الحنين إلى الأوطان

إنَّ لكل شيء من العلم ونوع من الحكمة وصنف من الأدب سببًا يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتَّتًا، ومعنًى يحدو١ على جمع ما كان متفرقًا. ومتى أغفل حَمَلة الأدب وأهل المعرفة تمييزَ الأخبار، واستنباطَ الآثار، وضمَّ كل جوهر نفيس إلى شكله، وتأليفَ كل نادر من الحكمة إلى مثله، بَطَلَتِ الحكمة وضاع العلم، وأُمِيت الأدب، ودَرَس مستور كل نادر. ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لَبَطَلَ أول العلم وضاع آخره؛ ولذلك قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأوَّلُ يتعلم منه الآخر.
وإنَّ السبب على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها، وشوقها إلى تُرَبها وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقُّدَ النار في أكبادها؛ أني فاوضت بعضَ من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع٢ إلى الأوطان، فسمعته يذكر أنه اغترب من بلد إلى آخرَ أمهدَ من وطنه، وأعمرَ من مكانه، وأخصبَ من جنابه، ولم يزل عظيمَ الشان، جليلَ السلطان، تَدِين له من عشائر العرب ساداتُها وفتيانُها، ومن شعوب العجم أنجادُها٣ وشجعانُها، يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه أو راهب منه، فكان إذا ذكر التربة والوطن حنَّ إليه حنين الإبل إلى أعطانها،٤ وكان كما قال الشاعر:
إِذَا مَا ذَكَرْتُ الثَّغْرَ فَاضَتْ مَدَامِعِي
وَأَضْحَى فُؤَادِي نُهْبَةً لِلْهَمَاهِمِ٥
حَنِينًا إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي
وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ٦
وَأَلْطَفُ قَوْمٍ بِالْفَتَى أَهْلُ أَرْضِهِ
وَأَرْعَاهُمُ لِلْمَرْءِ حَتَّى التَّقَادُمِ

وكما قال الآخر:

يَقَرُّ بِعَيْنِي أَنْ أَرَى مَنْ مَكَانُهُ
ذُرَا عُقُدَاتِ الْأَبْرَقِ الْمُتَقَاوِدِ٧
وأَنْ أَرِدَ الْمَاءَ الَّذِي شَرِبَتْ بِهِ
سُلَيْمَى وَقَدْ مَلَّ السُّرَى كُلُّ وَاخِدِ٨
وَأَلْصِقُ أَحْشَائِي بِبَرْدِ تُرَابِهِ
وَإِنْ كَانَ مَخْلُوطًا بِسُمِّ الْأَسَاوِدِ٩
فقلت: لئن قلت ذلك، لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة١٠ وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما وأنت جنين، وغذاءهما منه. وقال آخر: احفظ بلدًا رشَّحك غذاؤه، وَارْعَ حمًى أكنَّك فناؤه. وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد رضعت ماءه، وطعمت غذاءه، وكان يقال: أرض الرجل ظئره،١١ وداره مهده، والغريب النائي عن بلده المتنحي عن أهله كالثور النادِّ١٢ عن وطنه، الذي هو لكل رام قنيصة. وقال آخر: الكريم يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه. وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه ومحل رضاعه، كالعير١٣ الناشط١٤ عن بلده الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رام دريئة.١٥ وقال آخر: تربة الصِّبا تَغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة وحفاوة.١٦ وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أَمَصَّكَ حلبَ رَضاعه. وقال آخر: إذا كان الطائر يَحِن إلى أوكاره فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه. وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرِّشدة،١٧ وطهارة الرشدة من كرم الْمَحْتِدِ.١٨ وقال آخر: ميلك إلى مولدك من كرم مَحْتِدِكَ. وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك، وأنشد:
لَقُرْبُ الدَّارِ فِي الْإِقْتَارِ خَيْرٌ
مِنَ الْعَيْشِ الْمُوَسَّعِ فِي اغْتِرَابِ١٩
وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، وفقد شِربه، فهو ذاوٍ٢٠ لا يثمر، وذابلٌ لا ينضر. وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن؛ ولذلك قال بقراط: يُداوَى كلُّ عليل بعقاقير أرضه؛ فإن الطبيعة تتطلع لهوائها، وتنزع إلى غذائها. وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها. وقال جالينوس: يَتروَّح العليل بنسيم أرضه كما تتروَّح الأرض الجدبة ببلل القطر.
والقول في حب الناس والوطن، وافتخارهم بالمحالِّ قد سبق، فوجدنا الناس بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم؛ ولذلك قال ابن عباس: لو قَنَع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزقَ. وترى الأعرابَ تحنُّ إلى البلد الجدب والمحل القفر والحجر الصلد، وتستوخم٢١ الريف، حتى قال بعضهم:
أَتُجْلِينَ فِي الْجَالِينَ أَمْ تَتَصَبَّرِي
عَلَى ضِيقِ عَيْشٍ وَالْكَرِيمُ صَبُورُ؟٢٢
فَبِالْمِصْرِ بُرْغُوثٌ وَحُمَّى وَحَصْبَةٌ
وَمُومٌ وَطَاعُونٌ وَكُلُّ شُرُورٍ٢٣
وَبِالْبِيدِ جُوعٌ لَا يَزَالُ كَأَنَّهُ
رُكَامٌ بِأَطْرَافِ الْإِكَامِ تَمُورُ٢٤

وترى الحضري يُولد بأرض وباء ومَوَتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلادٍ أَرْيَفَ مِن بلاده وجنابٍ أَخصَبَ مِن جَنَابِه، واستفاد غنًى؛ حنَّ إلى وطنه ومستقره. ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصه، ولكن توخَّينا تدوينَ أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعارهم، وبالله التوفيق.

ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان قولُ الله عز وجل، حين ذكر الديار يخبر عن مواقعها من قلوب عباده، فقال: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فسوَّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم، وقال تعالى: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا. وقال الأول: عمَّر الله البلدان بحب الأوطان، وكان يقال: لولا حبُّ الناسِ الأوطانَ لخربت البلدان. وقال عبد الحميد الكاتب وَذَكَر الدنيا: نَفَتْنَا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان. وقالت الحكماء: أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أبغضهم للكُتَّاب، وأكرم الصفايا أشدُّها ولهًا إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنينًا إلى أوطانها، وأكرم المهارى أشدُّها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس. وقال آخر: من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته لأهل زمانه. واعتلَّ أعرابيٌّ في أرض غربة فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: حِسل٢٥ فَلاةٍ وحَسْو٢٦ قلات،٢٧ وسُئل آخر فقال: مخضًا٢٨ رويًّا، وضبًّا مشويًّا. وسُئل آخر فقال: ضبًّا عنينًا أعور. وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك. وقيل: الغربة كربة والقلة ذلة، وقال:
لَا تَرْغَبُوا إِخْوَتِي فِي غُرْبَةٍ أَبَدًا
إِنَّ الْغَرِيبَ ذَلِيلٌ حَيْثُمَا كَانَا
وقال آخر: لا تنهض عن وكرك فَتُنَغِّصَك الغربة وتَضيمَك الوحدة. وقال آخر: لا تجفُ أرضًا بها قوابلك،٢٩ ولا تَشْكُ بلدًا فيه قبائلك. وقال أصحاب القيافة٣٠ في الاسترواح: إذا أحسَّت النفس بمولدها تفتحت مسامُّها فعرفت النسيم، وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه كما يحنُّ النجيب٣١ إلى عطنه، وقال: كما أن لحاضنتك حقَّ لبنها، كذلك لأرضك حقُّ وطنها. وذكر أعرابي بلده فقال: رملة كنت جنينَ ركامها، ورضيعَ غمامها، فحضنتني أحشاؤها وأرضعتني أحساؤها،٣٢ وشبَّهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم٣٣ الذي ثَكِل٣٤ أبويه، فلا أم تَرْأَمه٣٥ ولا أب يحدب٣٦ عليه. وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك فلا تنسَ نصيبَك من الذُّل، وقال الشاعر:
لَعَمْرِي لَرَهْطُ الْمَرْءِ خَيْرُ بَقِيَّةٍ
عَلَيْهِ وَإِنْ عَالَوْا بِهِ كُلَّ مَرْكَبِ
إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ عِدًا لَسْتَ مِنْهُمُ
فَكُلْ مَا عُلِفْتَ مِنْ خَبِيثٍ وَطَيِّبِ٣٧

