جان راسين١

نادرة من الشعراء المفلقين الفرنسيين الذين مهروا في الشعر المحزن، وُلِد بمدينة «لافيرتيه ميلون» سنة ١٦٣٩، ومات بباريس سنة ١٦٩٩. مات أبوه وأمه وتركاه يتيمًا في الرابعة من عمره، وأُدْخِل في العاشرة مدرسة «بوفيه»، وفي السادسة عشرة أُلْحِقَ بمدرسة «بوررويَّال» لتتميم دراسته، وكانت أساتذته فيها «نيكول» و«هامون» و«لانسيلو»، وقد صيَّره هذا الأخير من نوابغ العارفين بأحوال قدماء اليونان وتاريخهم وآدابهم، ثم درس الفلسفة بكلية «أركور».

كان هو و«لافونتين La Fontaine»،٢ و«موليير Moliére»،٣ و«بوالو Boileau» تربطهم عرى الوداد والصداقة، ففي سنة ١٦٦٤ مثَّل له «موليير» هو وجوقه روايته الأولى «لاتيباييد»، ثم أعقبها برواية «إسكندر الأكبر».

وفي سنة ١٦٦٧ وهو في السابعة والعشرين ظهرت روايته الشهيرة «أندروماك»، وبها طارت شهرته وأثبتت اقتداره الفائق في فن وضع الروايات؛ ومن ذاك الحين تتابعت مؤلفاته، وكلها آيات معجزات تعاقبت في ظرف عشر سنين وهي: «المحامون» سنة ١٦٦٨؛ رواية مليحة النِّكات، وست روايات محزنة، وهي: «بريتانِّيكوس» سنة ١٦٦٩، و«بيرينيس» سنة ١٦٧٠، و«باجازيت» سنة ١٦٧٢، و«ميتريدات» سنة ١٦٧٣، و«إيفيجيني» سنة ١٦٧٤، و«فيدر» سنة ١٦٧٧.

دخل في المجمع العلمي الفرنسي سنة ١٦٧٣، وكان من المقربين عند الملك لويس الرابع عشر؛ إذ جعله مستشارًا له ومؤرخًا.

وبعدما بلغ هذا المجد الرفيع اعتزل المراسح وهو في السابعة والثلاثين؛ من حملات الكتاب والشعراء الظالمة على رواية «فيدر»، ورموه بوساوس دينية بالنسبة لعواطفه ووجدانه في اعترافاته في هذه الرواية.

ثم تزوج بفتاة ساذجة تقية تُدْعَى «كاتيرين رومانيه»، ورُزِقَ منها بخمس بنات ترهبت منهن اثنتان، وولدين أحدهما «لوي راسين»، وكان من مشاهير الشعراء والكتاب.

لبث هاجرًا المراسح اثني عشر عامًا، ثم ألحت عليه مدام «مانتينون» بأن يكتب روايتين لفتيات مدرسة «سان سير»، ويكون موضوعهما مستنبطًا من التوراة؛ فأجاب طلبها ووضع رواية «إيستير» سنة ١٦٨٩، و«أتالي» سنة ١٦٩٠، ومثَّلتهما بنات المدرسة السابقة؛ فحازت الأولى إقبالًا عظيمًا، ولكن الثانية لم تصادف ما أحرزته الأولى، ولو أنها أبلغ ما خطه بنان الشاعر، والسبب راجع إلى التمثيل؛ لأن الفتيات لم يحسنَّ تمثيلها وأطفئوا بلاغتها المتوقدة.

وكتب نثرًا «ملخص تاريخ بوررويال»، وجملة رسائل بليغة وقطعًا تاريخية، ويُشَاع أن الملك لويس الرابع عشر غضب عليه في أواخر أيامه؛ فاغتمَّ غمًّا شديدًا أودى بحياته.

إن قارنَّا رواياته المحزنة بروايات كورنيي نجدها مطابقة مثلها القاعدة «الواحدة» المتبعة في الشعر المقيد، وهي تشترط في ثلاثة أمور: «بساطة الموضوع»، و«حصوله في يوم واحد»، و«وقوعه في مكان واحد أو مدينة واحدة».

وتماثلها أيضًا بقلة أشخاصها؛ إذ كان يهمه أن يمثل موضوعًا أدبيًّا يتجاذب قلب الأبطال تمثيلًا صادقًا يقرب من الحقيقة، وتفترق روايات راسين عن روايات كورنيي في خمسة أمور:
  • أولًا: أنها أقل حماسة وتأثيرًا، وأشخاصها القريبون من الحقيقة ضعاف العزيمة كأغلب الناس، وعواطفهم ليست دائمًا شريفة ولا أعمالهم خارقة للعادة؛ فلذلك قال «لا برويير La Bruyére»٤ «كان كورنيي يمثل الناس كما يليق ويجدر بهم، وراسين يصورهم كما هم عليه.»
  • ثانيًا: مؤلفاته كلها ما عدا «إيستير» و«أتالي» مفعمة بالعواطف العادية العامة من حب يختلف بين: الرقة، والحياء، والشدة، والنحس، والجرم. ولكن كورنيي وضع الحب في صف ثانوي، وأتبعه بعواطف راقية شماء كالشرف وحب الوطن، وترى في روايات راسين أن النساء تحرز المكان الأرفع؛ فلذلك تحدث الناس بأبطال كورنيي الذكور وفرسان راسين الإناث.
  • ثالثًا: أنها لا تثير من النفوس حميَّتَها وحماستَها وإعجابها مثل كورنيي، ولكنها تُحدث تأثيرًا مغايرًا كإيقاظ الشفقة في القلوب والهموم والمخاوف، وبث عواطف الحب، ولكن كورنيي ترنَّم بشعور العظمة والإباء وعزة النفس.
  • رابعًا: أن كورنيي كان يمنح أشخاص مؤلفاته الذين استنبطهم من العصور القديمة مبادئ الشهامة والمروءة والتبجح بأعمالهم الجليلة، ولكن راسين كانت رواياته مرآة تنطبع فيها أحوال عصره وأخلاقهم وعواطفهم ومبادئهم الاجتماعية تحت حكم لويس الرابع عشر.
  • خامسًا: إنشاء راسين متين متساوي الأطراف شائق نقي شجي تلبسه جرأة متوارية.

(١) نبذة من رواية إيفيجيني Iphigénie

اخْتَطَفَ «باريس» بن «بريام» — ملك طروادة — «هيلانة»، زوجة «منيلاس» — ملك إسبرطة — فاستشاط غضب اليونان، وأجمعوا على حصار طروادة وتخريبها، وحشدوا جيشًا عظيمًا، وجهزوا أسطولًا في ميناء «أوليس» بقيادة «أجاممنون» أخي «منيلاس» وأبي «إيفيجيني»، ولكن خانتهم الرياح ولم يستطع الأسطول أن يقلع؛ لأنه كان شراعيًّا فأصبح الكل يتلهب غيظًا لما طال المدى عليهم هم منتظرون بلا طائل، فاستشار أجاممنون الوحي بواسطة العرَّاف «كلكاس»، فرد عليه قائلًا: إن الرياح لا تهب إلا إذا ضحت اليونان فتاة من دم يوناني قربانًا للآلهة، وظهر له أن هذه الفتاة هي إيفيجيني.

وقد طلب أجاممنون ابنته في المعسكر ليحميها من الهلاك، مدعيًا أنه ما طلبها إلا ليزوجها أشيل أعظم أبطال جيشه، ولكنه وبخه ضميره فأرسل أركاس تابعه الأمين ليمنعها عن المجيء، وكان ذلك بعد فوات الوقت؛ إذ حضرت ابنته ووالدتها «كليتيمنيستر» والفتاة «إيريفيل» أسيرة أشيل، وكانت هذه الأخيرة هائمة بهذا البطل؛ فبذلت وسعها لتستحوذ على فؤاده وتنسيه إيفيجيني.

ورغمًا عما بذله أجاممنون من التكتم، فقد أنبأ أركاس والدة إيفيجيني بأمر الآلهة، وخضع أجاممنون لمشيئة الوحي، وجاء يطلب ابنته بنفسه ليقودها إلى كلكاس.

