إيدمون روستان١

بدر بزغ في سماء الشعر وفن الروايات التمثيلية، وُلِد بمرسيليا سنة ١٨٦٨، وقد ابتدأ في عالم التأليف بمجموعة في النظم سماها «اللهو بالترهات والسفاسف» جُمِعَتْ بين البلاغة والرقة، ثم ظهرت أول رواياته التمثيلية «المولعون بسير أبطال القصص» سنة ١٨٩٤، وهي نظمية ذات ثلاثة فصول حوت: روح «ماريفو Marivaux»٢ وأسلوب «بانفيل Banville»٣ ثم اتبعها برواية «الأميرة البعيدة» سنة ١٨٩٥، وهي طلية النظم منسجمة العبارة، استخرجها من سيرة من القرون الوسطى، وبعدها بسنتين مُثِّلَتْ رواية «السامرية»، وهي مستنبطة من الإنجيل بديعة القريض رقيقة العبارة.

وأهم مؤلفاته رواية «سيرانودو بيرجيراك» سنة ١٨٩٧، وهي شعرية حماسية ذات خمسة فصول، اهتزت لها أعطاف البلاغة طربًا، وسارت بذكرها الركبان. أوجد فيها مشربًا في الشعر مضادًّا لمذهب المحققين الفاضحين، الذين يكشفون جميع ما استتر بلهجة تهكم قارصة، وهي في النظم بيت القصيد من شعر المؤلف، تضمُّ بين سطورها حماسة وحميَّة وشجاعة ومروءَة منسجمة القوافي شائقة المعاني.

وفي سنة ١٩٠٠ كتب رواية «الهيثم»،٤ وبطلها «الدوق دوريشتاد»؛ أي نابليون الثاني، وقد صادفت إقبالًا عظيمًا وتحلت بمحاسن السابقة.

وقد انتُخِبَ المترجم في المجمع العلمي الفرنسي سنة ١٩٠٢، وأصبح أمير الشعراء، وله عدة قصائد نشرت على حدة وكان لها استحسان عظيم.

وفي سنة ١٨٩٠، ظهر ديوان في الشعر لإحدى الآنسات، وهي في ربيعها التاسع عشر، باسم «المزامير»، بديع النظم رائق المعاني، لا يشوبه التكلف؛ فدهش المجمع العلمي حينما قارن بين عمر الفتاة وديوانها العظيم، ومنحها جائزة عظيمة، فتزوجها شاعرنا هذا في السنة التي ظهر فيها ديوانها، وهي السيدة «روزموند أيتيينيت جيرار» من الشعراء المشهورين، ولدت بباريس سنة ١٨٧١، وهي ابنة «الكولونيل كونت جيرار»، وحفيدة الماريشال «جيرار».

(١) ملخص رواية سيرانو

رواية حماسية ذات خمسة فصول، بدئ بتمثيلها بباريس في ٢٨ ديسمبر سنة ١٨٧٩ بمرسح «بورت سان مارتين»؛ فحازت إقبالًا باهرًا، وكانت مجدًا وفخرًا للشاعر؛ لما انطوت عليه سطورها من: الفكاهات، والهزل الرقيق، والأسلوب الأدبي الطلي، ومتانة القريض، والحماسة الشائقة، والمعاني الرائقة، والروح الفرنسية الصريحة. وهاك الموضوع:

تتبع سيرانو دوبير جيراك — وهو من مشاهير شعراء القرن السابع القرن السابع عشر — إلى «نزل البورجوني»، وهناك احتشدت الجموع من: سكارى، وسراة، وممثلين، وموسيقيين، وغيرهم. ثم نعرج على طاهي الشواء وأصناف الحلوى «راجنو»، وكان شاعرًا يضحك من رآه؛ إذ كان يملأ أكياس الورق الذي يلف فيه الحلوى بقصائده، وعندما يأتي مشتر يقف أمامه زمنًا طويلًا، ريثما يقرأ الطاهي قصائده المكتوبة على الأكياس، وينتقي واحدة منها؛ إذ كان يضن بها وتذهب نفسه حسرات عليها.