وفي المثل: «أوضح من مرآة الغريبة»؛ وذلك أن المرأة إذا كانت هديًّا في غير أهلها تَتَفَقَّدُ من وجهها وهيئتها ما لا تَتَفَقَّدُه وهي في قومها وأقاربها، فتكون مرآتُها مجلوةً تتعهَّد بها أمر نفسها. وقال ذو الرُّمة:

لَهَا أُذْنٌ حَشْرٌ وَذِفْرَى أَسِيلَةٌ
وَخَدٌّ كَمِرْآةِ الْغَرِيبَةِ أَسْجَحُ٣٨
وكانت العرب إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملًا وعَفَرًا٣٩ تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع، وأنشد لبعض بني ضبة:
نَسِيرُ عَلَى عِلْمٍ بِكُنْهِ مَسِيرِنَا
بِعُفَّةِ زَادٍ فِي بُطُونِ الْمَزَاوِدِ٤٠
وَلَا بُدَّ فِي أَسْفَارِنَا مِنْ قَبِيصَةٍ
مِنَ التُّرْبِ نُسْقَاهَا لِحُبِّ الْمَوَالِدِ٤١
وقال آخر: أرض الرجل أوضح نسبه، وأهله أحضر نَشَبِه،٤٢ وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ، وانتعل كل شيء ظله؟٤٣ قال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلًا فيرفضُّ عرقًا، ثم يَنصبُ عصاه، ويُلْقي عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى، وقيل لأعرابي: ما أصبرَكم في البدو! قال: كيف لا يصبر مَن وِطاؤُه الأرض، وغِطاؤُه السماء، وطعامُه الشمس، وشرابُه الريح، والله لقد خرجنا في أثر قوم قد تقدمونا بمراحل ونحن حفاة، والشمس في قُلَّة السماء، حيث انتعل كلُّ شيء ظله، وإنهم لأسوء حالًا منا، إن مهادهم للعفر، وإن وسادهم للحجر، وإن شعارهم للهواء، وإن دثارهم للخواء.٤٤
وحدثني التَّوَّزِيُّ عن رجل من عُرَيْنةَ قال: حدثني رجل من بني هاشم قال: قلت لأعرابي من بني أسد: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية. قلت: وأين تسكن منها؟ قال: مساقط الحمى؛ حمى ضَرِيَّة٤٥ بأرض لَعَمْرُ الله ما نريد بها بدلًا، ولا نبغي عنها حِولًا، قد نفحتها الغدوات وحفَّتها الفلوات، فلا يَمْلَوْلِحُ ماؤها، ولا يَحمى ترابها، ولا يَمْعَر جنابها،٤٦ ليس فيها أذًى ولا قذًى، ولا أنين ولا حمَّى، فنحن بأرفه عيش وأرفع نعمة. قلت: فما طعامكم فيها؟ قال: بخ بخ! عيشنا والله عيش يعلل جاذبه، وطعامنا أطيب طعام وأهنؤه؛ الهبيد٤٧ والضِّباب٤٨ واليرابيع٤٩ والقنافذ والحيَّات، وربما والله أكلنا القَد٥٠ واشتوينا الجلد، فلا نعلم أحدًا أخصب منا عيشًا. فالحمد لله على ما بسط من السعة ورزق من الدَّعَة، أو ما سمعت قول قائلنا، وكان والله عالمًا بلذيذ العيش:
إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً
وَخَمْسَ تُمَيْرَاتٍ صِغَارٍ كَوَانِزِ٥١
فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خِصْبًا وَنِعْمَةً
وَنَحْنُ أُسُودُ الغَابِ عِنْدَ الْهَزَاهِزِ٥٢
وَكَمْ مُتَمَنٍّ عَيْشَنَا لَا يَنَالُهُ
وَلَوْ نَالَهُ أَضْحَى بِهِ حَقَّ فَائِزِ
ولهذا خبر طويل وصف فيه نوقًا أضلها، واقتصرنا منه على ما وصف من قناعته بوطنه، قال الهاشمي: فلما فرغ من نعت نوقه قلت له: هل لك في الغداء؟ قال: إني والله غاوٍ إغباب،٥٣ لاصق القلب بالحجاب، ما لي عهد بِمضاغ إلا شلو٥٤ يربوع، وجد مَعْمَعةً، فانسلت مني، فأخذت بنافقائه وقاصعائه ودامَّائه وراهطائه،٥٥ ثم تنفَّضْتُه فأخرجته، ولا والله ما فرحت بشيء فرحي به، فتلقاني رويع ببطن الخرجاء،٥٦ يوقد نُويْرة تخبو طورًا وتشُبُّ أخرى، فَدَسَسْتُه في إِرَته،٥٧ فخمدت نويرته، ولا والله ما بلغ نضجه حتى اختلس الرُّويْعي منه، فغلبني على رأسه وحوشه وصدره وبدنه، وبقي بيدي رجلاه ووركاه وفقرتا صلبه، فكان ذلك مما أنعم الله به علي، فاغتبقتها على نَكَظ منكِظ وبوض بايظ عن عراكه إياي،٥٨ غير أن الله أعانني عليه، فذلك والله عهدي بالطعام، وإني لذو حاجة إلى غذاء أنوِّه به فؤادي وأشد به آدي،٥٩ فقد والله بلغ مني المجهود، وأدرك مني المجلود.٦٠ يصف هذا البؤس والجهد، ويتحمل هذه الفاقة ويصبر على الفقر، قناعة بوطنه، وحبًّا لعطنه، واعتدادًا بما وصف من رفاغة عيشه.٦١
وحدثنا سليمان بن معبد أن الوليد بن عبد الملك أراد أن يرسل خيله، فجاء أعرابي له بفرس أنثى، فسأله أن يدخلها مع خيله، فقال الوليد لقهرمانه٦٢ أسيلم بن الأحنف: كيف تراها يا أسليم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، حجازيةٌ، لو ضمها مضمارك ذهبت. قال الأعرابي: أنت والله منقوص الاسم،٦٣ أعوج اسم الأب. فأمر الوليد بإدخال فرسه، فلما أُجرِيَت الخيل سبق الأعرابي على فرسه، فقال الوليد: أواهبها لي أنت يا أعرابي؟ فقال: لا والله، إنها لقديمة الصحبة، ولها حق، ولكن أحملك على مُهر لها سبق عامًا أول وهو رابض، فضحك الوليد، وقال: أعرابي مجنون! فقال: وما يضحككم؟ سبقت أُمُّه عامًا أول وهو في بطنها، فاستظرفه واحتسبه عنده، فمرِض، فبعث إليه بالأطباء، فأنشأ يقول:
جَاءَ الْأَطِبَّاءُ مِنْ حِمْصٍ تَخَالُهُمُ
مِنْ جَهْلِهِمْ أَنْ أُدَاوَى كَالْمَجَانِينِ
قَالَ الْأَطِبَّاءُ مَا يَشْفِيكَ؟ قُلْتُ لَهُمْ:
دُخَانُ رَمْثٍ مِنَ التَّسْرِيرِ يَشْفِينِي٦٤
إِنِّي أَحِنُّ إِلَى أَدْخَانِ مُحْتَطَبٍ
مِنَ الْجُنَيْنَةِ جَزْلٍ غَيْرِ مَوْزُونِ٦٥
فأمر الوليد أن يُحمل إليه سليخة٦٦ من رمث فوافوه وقد مات، فهو عند الخليفة وببلد ليس في الأقاليم أريف منه ولا أخصب جنابًا، فحن إلى سليخة رمث حبًّا للوطن.
وحكى أبو عبد الله الجعفري عن عبد الله بن إسحق الجعفري قال: أمرت بِصِهْرِيجٍ٦٧ لي في بستان عليه نخل مُطلٌّ أن يملأ، فذهبت بأم حسانة المرية وابنتها وهي زوجتي، فلما نظرت أم حسانة إلى الصهريج قعدت عليه، وأرسلت رجليها في الماء، فقلت لها: ألا تطوفين معنا على هذا النخل لنجني ما طاب من ثمره؟ فقالت: ها هنا أعجب إليَّ، فَدُرْنا ساعةً وتركناها، ثم انصرفنا وهي تخضخض رجليها في الماء وتحرك شفتيها، فقلت: يا أم حسانة، لا أحسبك إلا وقد قلت شعرًا، قالت: أجل، ثم أنشدتني:
أَقُولُ لِأَدْنَي صَاحِبَيَّ أَسُرُّهُ
وَلِلْعَيْنِ دَمْعٌ يَحْدُرُ الْكُحْلَ سَاكِبُهْ:
لَعَمْرِي لَنَهْيٌ بِاللَّوَى نَازِحُ الْقَذَى
نَقِيُّ النَّوَاحِي غَيْرُ طَرْقٍ مَشَارِبُهْ٦٨
بِأَجْرَعَ مِجْرَاعٍ كَأَنَّ رَجَاجَهُ
سَحَابٌ مِنَ الْكَافُورِ وَالْمِسْكُ شَائِبُهْ٦٩
أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ صَهَارِيجَ مُلِّئَتْ
لِلُعْبٍ فَلَمْ تَمْلُحْ لَدَيَّ مَلَاعِبُهْ
فَيَا حَبَّذَا نَجْدٌ وَطِيبُ تُرَابِهِ
إِذَا هَضَبَتْهُ بِالْعَشِيِّ هَوَاضِبُهْ٧٠
وَرِيحُ صَبَا نَجْدٍ إِذَا مَا تَنَسَّمَتْ
ضُحًى أَوْ سَرَتْ جُنْحَ الظَّلامِ جَنَائِبُهْ٧١

