نظرة في العراق

إن أهالي العراق يغلب فيهم التشيُّع لآل البيت الطاهر، عليهم وعلى المصطفى الصلاة والسلام. وهم الشيعة المعروفون في العالم الإسلامي بنصرة سيف الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب، عليه الصلاة والسلام. وهم طائفة كبرى في المسلمين، ولهم في العراق مشاهد كبرى ومدارس عامرة، أهمُّها مشهد الإمام علي في النجف الأشرف، ومشهد سيِّدنا الحسين في كربلاء، ومشهد سيِّدنا الكاظم في بغداد، عليهم الصلاة والسلام. ويتوافد الشيعيون لزيارة هذه المشاهد المقدَّسة من بلاد فارس والهند وما وراءهما. وفي النجف الأشرف مدرسة دينية كبرى فيها نحو من ثلاثين ألف طالب يتلقَّون فيها العلوم الشرعية والآداب الدينية، ويتوزَّعون بعد ذلك على البلاد معلِّمين مهذِّبين، ومن هذه المدرسة ظهر نوابغ مجتهدي الشيعة ولا يزالون يظهرون، وهم أئمة الدين ومنائر الهدى للمتقين. وفي هذه المشاهد المباركة من النفائس والتحف ما لا يقع تحت ثمن، وهي هِبَات المتقين ونذور الورعين.

وفي العراق قِسمٌ ليس بقليلٍ من أهل السنة المسلمين، ولهم مشاهدُ مباركةٌ أهمها مشهد سلطان الأولياء سيِّدي عبد القادر الكيلاني الحَسَني، عليه الصلاة والسلام، في بغداد. وفي ذلك المشهد المبارك مدرسةٌ كبرى يتلقَّى فيها الطلبة الكثيرون العلوم الشرعية والآداب الدينية.

وقد عمل الأتراك كعادتهم في حكمهم على التقسيم بين عرب العراق ليتمكَّنوا من الاستبداد بهم، فبثُّوا روح البغضاء بين السُّنِّيين والشيعيين، فكثرت بينهم المنازعات والخصومات، واستفاد الأتراك من وراء هذا التقسيم التسوُّد على القبيلَين.

ومن المعلوم أن أكبر أمير شيعي في العراق بجملتها هو عظمة السردار أرفع معز السلطنة الشيخ خزعل خان أمير عربستان، ومنذ تربَّع على عرش الإمارة أولى الشيعيون وجوههم شطر عظمته وانصرفوا إليه بآمالهم، وفي الوقت نفسه كان موضع احترام وإجلال المسلمين السُّنِّيين أيضًا، وهكذا اجتمعت قلوب الفريقَين على حبه وعقدوا خناصرهم على احترامه لأنهم رأوا فيه من الإنصاف ما لم يروا بعضه من الحكومة التركية؛ ولذلك كان واسطة العقد الذي جمع قلوب العراقيين من سُنِّيين وشيعيين بعد أن نثرها الأتراك نثرًا بالتفريق بينهم.

وهكذا يرى الباحث في حالة العراق الاجتماعية عظمة السردار أرفع بتلافي شرور الانقسام المذهبي التي كانت تثيرها الحكومة التركية، كما كان يُرى في القصر الخزعلي العامر علماء الشيعة والسنة يتصافحون، وسادات الفريقين يتصافَون، وأعيان القبيلين يتحابُّون، بينما يُسمع ويُرى في البصرة وبغداد وما بينهما من الفيافي والبلاد رعاع القومين في خصام دائم وشغب ملازم، والحكومة تدسُّ دسائسَها بين هؤلاء وهؤلاء باطنًا وتنصر فريقًا على فريق ظاهِرًا.

وكانت الحكومة التركية في العراق تنظر شزرًا إلى عظمة السردار أرفع لهذه الحكمة التي كان يبديها لتوحيد كلمة العراقيين؛ لأن اتِّحادهم لم يكن من مصلحتها؛ شأن الدولة الغربية الظالمة التي يهولها اتِّحاد رعاياها المتغلبة عليهم؛ مخافة أن يتَّفِقوا عليها وينهضوا لمناقشتها الحساب، وكان هذا من أكبر أسباب الخلاف بينها وبين عظمته نصره الله.

ولعمري كيف ترضى حكومة الأتراك في البصرة وبغداد عن عظمة السردار أرفع وهي ترى سادات وعلماء وأعيان السُّنَّة يتسابقون إلى المحمرة حيث يجتمعون في نادي عظمته مع سادات وعلماء وأعيان الشيعة، ويخرجون جميعًا من حضرته وهم بنعمة الله إخوان متصافُون؟