وهناك يدري سيرانو أن «روكسان» التي تيَّمه هواها تميل إلى «كريستيان دونوفييت»؛ فيصطحب مع هذا المنافس المزاحم، ويدعوه ليسمع مع الجميع القصيدة المضحكة التي يصف بها أنفه الكبير؛ فيغرق الجميع في الضحك من هذه القصيدة، التي حوت من الملح والفكاهات أرقها ويزينها الإلقاء البديع والفصاحة التي منحها هذا الشاعر.

وصار سيرانو يساعد كريستيان في استمالة روكسان بأن يمليه الرسائل البليغة لحبيبته؛ حتى اغترت به وظنته أنه هو المحرر لها وازداد حبها له بفضلها.

ثم ننتقل بالقارئ إلى بيت روكسان، فنرى كريستيان واقفًا بعد الغروب تحت طنف البيت، وقد علته الكآبة وأكمده الأسف، فينظره سيرانو وهو مارٌّ فيستغيث به كريستيان لينتشله من ورطته؛ لأنه كان عيًّا فظًّا، وقد أردت روكسان أن يجالسها للسمر، فكان لا يعرف أن يخاطبها بكلمة غير قوله: «أحبك»، وصار يكررها حتى سئمت منه، وقالت له: حدثني عن الحب، وكيف يكون؟ فلم يحر جوابًا، فقالت له: عبر عن وجدانك وشعورك على الأقل. فما كان منه إلا أن لبث أمامها كالبهيمة، لا يدري غير قوله: «أحبك.» حتى ضايقها وطردته.

ثم رق له سيرانو ووعده بالمساعدة، واختبأ تحت الشرفة، وأشار عليه بأن يناديها، فأطلت من نافذة الطنف، وصار يلقنه سيرانو الجواب بعبارة بليغة وإشارات دقيقة؛ حتى أدهشها بفصاحته ومنحته القبلة التي طلبها منها في عرض كلامه، حينما رآها رضيت عنه بعد نفورها وغضبها، ثم تزوجت به بعد مدة قصيرة.

ثم سافر سيرانو هو وكريستيان إلى معسكر «إخوان الجاسكونيين» ضمن الجند الذين سافروا، وتبعت روكسان زوجها، وهناك قُتِلَ كريستيان برصاصة من الأعداء، ودُفِنَ معه سر الغش والخداع الذي رتبه سيرانو، ولعب دوره برشاقته المعهودة، وبعد موت كريستيان لبست روكسان ثوب الحداد ودخلت الدير.

وبعد أربعة عشرة سنة التقت بسيرانو، وصار يتردد عليها في بعض الأوقات، ويقص عليها سيرته الماضية وأخباره سنة بسنة، وحبه لها ما فتئ يجري في عروقه مع دمه؛ إلى أن أتى يومًا من الأيام وقد اغتاله أحد الخدم، وضربه بالسيف على أم رأسه، فضمَّد جرحه وذهب إلى روكسان لينظرها النظرة الأخيرة قبل موته، واعترف لها استدراجيًّا بحبه، وأنه هو الذي لعب هذا الدور الختال، وخلب روكسان، وأنه ما برح كاتمًا حبه؛ فتأثرت روكسان ورقَّت له ورَثَتْ لما قاساه هذه الأعوام الطوال بسببها، وبكت وكان بودها لو يعيش وتقاسمه هذا الحب العذري والوفاء والإخلاص، ثم قبَّلته في جبينه، وهو يعترف لها بآخر كلمة إلى أن أسلم الروح بين يديها.