ولم سمع أشيل هذا الخبر أقسم بأن يدافع عن إيفيجيني، بينا تعاتب كليتيمنيستر زوجها على هذه الخيانة، وكان الملك في أول الأمر متكبرًا معجبًا غير متأثر، ولكنه رق أخيرًا وتعطف على الفتاة وأمها، وأشار عليهما بالهرب لينجوا من هذا المصاب الأليم، ولكن إيريفيل نمت بما تم من أمر الملك إلى اليونان، وبينا إيفيجيني ماشية بعزم قوي إلى المذبح إذ قال العراف كلكاس: بأن إيريفيل من دم يوناني أيضًا، وهي التي تجب تضحيتها؛ فانتحرت الفتاة حينما سمعت هذا، ونجت إيفيجيني وهبت الرياح كما اشتهت السفن، وسافر الأسطول واشتفت قلوب أبطاله بعدما يئسوا من الانتظار الممل.

[المنظر]

(أجاممنون – كليتيمنيستر – إيفيجيني – إيجين)٥
كليتيمنيستر : تعاليْ بُنيتي فإنهم لا ينتظرون غيرك؛ إذ أنت ضالتهم المنشودة. تعاليْ لتشكري أبًا يحبك ويود أن يقودك بنفسه إلى المذبح.٦
أجاممنون : مالي أراك بنيتي ساجمة العبرات غاضة أمامي الطرف؟ ما الذي أثار منك هذه الشجون وأبكاك أنت ووالدتك؟ لقد خانني التعس أركاس.
إيفيجيني : سكِّن من اضطرابك وكن هادئ البال يا أبت، فأمرك مطاع عند أول إشارة، وما حياتي إلا من طولك ونعمتك وعارية تريد أن تستردها، ونحن مستمعون لإرادتك بعين قريرة وقلب خاضع، كما قبلت الزوج الذي وعدتني به، وتراني إذا لم يكن لنا مناص من الأمر ضحية مطيعة، تعرف أن تمد رأسًا بريئًا إلى سيف كلكاس محترمة هذه الضربة القاضية التي سمحت بها إرادتك لأرد إليك دمًا منحتنيه.
وإن كنت ترى أن هذا الاحترام والطاعة يستحقان أن يكافآ بجزاء آخر، وإنك مشفق على آلام هذه الأم ورائف بها؛ فإنني أتجرأ أن أقول: إنه ربما صادفني من المجد والشرف ما أحاط بحياتي من كل صوب مما لا يجعلني أتمنى الموت ولا أبغي أن القضاء المبرم يصل طرفيْ حياتي ويقرِّب مولدي من مماتي.

أنا ابنة أجاممنون، وأول من ناداك بالوالد، بل بهذا الاسم الجميل، وأنا التي مضى عليَّ ردح من الزمن وأنا قرة عينك، وإنك لهذا الاسم٧ كنت تحمد الآلهة على نعمهم، ولأجله كنت تغمرني بملاطفاتك التي ما ألجأك إلى الإسراف فيها إلا موضع الضعف٨ من الأبوة وحنانها، وللأسف كنت أسرد والسرور ملء فؤادي أسماء البلاد التي ستدوخها متفائلة بانتصارك على اليون،٩ وكنت أعد معدات عيد هذا الظفر، وما كنت منتظرة أن يُفتتح بأن تهرق دمي ولا خوفي من هذه الضربة هو الذي يذكرني بطيبتك الماضية.

لا تخشَ أمرًا فإن قلبي ليغار على مجدك وشرفك، ولا يجترئ أن يقترف ما يحمِّر من أب مثلك الوجه خجلًا، ولو كنت لا أفكر إلا في الدفاع عن حياتي لكنت أستطيع أن أحفظ تذكارًا جميلًا، ولكنك تعلم لسوء حظي وعثار جدي أن هناء أمي وحبيبي مرتبط بي، وأن ملكًا يجلك يود لو يرى يومًا يشهر فيه زفافنا الفخم.

وثق حبيبي بقلبي الذي وُعِدَ بهواه، وقد عَدَّ نفسه سعيدًا حينما وعدته بزواجي، فما قولك في خوفه وإشفاقه إذ يعلم قصدك، وترى والدتي أمامك تذرف وابل الدمع؛ فعفوًا عما سولت لي به الآن نفسي لتدارك عبرات تسيل بسببي.
أجاممنون : لقد قلتِ حقًّا يا بنيتي، وليت شعري لأي جرم يطلب غضب الآلهة قربانًا لتكفيره، ودعاك باسمك هذا الوحي القاسي ليهدر دمك على المذبح، وما كان شغفي بك منتظرًا توسلاتك للذود عن حياتك، بل طالما قاومت هذا الأمر.
أتظنين أن هذا الحب الذي تعترفين به بنفسك، وفي هذه الليلة أُخْبِرْتِ بأني أعلنتُ بطلان هذه الإرادة التي جعلوني أقبلها لفائدة اليونان التي سينالونها منك، وذهب أركاس ليمنعك عن المجيء ولات حين مناص؛ إذ لم تشأ الآلهة أن يصادفك، وخدعوا ما بذله أب تعس سيئ الحظ، يحميك بلا طائل ولا جدوى مما صبوه عليك من العقاب الأليم.

لا تعتمدي على قوتي الضعيفة في حمايتك والدفاع عنك؛ فلا أحد يستطيع أن يوقف حرية شعب عند حد إن أرادت الآلهة رفع نير الاستعباد عن عاتقه؟

فإذن يجب عليك بنيتي أن تخضعي فقد أزفت ساعتك، وفكري جيدًا في أي مرتبة ربيت ونشأت، وإني أعظك بهذه النصية التي لم أكد أتلقَّاها. واعلمي أن موتك أهون مما سأعانيه بعدك من الحسرات والآلام التي تهدُّ شوامخ الأطواد.

أظهري عند موتك من أين أتيت، وأخجلي الآلهة الذين ظلموك بهذا العقاب الأليم، واذهبي ليعرف اليونان دمي وهو سائل منك حينما يضحونك.
كليتيمنيستر : إنك لم تكذِّب أسرة منحوسة مشئومة، ومن أشبه أباه فما ظلم، نعم إنك من دم «أتريه»١٠ و«تييست». ألم يرق لك يا جلاد ابنته إلا أن تولم بها وليمة فظيعة لأمها وإنك أيها الوحش الضاري الذي دبر هذه الضحية بفنونك وحيلك؟! ألم يمنعك قبح هذا العمل وفظاعته عن قبول هذه الإرادة البربرية القاسية؟!
عجبي منك كيف تتصنَّع أمام أعيننا بهذا الحزن الكاذب؟ أتفكر أنك تخدعنا بهذه الدموع لتبرهن على حنانك وشفقتك؟! وأي حرب خضعت غمارها لأجل ابنتك أو دم أسلته لها؟ أم أي أثر هنا يدل على مقاومتك أو ميدان غطيته بأشلاء الموتى يلجمني ولا يدع لي وجهًا للكلام؟ وبأي شهود تثبت أن حبك لها سوَّل لك نجاتها.

حَكَم القضاء المبرم بقتلها، ولا أظن أن الوحي يؤخذ من ظاهر قوله، وهل الآلهة العدل يشفون أوار غليلهم بهذا الموت الشريف وهذا الدم البريء؟

وإن كان بجرم هيلانة تٌؤخذ أسرتك وتنشد «أيرميون»١١ والدتها في أرجاء إسبرطة، ويجعل منيلاس يسترد بثمن ناهيك به نصفه١٢ الأثيم الذي هام به وتيَّمه.

عجبي لك! فأي جنون ألجأك لأن تكون ضحية له، وأن تحمِّلنا تبعة جرم أخيك، ولِمَ أدعني أمزق جيوبي غمًّا وأعطيه دمي النقي ثمنًا لحبه الأحمق؟

ماذا أقول في هذا الأمر الذي أثار غيرة الجميع، وتظن أن هيلانة التي عكرت صفو أوروبا وآسيا تستأهل أن تكون ثمنًا لحروبك العظيمة؟ كم من مرة حمرت وجوهنا خجلًا لأجلها قبل ارتباطها المشئوم بزواج أخيك؛ إذ اختطفها تيزيه١٣ من أبيها كما علمت، وأنبأك به كلكاس، وائتلف بها سرًّا وأولدها بنتًا أخفتها عن اليونان وكانت برهانًا ساطعًا لإثمها.