وفي سنة ١٩١١ دخلت العراق وتجولت فيه من البصرة إلى بغداد، ولو لم يعترضني ناظم باشا الجركسي والي بغداد وقائد العراق وقتئذٍ ويعيدني أدراجي لبلغت الموصل، وقد شاهدت في كل الأرجاء التي زرتها من الحب والاحترام في نفوس الشيعيين والسُّنِّيين لعظمة السردار أرفع، وإجماعهم على تقدير مجهوداته الطيبة في سبيل العرب والإسلام، ما أفتخر وأستبشر بإثباته هنا. وأعتقد أن حب القوم واحترامهم لهذا المليك العظيم سيهيئ للعراق مستقبَلًا عظيمًا يتجدد معه مجد العراق وفخار العرب بعد هذه الحرب المستعرة اللهب. وحكمة عظمة السردار أرفع تتكفل بنوال بعيد الآمال، إن شاء الله تعالى؛ إذ إنه أيَّده الله هو الأمير الوحيد الذي يركن إليه المسلمون من شيعيين وسُنِّيين، فضلًا عن احترام اليهود والنصارى لعظمته الملوكية لما عهدوه من آيات عدله وفضله.

figure
طائفة من جيوش المحيسن عمومة عظمة السردار أرفع.

ولا حاجة لبيان ما هو جليٌّ للعيان فلا يحتاج إلى برهان، من أن عظمة السردار أرفع، حفظه الله وأبقاه وأكبت عداه، هو أخلص المخلصين لدولة العدل والفضل صديقة العرب الصدوق بريطانيا العظمى. وعظمته، حفظه الله، في مقدِّمة الأمراء الحاصلين على ثقتها لأنها عرفته عربيًّا صادِقًا بعربيته، لا يعمل إلا لمصلحة العرب، ولا يشتغل إلا لخيرهم، ولا يجاهد إلا في سبيل تجديد مجدهم على علمٍ وسعة إدراكٍ وسداد رأي.

نعم، إن عظمة السردار أرفع يعلم حقَّ العلم (ويعمل بما يعلم) بأن بريطانيا العظمى هي أكبر دولة إسلامية؛ لأن عَلَمها المنصور يضمُّ نيفًا ومائة وخمسين مليونًا من المسلمين الموحِّدين، ويعلم أن كل هؤلاء المسلمين المستظلِّين بظلال العلم الإنكليزي الوارف الظلال متمتعين بحرِّيتهم الدينية، وراتعين ببحابح الأمن، وحاصلين على إثراء عظيم بفضل عنايتها في تعمير ممالكها ومستعمراتها، ويعلم فوق هذا ما يعلمه كلُّ منصف من أن من أقدس مبادئ الدولة العادلة الإنكليزية الإبقاء على قوميات رعاياها وحكوماتهم واحترام أديانهم وعوائدهم والعمل على توفير أسباب الرقي والإثراء لهم. وعلمه بحقائق السياسة الإنكليزية هذه جعله وهو عربي يغار على قومه من أصدق أصدقائها، وفي مقدمة محبيها ومريديها؛ لأنه، حفظه الله، يرى، ورأيه الصواب، أن العرب لا تقوم لهم قائمة إلا بمعاونة بريطانيا العظمى والإخلاص لها سِرًّا وجهرةً. كيف لا وهي الدولة المنادية بصداقة العرب الذين لا غنى لهم عن معاونة دولة عظيمة عادلة شفوقة مثلها إذا حاولوا استرجاع مجدهم وطمعوا بإصلاح بلادهم وتعميرها؟!

وعندما حصلت ألمانيا على امتياز سكة حديد بغداد الكبرى أخذت تدسُّ دسائسها في العراق، ولا سيَّما بعد الدستور العثماني وانتهاء السيادة للفتيان الاتحاديين، على أن الدسَّاسين الألمانيين وجدوا من عظمة السردار أرفع رجلًا حازمًا لا تغرُّه خزعبلاتهم، وعزيمة قاهرة تحُول دون مطامعهم، وبفضل سهره وانتباهه أقصى عن العراق نفوذهم، بالرغم عما كانوا ينفقونه في هذا السبيل من الأموال والمساعي.

وعندما أُعلنت الحرب العامة سنة ١٩١٤ كان لبريطانيا العظمى ١٢ قطعة حربية في خليج فارس من مسقط حتى المحمرة، وهذا القسم من الأسطول الإنكليزي العظيم كان راسيًا في الخليج الفارسي منذ سنة ١٩٠٨ للسهر على راحة جنوب إيران الداخل ضمن منطقة نفوذ بريطانيا العظمى، وبفضله أمنت سواحل الخليج مع الإمارات العربية من المداخلات الألمانية التركية. ومن المضحكات المبكيات أن الأتراك طلبوا وقتئذٍ، مع أنهم كانوا محايدين، من حكومة إيران وإمارة عربستان الاعتراض على بريطانيا العظمى لوجود قسم من أسطولها في سواحل خليج فارس؛ ليخلو لهم الجو في مياهه، فأجابهم عظمة السردار أرفع وقتئذٍ جوابًا بمنتهى الحكمة والسداد، فقال: عندما تُخرِجون جوبن وبرسلو المركبين الألمانيين من مياه الدردنيل نتبصَّر في الأمر.