(١-١) سيرانود وبيرجيراك Cyrano de Bergerac

منظر الطنف Scéne du Balcon٥

روكسان : بخ بخ أهذا أنت؟ قد خيم الظلام، فانتظر إذ ابتعد الجمع والهواء لطيف والطريق قفر، فلنجلس لنتجاذب أطراف الحديث، وهات ما عندك فإني مصغية.
كريستيان (يجلس بجانبها على المقعد وبعد سكوت برهة يقول) : أحبكِ.
روكسان (تقفل عينها) : نعم فحدثني عن الحب.
كريستيان : أحبكِ.
روكسان : هذا هو الموضوع فانسج القول.
كريستيان : أنا …
روكسان : صُغْ القول.
كريستيان : أحبكِ كثيرًا …
روكسان : بلا شك. ثم ماذا؟
كريستيان : ثم … إنني أكون مبتهجًا إذا أحببتني! أجيبيني يا روكسان إذا كنت تحبينني.
روكسان (عابسة الوجه) : إنك تقدم لي الحساء٦ بينا أشتهي الزبدة! فخبرني ببعض كليمات كيف تحبني.
كريستيان : ولكن … كثيرًا.
روكسان : أواه! … صَرِّحْ بوجدانك وشعورك!
كريستيان (وهو مقترب منها وناظر لعنقها الوضَّاء بعين ملؤها الشره والنهم) : بودي لو ألثم جيدك! …
روكسان : يا كريستيان!
كريستيان : أحبكِ.
روكسان (وقد همَّت أن تقوم) : رجعت إلى النغمة الأولى.
كريستيان (وقد أمسك بها) : لا! فإني لا أحبك!
روكسان : إن هذا لمن حسن الحظ!
كريستيان : أحبك حبًّا شغف فؤادي.
روكسان (وقد همت واقفة وابتعدت عنه) : أواه!
كريستيان : نعم … فقد صرت أحمق!
روكسان (بخشونة) : هذا لمما تعافه نفسي، كما أنك تزداد قبحًا في عيني من وقت لآخر.
كريستيان : ولكن …
روكسان : هيا اجمع فصاحتك الهاربة المشتتة.
كريستيان : أنا …
روكسان : أعرف جيدًا أنك تحبني، فأستودعك الله.
كريستيان : لا تتسرعي فسأقول لك …
روكسان (تدفع الباب لتدخل) : بأنك تحبني … نعم وأعلم ذلك. لا لا! فاذهب بسلام.
كريستيان : ولكني …

(ثم تقفل في وجهه الباب.)

سيرانو (وقد دخل منذ هنيهة دون أن يُرى) : هذا فوز باهر!
كريستيان : أغثني.
سيرانو : لا يا سيدي.
كريستيان : إنني أموت إذا لم أحظ منها الساعة بالقبول والرضا.
سيرانو : وكيف أستطيع أيها الأحمق؟! إذ ليس في الإمكان حتى إرشادك الآن.
كريستيان (وهو ممسك ذراع سيرانو) : هاك انظر! (يرى نافذة الشرفة مُضَاءة غرفتها).
سيرانو (وهو مضطرب) : نافذتها!
كريستيان (صائحًا) : سأموت!
سيرانو : خَفِّض صوتك.
كريستيان (بصوت خافت) : الموت.
سيرانو : أرى الظلام حالكًا …
كريستيان : وما العمل؟
سيرانو : الأمر متدارك ولكنك لست أهلًا له … فقف أيها التعس أمام الطنف، وإني سأختبئ تحته، وألقنك ما ستخاطبها به من الكلمات.
كريستيان : ولكن …
سيرانو : اصمت.
الحاجبان (وقد ظهرا من بعيد يشيران إلى سيرانو) : من ذا؟!
سيرانو : صهْ! (ثم أشار إليهما بخفض صوتهما).
الحاجب الأول (بصوت منخفض) : نحن آتيان من مونفلوري، إذ كنا نترنم تحت نوافذ الحسان على نغم العيدان.
سيرانو (مسرعًا في كلامه) : هيا اكمُنا في جوانب الطريق وإن مرَّ أحد مضايق فاضربا لنا لحنًا!
الحاجب الثاني : أي لحن أيها السيد الجاصاندي؟٧
سيرانو : لحن مطرب إن مرَّت امرأة. ومحزن إن مرَّ رجل!

(يفترق الحاجبان وينزوي كل منهما في ركن من أركان الطريق، ثم يوجه خطابه إلى كريستيان.)