وإني لا أصدق أن حب الأخ وشرفه الموصوم هو الذي دعاك لهذا الاهتمام وعجلت لأجله، كلا بل أمانيك في الملك التي لا تنطفئ من قلبك، والإعجاب برؤية عشرين ملكًا تخدمك وتخشاك، ويعهد إليك بمقاليد أمور المملكة التي عبدها فؤادك، وتريد أن تضحي لأجلها ابنتك أيها القاسي الغليظ القلب، ولا يحركك قلبك لترفض هذه الضربة الفاجعة التي تريد أن يكون لك بها فضل وحشي.

تغار على ملك تُحسدُ عليه أن نلته، وتود أن تبتاعه بدمك راغبًا أن تفحم كل مجترئ أراد أن ينازعك فيه. أتُعَدُّ إذن والدًا؟ آه! إن فكري يسلم ويقر بقسوة هذه الخيانة.

وذاك الكاهن الذي التفت حوله فئة ممن لا قلوب لهم ولا خلاق يريد أن يمد يدًا أثيمة إلى ابنتي، ويمزق أحشاءها، ويستشير الآلهة بعين زائغة وقلب خفاق، وأنا الذي أتيت بها وهي متهللة مستبشرة معجبة بجمال يسلب النهى، أرجع على عقبيَّ وحدي بخفيْ حنين يائسة بائسة! وأرى الطرق ما برح عرفها الشذي متضوعًا مما نُثِرَ تحت أقدامها من الأزهار.

كلا فإني لا أقودها إلى العذاب أو تضحَّى لليونان ضحيتان، ولا خوف أو احترام يستطيع أن يفصلها مني أو ينزعها من بين ذراعيَّ إلا بعد أن يدميهما، يا لك من بعل وحشي وأب قاسٍ! تعال لتريني كيف تقدر أن تنتشلها من بين يدي أمها؛ فادخلي إذن يا بنيتي وأطيعيني على الأقل للمرة الأخيرة.

(٢) فيدر Phèdre

(٢-١) الملخص

رواية محزنة ذات خمسة فصول، مُثِّلت للمرة الأولى على مرسح «الكوميدي فرانسيز» في أول يناير سنة ١٦٧٧، وقد مَثَّل فيها راسين غرام فيدر المحرم، وهي زوجة «تيزيه» لابن زوجها «أببوليت»، الذي كان نموذجًا للشرف والعفاف والطاعة النبوية، وكان هذا الشاب عاشقًا لفتاة تُدعى «أريي»، رقيقة العواطف ذكية الفؤاد قوية العزيمة، وكان «تيزيه» يمثل أبًا يُرْثَى لحاله لما انتابه من المصائب، كما يمثل «تيرامين» وهو مُؤَدِّب أببوليت الفصاحة والبلاغة، و«إينون» مُرْضِع فيدر ذات نفس منحطة تخلص ولو في الاشتراك في الجرم.

وأهم ما تدور عليه الرواية وبيت القصيد فيها هو أحوال فيدر المدهشة، التي ربما كانت الأولى في بابها في جميع الروايات الفرنسية.

كانت عواطف فيدر وغرامها المبرح قاسية شديدة، دارت على جميع أوجه الحب من: توسل، ولعن، وغضب، وغرور، وخرف حقيقي. وكانت فيدر ليست عديمة الضمير بالمرة، بل كان يجعلها تقاوم وتناضل وتتأَلم وتئن إلى أن تابت قبل موتها، ولا داعي للتطويل في سرد هذه الحوادث؛ لأن أغلبها موجودة في النبذة التي عربناها.

(٢-٢) نبذة من رواية فيدر

المنظر الثالث من الفصل الأول

(فيدر – إينون)
فيدر : فلنقف عند هذا الحد يا عزيزتي إينون؛ فإن جسمي لا يكاد يتماسك، وخانتني قواي المضمحلة، وكلَّ مني الطرف من النور الذي أراه، وترين ركبتيَّ المرتجفتين توشكان أن تختفيا تحتي ولا يحملانني، فوا أسفاه على حالتي (ثم تجلس).
إينون : أيها الآلهة القادرون! لترضكم عنا وتسترحمكم دموعنا المنهملة.
فيدر : ما أثقل عليَّ من هذه الخُمرُ١٤ والحلْي والحلل التي لا طائل منها، ولا أكاد أستطيع حملها؟! وأي يد منغصة عقدت مني الشعر ورتبته فوق جبيني؟ إذ كل شيء أصبح يؤلمني ويؤذيني.
إينون : يا لهذه الأماني التي خيبت بعضها بعضًا، وإنك ساخطة على مقاصدك وهي غير عادلة؛ إذ كنتِ تحرضيننا على تزيينك، وحينما تعاودك ذكرى قوتك الأولى تريدين أن تظهري للناس وتشاهدي الضوء، وإنك لترينه ويوشك أن يحجبك إذ تكرهينه وأنت التي سعت إليه قدمك وأتيت تطلبينه؟١٥
فيدر : أيها الجد الشريف المجيد لأسرة حزينة بائسة. أنت الذي افتخرت وأُعْجِبَتْ بك أمي بأن كانت لك ابنة، وربما تخجل مما أنا فيه من الاضطراب، وأنت أيتها الشمس قد أتيتُ لأتزود منك بالنظرة الأخيرة.
إينون : ما لي أراكِ لا تفارقك هذه الرغبة القاسية سائمة من الحياة، مستعدة لها استعدادًا مشئومًا؟
فيدر : أيها الآلهة! ألست الآن جالسة في ظلال الغاب؛ فمتى أستطيع أن تتبع عيني خلال غبار شريف عجلة١٦ فارة إلى المحجر؟
إينون : ما هذا يا سيدتي؟
فيدر : ما أحمقني! أين أنا وماذا قلته؟ أين ضلت مني الأماني والحجى؟ فقدت صوابي: والآلهة هي التي نزعته مني.
إن وجهي يا إينون علته حمرة الخجل؛ إذ تركت آلامي المخجلة ظاهرة للعيان، والعين غارقة بعبراتها رغمًا عني.
إينون : إذا كنت خجلة فاخجلي من صمتك الذي يزيد في آلامك ومتاعبك، يثور ثائرك أن رعيناك باعتنائنا وتُصَم أذناك لحديثنا، أتريدين أن تعجلي على البقية الباقية من أيامك دون رحمة؟ أي غضب يحول دونها١٧ في ميدان السباق عن بلوغ شأوها؟
خيم الليل ثلاثًا وكرَّ عليه النهار ثلاثًا فبدَّده، ولم يطرق الكرى لك عينًا مذ رزح جسمك تحت وطأة الألم والسقم دون طعام، ماذا تسول لك به النفس من سيئ المقاصد؟ وبأي حق تريدين أن تفتكي بنفسك، مهينة الآلهة الذين تفضَّلوا عليك بنعمة الحياة، وتخونين زوجًا ربطتك وإياه عرى العهد، والميثاق، وأولادًا بؤساء يحملون بعدك نيرًا قاسيًا. أتؤملين أنه في اليوم الذي فيه تفارقينهم يتعطف عليهم ابن الأجنبية عدوك وعدو أسرتك، هذا الولد التي حملته «إحدى الأمازون»١٨ في أحشائها وهو إيبوليت.
فيدر : آه يا رباه!
إينون : هل يجرح عواطفك هذا العتب؟!
فيدر : يا له من اسم خرج لسوء الحظ من فمك!
إينون : إنك محقة في استعار غضبك؛ إذ أحب أن أراك وأنت مرتعدة من سماع هذا الاسم المنكود. عشتِ وأنعشكِ الحب والواجب وطالت حياتك؛ لئلا تتألمين من أن يقهر أولادك أحد أبناء «السيت»،١٩ ويتأمر على أشرف دم في اليونان. تجنبي الكدر والغيظ؛ فإن كل لحظة تودي بحياتك، واجتهدي في إصلاح ما تلف وانْتُهِكَ من صحتك وقوتك المضمحلة؛ حيث أوشكت أن تتصرم أيام حياتك ولكنها ستطول وتصبح زاهرة ناضرة.
فيدر : لقد أطلت كثيرًا هذه المدة الأثيمة.
إينون : هل يمزق فؤادك تعذير السريرة؟ أم أي جريرة أحدثت لك هذا الاضطراب العاجل؟ مع أن يديك لم تنغمسا في دم بريء.
فيدر : إنني بفضل الله لم تقترف يداي إثمًا، وربي راضٍ عني لبراءَة قلبي كيدي.
إينون : أي عزم فظيع يرتعد منه قلبك ويرتعد؟
فيدر : لقد صرحتُ بما فيه الكفاية؛ فوفري عليَّ الباقي فإني أود لو أموت لئلَّا أقر باعتراف مشئوم.
إينون : موتي إذن وأقبري معك هذا الصمت القاسي، وابحثي عن يد أخرى لتغمض منك العينين؛ إذ لم يبق لك إلا نور ضئيل، وستكون روحي البادئة باللحاق بالموتى؛ إذ أمامي ألف سبيل يوصل إليهم وستختار آلامي أقربها وأقصرها.
متى غرَّتك ذمتي أيتها القاسية؟ ألا تعلمين أن ذراعيَّ هما اللذان تلقياك عند الوضع؟ أتجهلين أني فارقت وطني وأولادي لأجلك؟ أبذلك تكافئين إخلاصي ووفائي؟!
فيدر : أي ثمرة تؤملينها من القسوة والشدة؟ وإنك لترتعدين من فظاعة الموقف أن بحت لك بالأمر بعد الصمت.
إينون : بربك قولي لي من يطاوعه قلبه ويستطيع أن يشاهدك وأنت تسلمين الروح أمام ناظريَّ.
فيدر : حينما تعلمين إثمي والحظ السيئ الذي يثقل كاهلي، ترين أن ذلك ليس وحده المسبب لموتي، بل علمك بجريرتي يزيدني إثمًا وجرمًا.
إينون : بحق ما ذرفته لأجلك يا سيدتي من العبرات وركبتيك الضعيفتين، اللتين ألثمهما أن تخلصيني من هذا الشك الممقوت.
فيدر : انهضي فلكِ ما تبغين.
إينون : حدثني فإني صاغية.
فيدر : إلهي ماذا أقول لها؟ وبأي طرَف أفتتح الحديث؟
إينون : أتحبين؟
فيدر : نعم، ومن الحب عراني ما عراني.
أيون : ولمَنْ؟
ستسمعين نهاية القبح فإني أحب … ولهذا الاسم المنكود أرتجف وأرتعد. أحب …
إينون : مَنْ؟
فيدر : ألا تعرفين ابن «الأمازون» هذا الأمير الذي طالما اضطهدته؟
إينون : إيبوليت! يا رباه!
فيدر : أنت التي ذكرت اسمه.
إينون : اللهم إن جميع دمي تثلَّج في عروقي؛ فيا لخيبة الأمل والجرم! ويا لأسرة يُرْثَى لها! ورحلة منحوسة هل اقترب منك إذن أيها الشاطئ التعس؟
فيدر : أتاني مصابي من أبعد من ذلك؛ فإني ما كادت تجمعني وابن إيجيه٢٠ روابط الزواج واستتبت راحتي وسعادتي؛ إلا وأظهرت لي «أتينه» عدوي الألد، شاهدته فاحمرَّ وجهي خجلًا، ثم صار شاحبًا بمرآه.
ثار بنفسي الحائرة ثائر الاضطراب، وأصبحت العين لا تبصر ولا أستطيع التكلم، وكنت أشعر أن جسمي يتثلَّج تارة ويحترق طورًا، وقد عرفت الحب ونيرانه المخوفة وما يطاردني به من العذاب الأليم الذي لا يؤمن شره، وظللت أوالي الدعوات لأحيد عما يؤلمني ويؤذيني.

