وباء معمم، سيكون هو موضوع الرواية.
ستكثر إذن موتات الجرذان المتساقطة في المدينة، وسيعم الهلع بين سكانها، وستبدأ العدوى في التفشي بين الناس هذه المرة بحيث سيلتقي الطبيب ريو مريضه الأول في نفس الوقت الذي تغادر فيه زوجته إلى حيث لا رجعة. يكتب: «ووجد مريضه الأول في السرير، في غرفة تطل على الشارع، وتُستعمل للنوم وللطعام في وقت واحد. وكان المريض شيخًا إسبانيًّا ذا وجه قاسي الملامح مخدَّد.»١٦ وهنا نتوقف عند اختيار السارد أن يكون مريضه الأول شيخًا إسبانيًّا في لحظة الحرب الأهلية في إسبانيا، وأن تكون حياته بذاك المشهد من البؤس الشديد؛ فهو وحيد وغريب معًا، يسكن غرفة واحدة للنوم وللطعام معًا، الوجه مخدَّد بقساوة حياته وتعاستها. فالمرض ها هنا وضعية وجودية تعكس بؤس البشر في عالم الحروب التي لن يكون الوباء سوى التعبيرة البيولوجية عنها، وحتى وجه قاضي التحقيق «يشبه نصف الشَّبه حفَّار قبور».١٧ وسيبدأ الناس يقلقون بشأن تكاثر موت الجرذان؛ «ذلك أن المصانع والمخازن غصَّت بمئات الجثث من الجرذان.»١٨ ثم تفاقمت وضعية موت الجرذان، «بدأت الجرذان تخرج لتموت جماعات»، و«أعلنت وكالة راندسوك (للاستعلامات) أنه جُمع ثمانية آلاف جرذ تقريبًا، فبلغ القلق ذروته في المدينة.»١٩ هكذا يتابع ألبار كامو كيف ظهر الطاعون أولًا لدى الفئران لكي يتحول إلى عدوى بين سكان المدينة، بحيث سيُصاب بواب العمارة، وسيلجأ إلى الكاهن بانولو الذي سيفسِّر ظهور الطاعون بعقاب من الرب: «وكان العجوز يمسك بذراع كاهن عرفه الطبيب. إنه الأب بانولو، وهو عالم يسوعي.»٢٠ وستكون نهاية البواب بالطاعون منعرَجًا سرديًّا خطيرًا سيقع فيه اكتشاف أن الأمر يتعلق فعلًا بوباء الطاعون، لكن قبل ذلك سيموت الكثيرون بحمى هذا الوباء إلى درجة تجعل «المدينة كلها محمومة».٢١ وبعد تضاعف عدد الموتى يختار السارد «زيارة كاستل، وهو زميل أكبر منه سنًّا»، ليسأله عن حقيقة هذا الوباء. فبينما يجيب السارد بأنه ينتظر نتيجة التحاليل، يخبره كاستل الأكبر سنًّا أنه قد عرف حقيقة الوباء، يقول: «أما أنا، فأعرفها، لقد مارست فترة من مهنتي في الصين.»٢٢ ويتواصل الحوار بينهما إلى حين يعلن ريو قائلًا: «نعم يا كاستل، ولكن يبدو واضحًا أنه الطاعون.»٢٣

(٤) مشهد الطاعون وعربات الموت

وفي هذه المرة الأولى التي تظهر فيها عبارة الطاعون في الرواية، يتوقف السارد عند هول العبارة ووقعها على الطبيب، الذي تردد طويلًا في فهم ما يحدث. وهكذا يبدو تعثُّر الطب في البداية، بحيث يموت الناس وحيدين بلا أي مبرر، وتتكرر دومًا عبر التاريخ عبثية الوجود الإنساني، ويتدخل المؤلف: «والواقع أن البلايا هي شيء شائع، لقد عرف العالم من الطواعين والحروب تفجأ الناس دائمًا.»٢٤ ويربط السارد بين الحرب والطاعون: «ولا ريب أن حربًا ما هي أمر مفرط في السخف، ولكن ذلك لا يمنعها من أن تدوم. إن السخف يلح دائمًا.»