وأنشد أبو النصر الأسدي:

أُحِبُّ الْأَرْضَ تَسْكُنُهَا سُلَيْمَى
وَإِنْ كَانَتْ بِوَادِيهَا الْجُدُوبُ
وَمَا عَهْدِي بِحُبِّ تُرَابِ أَرْضٍ
وَلَكِنْ مَنْ يَحُلُّ بِهَا حَبِيبُ

وأنشدني حماد بن إسحق الموصلي:

أَحَبُّ بِلادِ اللهِ مَا بَيْنَ صَارَةٍ
إِلَى غَطْفَانَ أَنْ يَصُوبُ سَحَابُهَا٧٢
بِلَادٌ بِهَا نِيطَتْ عَلَيَّ تَمَائِمِي
وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِسْمِي تُرَابُهَا٧٣

قال: ولما حُملت نائلة بنت القرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفان — رضي الله عنه — كَرِهَت فراق أهلها، فقالت لضبٍّ أخيها:

أَلَسْتَ تَرَى يَا ضَبُّ بِاللهِ أَنَّنِي
مُرَافِقَةٌ نَحْوَ المَدِينَةِ أَرْكُبَا
أَمَا كَانَ فِي أَوْلَادِ عَوْفِ بنِ عَامِرٍ
لَكَ الْوَيْلُ مَا يُغْنِي الخِبَاءُ المُطَنَّبَا؟!
أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ أَكُونَ غَرِيبَةً
بِيَثْرِبَ لَا أُمًّا لَدَيَّ وَلَا أَبَا

قال: وزُوِّجَت من أَبَان في كلبٍ امرأةٌ، فنظرت ذات يوم إلى ناقة قد حنَّت فذكرت بلادها، وأنشأت تقول:

أَلَا أَيُّهَا الْبَكْرُ الْأُبَانِيُّ إِنَّنِي
وَإِيَّاكَ فِي كَلْبٍ لَمُغْتَرِبَانِ٧٤
تَحِنُّ، وَأَبْكِي ذَا الهَوَى لِصَبَابَةٍ
وَإِنَّا عَلَى الْبَلْوَى لَمُصْطَحِبَانِ
وَإِنَّ زَمَانًا أَيُّهَا الْبَكْرُ ضَمَّنِي
وَإِيَّاكَ فِي كَلْبٍ لَشَرُّ زَمَانِ

وقال آخر:

أَلَا يَا حَبَّذَا وَطَنِي وَأَهْلِي
وَصَحْبِي حِينَ يُدَّكَرُ الصِّحَابُ
وَمَا عَسَلٌ بِبَارِدِ مَاءِ مُزْنٍ
عَلَى ظَمَأٍ لِشَارِبِهِ يُشَابُ
بِأَشْهَى مِنْ لِقَائِكُمُ إِلَيْنَا
فَكَيْفَ لَنَا بِهِ وَمَتَى الْإِيَابُ

وأنشد الغنوي لبعض الهذليين:

وَأَرَى الْبِلَادَ إِذَا سَكَنْتُ بِغَيْرِهَا
جَدْبًا وَإِنْ كَانَتْ تُظِلُّ وَتُحْبَبُ
وَأَرَى الْعَدُوَّ يُحِبُّكُم فَأُحِبُّهُ
إِنْ كَانَ يُنْسَبُ مِنْكُمُ أَوْ تُنْسَبُ
وَأَرَى السَّمِيَّةَ بِاسْمِكُمْ فَنَرُدُّهَا
حُبًّا إِلَى … … …٧٥

قال: ومن هذا أخذ الطائي قوله:

كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى
وَحَنِينُهُ أبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ

وأنشد أبو عمرو البجلي:

تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ
فَمَا بَعْدَ الْعَشِيَّةِ مِنْ عَرَارِ٧٦
أَلَا يَا حَبَّذَا نَفَحَاتُ نَجْدٍ
وَرِيًّا رَوْضِهِ غِبَّ الْقِطَارِ٧٧
وَعَيْشُكَ إِذْ يَحُلُّ الْقَوْمُ نَجْدًا
وَأَنْتَ عَلَى زَمَانِكَ غَيْرُ زَارِي٧٨
شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعُرْنَا
بِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سَرَارِ٧٩
فَأَمَّا لَيْلُهُنَّ فَخَيْرُ لَيْلٍ
وَأَقْصَرُ مَا يَكُونُ مِنَ النَّهَارِ٨٠

وقال آخر:

أَلَا هَلْ إِلَى شَمِّ الْخُزَامَى وَنَظْرَةٍ
إِلَى قَرْقَرَى قَبْلَ المَمَاتِ سَبِيلُ٨١
فَأَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْحُجَيْلَاءِ شَرْبَةً
يُداوَى بِهَا قَبْلَ الْمَمَاتِ عَلِيلُ٨٢
فَيَا أَثَلَاتِ الْقَاعِ قَلْبِي مُوَكَّلٌ
بِكُنَّ وَجَدْوَى خَيْرِكُنَّ قَلِيلُ٨٣
وَيَا أَثَلَاثِ القَاعِ قَدْ مَلَّ صُحْبَتِي
مَسِيرِي فَهَلْ فِي ظِلِّكُنَّ مَقَيلُ؟٨٤
أُرِيدُ انْحِدَارًا نَحْوَهَا فَيَرُدُّنِي
وَيَمْنَعُنِي دَينٌ عَلَيَّ ثَقِيلُ
أُحَدِّثُ نَفْسِي عَنْكِ أَنْ لَسْتُ رَاجِعًا
إِلَيْكِ فَحُزْنِي فِي الفُؤَادِ دَخِيلُ٨٥

وأنشد للمجنون:

إِلَى عَامِرٍ أَصْبُو، وَمَا أَرْضُ عَامِرٍ؟
هِيَ الرَّمْلَةُ الوَعْسَاءُ وَالبَلَدُ الرَّحْبُ٨٦
مَعَاشِرُ بِيضٌ لَوْ وَرَدْتَ بِلَادَهُمْ
وَرَدْتَ بُحُورًا مَاؤُهَا لِلنِّدَا عَذْبُ
إِذَا مَا بَدَتْ لِلنَّاظِرِينَ خِيَامُهُم
فَثَمَّ الْعِتَاقُ الْقُبُّ والْأَسَلُ الْقُضْبُ٨٧

وأنشدنا المازنيُّ:

اقْرَأْ عَلَى الْوَشْلِ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ:
كُلُّ الْمَوَارِدِ مُذْ هُجِرْتَ ذَمِيمُ٨٨
جَبَلٌ يَنِيفُ عَلَى الْجِبَالِ إِذَا بَدَا
بَيْنَ الْغَدَائِرِ وَالرِّمَالِ مُقِيمُ
تَسْرِي الصِّبَا فَتَبِيتُ فِي أَلْوَاذِهِ
وَيَبِيتُ فِيهِ مِنَ الْجَنُوبِ نَسِيمُ٨٩
سَقْيًا لِظِلِّكَ بِالعَشِيِّ وَبِالضُّحَى
وَلِبَرْدِ مَائِكَ وَالْمِيَاهُ حَمِيمُ
لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ مَنْعَ مَائِكِ لَمْ يَذُقْ
مَا فِي قِلَاتِكِ مَا حَيِيتُ لَئِيمُ٩٠

وقالت امرأة من عقيل:

خَلِيلَيَّ مِنْ سُكَّانِ مَاوَانَ هَاجَنِي
هُبُوبُ جَنُوبٍ مَرُّهَا وَنِسَامُهَا٩١
فَلَا تَسْأَلَانِي مَا وَرَائِي فَإِنَّنِي
بِمَنْزِلَةٍ أَعْيَا الطَّبِيبَ سِقَامُهَا

وقال آخر:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي وَالحَوَادِثُ جَمَّةٌ
مَتَى تَجْمَعُ الْأَيَّامُ يَومًا لَنَا الشَّمْلَا
وَكُلُّ غَرِيبٍ سَوْفَ يُمسِي بِذِلَّةٍ
إِذَا بَانَ عَنْ أَوْطَانِهِ وَجَفَا الْأَهْلَا

وقال آخر:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي يَجْمَعُ الدَّهْرُ بَيْنَنَا
بِصَحْرَاءَ مِنْ نَجْرَانَ ذَاتِ ثَرًى جَعْدِ!٩٢
وَهَلْ يَنْفُضَنَّ الرِّيحُ أَفْنَانَ لِمَّتِي
عَلَى لَاحِقِ الرَّجُلَيْنِ مُضْطَمِرٍ وَرْدِ٩٣
وَهَلْ أَرِدَنَّ الدَّهْرَ حِسْيَيْ مُزَاحِمٍ
وَقَدْ ضَرَبَتْهُ نَفْحَةٌ مِنْ صِبَا نَجْدِ٩٤

وقال آخر:

وَأَنْزَلَنِي طُولُ النَّوَى دَارَ غُرْبَةٍ
إِذَا شِئْتُ لَاقَيْتُ امْرأً لَا أُشَاكِلُهْ
فَحَامَقْتُهُ حَتَّى يُقَالَ سَجِيَّةٌ
وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَكُنْتُ أُعَاقِلُهْ
وَلَوْ كُنْتُ فِي قَوْمِي وَجُلِّ عَشِيرَتِي
لَأَلْفَيْتُ فِيهِمْ كُلَّ خِرْقٍ أُوَاصِلُهْ٩٥

وأنشد لذي الرمة:

إِذَا هَبَّتِ الْأَرْوَاحُ مِنْ نَحْوِ جَانِبٍ
بِهِ أَهْلُ مَيٍّ هَاجَ قَلْبِي هُبُوبُهَا٩٦
هَوًى تَذْرِفُ الْعَيْنَانِ مِنْهُ وَإِنَّمَا
هَوَى كُلِّ نَفْسٍ حَيْثُ حَلَّ حَبِيبُهَا٩٧
وقال أبو عثمان: رأيت عبدًا أسودَ حبشيًّا لبني أسد، قدم من شقِّ اليمامة، فصار ناطورًا، وكان وحشيًّا مجنونًا لطول الغربة مع الإبل، وكان لا يلقى إلا أكرة،٩٨ فلا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إليَّ، وسمعته يقول: لعن الله أرضًا ليس بها عرف،٩٩ قاتل الله الشاعر حيث يقول:
حُرُّ الثَّرَى مُسْتَعْرِبُ التُّرَابِ١٠٠
أبا عثمان! إن هذه العُرَيب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس،١٠١ فلولا أن الله رق عليهم١٠٢ فجعلهم في حشاه لطمست هذه العجم آثارهم، أترى الأعيار إذا رأت العتاق١٠٣ لا ترى لها فضلًا، والله ما أمر الله نبيه بقتلهم إذ لا يدينون بدين إلا لضنه بهم،١٠٤ ولا ترك قبول الجزية منهم إلا تنزيهًا لهم.

وقيل لأعرابي: ما السرور؟ فقال: أوبة بغير خيبة، وألفة بعد غَيبة.

وقيل لآخر: ما السرور؟ قال: غَيبة تفيد غِنًى، وأوبة تُعْقب مُنًى، وأنشأ يقول:

وَكُنْتُ فِيهِمْ كَمَمْطُورٍ بِبَلْدَتِهِ
يُسَرُّ أَنْ جَمَعَ الْأَوْطَانَ وَالْمَطَرَا

وأحسن ما سمعنا في حب الوطن وفرحة الأوبة قوله:

وَبَاشَرْتُهَا فَاسْتَعْجَلَتْ عَنْ قِنَاعِهَا
وَقَدْ يَسْتَخِفُّ (الطَّامِعِينَ) المُبَاشِرُ
مُشَمِّرَةٍ عَنْ سَاقِ حَوْلَاءَ جَسْرَةٍ
تُجَارِي بَنِيهَا مَرَّةً وَتُحَاضِرُ
وَخَبَّرَهَا الوَرَّادُ أَنْ لَيْسَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ قُرَى نَجْرَانَ وَالدَّرْبِ صَافِرُ١٠٥
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهَا النَّوَى
كَمْ قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ١٠٦

وقيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان. قيل له: فما الذلة؟ قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان.

