الشقاق

تركي وجع في قلبه فهو ينادي إخوانهُ العرب:

مهلًا بني عمنا مهلًا موالينَا
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونَا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم
وأن نكف الأذى عنكم وتأْذونَا

الآن لما أمال الله عمود الظلم واعتدل الحكم في نصابهِ، يبرز لنا من مكامن الفتنة من تساوي لديه حاضر وماضٍ! أين كانت نخوتك بالأمس أيها الناطق المرقش عنا؟

قال الداماد فريد باشا كلامًا أنطقهُ بهِ اتصالهُ بالأسرة الحاكمة، أراد تقربًا بغير الإنصاف ففعل. كذلك من أوتوا الجاه ونالوا الرفعة من غير كَدٍّ. ونحن ما ذنبنا حتى نُشتَم وماذا جنينا فنُؤَاخَذَ عليهِ.

أبدًا نراع بصيحات: تكسرت النصال على النصال. تزجي إلينا كل داهية نآد. اختلفت النقرات والغناءُ واحد. يشكون الترك يذمون الترك. عفا الله عنهم ماذا لهم عند الترك؟

رأيت في مقطم أمس مقالة مذيَّلة باسم عزت الجندي، جعلها من صدره بمكان القلادة. هذه إحدى نافثات السمام. بلى هي إحدى المفرقات. أخال مقطمنا ذكرها ليذكر هذه التي أخط خططها وأجزع أنماطها. حبَّذا المنبر يتبارى عليهِ خطباءُ الأقوام. لا ثأَر الله من خانتهُ مواقفهُ مِنَّا.

بي شجون وكنت في حاجة إلى الإفصاح، ومن جاش حميُه وغلى مرجلُه استطاب المقال. فأجملي أيتها النفس صبرًا، عسى تنجلي غمامة هذا العارض المتألِّق عن صيب يدع الغدران مترعة ويسقي عطاش القيعان.

شهد الله وكل عثماني حُرٍّ يكون قرأْ لي شيئًا أني لا أتعصب للدين ولا للجنس. أنا تركي وأبغض عباد الله إليَّ تركي يعتدي. أحب العناصر العثمانية كلها وآخذ بناصر المستضعف منها. ثم أحب العرب حبًّا خالط الروح وجرى مجرى الدم من العروق، وأنا عربي الأدب والقلم، عربي النزع، ومن أَبْغَضَ العرب فأنا مبغِضهُ. أولئك إخواني الذين أُغَنِّيهِمْ فيطربون، وأُحَدِّثُهُمْ فيُقبلون عليَّ بالسمع. هكذا عهد العرب الكرام بأخيهم هذا.

غير أني لا أكذبهم، إني كذلك لا أحب من يسب الترك ولا من يكون لهم عدوًّا، وكذلك العرب لا يحبون من لا يحب إخوانهم. وإذا جرى بين العرب والترك شر. أكون يومئذٍ بمعزل عن كليهما داعيًا عليهما بالفشل معًا.

وإني لا أنكر أن في الترك أناسًا يُبغضون العرب، وإني لا أجهل أن في العرب رجالًا يبغضون الترك. كل أمة بها سفهاءُ ولا تكون أمَّة بأسرها سفيهة أبدًا. وعقلاء الأمتين متَّفِقُون على ود لا يتطرقهُ تغير على توالي الأعصار.

زعم عزت الجندي أن الذين خانوا الدولة هم أتراك، ثم ذكر أرجالًا منهم محمد علي الأول مؤسس الأسرة الخديوية بمصر. سامحهُ الله، إن محمد علي خالي؛ جدتي شقيقتهُ، لا تصح شهادتي لهُ. فأنا أدع الحكم في خيانتهِ ووفائهِ لأهل الإنصاف.

ولكن مصطفى فاضل قائد كتائب الحرية ومدحت أبا الدستور تركيان. الصقوللي والكوبريلي أيضًا تركيان، وغير هؤلاءِ كثير، إذا شاءَ الجندي ذكرت لهُ أسماءَهم وعددتُ ما تيسر من أعمالهم.

وما لنا والفخر بمن ماتوا، نحن في حاجة إلى العمل ولسنا في حاجة إلى القول. فلينكر على الترك ما شاءَ، وليتهمهم بما شاءَ. كل ذلك لا يخرجهم من العثمانية، ومن حق العثمانية أن يكون كل أبنائها إخوانًا لا متغايرين ولا متحاقدين.

أرني أيها الكاتب الجامح قلمه، تركيًّا يرمي العرب بمثل ما رميتنا أنت بهِ، وانظر ما أقول لهُ. إني ألين لك المقال لا إكرامًا لك، ولكن جريًا على آدابي وآدابي عربية. ثم أخشى أن يقول إخواني العرب إن ولي الدين متعصب، وأن تذهب عني ثقتهم، وهي لَعَمْرِي ثقة أغلى عليَّ من حياتي.

لك أن تلوم الترك ولك أن تبغضهم إذا شئتَ، ولكن ليس لك أن تَسُبَّهُمْ، هذا عيب لا أرضاهُ لعثماني في الوجود.

إذا قرأَ كلامك هذا أحد جهلاء الترك ورَدَّ عليك بما يمس بهِ قومك، وتعاظم الشر بين الترك والعرب، وتساقَوْا كئوس الموت وخلت الديار وجرت الدماءُ، أتكون أَفَدْتَ بلادك أم تكون نفعت العثمانية؟ إذا تغلب العرب على الترك أو فاز الترك على العرب كان الخطب واحدًا. ما في المصيبتين واحدة تفضل الأخرى. فماذا تبتغي بهجرك؟

آلمت قلوبًا آلمها الزمان بحوادثهِ. أنا ما رضيت النفي سبع سنين ولا زرت السجن بين الأَسِنَّة من أجل الترك وحدهم، بل من أجل العثمانيين، ولا أمسكت هذا اليراع مُنازِلًا كل معاند، إلَّا محبة في العثمانيين. ولكني رميت في قومي بما لم أَؤَمِّلْ، وجاءت نغمتك هذه كالمِلح على الجُرح. ولو استبقيت مثل هذا القلب لاستبقيت ودًّا جميلًا.

كفى كفى، إن كانت هذه الحوادث لا تَعِظُنَا أن نكون من الجاهلين، فقد أضمرت الأيام لنا ما أضمرت. فاكتب أيها الكاتب، ولو ذات سوار لطمتني. ما أنت بالحكم التُّرضَى حكومتهُ.

إن كان منزلتي في الحب عندكم
ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي

هذا ما استطعت أن أكتب بيد راجفة وفِكر شتيت. أما الداماد فسيكون لي معهُ كلام طويل. فلينتظرهُ على مقعدهِ الوثير وفي جاههِ العريض. إن في بعض الوعد معاني الوعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