ادْعُهَا!
كريستيان : روكسان!
سيرانو (وهو يلتقط الحصى ليرمي به ألواح زجاج النافذة) : انتظر ريثما نجمع بعض الحصى.
روكسان (وهي تفتح نافذتها) : مَنْ يناديني!
كريستيان : أنا.
روكسان : وما أنا؟
كريستيان : كريستيان.
روكسان (باحتقار) : أهذا أنت؟
كريستيان : أريد أن أخاطبك.
سيرانو (وهو تحت الشرفة مشيرًا إلى كريستيان) : حسنًا فتكلم بصوت خافت.
روكسان : إنك لا تفصح الكلام فاذهب بسلام.
كريستيان : عفوًا …
روكسان : لا! فإنك لا تحبني أبدًا.
كريستيان (يُلقِّنه سيرانو الجواب) : يالله! تتهمني بادعاء الحب بينا حبي في ازدياد واشتعال.
روكسان (وكانت عازمة أن تقفل النافذة فتوقفت) : عجبًا! فإن هذا أفصح من ذي قبل.
كريستيان (مُلَقَّنًا) : الحب يشب في قلبي متأرجًا في مهد روحي الحائرة، فما أقسى هذا الطفل الذي اتخذ روحي مهدًا له!
روكسان (وقد تقدمت إلى حافة الطنف) : هذا من الحسن بمكان! ولكنك أحمق لكونك لم تخنق هذا الحب في مهده إذ وجدته قاسيًا!
كريستيان (ملقنًا) : لقد سولت لي نفسي ذلك وهممت به، ولكن بغير طائل؛ فإن هذا الطفل يا سيدتي أشبه بهرقل٨ صغير.
روكسان : ما أحسن هذا القول!
كريستيان (ملقَّنًا) : حتى إنه خنق ثعباني الكبرياء والشك بدون أدنى مبالاة.
روكسان : لا فُضَّ فوك! ولكن لِمَ تسرعت في الاندفاع في القول دون استدراج؟ فهل أُصِبْتَ في عقلك؟
سيرانو (وقد جرَّ كريستيان تحت الشرفة ووقف محله) : صه! فقد أصبح الموقف حرجًا! …
روكسان : أراك اليوم تتكلم مترددًا في القول فما الذي عراك؟
سيرانو (متكلمًا بصوت خافت مقلدًا صوت كريستيان) : قولي متردد؛ لأنه يتخبط في الغياهب باحثًا عن أذنك.
روكسان : ولكن كلماتي لم تتعثر في مخارجها كما تعثر كلماتك.
سيرانو : ستلقى هذه العثرات في القريب العاجل، وهذا يأتي بطبيعته، وإن فؤادي لواعٍ وحافظ لجميع قولك، وهذا مما يدل على عظم قلبي وصغر أذنك؛ إذ يلقف كلماتك أسرع من البرق، ولكن كلماتي يا سيدتي حينما تصعد إليك يلزمها وقت كافٍ.
روكسان : ولكني أجد أنها تصعد إليَّ منذ هنية أطيب من قبل.
سيرانو : قد تعودت من هذا التمرين!
روكسان : إني أحدثك من علو شاهق!
سيرانو : صدقتِ وإنك لو رميتني من حالق٩ بكلمة قاسية لقتلتني!
روكسان (وقد همت أن تنزل) : أنزل إليك؟
سيرانو (بنشاط) : لا!
روكسان (مشيرة إلى المقعد تحت الطنف) : أسرع وتسلق المقعد.
سيرانو (وقد زاد اضطرابه) : دعيني أنتهز ما تنفحني به الفرص من استطاعة التكلم بلطف دون مشاهدة.
روكسان : دون مشاهدة؟
سيرانو : نعم فإن هذا ليجذب القلوب، وإنك ترين هذا الظلام المعتم وقد مد رواقه، وإني ألمح بياض ثوب من ثياب الصيف، وما أنا إلا الظلمة وأنت الضياء! وإنك لا تدرين فضل هذه الدقائق عليَّ أن انبعثت في بعض الأحيان من فمي الفصاحة والبيان …
روكسان : لقد أسعدتك البلاغة بنفحاتها.
سيرانو : إلى الآن لم يصدر كلامي من فؤادي …١٠
روكسان : ولِمَ؟
سيرانو : لأني إنما أخاطبك وأنا بَيْن …
روكسان : بين أي شيء؟
سيرانو : بين صواب مفقود وفكر ضال، إذ لا يثبت أحد أمام ناظريك! …
ولكني يخيل إليَّ أني سأخاطبك الآن للمرة الأولى!
روكسان : صدقت، فإنك تتكلم بصوت متغير.