بنيت للهوى معبدًا واعتنيت بتزيينه، وكنت محاطة بالضحايا في كل آونة باحثة بين جوانبهم عن صوابي الضالِّ، ولكن الدواء لا ينجع فيما أزمن واستعصى من الأدواء، وكنت أحرق البخور على المذبح بلا طائل ولا جدوى، وعندما يتوسل فمي إلى الزهرة كنت أكاد أعبد إيبوليت، وأراه بلا انقطاع بجانب المذبح الذي كنت أبخره.

كنت أقدم جميع ما لديَّ لهذا المعبود من دون الله، ومن لا أستطيع أن أسميه فكنت أتجنبه في كل مكان؛ فيا لمنتهى الشقاء إذ كنت أرى ملامح أبيه مرتسمة في وجهه فأضطرب وأثور.

كنت أبذل الجهد في اضطهاده لأبعد عني عدوًّا أصبحت أهيم به وأعبده وأتصنع الحزن والهم كعادة نساء الآباء الظالمات مجتهدة في نفيه وإبعاده، والفضل في انتزاعه من أحضان أبيه راجع إلى صياحي المستمر.

وقد استنشقت الحياة منذ غيابه، وقضيت أيامي في الدعة والسكون، خاضعة لبعلي كاتمة عنه قلقي، واستثمرت هذا الثمر من زواجه المشئوم، ولكن لا يغني حذر من قدر!

وحينما ذهبت مع زوجي إلى «تريزين» بصُرت هناك بعدوي الذي كنت أفر منه، وانفجر جرحي الذي لم يندمل، وليس الحب مختفيًا في عروقي، بل الحب أجمعه الذي اقتنصني غنيمة له ولم أفلت من مخالبه، وقد سبَّب لي جرمي فزعًا عظيمًا؛ حتى أبغضت الحياة وكرهت الحب، ووددت لو أقضي نحبي لأحفظ مجدي، وأداري غرامي المشئوم عن العيون؛ ولم أستطع أن أوقف دموعك وأدفع مقاومتك، وقد بحت لك بكل شيء ولا داعي إذن للتوبة حيث أقترب الأجل؛ فلا تؤلميني بعتبك الظالم، وأن تكفي من إسعادك وغياثك الذي يذكرني بالبقية القليلة من حياتي التي أوشكت أن تنقضي.