٢٥ الحرب عبثية، وكذلك الطاعون. كل الكوارث التي تقتل البشر لا معقولة، ولا شيء يمكن أن يبررها. ويسترسل السارد في نثر معالم فلسفة العبث صلب الرواية قائلًا: «إن الطواعين الثلاثين التي عرفها التاريخ قد كبَّدت البشرية زهاء مائة مليون نسمة.» وأمام هذا الرقم المفزع من الحيوات التي ذهبت هدرًا، لا يستغرب السارد، ولا حتى يحزن، بل هو يمضي قُدمًا في التهكم الأسود فيما أبعد من مشاعر الألم نفسها قائلًا: «ولكن ما مائة مليون نسمة؟ إن من يشترك في الحرب لا يكاد يعرف ما عسى يعنيه رجل ميت. ولمَّا لم يكن للرجل الميت أي وزن إلا حين يُرى ميتًا، فإن مائة مليون جثة منتثرة عبر التاريخ ليست إلا دخانًا في مخيلة.»٢٦
هكذا تتجلى عبثية الموت في أكثر التعبيرات مأساوية عما يحدث للبشر في حالة الحروب والأوبئة، التي يعتبرها السارد أمرًا شائعًا رغم لامعقوليتها. ولعل أحلك صورة يرسمها ألبار كامو عن ذاكرة الوباء وما حصده من أرواح في تاريخه هي التالية: «… أثينا مطعونةً قد هجرها الطير، والمدنَ الصينية غاصَّةً بالمحتضَرين الصامتين، ومحكومي مرسيليا المؤبَّدين مراكمين في الحفر الأجسادَ التي تقطر دمًا … والمرضى المسحوبين بالكلاليب … وعربات الأموات المذعورة، والليالي والأيام مملوءة دائمًا وفي كل مكان بصرخة البشر التي لا تنتهي.»٢٧

(٥) الوباء منفى الرعب

لقد أتقنت رواية الطاعون التوغل عميقًا فيما يعيشه سكان المدينة من مشاعر بالنفي والسجن والفراغ كما لو كانوا في حفرة، يقول: «أجل كان حقًّا هو شعورًا بالنفي، هذا الفراغ الذي كنا نحمله أبدًا في نفوسنا»، وأيضًا «كنا نتلبَّس وضعنا كسجناء»، أو «وحينذاك يكون انهيار شجاعتهم وإرادتهم وصبرهم فجائيًّا جدًّا، حتى ليُخيَّل إليهم أنهم لن يستطيعوا أبدًا الخروج من هذه الحفرة.»٢٨
هو الشعور بالوحدة أيضًا، كل شخص يظل في عزلة مرعبة أمام الموت. كتب: «وأخيرًا لم يكن بوسع أحد، في أطراف هذه الوحدة، أن يأمل المعونة من جار له، فظل كل امرئ وحيدًا.»٢٩ لكن مشاعر النفي والسجن والوحدة تُعتبر مشاعر المحظوظين قبل الإصابة بالطاعون؛ فهؤلاء حتى يأسهم كان ينقذهم؛ لأن كل ما اجتاحه الوباء سيظل «ملقًى دونما انتقال في أكثف صمت في الأرض، إنه لم يُتَح له الوقت لأي شيء».٣٠ هكذا تغرق المدينة في شبح الموت إلى حد الجنون: «لا شك في أننا سنصبح جميعًا مجانين.»٣١

(٦) الطاعون لعنة الرب (موقف الكنيسة)

أما عن الكنيسة، فقد قررَت التدخل في هذا المشهد، وجمَّع بانولو الناس في خطبة دينية تعيد الوباء إلى عقاب إلهي. يقول: «يا إخوتي، إنكم في المصيبة يا إخوتي، وإنكم لتستحقونها.»٣٢ ويضيف: «لقد ظهر هذا البلاء للمرة الأولى في التاريخ ليصعق أعداء الرب …»٣٣ لكن الطاعون كان أكبر من الكاهن، وسارع محافظ المدينة إلى إجراءات عزل المرضى ونقلهم إلى المستشفى، وعمَّت «مشاهد الجنون» والقساوة: «صراخ، أوامر، تدخُّل رجال الشرطة، واستعمال القوة المسلحة فيما بعد، هكذا كان المريض يُؤخَذ عَنوة.»٣٤ ويتحول الناس إلى أجسام تحت مراقبة السلطة، أجسام المرضى لم تعد ملكية لهم. إن الوباء يحول الإنسان من شخص أخلاقي له حرمته وضمانته الميتافيزيقية، إلى مجرد جسم على قيد الحياة، أو من أجل الموت.