سيرانو : نعم متغير لأني في هذا الليل الأليل الساتر الذي يحميني أستطيع أن أكون أنا نفسي وأستطيع أن … (ثم يتوقف وقد كاد أن يغمى عليه).
أين كنت؟ لا أعلم … كل هذا، عفوًا عن اضطرابي؛ فقد ثملت من لذة هذا الموقف … لأنه لي جديد غريب!
روكسان : جديد غريب؟
سيرانو (وقد أنهكه التأثر والاضطراب، وهو مجتهد في تدارك كلماته) : نعم جديد غريب أن يكون صادقًا؛ فإن خوفي من أن يهزأ بي ويسخر مني١١ ليلدغني في سويداء قلبي …
روكسان : ولِمَ يهزأ بك؟ من عامل جاذب! … نعم فقلبي يكتسي دائمًا بعقلي، ونفسي تحدثني بأن أقتلع النجم من سمائه، ولكني أتوقف لغرابة الأمر، وأستبدله بالزهرة.
روكسان : إن الزهرة جميلة.
سيرانو : فلنحتقرها الليلة.
روكسان : إنك لم تخاطبني قط بمثل ما آنسته فيك الليلة من الرقة والبيان!
سيرانو : آه! إن جرينا شوطًا آخر في الكلام فهناك الكنائن١٢ والشعل والسهام، والنجاة مقرونة بالأشياء الرطبة! ولنشرب نهلًا بدلًا من التعلل بكأس صغيرة من الذهب الإبريز من ماء «لينيون» العديم الطعم، وإن سَوَّلت لنا النفس بأن ترى كيف تروى الروح إن شربت نهلًا وغبت من النهر العظيم.
روكسان : ولكن أين النكات الأدبية اللطيفة؟ …
سيرانو : كان ما كان لأطيل مكثك معي، والآن إن تكلمنا كما ترومين؛ فكأننا نهين هذه الليلة، وهذا الطيب الزكي والساعة الهنيئة بل الطبيعة البديعة مثل: «فواتور Voiture» وقصائده الصغيرة الرقيقة.
ولندع السماء تجردنا من كل ما تتكلفه من القول بنظرة من دراريها، وإني لمشفق أن يكون في كيميائنا اللذيذة ما يُخشى عليه من تبخر العواطف، أو أن النفس تنفد من ملاهيها التي تقتل بها وقتها بغير طائل، وأن لا يكون المكر العظيم غاية الغايات.
روكسان : ولكن أين النِّكات الأدبية؟ …
سيرانو : إني لأمقت النكات في الحب، وإنه لمن الجرم في الهوى أن يستغرق فيه في المجالدة بالبيض الصفاح، وفضلًا عن ذلك فإنه يأتي في بعض الأحيان قسرًا، ولا يغني منه حذر.
لهفي على الذين لم يدركوا هذه الأحايين القهرية! التي نشعر فيها بحبنا الشريف، الذي تشجينا منه كل كلمة رقيقة!
روكسان : وإن وافتنا هذه الأويقات فماذا تخاطبني به من الكلمات؟
سيرانو : كل ما يجيئني منها أرمي به إليك مكومًا دون تنضيده كباقة الزهر؛ فإني أهواك وأكاد أختنق من الحب، وقد شغفني هواك وجُننت منه، وليس في الجهد احتمال أكثر من هذا، واسمك في قلبي كأنه في جلجل، وإني لأرتعد حينما يهتز الجلجل فيرن داخله اسمك.
لم أنسَ ذكراك ومحب لكل بادرة منك، وأذكر أنني في العام الماضي في اليوم الثاني عشر من شهر أيار رأيتك وأنت خارجة من البيت صباحًا، وقد غيرت ترتيب شعرك الذي كنت أستضيء بسناه الساطع مثلما يحدق الإنسان ببصره إلى الشمس، فإنه يرى هالة ذهبية على كل ما يقع طرفه عليه.
روكسان (بصوت مضطرب) : نعم، فإن هذا من فرط الحب.
سيرانو : حقيقة فإن هذا الشعور الذي يغالبني لغيور مزعج، ولا مرية أنه ناشئ من الحب وبه كل أوصاف الحدة المحزنة، وفضلًا عن ذلك فإنه ليس معجبًا متكبرًا.
ولو كان ينفعك أن أضم سعادتي وهنائي إلى نصيبك منهما ليكون لك سهم وافر لفعلته؛ لأَني أسمع من بعيد ضحك ما تولد منهما مما ضحيته من حظي.