المنظر الخامس من الفصل الثاني

(فيدر – إيبوليت – إينون)
فيدر (تخاطب إينون داخل المرسح) : هاك مَنْ إذا رأيته يهرع جميع دمي إلى قلبي وأنسى ما أريد أن أفاتحه به.
إينون : ألا تفكرين في ولد لا أمل له إلا فيك؟
فيدر (تخاطب إيبوليت) : يقال إن سفرًا عاجلًا سيحرمنا منك أيها الأمير، وقد جئت لأشاطرك آلامك وعبراتك ولأشرح لك مخاوفي وإشفاقي على ولد أصبح فاقدًا لأبيه، وسيشهد موتي القريب، وإن له بالمرصاد ألفًا من الأعداء، يريدون أن يبطشوا بطفوليته، ولا أحد يقدر أن يحميه من مكائدهم غيرك، ولكن في النفس قلق يضطرب منه فكري، وهو خوفي من أن تُصَمَّ أذناك عن استغاثة ولدي، وأخشى أن تصب عليه جامَّ غضبك العادل وتتبعه بأمه القبيحة.
إيبوليت : ليست هذه العواطف الدنيئة من شيمتي يا سيدتي.
فيدر : إن كرهتني فلا أشكو منك أيها الأمير، فقد رأيتني باذلة الوسع في إيذائك، وإنك لا تستطيع أن تقرأ في أعماق فؤادي ما حفظته لك من الضغن والحقد، ولم أستطع أن أجعلك تئن وتتألم ونحن على شاطئ واحد؛ فكدت لك وعملت ما في الجهد سرًّا وعلنًا لأبعدك عني وتفصلنا بحار عجاجة، وأمرت أن لا يُذكر أمامي اسمك، فلو قيست الإهانة والحالة هذه بالعقاب، أو كان الحقد وحده يستطيع أن يثير الحقد، لما استحقت مرأة الشفقة والحنان وكانت أهلًا لما تفرغه عليها من ضغائنك أيها الأمير.
إيبوليت : من شيمة الأم أن تكون غيورة على حقوق أولادها؛ فترينها لا تعفو عن ابن زوجة أخرى إلا نادرًا، وأعرف حق المعرفة يا سيدتي أن الظنون الشكوك الممقوتة هي ثمرة الزواج الثاني، وقد ينالني من غيرك ما لحقني منك من الإهانة، بل ربما تحملت سواك ولو كانت أشد وطأة.٢١
فيدر : أيها الأمير! إنني أستشهد الله الذي سمحت قدرته أن أكون مستثناة من هذه القاعدة العامة، ولكن قلقًا آخر ينغصني ويفترسني!
إيبوليت : لا أود الآن يا سيدتي أن تزيدين اضطرابًا على اضطراب، وربما كان أبي حيًّا وتسترحم الآلهة دموعنا المنسجمة ويمنون علينا بأوبته، رعاه «نيبتون»٢٢ بعين عنايته، ولا أظن أن دعاء أبي وتوسله إلى هذا الرب الحفيظ يذهب صرخة في وادٍ.
فيدر : لا يُنظر شاطئ الأموات مرتين أيها الأمير، وحيث رأى «تيزيه» هذه الضفاف السود، فإن أملك في الآلهة برجوعه يذهب أدراج الرياح، وهيهات أن يُفلِت الحريص أكيرون٢٣ غنيمته.
ماذا أقول؟ لم يمت أبوك قط إذ يحيا، وإني أتصور أني أشاهد بعلي وأحادثه، وقلبي … قد ضللت وضاع مني النهى أيها الأمير، وظهرت حميتي رغمًا عني.
إيبوليت : أرى حبك مبرحًا متيمًا، وإن كان تيزيه أصبح في عداد الأموات، لكنه ما برح نصب عينيك، والحب يحرك دائمًا ما سكن من آلام نفسك وأشجانها.
فيدر : أجل أيها الأمير، وإني لأتململ وأحترق لأجل تيزيه، ولست أحبه٢٤ كما رأوه في الجحيم٢٥ متقلبًا متغيرًا لا ثبات له عاشقًا لألف واحدة، ومن ذهب أخيرًا ليدنس عرض إله الموتى، بل أهواه أمينًا معجبًا به شيء من القسوة، يختطف اللب بجماله، فتيًّا جذابًا للأفئدة، متحليًا بما توصف به الآلهة أو مثلما أراك رأيَ العين، كان شبيهك شكلًا وقدًّا وعينًا وحديثًا، وحياؤك هذا الشريف صبَغَ وجهه حين خاض غمار اللجج للوصول إلى كريت؛ فكان كفؤًا وأهلًا لبنات مينوس، فماذا كنت تعمل إذن؟ ولِمَ لم يقع انتخاب أبطال اليونان على إيبوليت؟ ولِمَ كنت صغيرًا ولم تستطع أن تركب السفينة التي أقلته وأوصلته إلى شواطئنا، وكنت أنت٢٦ الذي أهلكت وحش كريت٢٧ رغمًا عن جميع تعاريج مأواه الفسيح.
وقد سلحته أختي بالخيط المشئوم، بل أنا التي سبقتها في هذا العزم؛ لأن الحب أنار بصيرتي. فأنا إذن أيها الأمير التي هدتك السبيل في مسالك «لابيرنت» المضلة، وكم كلفني من الشجون والآلام هذا الرأس الجميل! ولم يك هذا الخيط ليضمن لك حبيبتك وقرينتك في الخطر الذي ذهبت إليه، وقد أردت أن أسير أمامك فتلج معك فيدر «اللابيرنت» لتشاطرك النجاة أو الهلاك.
إيبوليت : آلهتي! ماذا أسمع؟ أنسيت يا سيدتي أن تيزيه أبي وزوجك؟
فيدر : أتحكم على قول فُهْتُ به وأنا فاقدة الصواب أيها الأمير؟ فهل أضعت مجدي وشرفي؟
إيبوليت : عفوًا سيدتي، وإني مقر والخجل يصبغ وجهي بأني اتهمت حديثك البريء بغير حق، ولا أستطيع من الخجل أن أمكث أمامك فلذلك أبارحك …
فيدر : لقد سمعتني طويلًا أيها القاسي، وقلتُ لك ما فيه الكفاية لانتشالك من هذا الضلال! أتعرف إذن فيدر وغضبها: قد شغفني الحب، ولا تفكر أني في الوقت الذي أحبك فيه أعد نفسي بريئة. كلا، وإني واثقة بزلتي، ولا تظن أن مجاملتي الفاضحة هي التي ولدت آلام هذا الحب الذي خلط مني الحجى.
انتقمت مني الآلهة بأن سلطت عليَّ هذا الحب، وإني أمقت نفسي أكثر مما تبغضني كما تشهد الآلهة الذين أشعلوا نار هذا الحب المنكود في دمي. ظن هؤلاء الأرباب أنهم أتوا بمجد عظيم بأن فتنوا فؤاد امرأة ضعيفة فانية.

يذكرك الماضي بأنني كنت أطاردك لأهرب من حبك أيها القاسي، وكنت أستثير حقدك لأقاوم حبك؛ ولكن كل ذلك لم يُجْدِ نفعًا، فإنك كلما زاد بغضك لي زاد حبي لك وكانت مصائبك لي فتنة وسحرًا جديدًا.

ضنيت ونحلت من نار الهوى والبكاء، ويكفي لإقناعك أن تشاهدني بعينيك إن استطاعتا أن تحدقا في وجهي؛ فماذا تقول في هذا الاعتراف المخجل؟ وهل تظنه إراديًّا؟

جئتك مضطربة راجفة لولد لا أقدر أن أبغضه، متوسلة إليك بأن لا تحقد عليه، ولكن لكون القلب مفعمًا بالحب أهمل عزمه فلم أتكلم إلا عنك؛ فانتقم واقتص مني لهذا الحب الممقوت، وخلِّصْ العالم من وحش يغيظك؛ لتكون أهلًا لأبوة بطل عظيم أوجدك في الدنيا.

أتُقْدِم أرملة تيزيه على حب إيبوليت؟ أتظن أنني هذا الوحش الهائل الذي تفرُّ منه. هاك قلبي وهو الموضع الذي يجب على يدك أن تطعنه، فرغ مني الصبر لتكفير الإهانة، وأشعر بأن قلبي يتقدم نحو ذراعك.

اضرب وإلا أن ظننت أنه ليس أهلًا لضربتك، أو كان حقدك يحسدني على هذا العذاب الذي أستعذبه وأستمرئه أو كنت تستنكف أن تدنس يدك بدم حقير، فأعرني سيفك إن أعوزني ذراعك.
إينون : ماذا تصنعين يا سيدتي؟ قد أقبلتْ الناس فتداركي أن يلمح أحد على وجهك ما ارتسم عليه من هذه الشهود الممقوتة، فهيا ادخلي واهربي من هذا الخجل البيِّن.

المنظر الثالث من الفصل الثالث

(فيدر – إينون)
إينون : ينبغي لك أن تعدمي من مخيلتك فكرة حب لا طائل منه يا سيدتي، واذكري فضيلتك السابقة؛ فإن الملك الذي ظن أنه مات سيظهر أمام ناظريك إذ أقبل تيزيه، وهو الآن في هذه المواطن، والشعب يحتشد ويعدو لرؤيته، وحينما خرجت اتباعًا لإشارتك لأبحث عن إيبوليت شاهدت آلافًا من الأصوات بلغت عنان السماء …
فيدر : زوجي حي يا إينون وكفى، وقد اعترفت اعترافًا دنيئًا بحب يهينه ويفضحه، إنه عائش، ولا أبغي أن أعرف أكثر من ذلك.
إينون : ماذا؟
فيدر : لقد أنبأتك به ولكنك لم تصدقيني، وقد تغلَّب دمعك على تعذير سريرتي، وسأموت هذا الصباح وأكون أهلًا لأن تبكيني العيون؛ إذ اتبعت إرشادك، وسأقضي نحبي فاقدة شرفي.
إينون : تموتين؟!
فيدر : أيها الإله العادل! ماذا أعمل اليوم؟ سيظهر بعلي وابنه بجانبه، وسأرى كيف يبصرني شاهد غرامي الفاحش وهو متشوق لأن يعرف بأي جبين أستطيع لقاء أبيه، وقلب مفعم بتأوهات جعل في أذنه وقرًا عن استماعها، وعين مغرورقة بدموع مل منها وسئم؛ أتظنين أنه مشفق على شرف أبيه ويكتم عنه هذه الحمية التي أهاجت مني كامن الآلام ويسمح بخيانة أبيه وملكه؟ أتراه يستطيع أن يضبط ما عنده من الحقد عليَّ؟
سيلتزم الصمت بغير جدوى، وإني أعرف خيانتي يا إينون، ولست من النساء المستهترات اللاتي نضب منهن ماء المحيا؛ فلا يبالين بالفضائح والمعرَّات، ويستمرئن مرعى الجرم، ويذقن فيه الدعة والسلم؛ حتى عرفن أن يحملن جبينًا لا يضرِّجه الخجل.