(٧) الطاعون يهزم الربيع

أما عن الربيع فقد أُنهكَ وانسحق تحت عبء الطاعون الذي طرد من المدينة كل فرح، وحوَّلها إلى «مقبرة خنق فيها الطاعون والحجر والليل كل صوت».٣٥ لكن الليل لم يعد يقتصر على مجاز السواد الذي يلف المدينة تحت شبح الوباء، بل تسرب إلى جميع القلوب: «ولكن الليل كان كذلك في جميع القلوب.»٣٦ سوف يحتدُّ مشهد المأساة ويزداد كلما استفحل الوباء وسيطر على مجال الحياة في المدينة، وسوف يذهب السارد نحو مناطق أكثر ألمًا، بأن يجعل «مجتمع الأحياء يخشى طول النهار أن يُضطر آخر الأمر إلى التخلي عن مكانه لمجتمع الأموات».٣٧ لقد أدرك الجميع في المدينة أنهم «بإزاء إحدى ثورات الوباء الكبرى»،٣٨ وأن المدينة ستتعود على هذه المصيبة، أي: على الحقيقة، أي: على الصمت. كما لو كان الصمت شكل المقاومة الوحيد لهذا الوباء. وغيَّر الموت من طقوسه؛ إذ أُلغيَت «الطقوس الموتية في الكنائس»،٣٩ و«سيقت الزهور والأموات إلى فرن حرق الجثث»،٤٠ وعمَّ مشهد البؤس والألم، وصارت «أيام الطاعون تبدو كوطء شديد دائم يسحق كل شيء».٤١ أما عن المدينة، فلا شيء تبقَّى منها غير «ضجيج هائل لأقدام وأصوات صماء، وانزلاق مؤلم لآلاف النعال، ذلك الانزلاق الذي يوقِّعه هزيز الوباء في السماء المثقَلة.»٤٢
في زمن الأوبئة «كل الناس مشتبَه بهم»،٤٣ وستبدو الحياة كما لو كانت «تنمو في ثنايا المصائب الكبرى»،٤٤ وسيعرف الجميع أن «الطاعون أقوى من ذلك كله»،٤٥ وأنه «لم تبقَ ثمة أقدار فردية، وإنما تاريخ جماعي، هو الطاعون، ومشاعر يتقاسمها الجميع.»٤٦ لا أحد يفلت من هذا الوباء الجماعي حتى الأطفال دخلوا تحت جائحة الطاعون. ولعل أهم مشهد تراجيدي يستثمر فيه السارد هو مشهد صراع الصبي ابن القاضي أتون مع الوباء إلى حد الموت. وكان الكاهن قد حضر موت الصبي، كتب: «ونظر بانولو إلى هذا الفم الصبياني الملوث بالوباء، المليء بتلك الصرخة، صرخة جميع العهود.»٤٧ يموت الطفل تحت أنظار الطبيب والكاهن معًا، وكان الطاعون أكبر من الجميع مرة أخرى، وهذا ما كان صادمًا للطبيب، الذي دفع بالكاهن بعنف قائلًا: «آه، لقد كان هذا، على الأقل، بريئًا.»٤٨ وكان هذا الموقف مزعجًا لرجل الدين الذي ما فتئ يقول إن الطاعون عقاب إلهي للخطَّائين والكفرة، فكيف يقتل الطاعون طفلًا بريئًا؟ وهنا يقع إرباك التصور الديني المسيحي، ويجري حوار عبثي بين الطبيب الذي لا يهتم إلا بصحة الناس، والكاهن الذي يعتني بخلاصهم، بحيث يقول الطبيب: «إن خلاص الإنسان كلمة كبيرة جدًّا عليَّ، إنما تعنيني صحة الإنسان.»٤٩ ولقد غيَّرَت واقعة موت الطفل بوباء الطاعون كثيرًا من سلوك الكاهن، ويبدو أنها آلمته وأربكته معًا، فصار يخطب في الكنيسة «بصوت أرقَّ وأهدأ، وقد لاحظ الحضور غير مرة بعض التردد في خطابه».٥٠

(٨) الأدب ضد الطاعون