كل نظرة من نظراتك تحدث فضيلة جديدة وتعودني الجرأة، فهل فهمت الآن وصرت على بينة من الأمر؟ أتشعرين بروحي وهي صاعدة إليك في هذا الديجور؟ وإني لأحار في وصف جمال ليلتنا هذه؟ وإني أقص عليك كل هذا الحديث وأنت مصغية إليَّ، ولم يحم أملي القانع على أكثر من هذا، ولم يبقَ لي إلا أن أموت حيث بلغت غاية الغايات من الأماني والآمال!

وإن كلماتي لهي التي هزت منك الأعطاف بين هاتيك الغصون كورقة يحركها الهواء بين أوراق الخمائل، وقد شعرت بارتعادك وعلمت أنه وفق رغبتك إذ نمت أغصان الياسمين المتدلية بارتعاش يدك!

(ثم يقبل وهو تائه طرف غصن متدل من الياسمين.)

روكسان : نعم وإني لأرتعد كالريشة في مهب الريح وأبكي؛ إذ أحبك وأنا لك فقد ثملت من حديثك.
سيرانو : والآن فليأت الموت! وإني الذي عرفت كيف أحدث هذه النشوة ولا أتطلب سواها إلا شيئًا واحدًا …
كريستيان (وهو تحت الشرفة) : قُبْلَة!
روكسان (ترجع القهقري) : ماذا تقول؟
سيرانو : أواه.
روكسان : إنك تطلب؟ …
سيرانو : نعم أنا …

(ثم يوجه خطابه إلى كريستيان بصوت خافت.)

لقد تسرعت وجريت لأبعد شأوٍ.
كريستيان : يجب أن ننتهز فرصة اضطرابها وننتفع بها.
سيرانو (مخاطبًا روكسان) : نعم … طلبت … حقًّا … فيالله! لقد عاودني صوابي، وعلمت أنني زادت جرأتي.
روكسان (وقد انخدعت قليلًا) : ألا تلح بعدها في طلب شيء آخر؟
سيرانو : نعم! ألح … بل بغير إلحاح؛ فإني أرى الهموم تغالب حياءك! وأخيرًا لا تمنحيني هذه القبلة!
كريستيان (وقد جر سيرانو من عباءته) : ولِمَ؟
سيرانو : صه يا كريستيان.
روكسان (وقد أطلت من الشرفة) : ماذا تقول بصوت خافت؟
سيرانو : لأني جريت شوطًا بعيدًا، فزجرت نفسي قائلًا: صه يا كريستيان.

(يسمع صوت العيدان.)

مهلًا! … فقد جاء مار.

(تقفل روكسان النافذة وينصت سيرانو إلى نغم المزاهر.)

(وقد ضرب أحد الحاجبين لنا مطربًا والآخر لنا محزنًا.)

لحن مطرب ولحن محزن؟ … فما قصدهما؟ هل أتى رجل أم امرأة؟ لا فهذا راهب.

(لنضرب صفحًا عن دخول هذا الراهب ومحادثته فليس فيها أقل أهمية.)

كريستيان : نل منها قبلة لي! …
سيرانو : لا لا!
كريستيان : هل فات الوقت أو لم يحن؟
سيرانو : ستجيء هذه الآونة التي تنتشيان فيها من لثم الثغور لكونك ذا شارب ذهبي وهي ذات شفة وردية.

(ثم يخاطب نفسه.)

وددت لو كانت هذه القبلة لسبب …

(ثم يسمعان صوت النافذة وهي تفتح، فيختبئ كريستيان تحت الشرفة.)