وقال آخر:

طَلَبُ المَعَاشِ مُفَرِّقٌ
بَيْنَ الْأَحِبَّةِ وَالْوَطَنْ
وَمُصَيِّرٌ جَلْدَ الرِّجَا
لِ إِلَى الضَّرَاعَةِ وَالْوَهَنْ
حَتَّى يُقَادَ كَمَا يُقَا
دُ النِّضْوُ فِي ثِنْيِ الرَّسَنْ
ثُمَّ الْمَنِيَّةُ بَعْدَهُ
فَكَأَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ
ووجدنا من العرب من كان أشرف في نفسه وأفخر في حسبه، ومن العجم من كان أطيب عنصرًا وأنفس جوهرًا، أشد حنينًا إلى وطنه ونزاعًا إلى تربته، وكانت الملوك على قديم الدهر لا تؤثر على أوطانها شيئًا، وحكى المُوبَذ١٠٧ أنه قرأ في سيرة إسفنديار بن بشتاسف بن لهراسف بالفارسية، أنه لما غزا بلاد الخزر ليستنقذ أُختَه من الأسر اعتلَّ بها، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: شمة من تربة بلخ، وشربة من ماء واديها. واعتل سابور ذو الأكتاف١٠٨ بالروم، وكان مأسورًا في القِدِّ،١٠٩ فقالت له بنت ملك الروم وقد عشقته: ما تشتهي مما كان فيه غذاؤك؟ قال: شربةً من ماء دجلة وشمةً من تربة إصطخر. فغبرت عنه أيامًا، ثم أتته يومًا بماء الفرات وقبضة من تراب شاطئه، وقالت: هذا من ماء دجلة، وهذه من تربة أرضك، فشرب واشتم من تلك التربة، فأفاق من مرضه. وكان الإسكندر الرومي١١٠ جال البلدان وأخرب إقليم بابل، وكنز الكنوز وأباد الخلق، فمرض بحضرة١١١ بابل، فلما أشفى١١٢ أوصى إلى حكمائه ووزرائه أن تحمل رمته١١٣ في تابوت من ذهب إلى بلده حبًّا للوطن.
ولما افتتح وهرز بن شيرزاد اليمن، وقتل ملك الحبشة المتغلب على اليمن، أقام بها عاملًا لأنوشروان،١١٤ فبنى نجران اليمن وهي من أحسن مدن الثغور، فلما أدركته الوفاة أوصى ابنه شيرزاد أن يحمل إلى إصطخر ناووس١١٥ أبيه، ففعل به ذلك.

فهؤلاء الملوك والجبابرة الذين لم يفتقدوا في اغترابهم نعمة، ولا غادروا في أسفارهم شهوة حنُّوا إلى أوطانهم، ولم يؤثروا على ترابهم ومساقط رءوسهم شيئًا من الأقاليم المستفادة بالتغازي، والمدن المغتصبة من ملوك الأمم.

وهؤلاء الأعراب مع فاقتهم وشدة فقرهم، يحنون إلى أوطانهم، ويقنعون بتربهم ومحالِّهم.

ورأيت المتأدب من البرامكة المتفلسف منهم إذا سافر سفرًا أخذ معه من تربة مولده في جراب يتداوى به.

ومن أصدق الشواهد في حب الوطن أن يوسف — عليه السلام — لما أدركته الوفاة، أوصى أن تُحمل رمته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحق وإبراهيم — عليهم السلام — ورُوِي لنا أن أهل مصر منعوا أولياء يوسف من حمله، فلما بعث الله موسى — عليه السلام — وأهلك على يديه فرعون وغيره من الأمم أمره أن يحمل رمته إلى تربة يعقوب بالشام، وقبره معلوم بأرض بيت المقدس بقرية تسمى حسامى،١١٦ وكذلك يعقوب مات بمصر، فحُملت رمته إلى إيلياء؛ قرية ببيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم — عليهما السلام.
ومن حب الناس للوطن وقناعتهم بالعطن، أن إبراهيم لما أتى بهاجرَ أمِّ إسماعيل مكةَ فأسكنها، وليس بمكة أنيس ولا ماء ظمئ إسماعيل، فدعا إبراهيم ربه فقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، فأجاب الله دعاءه إذ رضي به وطنًا، وبعث جبرائيل — عليه السلام — فركض١١٧ موضع زمزم برجله، فنبع منه زمزم.

ومر بإسماعيل وأمه فرقة من جُرْهُم، فقالوا: أتأذنون لنا أن ننزل معكم؟ فقالت هاجر: نعم، ولا حق لكم في الماء. فصار إسماعيل وولده قُطَّان مكة لدعوة إبراهيم — عليه السلام. نعم، وهي مع جدوبتها خير بقاع الأرض؛ إذ صارت حرمًا، ولإسماعيل وولده مسكنًا، وللأنبياء منسكًا ومجمعًا على غابر الدهر.

وممن تمسك من بني إسرائيل — عليه السلام — بحب الوطن خاصة ولد هارون وآل داود — عليهما السلام — لم يمت منهم ميت في إقليم بابل في أي البلدان مات إلا نبشوا قبره بعد حَوْل، وحملت رمته إلى موضع يدعى الخصاصة بالشام،١١٨ فيودع هناك حولًا، فإذا حال الحول نقلت إلى بيت المقدس، وقال الفرزدق:
لَكِسْرَى كَانَ أَعْقَلَ مِنْ تَمِيمٍ
لَيَالِي فَرَّ مِنْ بَلَدِ الضِّبَابِ
فَأَسْكَنَ أَهْلَهُ بِبِلَادِ رِيفٍ
وَجَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ عِذَابِ١١٩
فَصَارَ بَنُوا بَنِيهِ بِهَا مُلُوكًا
وَصِرْنَا نَحْنُ أَمْثَالَ الْكِلَابِ
فَلَا رَحِمَ الْإِلَهُ صَدَى تَمِيمٍ
فَقَدْ أَزْرَى بِنَا فِي كُلِّ بَابِ١٢٠

وقال آخر في حب الوطن:

سَقَى اللهُ أَرْضَ الْعَاشِقِينَ بِغَيْثِهِ
وَرَدَّ إِلَى الْأَوْطَانِ كُلَّ غَرِيبِ
وَأَعْطَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ فَوْقَ مُنَاهُمُ
وَمتَّعَ مَحْبُوبًا بِقُرْبِ حَبِيبِ١٢١
١  يحدو: حداه على الأمر: بعثه عليه.
٢  النزاع إلى الشيء: الاشتياق إليه.
٣  الأنجاد: جمع نجد؛ وهو الشجاع السريع إلى الإجابة فيما دُعي إليه.
٤  الأعطان: مبارك الإبل عند الماء، واحدها عطن.
٥  الهماهم: الهموم.
٦  التمائم: جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام. ذكره في «النهاية» لابن الأثير.
٧  ذرا الشيء بالضم: أعاليه، الواحدة ذروة بكسر الذال وضمها. وقال في «معجم البلدان»: قال ابن الإعرابي: الأبرق جبل مخلوط برمل وهي البرقة، وكل شيء خُلط من لونين فقد برق. والمتقاود: المستوي، قال في «أساس البلاغة»: تقاود المكان: استوى، قال:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى مَنْ مَكَانُهُ
ذُرَا عُقُدَاتِ الْأَبْرَقِ الْمُتَقَاوِدِ
٨  السرى: سير عامة الليل، وفي المثل: «عند الصباح يَحْمَد القوم السرى.» ويقال: جمل واخد ووخاد إذا كان واسع الخطو، وقد وخد يخد وخدًا ووخدانًا.
٩  الأساود: جمع أسود؛ وهو العظيم من الحيات.
١٠  تاق إليه توقانًا: اشتاق إليه، فهو تائق وتواق.
١١  الظئر: المرأة التي تحضن ولد غيرها.
١٢  ندَّ البعير ندًّا (بتشديد الدال): نَفَرَ وذهب على وجهه شاردًا.
١٣  العير: الحمار الوحشي، والأهلي أيضًا.
١٤  قال في «أساس البلاغة»: ثور ناشط: خارج من أرض إلى أرض.
١٥  الدريئة: حلقة يُتعلَّم عليها الطعن.
١٦  الحفاوة: المبالغة في الإكرام.
١٧  الرشدة: صحة النسب، وهي بكسر الراء، والفتح لغة.
١٨  المحتد: الأصل، يقال: هو كريم المحتد وهم كرام المحاتد.
١٩  الإقتار: مصدر أقتر الرجل إذا افتقر.
٢٠  ذاوٍ: ذابل.
٢١  استوخم البلد، وهو وخِم ووخْم بالكسر والسكون أيضًا: إذا كان غير موافق للسكن.
٢٢  الجلاء: الخروج من البلد. يقال: جلوا عن أوطانهم؛ إذا خرجوا منها.
٢٣  الموم: هو البرسام مع الحمى.
٢٤  الركام: السحاب المتراكب بعضه فوق بعض. والأكمة: تل، وقيل: شرفة كالرابية، وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد وربما غلظ، والجمع أَكَم، وجمع الأكم إكام، مثل جبل وجبال. ومار الشيء: تحرك بسرعة.
٢٥  الحِسْل: ولد الضب حين يخرج من بيضه.
٢٦  حسا زيد المرق يحسوه حسوًا: شربه شيئًا بعد شيء، وحسا الطائر الماء: تناوله بمنقاره.
٢٧  القلات: جمع قَلت بالفتح، وهي النقرة في الجبل يستنقع فيها الماء.
٢٨  المخض والمخيض: ما مُخض من اللبن وأُخذ زبده.
٢٩  القوابل: جمع قابلة؛ وهي المرأة التي تأخذ الولد عند الولادة.
٣٠  القائف: الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شَبَهَ الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة، ويسمى فعله بالقيافة.
٣١  النجيب من الإبل: القوي الخفيف السريع.
٣٢  الأحساء: جمع حسي، وهو سهل من الأرض يُستنقع فيه الماء.
٣٣  اللطيم: الذي يموت أبواه.
٣٤  الثكل: فقدان المرأة ولدها.
٣٥  رئمت الناقة الولد: عطفت عليه.
٣٦  يحدب عليه: يعطف عليه.
٣٧  قال ابن السكيت: قوم عدًّا: غرباء، وأنشد البيت، قال: ولم يأتِ فِعَل في الصفات غير هذا، وهو أيضًا مذهب سيبويه، وهو اسم للجمع. وقال ابن السيد في «الاقتضاب»: هذا البيت لزرافة بن سبيع الأسدي فيما ذكر يعقوب، وذكر الجاحظ أنه لخالد بن فضلة الجحواني من بني أسد. والعِدا: الغرباء، والعِدا أيضًا: الأعداء. والأكل والعلف ها هنا مثلان مضروبان للموافقة وترك المخالفة، وكان هذا الشاعر قد راغم قومه، وعتب عليهم، ثم جاور غيرهم، وندم على مفارقة قومه، ولذلك قال قبل هذا البيت:
لَعَمْرِي لَقَوْمُ المَرْءِ خَيْرُ بَقِيَّةٍ
عَلَيْهِ وَإِنْ عَالَوْا بِهِ كُلَّ مَرْكَبِ
مِنَ الْجَانِبِ الْأَقْصَى وَإِنْ كَانَ ذَا غِنًى
جَزِيلٍ وَلَمْ يُخْبِرْكَ مِثْلُ مُجَرِّبِ
تَبَدَّلْتُ مِنْ دُودَان نَصْرًا وَأَرْضِهَا
فَمَا ظَفِرَتْ كَفِّي وَلَا طَابَ مَشْرَبِي
ثم أفاض في شرح البيت.
٣٨  الحشر: ما لطف من الآذان. والذفرى من الحيوان: العظم الشاخص خلف الأذن. والأسيل من الخدود: الطويل المسترسل. وسجح الخد، كَفَرِح: سهل ولان وطال في اعتدال وقل لحمه، وقال في «أساس البلاغة»: وجه أسجح: مستوٍ، ورجل أسجح الخدين وقد سجح، قال ذو الرُّمَّة … وأنشد البيت.
٣٩  العفر بفتحتين: التراب.
٤٠  المزاود: جمع مزود؛ وهو ما يُجعل فيه الزاد. العفة: هي بقية اللبن في الضرع بعد أن يُحلب أكثر ما فيه، وكذلك العفافة، ثم استعيرت للقليل من الزاد.
٤١  القبيصة: التراب المجموع، وما تناولته بأطراف أصابعك، قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: كانت الأعراب إذا سافرت حملت معها من تربة أرضها ما تستنشق ريحه وتطرحه في الماء إذا شربته، وكذلك كانت فلاسفة اليونان تفعل، وأنشد البيتين المذكورين.
٤٢  النَّشَب بفتحتين: المال والعقار.
٤٣  يقولون: جاء فلان حين انتعل كل شيء ظله، أي حين دخل وقت الزوال.
٤٤  الشعار: الثوب الذي يلي الجسد؛ لأنه يلي شعره، والدثار: الثوب الذي فوق الشعار. والخواء بالمد: الهواء بين الشيئين، والخوى بالقصر: خلو الجوف من الطعام ويمد.
٤٥  ضرية: بئر بأرض نجد، وقد ألمَّ في «معجم البلدان» بهذه القصة.
٤٦  معرت الأرض معرًا: قلَّ نباتها، والجناب: ما قرب من مَحلَّة القوم.
٤٧  الهبيد: الحنظل أو حَبُّه، وهبده: كسره وطبخه.
٤٨  الضِّباب: جمع ضب، وهو حيوان معروف.