يبدو الأدب — رغم كل الأفق الحالك الذي أطبق على المدينة تحت ليل الطاعون — أحد منافذ التمرد على عبثية الوضعية الوبائية، وهو ما يجسده ظهور شخصية جوزيف غران الموظف الصغير «المكلف بإحصاء عدد الوفيات»،٥١ الذي صار صديقًا للدكتور ريو، والذي يظهر تحت قلم السارد بكونه لا يجيد التعبير عن أفكاره، وهو «لا يجد كلماته»، أو هو «ما فتئ يبحث عن كلماته»،٥٢ والذي اقترن اسمه منذ ظهوره في الرواية بإحصاء موتى الطاعون وبالكتابة معًا: «كان يكتب دون ريب كتابًا أو شيئًا من هذا القبيل.»٥٣ ولقد كان غران، بالرغم من عدم قدرته على التعبير عن أفكاره، يحلم بنجاح كبير لمخطوطته، بل كان يريد بعد الانتهاء منها أن يقول عنه الناشر لمعاونيه: «ارفعوا قبعاتكم يا سادة.»٥٤ أما ريو، فبالرغم من أنه «كان قليل الاطلاع على شئون الأدب»، فقد كان ينصت إلى غران الأديب المفترَض، وكان يقول في نفسه كيف لمدينة يعيش فيها مثل هذا النوع من الناس ذوي النوايا الشريفة، أن يصيبها الطاعون؟ قال السارد: «لم يكن يستطيع الاعتقاد بأن الطاعون أمكنه أن ينتشر حقًّا في مدينة يوجَد فيها موظفون، يغذون نزعات مشرِّفة، وهو في الحق لا يتصور مكانًا لهذه النزعات وسط الطاعون، إلى أن انتهى به الحكم إلى أن الطاعون ليس له — عمليًّا — أيُّ مستقبل بين ظهرانَي مواطنينا.»٥٥ وبالرغم من تردد الطبيب في أول الأمر في قدرة نجاح الأدب في الظهور في مدينة الطاعون، فقد انتهى به الأمر إلى التأكد أخيرًا بأن الموظف الصغير غران المكلف بإحصاء الوفيات قد نجح أخيرًا في كتابة كتابه، وأن «المؤلف المحكي عنه يعد الآن كثيرًا من الصفحات»، لكن يبقى أن بلوغ الكتاب مرحلة الاكتمال إنما سيكلف الكاتب جهدًا «مؤلمًا جدًّا.»٥٦ ولكن بالرغم من تلعثم الكاتب غران، وتعثُّره في التعبير، وتعطُّل اللغة على لسانه، وكلها علامات على اختلال الأدب زمن الطاعون؛ يعترف الطبيب أخيرًا للكاتب بأن «قصته صارت تهمه كثيرًا».٥٧ ذلك أن غران الموظف والكاتب سوف يكون أكثر الناس صدقًا وأمانة، وإرادة في مساعدة ريو في مقاومة الطاعون بكل إيمان، بأنه ما دام هناك الطاعون «يجب أن ندافع عن أنفسنا».٥٨ وبهذا المعنى كانت الكتابة شكلًا من مكافحة الوباء، بحيث أصبح الجميع فجأة يهتمون لأمر ما يكتب غران مثل الصديق تارو، الذي صار يتابع باهتمام ما يقوم به غران «صابرًا مثابرًا وسط الطاعون»، وكان يرى في هذا «لونًا من التفريج».٥٩
كل شيء في هذه المدينة قد صنعه الطاعون، حتى الراوي نفسه الذي «سيظل مؤرخ القلوب الممزقة، ذلك المؤرخ الذي صنعه الطاعون لجميع مواطنينا.»٦٠ وفي الحقيقة يظهر الأدب في هذه الرواية في وضعيات تأويلية معقدة؛ فهو يظهر مع السارد الذي يكتب الرواية في صيغة المبني إلى المجهول، ومع الراوي الذي يظهر في كل مرة ليرسم شكلًا مغايرًا من المشهد، ومع غران الكاتب الذي كان دومًا بصدد كتابة قصة لا نعرف منها غير مطلعها: «ذات صبيحة جميلة من نوار، كانت فارسة ممشوقة ممتطية فرسًا فاخرة صهباء، تجتاز ممرات غابة بولونيا الملأى بالزهور.»٦١ لكن الطريف هو أن لا أحد منهم كان يعلم كيف تزدهر الممرات، وكيف نكتب عن الزهور في مدينة بلا حدائق، ورغم ذلك، كان ما يكتبه غران كفيلًا بأن يزعزع خيال الطبيب وصديقه تارو إلى حدٍّ يقول فيه تارو أنْ «ليس من يعرف كيف ينظر غير الفنانين.»٦٢