روكسان (وقد تقدمت إلى الطنف) : أهذا أنت؟ كنا نتكلم عن … عن …
سيرانو : عن القبلة! وإنها لكلمة لطيفة لا أدري لِمَ لا تستطيع شفتاك النطق بها، وإن أحرقتها فماذا يكون الأمر؟ فلا تزعجي نفسك لأجلها.
أما كنت تتركين بغير أن أشعر المزح، ثم تتسربين دون ارتباك إلى الابتسام متنقلة إلى التأوُّه ومنه إلى ذرف العبرات، فما عليك إلا أن تنتقلي. برشاقتك المعهودة من البكاء إلى القبلة فما يُخشى منها إلا ارتعاد خفيف!
روكسان : أطبق فاك أيها الأفاك.
سيرانو : القبلة ما القبلة؟ وما أدراك ما القبلة؟ قسم أو وعد أو اعتراف يحقق أو نقطة وردية توضع تحت باء كلمة الحب، بل سر مكتوم يلقفه الفم بدل السمع، أو لحظة جمعت فأوعت من الهناء ما لا يبلغه الوصف والحصر، لها دوي كدوي النحل، بل تناول طعمه معطر كالأزهار، بل إنها وسيلة يستنشق بها رائحة القلب، ويذاق بها من حافة الشفاه طعم الروح.
روكسان : مه!
سيرانو : إن القبلة لأشرف مما تتصورين يا سيدتي، ولقد منحتها ملكة فرنسا لأسعد لوردات الإنكليز.
روكسان : والنتيجة إذن!
سيرانو : عندي ما كان عند بوكنجام١٣ من خفي التباريح والآلام، وإني أحب مثله الملكة وما هي إلا أنت وإن هو إلا أنا مبلبل البال أمين مثله.
روكسان : أضربت من الملاحة بسهم وافر مثله؟
سيرانو (على حدة) : حقًّا لقد نسيت أني جميل!
روكسان : هيا اصعد لتقطف هذه الزهرة التي ما لها من نظير …
سيرانو (دافعًا كريستيان نحو الشرفة) : اصعد!
روكسان : نعم تذاق منها القلوب …
سيرانو : اصعد.
كريستيان (مترددًا) : أرى إنها ليست ملائمة الآن!
روكسان : نعم لحظة جمعت فأوعت من الهناء ما لا يبلغه الوصف والحصر …
سيرانو (وقد دفعه) : اصعد أيها الحيوان الأعجم!

(كريستيان يصعد متسلقًا المقعد، ثم يمسك بالأغصان ومنها يخطو إلى الطنف.)

كريستيان : آه يا روكسان! …

(ثم يعانقها ويقبل ثغرها.)

سيرانو : أواه! أية لدغة غريبة أصابت فؤادي أيتها القبلة! بل يا مأدبة الحب التي أنا محييها، لقد تساقط عليَّ في هذا الغيهب بعض من فتات هذه المأدبة، نعم يشعر قلبي أنه هو الذي حظي بهذه القبلة؛ حيث إنه على هذه الشفة التي اغترت بها روكسان لتقبل الكلمات التي فهتُ بها منذ هنية.
١  Edmond Rostand.
٢  كاتب روائي مشهور بسيط الإنشاء سلسه، رقيق العواطف، وُلد سنة ١٦٨٨ ومات سنة ١٧٦٣.
٣  نابغة من شعراء المذهب المطلق مشهور بمتانة قريضه، وبلاغة شعره، وُلد سنة ١٨٢٣، وتُوفي سنة ١٨٩١.
٤  النسر الصغير.
٥  البلكون.
٦  «الشربة».
٧  نسبة إلى مذهب الفيلسوف جاصاندي.
٨  أقوى الأبطال في «الميتولوجيا».
٩  الجبل العالي.
١٠  لأنَّه يتكلم عن لسان كريستيان، ولم يبتدئ بالتعبير عن وجدانه وحبِّه.
١١  لأنَّه كان دميم الوجه كبير الأنف، ولم يُظهر حبَّه خوفًا من أن تهزأ به روكسان.
١٢  جمع كنانة، وهي: جُعبة السِّهام.
١٣  أحد لوردات الإنكليز، وعاشق آن دوتريش ملكة فرنسا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