وعندما دخلت تركيا الحرب وأرادت أن تتخذ العراق ميدانًا للقتال، وفي ذلك خطرٌ محقَّق على جنوب إيران الضامنة استقلاله بريطانيا العظمى، رأت هذه الدولة الحازمة أن الضرورة العسكرية تدعو إلى إجلاء الأتراك والألمانيين عن العراق العربي. وبالفعل أرسلت قوة من الهند حاربت الأتراك وفتحت القسم الأدنى من العراق من الفاو حتى العمارة في أوائل سنة ١٩١٥، وفي هذه الأثناء لزم عظمة السردار أرفع خطة الحياد التام اتِّباعًا للدولة الإيرانية صاحبة السيادة على إمارته، فما ارتاح الأتراك والألمان إلى حياد عربستان وتدفَّقوا وهم المقهورون المغلوبون على أمرهم على إمارة عربستان من طريق العمارة، وأرادوا بذلك أن يفتحوا هذه الإمارة ويصلوا منها إلى البصرة ثانية. حينئذٍ رأى عظمة السردار أرفع أن الخطر قد أحاق بإمارته، فجمع جيوشه وجرَّدها لتأديب القبائل التي غرَّر بها الاتِّحاديون والألمان، وفتح إمارته في وجه الجيش الإنكليزي المنصور، فتدفَّق كالسيل الجارف حتى إذا ما بلغ ناصرية الأهواز بطش هناك بالجيش التركي الألماني، وأمِنت عربستان من تعديَّات الأتراك والألمان.

مؤلف هذا الكتاب يتمثل عظمة السردار أرفع وهو يَنْظم مدائحه.
يا أيها السردار شكرك في فمي
ومثال شخصك ماثلٌ لعياني
وهواك في قلبي وطيَّ حشاشتي
إذ كنت مظهر سؤدد العربان
فأرى جلالك ما اتجهت مؤيدي
في باهر المعروف والإحسان
وإذا خلوت لنظم حمدك ينجلي
مرآك لي فيجود فيه جناني
فأذيع ما بين الأعارب والأعا
جم آيةً بصحائف العمران

وبعد هذا الاعتداء الفظيع أصبح عظمة السردار أرفع سيفًا من سيوف الإنكليز المشهرة، يضرب أعداءهم ويحارب معهم، وقد عرفت بريطانيا العظمى لعظمته هذا الإخلاص وقدرَتْه حق قدره، وأعلنت سرورها من ولائه وإعجابها بحكمته، ورددت إعلانها هذا صحف لندن والهند التي دعت عظمة السردار أرفع: «أصدق أمراء العرب ولاءً للتاج البريطاني». وما من يجهل ما يترتب على هذه الثقة التي كسبها عظمة السردار أرفع من كبار رجال بريطانيا العظمى العادلين الأوفياء من الفوائد العظمى للعرب في الحال والاستقبال. ولا جرم أن اعتماد بريطانيا العظمى نصرها الله على عظمة السردار أرفع وثقتها به سيفيد كثيرًا أهالي العراق على اختلاف مذاهبهم ونحلهم في تنظيم شئونهم الداخلية، إذ يجدون أمامهم أميرًا يثقون به ويعتمدون عليه، يعمل على إبلاغهم أمانيهم القومية ويجدُّ في سبيل تعمير بلادهم.

ولعمري إن وجود عظمة السردار أرفع في هذا العهد الذي تسقط فيه دول وتقوم دول هو نعمة كبرى للعراق؛ لأن الشيعيين منهم وهم أكثرية السكان يرون أمامهم أكبر أمرائهم ساهِرًا على مصالحهم، والسُّنِّيين منهم يرون في هذا الأمير المسلم على ما عهدوه فيه من الاهتمام بخيرهم مظهر إقبالهم، ومسيحيوهم وموسويوهم لا يفضِّلون على عظمته أميرًا يطمئنون إلى عدله ويستسلمون إلى حكمه. وفيما اتصل بي من الأنباء ما يؤيد معلوماتي على تعلُّق العراقيين جميعًا بهذا الحاكم العادل والأمير الفاضل أحياه الله ووفَّقه إلى ما يحبه ويرضاه.

ويسرُّنا أن نعلنَ في هذا المقام مبادرة عظمة السردار أرفع، روحي فداه، إلى الاعتراف باستقلال جلالة الشريف حسين بن علي الهاشمي الحسني أمير الحجاز الأكبر، فقد أسرع إلى تهنئة جلالته بهذا الاستقلال، وأرسل لمعاليه الهدايا الفاخرة عملًا بالحديث الشريف على صاحبه الصلاة والسلام: «تهادوا تحابوا.» وإننا لنتوقع من وراء هذا الاتحاد القلبي بين جلالة الشريف وعظمة السردار وأكابر أمراء العرب ذوي الاعتبار ما فيه المستقبل الزاهر للأمة الكريمة العربية، بحيث يتجدد مجدها ويتلألأ فخارها وتبسم لها الأيام، بشفاعة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