وهنا لا بد أن نشير إلى أن قصة غران هي نفسها قد غيرت من مفهوم الأدب، بحيث سوف يكتشف القارئ في نهاية الرواية أن غران، الذي كان يَعِد دومًا بقصة مذهلة هو بصدد كتابتها، هو في الحقيقة لم يفعل إلا كتابة ذاك المطلع المذكور ونسخه طيلة خمسين صفحة، بحيث إن قصته لم تكن تتضمن سوى جملة واحدة يكررها إلى ما لا نهاية له، كما لو كانت الكتابة في زمن الطاعون مستحيلة، أو هي لا تقتضي الكثير من اللغة، بما أن ما يقع جدير بالصمت والألم، وقد يكون الألم أكبر من اللغة، وقد تكون كتابة الصمت أكبر من الكاتب نفسه. يقول: «كانت مخطوطة قصيرة من خمسين صفحة تقريبًا، ولم تكن جميع الأوراق تحمل إلا العبارة نفسها منسوخة إلى ما لا نهاية.»٦٣ وفي هذا السياق سيكتشف القارئ أن هذه المخطوطة سوف تظهر في سياق محزن جدًّا، حيث أُصيبَ غران بالطاعون، وكان ثمة خوف على حياته، وما دامت تلك المخطوطة هي أهم ما لديه، سلَّمها إلى صديقه الطبيب ريو وطلب منه إحراقها. والسر الكامن وراء هذا الأمر هو قصة حب مستحيلة عاشها غران مع خطيبته جان، التي أهداها المخطوط، ويبدو أنه قد فقدها قبل أن ترى المخطوط: «فمن أعماق السنين البعيدة كان صوت جان يعود الآن إلى غران في وسط هذا العالم المجنون.»٦٤ وكان غران الشيخ صاحب المخطوط يقول «بأن العالم الذي لا حب فيه، كان كأنه عالم ميت.»٦٥
لكن ينبغي الإشارة أيضًا أن غران، بحسب كلام الراوي، لم يكن سوى بطل تافه يعترف الراوي بأنه قد اختاره عمدًا ضد الأبطال التقليديين للأدب الكلاسيكي؛ وذلك من أجل منح الحقيقة ما هي عليه فعلًا، أي: مظهر التفاهة والرداءة معًا. لقد قرر المؤلف إذن أن يغير من سياسة الأدب نفسها بأن «يعطي للبطولة المكان الثانوي الذي ينبغي أن تحله دائمًا بعد مطلب السعادة السخي لا قبله.»٦٦ إن مطلب السعادة كان أهم من البطولة، ومن القداسة أيضًا؛ لذلك كان الطبيب ريو يقول ضد الأب بانلو: «أنا أستشعر مع المقهورين حظًّا من التضامن أكبر مما أستشعر مع القديسين.»٦٧
ومن أجل فهم تعقُّد وضعية الأدب في رواية الطاعون، ينبغي علينا أن نتوقف عند خطة الكاتب كما أرادت الرواية تصميمها على نحو غامض ومذهل معًا. فالكاتب ها هنا لم يكن فقط هو الراوي المجهول الذي يظهر من حين إلى آخر كي يصحح مسارات الرواية، وليس فقط الموظف غران الذي يَعِد منذ البداية بأنه يكتب كتابًا، بل هو تارو أيضًا، تلك الشخصية الغامضة التي تظهر منذ بداية الرواية، والتي سوف تساعد كثيرًا ريو في مقاومة الطاعون طيلة أحداث القصة، لكنه سيكون آخر ضحية للطاعون في نفس الوقت الذي يقع فيه الإعلان عن نهاية الوباء. تارو هو بحسب تدخُّل الراوي شخص غريب عن وهران، نزل فيها منذ أسبوعين فقط، «ولم يكن بوسع أحد أن يعرف من أين أتى، ولماذا هو هناك.»