إني أعلم حدتي وأذكرها، ويخيَّل إليَّ أن هذه الجدران والقباب ستنطق وتتهمني منتظرة بعلي لتوقفه على حقيقة الأمر؛ فلنمت لتخلصنا شعوب من جميع هذه الأهوال.

هل الموت مصيبة عظمى؟ كلَّا؛ فإنه لا يحدث أقل فزع للتعساء المنكودين، ولا يعبئون به، ولست أخشى غير الاسم الذي أتركه بعدي ميراثًا مروعًا لأبناء عَثَر بهم الجد!

إن دم «المشترى» يجب أن يجرئهما؛ إذ يحق لهما أن يفتخرا بنسب عظيم، ولكن إثم الأم عبء ثقيل، وأخاف أن يعيِّرهما أحد بجرم والدتهما يومًا ما؛ فيضاما بهذا الحمل الشنيع، ولا يستطيع أحد منهما أن يرفع عينيه من الخجل.
إينون : هذا مما لا يريب فيه، وإني مشفقة على كليهما كما أنك محقه بوجلك العادل، ولكنك تعرضينهما لإهانة يا لها من إهانة، وتشهدين على نفسك معترفة بجريرتك. وإن تم ما أنت عازمة عليه يقولون: إن فيدر أتت عظائم الإثم والجرم، وهربت من أمام زوجها المغدور ومرآه المرعب؛ وسيهنأ إيبوليت بموتك؛ إذ به يؤيد قوله، ماذا أستطيع أن أجيب به متهمك؟ إذ سيفحمني بسهولة وأراه متمتعًا بهذا النصر الفظيع، ويقص خزيك على من أراد استماعه. آه! أولى بي والحالة هذه أن تمحقني صاعقة من السماء، ولكن اصدقيني إن كان لم يزل عندك معززًا، وبأي عين تنظرين هذا الأمير الجريء؟
فيدر : أراه أمام ناظريَّ كوحش مزعج.
إينون : ولم تتنازلين إليه عن نصر تام؟ أتخشينه؟! ألا تطاوعك الجرأة بأن تكوني السابقة في اتهامه بالجرم الذي يستطيع اليوم أن يلصقه بك؟ ومن يفند قولك؟ والكل يعاونك على اتهامه، وحبذا الدليل الذي يؤيد قولك أن ترك لحسن حظك سيفه بين يديك، وعلم أبوه من أمد مديد بما سببه لك من الاضطراب الحاضر والمتاعب والآلام السابقة ونفاه وفقًا لإرادتك.
فيدر : ما أشد جرأتي إذن على اضطهاد البراءة وتعكير صفوها!
إينون : إن همتي ليست في حاجة إلا لصمتك، وإني مثلك أرتعد من تبكيت الضمير، وستبصرينني مسرعة في اقتحام ألف موتة، وحيث لا سبيل إلى نجاتك من مخالب الموت غير هذا الدواء المحزن، ترينني أضحي لأجل حياتك كل مرتخص وغالٍ. وسأخاطب تيزيه حتى إذا هاج هائجه من إرشادي قصر انتقامه على نفي ابنه، والوالد يا سيدتي حينما يعاقب يكون كما تعهدينه رءوفًا رحيمًا، ويكفيه خفيف القصاص لتسكين غضبه.
ولو قدر وسفك دمه فإنه يكون فداءً لشرفك المهدد، وإن الابن لكنز ثمين لا يُستطاع الفتك به؛ فأطيعي إذن جميع ما يتطلبه منك شرفك يا سيدتي؛ إذ لأجل نجاته مما حاق به يجب عليك أن تضحي لأجله كل شيء حتى الفضيلة. قد أقبل الناس وأرى بينهم تيزيه.
فيدر : آه! إني أشاهد إيبوليت، وأرى فنائي مسطَّرًا في عينه الجامدة الوقيحة، فاعملي ما شئت فقد فوضت إليك الأمر؛ إذ ذهب صوابي من اضطرابي.

المنظر الثاني من الفصل الرابع

(تيزيه – إيبوليت)
تيزيه : آه! ها هو أيها الأرباب العظام! وأي عين لا تنخدع مثلي في هذه الهيئة الشريفة؟ هل تتلألأ على جبين الزاني النجس سيما الفضيلة المقدسة؟! ألا تُعرف بالدلائل الصادقة قلوب الخائنين؟
إيبوليت : أيتيسر لي أن أسأل الأمير عما كدر صفوه واكفهر منه وجهه الجليل؟ ألا تستطيع أن تثق بي وتأمنني على هذا السر؟!
تيزيه : أتجسر أيها الخائن أن تظهر أمامي؟ لم تركتك الصواعق أمدًا طويلًا أيها الوحش الضاري والبقية النجسة من قطاع الطرق الذين طَهَّرت منهم الأرض؟ وبعد أن قادتك حدة حبك الفظيع إلى مضجع أبيك تجترئ أن تريني وجهًا أقبح من وجه العدو! أتظهر في مواطن مُلِئَتْ بفضائحك بدلًا من أن تبحث لك عن بلد مجهول لم يصله اسمي. اهرب أيها الغادر، ولا تقدم على حقدي وإهاجة غيظ لا أكاد أضبطه، وكفاني عارًا أبديًّا أن أوجدت في الدنيا ولدًا أثيمًا مجرمًا، وإن قتلك أيضًا يكون لي ذكرى مخجلة تدنِّس مجدي وجليل أعمالي.
اركب متن الفرار إن كنت تريد أن تنجو من قصاص مفاجئ يلحقك بالمجرمين، الذين اقتصت منهم يدي هذه، وحذارِ أن تراك الشمس التي تضيئنا واطئًا بقدمك الجسورة هذه الأماكن، عَجِّلْ بهربك دون أن تؤمل العودة لتطهر ممالكي من مرآك الشنيع.