٤٩  اليرابيع: جمع يربوع، وهو حيوان يسكن بطن الأرض، ويتخذ فيها كوًى، فإذا طُلب من أحدها خرج من غيره.
٥٠  القد بوزن فلس: جلد السلخة، وكانوا يأكلونه في الجدب.
٥١  المذيقة: تصغير مذقة، وهي الطائفة من المذيق؛ وهو اللبن الممزوج بالماء. والكوانز: المكتنزة؛ وهي المتجمعة الصلبة.
٥٢  الهزاهز: الشدائد، ولم يُسمع لها بواحد، وهنا فائدة مهمة، وهي أن ما بعد إذا تكون زائدة، فإذا قيل: إذا ما غضبت فلا تخرج عن الحد، أي إذا غضبت، فمعنى قوله: إذا ما أصبنا، أي إذا أصبنا، وقد استعمل الناس في الأعصر المتأخرة ما بعد إذا للنفي، فصاروا إذا رأوها في كلام العرب يظنونها للنفي، وهو خطأ، فإذا أريد النفي بعد إذا وجب أن يُؤتى بلم، تقول: إذا لم يجئ زيد فأرسل له خبرًا، ولا تقول: إذا ما جاء زيد، فينبغي الانتباه لذلك.
٥٣  كذا في الأصل.
٥٤  الشلو: العضو من أعضاء اللحم.
٥٥  قد فسر المصنف هذه الأربعة في كتاب «الحيوان» فقال: هي أبواب قد اتخذها اليربوع لحفيرته، فمتى أحسَّ بشيء، خالف تلك الجهة إلى الباب.
٥٦  الخرجاء: ماءة احتفرها جعفر بن سليمان قريبًا من الشجى بين البصرة وحفر أبي موسى في طريق الحاج من البصرة.
٥٧  الإرة: موضع النار.
٥٨  كذا في الأصل.
٥٩  الآد: الصلب والقوة.
٦٠  المجلود: القوة والصبر.
٦١  رفاغة العيش: اتساعه.
٦٢  القهرمان: أمين الدخل والخرج، وهو معرَّب.
٦٣  يريد أن اسمه مصغر، والتصغير في الغالب يدل على النقص، وهنا أمر، وهو أن كل اسم في أوله همزه وصل، إذا دخلت عليه أل نقلت حركتها إلى اللام ثم حذفت، ثم لحقها في الحذف همزة أل؛ لأن همزة الوصل إذا تحرك ما بعدها سقطت للاستغناء عنها، فتبقى تلك الكلمة مجردة عن تينك الهمزتين نحو الاسم والابن والانقباض والاجتماع ونحو ذلك، وقد وقع هنا وهم لكثير ممن لم يمعن النظر في الصرف، فتراه ينطق بالهمزتين معًا في مثل: الاقتصاد مطلوب، وبالهمزة الثانية في مثل: يطلب الاقتصاد، وهو خطأ بيِّن، وقد وقع هذا النوع في الكتاب العزيز في قوله: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فالاسم هنا كما لا يخفى مجرد عن الهمزتين، وقد وقع مثل ذلك في الشعر، قال كشاجم:
عِشْ سَالِمًا لِاخْتِرَاعِ مَجْدٍ
فَإِنَّهُ نِعْمَ الِاخْتِرَاعُ
فانظر كيف حذف الهمزتين من الاختراع، وقد وقع في هذه القصيدة كثير من هذا النوع، غير أنه خالف في قوله من قصيدة أخرى:
تَأَخَّرْتُ حَتَّى كَدَدْتُ الرَّسُولَ
وَحَتَّى سَئِمْتُ مِنَ الْإِنْتِظَارِ
فكأنه اضطُر إلى ذلك، وقال المتنبي:
يُوَسِّطُهُ الْمَفَاوِزَ كُلَّ يَوْمٍ
طِلَابُ الطَّالِبِينَ لَا الِانْتِظَارُ
فقد حذف الهمزتين في الانتظار وحذف الألف من لا، فينبغي الانتباه لمثل ذلك. وقد وقع في همزة الوصل خطأ من وجه آخر، وهو أن بعضهم يضعون عليها علامة همزة القطع وهو خطأ، ولو وقعت في الابتداء؛ لأنه لا يكفي إذا أريد تحريكها أن يوضع عليها حركتها نحو اغْزِي يا هند وأنا أُغزي القوم. وأما همزة البتة في مثل قولهم: لا أفعله البتة، فهي — بلا ريب — همزة وصل، وقد أغرب بعضهم فقال: إنها همزة قطع على خلاف القياس، قال الحافظ ابن حجر: ولم أرَ ما قاله في كلام أحد من أهل اللغة، وقد ناقشه في ذلك بعض من مَرِن على المناقشة، غير أنه لم يأتِ بشيء يعوَّل عليه أو يُركن إليه.
٦٤  الرمث: مرعًى للإبل من الحمض.
٦٥  كذا في الأصل، وقد ألمَّ في «معجم البلدان» بالقصة والأبيات فارجع إليه في التسرير والجنينة.
٦٦  السليخة من الرمث: ما ليس مرعًى.
٦٧  الصهريج كقِنْدِيل: حوض يجتمع فيه الماء، وهو معرب.
٦٨  النهى بالفتح وهو بالكسر في لغة أهل نجد: الغدير أو شبهه، والجمع أنهٍ وأنهاء ونهي ونهاء. والطرق بالفتح: ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر.
٦٩  كذا في الأصل، ولم يذكر هذا البيت من ذكر الأبيات المذكورة فليبحث عنه. والأجرع والجرعاء: أرض حزنة يعلوها رمل، والجمع الأجارع. والسخاب: قلادة من قرنفل وسك ومحلب ليس فيه جوهر. والشائب: المُخالط.
٧٠  هضبت السماء القوم: أمطرتهم مطرًا شديدًا.
٧١  الجنائب: جمع جنوب؛ وهي ريح تقابل الشمال، وقد زاد في «محاضرات الراغب» بعد هذه الأبيات بيتين، وهما:
فَأُقْسِمُ لَا أَنْسَاهُ مَا دُمْتُ حَيَّةً
وَمَا دَامَ لَيْلٌ عَنْ نَهَارٍ يُعَاقِبُهْ
وَلَا زَالَ هَذَا الْقَلْبُ مَسْقِيَّ لَوْعَةٍ
بِذِكْرَاهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْمَاءَ شَارِبُهْ
٧٢  الصوب: نزول المطر.
٧٣  قال المبرد في «الكامل»: يقال: فلان عُقَّت تميمته ببلد كذا؛ أي قُطعت عنه في ذلك الموضع، قال الشاعر:
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا دَارَ بَلْجَاءَ أَنَّنِي
إِذَا أَخْصَبْتُ أَوْ كَانَ جَدْبًا جَنَابُهَا
أَحَبُّ بِلادِ اللهِ مَا بَيْنَ مَشْرَفٍ
إِلَيَّ وَسَلْمَى أَنْ يَصُوبَ سَحَابُها
بِلادٌ بِهَا عَقَّ الشَّبَابُ تَمِيمَتِي
وَأَوَّلُ أَرْضٍ مَسَّ جِلْدِي تُرَابُهَا
وقوله: «ما بين مشرف إلي وسلمى» قد رُوي على أوجه شتى.
٧٤  البَكْر بالفتح: الفَتِيُّ من الإبل، والأنثى بَكْرة.
٧٥  كذا في الأصل، وقد وجدنا الأبيات في ديوان أبي ذؤيب الهذلي على هذا الوجه:
وَأَرَى الْبِلَادَ إِذَا سَكَنْتُ بِغَيْرِهَا
جَدْبًا وَإِنْ كَانَتْ تُطِلُّ وَتَخْصِبُ
وَيَحُلُّ أَهْلِي بِالْمَكَانِ فَلَا أَرَى
طَرْفِي لِغَيْرِكِ مَرَّةً يَتَقَلَّبُ
وَأُصَانِعُ الْوَاشِينَ فِيكَ تَجَمُّلًا
وَهُمُ عَلَيَّ ذَوُو ضَغَائِنَ دُؤَّبُ