٦٨ هذا الغريب هو أيضًا أحد من ساهم في كتابة هذه القصة بحيث تشكِّل «مذكراته نوعًا من التأريخ لهذه الحقبة»؛ فهو كان «يحرص في أثناء هذا الذعر العام على أن يجعل نفسه مؤرخ ما لا تاريخ له.»٦٩ لكن أشد ما يعيب عليه فيه الراوي هو «جفاف العاطفة». وقد يكون تارو هو من كتب فعلًا هذه القصة؛ فمخطوطه يبدأ، كما يشير الراوي، بوصف قبح المدينة، وأكثر من ذلك بالتعبير عن رضاه بأنه «يوجَد في مدينة قبيحة بذاتها هذا القبح، حيث انعدام الأشجار، والبيوت البشعة، وتخطيط المدينة السخيف.»٧٠
غير أن تعقُّد وضعية الكاتب، وخلخلة طمأنينة الأدب، والدفع به إلى نوع من اليتم، وغياب الكاتب الواحد أبي النص ومصدره الوحيد؛ لا يقف عند هذا المستوى، بل يتجاوزه إلى حد الاعتراف في آخر صفحات الرواية بأن ريو الطبيب — الذي كان هو البطل الحقيقي للرواية؛ لأنه المصارع الرئيسي للطاعون — هو في الحقيقة مَن كتب هذه القصة؛ لأنه هو من أرادها على هذا النحو. وهنا نلمس مخاتلة سردية ملتبسة في خطة الكاتب نفسه. لقد سقطت كل الفواصل ها هنا بين الخيال والواقع، وبين الأديب والطبيب. ولم يعد الكاتب هو من يكتب قصة عاشها الآخرون، كما لو كان يكتفي بفعل الفرجة، بل هو مَن صنع هذه القصة، أي: من أنجز كل هذا الفضاء السردي الذي يحتِّم على الكاتب أن يصمم سياسة وبائية خاصة جدًّا، تقوم على الانضمام إلى الناس من أجل أن يقاسمهم «الحب والعذاب والنفي»؛٧١ وذلك لأنه كان يعلم جيدًا أن عالمًا يتوحد فيه الناس في الألم هو عالم فاضل، وأنه في كل صراعه معهم ضد الطاعون إنما «كان يشعر دومًا أنه ينضم إليهم من فوق كل ألم». لقد قرر ريو أن يكتب هذه القصة إذن «كي لا يكون من أولئك الذين يصمتون، وليشهد لصالح هؤلاء المصابين بالطاعون، وليترك ذكرى الظلم والعنف اللذين تكبَّدوهما». الشهادة بالكتابة على ألم المصابين بالوباء، تلك هي مهمة الأدب الذي صار أيضًا إلى ضرب من الذاكرة الخاصة بالضحايا.

(٩) الأدب هو الوجه المشرق من الكارثة

تعلِّمنا هذه الرواية أن مهمة الأدب هي أخيرًا نشر الأمل بين الباقين والناجين، وتعليمهم «أن ما يستحق الإعجاب والتمجيد في البشر أكثر مما يستحق الاحتقار والزراية»،٧٢ وأن الأدب يصلح أيضًا لتوقيع نهاية الوباء، وتحويل سواد العالم إلى مجرد ذكرى سرعان ما يتم نسيانها. والنسيان ها هنا أيضًا إنما هو طريقة البشر في التغلب على الكوارث التي تحل بهم، بحيث إن رواية «الطاعون» ليست رواية لوصف عنف الطاعون وبطشه وشرِّه الأعظم، بل هي رواية للتبشير أيضًا بأن كل الكوارث تنتهي ويبقى البشر، وهو ما يبشر به المؤلف في المقطوعة السردية الخامسة والأخيرة، حيث يعلن أن «الوباء كان يتراجع بالإجمال في كل مكان»، وأن «القلوب كلها تضطرم بأمل عظيم مكتوم»،٧٣ وأنه «من العدل أن يأتي الفرح، فيكافئ الذين يكتفون بالإنسان، وبحبه المسكين والفظيع»،٧٤ وأنه أخيرًا يمكن للأدب أيضًا أن يمنح الناس إمكانية «أن يبدءوا من جديد»،٧٥ وذلك هو الدرس الأخير الذي نتعلمه من الكتابة في عصر الكارثة.