وأنت يانيبتون، أتذكر أن شجاعتي التي قطعت بها دابر العرر من سفاكي الدماء وطهَّرت منهم شاطئك، وقد أردت أن تكافئني على ما بذلته من الجهد بأن تستجيب لي أول دعاء، ولم أتوسل إليك لتنقذني من شدائد السجن القاسي؛ إذ كنت حريصًا على معونتك وإسعادك، فأرجأت دعائي وادَّخرته لما هو أهم وأعظم. فالآن أبتهل إليك أن تنتقم لأب سيئ الحظ، وقد تخلَّيت عن هذا الخائن وتركته لغضبك؛ فاخنق ما جرى في دمه من وقيح الآمال، وسيعترف تيزيه بأفضالك ونعمك عندما تستشيط غضبًا.
إيبوليت : أتتَّهم فيدر إيبوليت بحب أثيم؟! يا لمنتهى الفظاعة التي حارت منها النفس، كم من ضربة لم تكن بالحسبان تثقل كاهلي وتلجم لساني وتخنق صوتي.
تيزيه : أتزعم أيها الخائن أن فيدر تطوي وقاحتك الوحشية في زوايا الصمت الفاضح؟ كان الأجدر بك عندما هربتَ من أمامها أن لا تترك سيفك؛ إذ هو بين يديها مساعد على نفي قولك، بل كان خليقًا بك أن تزيد جرمك بأن تجهز على كلامها وحياتها.
إيبوليت : لقد هاج غيظك من كذب ممقوت، وكان الواجب عليَّ أن أنطق بالحقيقة أيها الأمير، ولكني أغض الطرف من سر يمسك فيضيق صدري ولا ينطلق لساني؛ فارضَ بالاحترام الذي يُطبق فمي بدون أن تزيد في همومك بيدك، وألقِ نظرة على حياتي وافحصها وفكِّرْ من أنا؟ أفاتك أن الجرائم العظيمة تسبقها أصغر منها؟! ومن يستطيع أن يتعدى الحدود الشرعية، أو يخرق حرمة الحقوق المقدسة؟! والجرم كالفضيلة له درجات؛ إذ لم يسمع أن البراءة الحيية انتقلت فجأة دون استدراج إلى منتهى الوقاحة والضلال، ويوم واحد لا يصيِّر صاحب الفضيلة خائنًا قاتلًا نذلًا يأتي المنكر مع محارمه.
حملتني في أحشائها طاهرة عفيفة من الشجاعة والإقدام بمكان رفيع، فلم أكذب دمها وأظلمها، وكان بيتيه موصوفًا بالكياسة والذكاء بين جميع العالم، وقد تفضل بتهذيبي، وإني لا أود أن أصف نفسي بأكثر من ذلك، وأظن يا أميري أن حظي الذي أحرزته من الفضائل هو الذي أشعل الحقد عليَّ؛ فرموني بهذه الكبائر الفظيعة، وإن إيبوليت لمعروف في جميع اليونان بأنه بلغ منتهى الفضيلة، وإنك تعرف من شجوني ثبات عزيمتي في الشدة والجفاء، وليس النهار بأنقى من قلبي؛ أبعد ذلك يريدون من إيبوليت أن يفتن بنار حب دنس؟!
تيزيه : نعم، وهذا الكبر والإعجاب هما اللذان أوقعاك في شر عملك أيها النذل! وأرى في جفائك وأنَفَتِك المبادئ الشنيعة؛ إذ فتنت فيدر وحدها عينيك الوقيحتين، وكانت نفسك خالية البال عمن سواها، مستنكفًا أن تحترق لأجل حب بريء حلال.
إيبوليت : لا يا أبت؛ فإن هذا القلب كتم عنك كثيرًا هواه البريء، ولم يستنكف أن يلتهب منه، وإني أعترف بين يديك بهفوتي الحقيقية: إني أحب وأهوى رغمًا عن دفاعك، وقد استرقتني أريسي، وصار ابنك أسيرًا لابنة بالانت، شغفني هواها وأصبحت نفسي عاصية لأوامرك، لا تتأوه ولا تحترق إلا لأجلها وحدها.
تيزيه : أتحبها؟ إلهي! لا لا فتصنُّعك شنيع: تتظاهر بالجرم وتتكلَّف لتبرر نفسك.
إيبوليت : منذ ستة شهور وأنا أتجنَّبها وأحبها، وقد أقبلت إليك مرتجفًا لأطلعك على أمري. عجبًا! ما لي أراك لا يؤثر عليك شيء لانتشالك من أوهامك! فأي يمين هائل تصدقه؟ أبالأرض أم السماء أم جميع الدنيا …؟
تيزيه : يلجأ المجرمون دائمًا إلى الحلف الكاذب، فأقصر ووفِّر عليَّ حديثًا ممقوتًا إذا لم يكن لفضيلتك الكاذبة معين آخر.
إيبوليت : أتظهر لك فضيلتي بأنها كاذبة ومفعمة بالتصنع، مع أن فيدر نفسها يناجيها قلبها بإنصافي وتبريري.
تيزيه : آه! ما أشد وقاحتك وأقواها تهييجًا لغيظي!
إيبوليت : ما الزمان والمكان اللذان تحددهما لنفيي وإبعادي.
تيزيه : أتذهب إلى ما وراء «أعمدة السيد»؟ وأظنها قريبة بالنسبة لغادر.
إيبوليت : إذا كنتُ أُهمل جرمًا فظيعًا تتهمني به، فأي صديق يرثي لحالي إن تخليت عني وهجرتني؟!
تيزيه : اذهب لتفتش عن صحاب يشرفون الزنا ويستحسنون إتيان المنكر مع المحارم؛ إذ لا يحمي خبيثًا مثلك إلا كل خائن كنود عاطل من الشرف والدين.
إيبوليت : ما برحت تحدثني عن الزنا وهتك المحارم: إني ملازم السكوت، وإن فيدر ولدتها أم، وهي أيها الأمير من دم تعرفه حق المعرفة، وله من الفضائح والمعرَّات أكثر مما عندي.
تيزيه : بخ بخ! أتخرجك حدة غضبك أمام عيني عن حد الاعتدال؟ فاغرب من وجهي للمرة الأخيرة. اخرج أيها الخائن الغادر، ولا تنتظر من أب يتميَّز من الغيظ أن يطردك من هذه الأماكن مهانًا مرذولًا.

المنظر السادس من الفصل الخامس

(تيزيه – تيرامين)
تيزيه : أهذا أنت يا تيرامين؟ ماذا صنعت بابني وقد عهدت به إليك منذ نعومة أظفاره؟ ولكن ما الذي يسيل منك هذه العبرات؟ وماذا عمل ابني؟
تيرامين : يا لعناية فات وقتها ولا حاجة إليها؟ حنان لا يجدي! إذ فارقكم إيبوليت.
تيزيه : آلهتي!
تيرامين : ما رأيت أحدًا مات أكثر منه حبًّا لدى الناس، وأتجرأ أن أقول لك أيها الأمير: إنه أخف الناس ذنبًا.
تيزيه : هلك ابني؟ عجبًا! متى أمد إليه ذراعيَّ لمعانقته؟ هل نفد صبر الآلهة وعجلوا بموته؟ أي ضربة اختطفته مني، أم أي صاعقة مفاجئة؟
تيرامين : لم نكد نحرج من أبواب تريزين وابنك راكب عجلته وحرَّاسه تعلوهم الكآبة ملتفون حوله مقلدون صمته، فسار وهو فريسة الشجون والهموم في طريق «ميسين»، وقد أرخت يده العنان على ظهور خيله.
ولما كانت جياده الحسان كما عهدها الناس ملئت حمية، لبت صوته وزاغت منها الأبصار، وطأطأت الرءوس يحسبها الإنسان أنها وفق فكرة الحزين؛ إذ خرج من اللجج صوت مزعج عكَّر صفو الهواء، فأجابت الصافنات الجياد هذا الصياح المرهب بصهيلها، فتثلَّج دمنا في أعماق أفئدتنا، وانتصب شعر أعراف الخيل، وارتفعت على ظهر اليم لجة كالطود واقتربت، ثم تكسرت وقذفت بين الزبد وحشًا هائلًا عريض الجبين مسلح الرأس بقرنين مزعجين، وجسمه مغطى بقسور مصفرة، كأنه ثور صعب المراس أو تنين عظيم البأس، التف عجزه فأحدث ثنيَّات معوجة ملتوية، وقد ارتجف من هول زئيره الشاطئ ومادت الأرض وأوبأ الهواء، وتقهقرت اللجة التي حملته وهي مروعة منه، وهرب الجمع، والتجأ إلى المعبد المجاور دون أن يتسلحوا بشجاعة لا تعني ولا تنفع، ولبث إيبوليت وحده فكان أهلًا لأن يكون ابنًا لبطل حلاحل. فأوقف خيله وقبض على حرابه وطعن الوحش بيد لا تخطئ طعنةً نجلاء أصابته في عِطفه طفر من حر ألمها الوحش، ووقع زائرًا تحت أقدام الجياد متمرغًا مظهرًا فمًا ملتهبًا فغطَّاها بنار ودم ودخان، فأخذها الفزع وصمَّت آذانها هذه المرة عن استماع الزجر ولم يغن صاحبها ما بذله من الجهد لكبح جماحها؛ حتى كلَّ ساعده وخارت قواه وضرَّجت الخيل اللجم بما يخرج من أفواهها المزبدة الدامية، ويقال: إنه شوهد في هذا الهرج الهائل إله يضغط على جنوب الخيل المغبرة بمهمازه وهو بها الوجل بين الصخور ففرقع محور العجلة وانكسر، وشاهد البطل إيبوليت عجلته وهي تتحطم إربًا إربًا، ووقع هو بنفسه والتفَّت عليه الأعنة.