إن الأدب إذن أفق ممكن لرسم الأمل كلما انهار الواقع، واهتزت ثقة الناس بالحياة. هذا هو الدرس الكبير الذي نتعلمه من رواية الطاعون لألبار كامو، التي ورغم سواد العالم الذي جمَّعته بين دفتيها، فهي قد تَركت دومًا في أحلك لحظاتها شمعة يمكنها بها أن تنتصر على الظلام. من ذلك وجه الأم التي صاحبت هذا الطاعون في صمت وصبر وهدوء، بجمال عينيها كانت تبثُّ الأمل في ابنها الطبيب ريو. يقول: «ونظر ريو إلى أمه، فإذا عيناها الجميلتان الكستنائيتان تُحيِيان في نفسه سنوات من الحنان.»٧٦ ذاك الأمل هو الذي كان وراء صمود ريو أمام الطاعون، فقرر الصراع وعدم الاستسلام للكارثة، وكان يقول: «من يرى الشقاء والعذاب اللذين يحملهما الطاعون في ركابه، ينبغي أن يكون مجنونًا أو أعمى أو جبانًا حتى يستسلم له.»٧٧
إن عالم الطاعون هو عالم لا حب فيه ولا عواطف، يقول: «إن الطاعون قد انتزع من الجميع القدرة على الحب؛ ذلك أن الحب يتطلب شيئًا من مستقبل.»٧٨ كل الشخصيات إذن تحت تهديد الموت كانت تعيش وحدة عاطفية مرعبة؛ ريو الطبيب يتقبل خبر موت زوجته بكل هدوء، وأمه زوجها في معسكر العزل ولا تتحدث عنه إطلاقًا، وكوتار عاش وحيدًا دومًا، وغران فقد خطيبته، وتارو لا أهل له، والقاضي أتون قد فقدَ ابنه طفلًا، ورامبير الصحفي عاش طيلة القصة يريد الالتحاق بحبيبته في باريس، وحين وجد إمكانية لذلك قرر البقاء معهم لمقاومة الطاعون؛ لأن الجميع كانوا قد «دخلوا في نظام الطاعون نفسه، لم يبقَ لأحد عندنا عواطف كبيرة.»٧٩ أما كاتارو الذي انتهى مجنونًا فقد كان «مرتاحًا في الرعب»؛ لأنه كان يتقاسمه مع الآخرين، ولقد كان «يُؤثِر أن يحاصَر مع الجميع على أن يُسجن وحده.»٨٠
الأدب في زمن الأوبئة هو أيضًا اختراع للحب في عالم لا مكان فيه لغير الألم والموت. تلك هي رسالة رواية الطاعون، التي أَفردت للمسرح أيضًا، كشكل من الأدب، مكانة خاصة؛ فلقد ظهر المسرح في الرواية بوصفه المكان الذي كان يستعيد فيه الرجال طمأنينتهم التي كانوا يفتقدونها وسط «شوارع المدينة السوداء»، وكان النساء يستمعن لشكاوى «أورفيه»، و«يفصِّلن شقاءها تفصيلًا شيقًا»، وترتفع في أجواء المسرح «أغاني الحب خفيفة رقيقة»،٨١ تلك الأغاني التي كانت مستحيلة في مدينة قد افتكَّها الوباء والموت. ورغم بشاعة هذا الوباء وقبحه وبطشه، فلقد كان المسرح ينتصر على الطاعون: «لقد كان اللباس يطرد الطاعون»، وينتهي «الطاعون على المسرح في مظهر مهرِّج مفكَّك المفاصل.»٨٢

وحده الفن، أدبًا كان أو مسرحًا، بوسعه أن يسخر من كل تراجيديا الوضع البشري. وبوسع الفن أيضًا تحويل هول ما يحدث إلى مجرد قصة، أو إلى ركح لتفكيك الكارثة، وتحويلها إلى ضرب من التهريج. بالأدب يستعيد الناس عالمهم، ويتصالحون مع الألم، ويتعلمون أيضًا نسيان ما حدث، وسيعرفون كم أن الإنسان جدير بالتمجيد، وكم أن الحياة جديرة بأن تُعاش أيضًا، وأن المستقبل يظل دومًا ممكنًا بالأمل. إن الأدب هو — وفق عبارة جميلة للفيلسوف الفرنسي روني جيرار — «الوجه المشرق من الكارثة»، بل ينبغي علينا أخيرًا «أن نتخيل دومًا سيزيف سعيدًا».

١  Julien Wosniza, Pourquoi Tout va s’effondrer, éditions les liens qui libèrent, 2018.
٢  Pablo Servine, Raphaiel Steven, Comment Tout va s’effondrer, Seuil 2015.
٣  Julia Kriesteva, Pouvoirs de l’horreur: Essai sur l’abjection, Seuil, 1980.
٤  Giorgio Agamben, Homo Sacer: le pouvoir souverain et la vie nue, Paris, Seuil, 1998.
٥  فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة»، موقع مؤمنون بلا حدود، ٢٤ فيفري، ٢٠٢٠م.
٦  G. Agamben, Homo Sacer l’Intégrale (1995, 2015), Paris, Seuil, 2016, p. 12.
٧  Ibid., p. 17.
٨  جاك رانسيير، سياسة الأدب، ترجمة د. رضوان ظاظا، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠١٠م، ص١٥.
٩  ألبير كامو، الطاعون، ترجمة د. سهيل إدريس، بيروت، دار الآداب، ١٩٨١م، ص٥.
١٠  نفسه.
١١  نفسه، ص٧.
١٢  نفسه.
١٣  نفسه ص٨.
١٤  نفسه، ص٩.
١٥  نفسه.
١٦  نفسه، ص١١.
١٧  نفسه، ص١٣.
١٨  نفسه، ص١٧.
١٩  نفسه، ص١٨.
٢٠  نفسه، ص١٩.
٢١  نفسه، ص٣٥.
٢٢  نفسه، ص٤٠.
٢٣  نفسه.
٢٤  نفسه.
٢٥  نفسه.
٢٦  نفسه، ص٤٢.
٢٧  نفسه، ص٤٤.
٢٨  نفسه، ص٧٥.
٢٩  نفسه، ص٧٨.
٣٠  نفسه، ٧٩.
٣١  نفسه، ص٨٣.
٣٢  نفسه، ص٩٧.
٣٣  نفسه، ص٩٨.
٣٤  نفسه، ٩٢.
٣٥  ص١٧٣.
٣٦  نفسه.
٣٧  نفسه، ص١٧٤.
٣٨  نفسه، ص١١٦.
٣٩  نفسه، ص١٧٦.
٤٠  نفسه، ١٧٩.
٤١  نفسه، ص١٨٠.
٤٢  نفسه، ص١٨٥.
٤٣  نفسه، ص١١٧.
٤٤  نفسه، ص١٢٢.
٤٥  نفسه، ص١٦١.
٤٦  نفسه، ص١٦٩.
٤٧  نفسه، ص٢١٣.
٤٨  نفسه، ص٢١٥.
٤٩  نفسه، ص٢١٦.
٥٠  نفسه، ٢١٩.
٥١  نفسه، ص٤٦.
٥٢  نفسه، ص٥٠.
٥٣  نفسه، ص٥١.
٥٤  نفسه، ص١٠٥.
٥٥  نفسه، ص٥١.
٥٦  نفسه، ١٠٦.
٥٧  نفسه.
٥٨  نفسه، ص١٣٧.
٥٩  نفسه.
٦٠  نفسه، ص١٣٥.
٦١  نفسه، ص١٣٩.
٦٢  نفسه، ص١٣٨.
٦٣  نفسه، ص٢٥٩.
٦٤  نفسه.
٦٥  نفسه.
٦٦  نفسه، ص١٤٠.
٦٧  نفسه، ص٢٥١.
٦٨  نفسه، ص٢٦.
٦٩  نفسه.
٧٠  نفسه.
٧١  نفسه، ص٢٩٤.
٧٢  نفسه، ص٣٠١.
٧٣  نفسه، ص٢٦٣.
٧٤  نفسه، ص٢٩٣.
٧٥  نفسه، ص٢٧٢.
٧٦  نفسه، ص١٢٥.
٧٧  نفسه، ص١٢٩.
٧٨  نفسه، ص١٨٢.
٧٩  نفسه، ص١٨١.
٨٠  نفسه، ص١٩٥.
٨١  نفسه، ص١٩٥-١٩٦.
٨٢  نفسه، ص١٩٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