فاعذرني لألمي ومصابي، فإن هذا المنظر القاسي سيفجر ينابيع الدمع من شئوني فلا تجف مدى العمر، وقد نظرت أيها الأمير ولدك البائس تجره الخيل التي أطعمها بيده، وكان يود لو يذكرها بحسن صنيعه، ولكن صوته كان يزيد في إزعاجها، واستمرت في عَدْوِها حتى أصبح جسمه داميًا كأنه جرح، وقد ملأنا السهل بصياحنا واستغاثتنا، ثم هدأ قليلًا جماح الجياد ووقفت على مقربة من المقابر العتيقة التي كانت بالملوك أجداده ذخائر باردة جامدة؛ فهرولت إليه متأوهًا وتبعني حرسه، وهدانا إليه ما خطَّه دمه الشريف على الصخور، وأخذ العوسج الممقوت من خيله جلبابًا داميًا. ولما وصلت إليه ناديته فمد إليَّ يده وفتح عينًا مائتة ثم أطبقها فجأة، وقال: «قضى الإله بأن ينزع مني حياة بريئة فارع بعد موتي «أريسي» الحزينة البائسة بعين عنايتك أيها الصديق العزيز، وإن تبيَّن الرشد من الغي لأبي يومًا ما ورثى لمصيبة ابن اتُّهم كذبًا وظلمًا فقل له إن أراد أن يلطف دمي وخيالي الشاكي فعليه أن يرأف بأسيرته ويعاملها بالرقة والحنان ويرد إليها …» وعند هذه اللفظة أسلم الروح هذا البطل، ولم يترك بين ذراعيَّ إلا جسمًا مشوهًا ممثلًا به. فيا لمسكين يرثي له ظفر به غضب الآلهة حتى إن عين أبيه تنكره.
تيزيه : وا ولداه! وا أسفا على أمل عزيز فجعت به! يالآلهة لا يسكن غضبها ولا ترحم قلوبها ومن استعبدتني أمدًا طويلًا! مدت في حياتي لتذيقني هذه الحسرات القاتلة!
١  Jean Racine.
٢  الشاعر الفرنسي الشهير الذي نظم قصصه المشهورة عن لسان الحيوانات سنة «١٦٢١–١٦٩٥»، وهو أعظم شاعر في هذا النوع، وتُرجمت قصصه إلى أغلب اللغات، وعرَّبها الشاعر المجيد عثمان بك جلال وسماها: العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ.
٣  كاتب نابغة من الفرنسيس سنة «١٦٢٢–١٦٧٣»، وهو أعظم شاعر في الروايات المضحكة، وأوَّل من ابتدعها، ولم تظهر لغاية الآن رواية تُضارع رواياته حتى صار فريدًا لا يُجاريه مُجارٍ، وكان مُمثلًا ماهرًا، ورئيس جوق.
٤  كاتب فرنسي مشهور في الأخلاق «١٦٤٥–١٦٩٦م».
٥  تابعة لكليتيمنيستر.
٦  تقول ذلك بتهكم.
٧  أي إنَّه كان يحمد الآلهة حينما كانت تُناديه يا أبتِ على أن منحوه ابنة، وصار لها أبًا.
٨  مواضع الضَّعف هي التي تُؤثِّر على الإنسان، وتتغلب عليه؛ كحنان الأبوة، ولو كان الأب قاسيًا مع جميع النَّاس.
٩  اسم آخر لمدينة طروادة.
١٠  والد أجاممنون، وتييست أخوه، وقتل الأخ الأول أبناء أخيه وأطعمهم لأبيهم.
١١  ابنة هيلانة.
١٢  يريد زوجته التي هي كقطعة منه.
١٣  بطل من فرسان اليونان ابن إيجيه، وملك أتينه.
١٤  جمع خمار، وهو ما تلف به المرأة رأسها.
١٥  أنْهَكَ الحبُّ قواها وطرحها على فراش المرض، ولم تخرج مدة من مخدعها، فاشتهت أن تتزين وتخرج إلى بهو البيت؛ لتُشاهد النُّور، وتستنشق الهواء، ولكنَّها ما مشت غير خطوات قليلة إلا وخانتها قواها، فجلست من شدَّة ضعفها، وطفقت تلعن النُّورَ الذي تُشاهده، واليد التي زينتها.
١٦  العجلة: هي العربة، وهذا القول خرف عند نوبة اختلاط عقلها من المرض وفرط الحُبِّ.
١٧  أي دون أيَّام حياتها.
١٨  في خرافات اليونان يقولون: إنَّ الأمازون كانت أمة من النِّساء، وكنَّ يعدمن أولادهن الذكور، ويحرقن ثديهن الأيمن؛ ليُحسنَّ رمي النبال، وكنَّ يعشن على ضفاف نهر تيرمودون في كابادوس.
١٩  أمة قديمة متوحشة رحالة كانت تسكن الشمال الشرقي من أوروبا، والشمال الغربي من آسيا.
٢٠  هو تيزيه زوجها.
٢١  أي إنَّه لو كان أبوه تزوج بغيرها لأهانته واضطهدته الأخرى كهذه، كما هي عادة جميع النِّساء يبغضن أولاد أزواجهن.
٢٢  إله البحار.
٢٣  في الميتولوجيا أنَّه نهر في جهنم، لم يستطع أحد اجتيازه مرتين، ويستعمله الشعراء الفرنسيون مرادفًا للجحيم.
٢٤  تُخاطبه بالمواربة ويرمي قولها أنَّه أشبه بأبيه حتى يكادان لا يفرقان، وأنَّها لا تحب أحدهما المتقلب الذي كان همه الجري وراء النساء، بل تحب ابنه الذي هو بمثابة تيزيه ثانٍ، ويمتاز عنه بأمانته وإخلاصه وحيائه وجماله، وغير ذلك مما سردته في كلامها.
٢٥  في خرافات اليونان أنَّ جهنم موجودة بجزيرة وراء المحيط في الغرب الأقصى في جهة لا تُضيئها الشمس، ويتخللها أربعة أنهار؛ منها: «أكيرون» الذي سبق شرحه، وإله الجحيم «هادس»، وزوجته «بيرسيفون» التي سافر لاختطافها «تيزيه» زوج فيدر، وفي الجحيم قضاة لمحاسبة الموتى منهم: «مينوس» أبو فيدر، ولها حارس يُدعى سيربير.
٢٦  تتحسر فيدر أنْ كان إيبوليت وقت سفر أبيه إلى كريت صغير السن، ولو كان كبيرًا وذهب وقتئذٍ بدل أبيه لفاز بزواجها، ولم تكن عرضة لجميع هذه الآلام والشجون.
٢٧  نذكر ها هنا سيرة تيزيه بالاختصار؛ ليقف القارئ على أسرار هذه الرواية؛ لأنَّها مرتبطة بالميتولوجيا، كان تيزيه أعظم أبطال أتينه وملكها، وُلد بمدينة «تريزين»، وكان أبوه «إيجيه» ملكًا لأتينه أيضًا، وقد وضع سيفه ونعله تحت صخرة عظيمة، وقال: إذا ولدت امرأتي «إيترا» ولدًا وبلغ مبلغ الرجال يجب عليه أن يُعالج الصخرة وحده؛ ليرفعها ويأخذ السيف والنعل، ثم يذهب إلى أتيك ليعرفه الناس، ولما شبَّ الولد عند جده «بيتيه» والد أمه وبلغ أشدَّه ذهب إلى الصخرة وزعزعها وأخذ سيف أبيه ونعله، وسافر إلى أتيك، وفي أثناء طريقة قطع دابر من قابلهم من قُطَّاع الطريق والوحوش، ولمَّا وصل إلى أبيه أرادت امرأته الأخرى «ميديه» أن تسمه، فكشف سرها زوجها وطردها، وشارك ابنه معه في الملك، ودافع تيزيه عن أبيه ضد «البالانتيد»، وذلَّل ثور ماراتون وضحاه «لابولون»، ثُمَّ سافر إلى كريت ليخلص أهل أتينه من الجزية العظيمة التي كانوا يدفعونها إلى «مينوطور»، وهو وحش نصفه ثور والنصف الآخر رجل حملت به «باسيفاييه» زوجة مينوس من ثور أبيض أرسله «بوزيدون» إله البحر، ثُمَّ حبس مينوس هذا الوحش في «لابيرنت» الذي بناه «ديدال»، وكان يطعمه لحم الإنسان؛ لأنَّه عقب إحدى الحروب التي قتل فيها ابنه أندروجيه أراد أن ينتقم ويثأر لابنه بأن ضرب على الأتينيين جزية سنوية، وهي سبعة غلمان وسبع فتيات كواعب تقدم طعامًا لمينوطور، ولمَّا وصل تيزيه إلى لابيرنت قابلته أريان ابنة مينوس وناولته خيطًا كان يستعمل بمثابة دليل للداخل في لابيرنت لئلَّا يتيه ويضل؛ لتشعب مسالكها العديدة، فقتل تيزيه مينوطور، وركب البحر مع أريان، ثم هجرها على شاطئ ناكسوس، فرمت بنفسها في البحر يأسًا، ثم اختطف ملكة «الأمازون»، وقد سبق ذكر هذه الأمة واسمها «أنتيوب»، ورزق منها بإيبوليت، ثم ذهب إلى الجحيم؛ ليخطف زوجة إلهها «هادس»، ولكنَّه لم يُفلح هذه المرة، ثم تزوج أخيرًا بفيدر ابنة مينوس، وجرى ما نحن بصدده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