وَتَهِيجُ سَارِيَةُ الرِّيَاحِ مِنْ أَرْضِكُمْ
فَأَرَى الْجِنَابَ لَهَا يَحُلُّ وَيَجْنُبُ
وَأَرَى الْعَدُوَّ يُحِبُّكُمْ فَأُحِبُّهُ
إِنْ كَانَ يُنْسَبُ مِنْكَ أَوْ لَا يُنْسَبُ
٧٦  العرار: بهار البر، وهو نبات طيب الريح، الواحدة عرارة، وقد أورد في «الحماسة» قبل هذا البيت قوله:
أَقُولُ لِصَاحِبِي وَالْعِيسُ تَهْوِي
بِنَا بَيْنَ الْمُنِيفَةِ فَالضِّمَارِ
٧٧  الري هنا: الرائحة. وغب: بعد. والقطار: جمع قطر؛ وهو المطر.
٧٨  زاري: عائب، يقال: زرى عليه فعله إذا عابه.
٧٩  الأنصاف: جمع نصف. وسرار الشهر: آخر ليلة منه.
٨٠  وفي رواية: وأنضر، ورواية: وأطيب.
٨١  الخزامى: نبت من نبات البادية طيب الرائحة. وقرقرى: أرض باليمامة فيها قرى وزروع ونخيل.
٨٢  الحجيلاء: اسم بئر باليمامة.
٨٣  الأثل: شجر من نوع الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلات. والقاع: المستوي من الأرض، والقيعة مثل القاع، وبعضهم يقول هو جمع.
٨٤  الصحبة بالضم: جمع صاحب. والمقيل: القيلولة.
٨٥  الدخيل: الداخل في أعماق البدن، وهذه الأبيات ليحيى بن طالب كما في «معجم البلدان».
٨٦  الوعساء: رابية من رمل لينة، تنبت أحرار البقول، وموضع معروف بين الثعلبية والخزيمية.
٨٧  العتاق: جمع عتيق، يقال: فرس عتيق مثل كريم وزنًا ومعنًى. والقب: جمع أقب، وهو الضامر البطن. والأسل: الرماح. والقضب: اللطاف الدقاق.
٨٨  الوشل: اسم جبل عظيم بناحية تهامة فيه مياه عذبة.
٨٩  الألواذ: جمع لوذ، وهو جانب الجبل وما يطيف به ومنعطف الوادي.
٩٠  القلت: مؤنثة وهي نقرة في الجبل تمسك الماء أن يفيض، والجمع قلات، قاله في «المخصص»، وأنشد هذا البيت.
٩١  ماوان: واد فيه ماء بين النقرة والربذة.
٩٢  نجران: اسم موضع. وترابٌ جعدٌ: أي نَدٍ.
٩٣  اللمة بالكسر: الشعر يلم بالمنكب، وأراد بأفنان لمته خصلها، واستعار لها أفنان الشجر. والمضطمر: الضامر، يقال: ضمر الفرس واضطمر؛ إذا رق وقل لحمه. والورد من الخيل: ما بين الكميت إلى الأشقر.
٩٤  مزاحم: اسم موضع.
٩٥  وقع في بعض كتب الأدب الشطر الأخير هكذا: «لَلَاقَيْتُ فِيهِمْ أَخْرَقًا لَا أُوَاصِلُه»، والأخرق: الذي إذا عمل عملًا لم يرفق فيه، والخِرْق بالكسر: الفتى الحسن الكريم الخليقة.
٩٦  الأرواح: جمع ريح، وأما جمعها على أرياح فقد أنكره الحريري في كتاب «درة الغواص في أوهام الخواص»، حيث قال: ويقولون: هبت الأرياح، مقايسة على قولهم: رياح، وهو خطأ بيِّن، ووهم مستهجن، والصواب أن يقال: هبت الأرواح، كما قال ذو الرمة … وأنشد البيتين، غير أن ابن هشام قال في شرح «بانت سعاد»: من العرب من يقول أرياح؛ كراهة الاشتباه بجمع روح، كما قالوا في جمع عيد: أعياد؛ كراهة الاشتباه بجمع عود، قال السهيلي: إن ريحًا وأرياحًا لغة لبني أسد.
٩٧  ذرفت عينه: سال دمعها.
٩٨  أكرت الأرض: حرثتها، واسم الفاعل أكَّار للمبالغة والجمع أكرة كأنه جمع آكر.
٩٩  كذا في الأصل وهي مُصَحَّفة.
١٠٠  أرض حرة: لا سبخة فيها، وطين حر: لا رمل فيه، ورملة حرة: طيبة النبات. هو من العرب العرباء والعاربة: وهم الصرحاء الخُلَّص، وفلان من المستعربة: وهم الدخلاء فيهم، وقال جندل بن المثنى الطهوي: جعد القرى مستعرب التراب؛ أي بعيد من أرض الأعاجم.
١٠١  القرحة بالضم: بياض يسير في وجه الفرس دون الغرة.
١٠٢  الأولى أن يقال في مثل هذا الموضع رأف بهم ونحو ذلك، إلا أن الأعراب ومن نحا نحوهم لا ينتبهون لمثل ذلك.
١٠٣  الأعيار: جمع عَير بالفتح، وهو الحمار. والعتاق: كرام الخيل.
١٠٤  الضن والضنة بالكسر والضنانة بالفتح: البخل، مراد الأعرابي من كلامه أن الله كرَّم العرب وأراد بهم خيرًا، إذ جعلهم بمكان يأمنون به على قلتهم من الأعاجم على كثرتهم، وإذ ألزمهم الإسلام ولم يقبل منهم الجزية مع البقاء على الكفر.
١٠٥  في رواية: الرواد، في رواية: سائر.
١٠٦  كذا في الأصل، وقد ذكر في بعض كتب الأدب أن البيت الأخير للمعقر بن أوس بن حماد البارقي من قصيدة له، فنظرنا في القصيدة في كتاب «الأغاني»، فلم نجد فيها شيئًا من الأبيات السابقة، وأول قصيدة فيه:
أَمِنْ آلِ شَعْفَاءَ الْحَمُولِ الْبَوَاكِرُ
مَعَ اللَّيْلِ إِنْ زَالَتْ قُبَيْلَ الْأَعَاصِر؟
وَحَلَّتْ سُلَيْمَي فِي هِضَابٍ وَأَيْكَةٍ
فَلَيْسَ عَلَيْهَا يَوْمَ ذَلِكَ قَادَرُ
وَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّتْ بِهَا النَّوَى
كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ المُسَافِرُ
وَصَبَّحَهَا أَمْلَاكُهَا بِكَتِيبَةٍ
عَلَيْهَا إِذَا أَمْسَتْ مِنَ اللهِ نَاظِرُ
١٠٧  الموبذ بضم الميم وفتح الباء: فقيه الفرس وحاكم المجوس، والجمع موابذة والهاء للعجمة.
١٠٨  سابور: معرب شاهپور تكلموا به قديمًا، وهو اسم ملك من ملوك الفرس، وقد عرَّبه الأعشى بشاهبور حيث قال:
أَطَافَ بِهَا شَاهَبُورُ الجُنُو
دَ حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهَا الْقُدُمْ
والقدم: جمع القدوم التي يُنحت بها.
١٠٩  القد: سير من الجلد يشد به الأسير، قال المتنبي:
وَغَيْظٌ عَلَى الْأَيَّامِ كَالنَّارِ فِي الْحَشَا
وَلَكِنَّهُ غَيْظُ الْأَسِيرِ عَلَى الْقَدِّ
١١٠  الإسكندر: معرب ألكسندر، وأل فيه من أصل الكلمة، غير أنهم نظروا إليها نظرهم إلى «أل» التي للتعريف، وهذا الذي حمل بعض الشعراء على حذفها، كما تحذف من الحسن والعباس، فقال: إسكندر، قال أبو تمام:
مِنْ عَهْدِ إِسْكَنْدَرْ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ
شَابَتْ نَوَاصِي اللَّيَالِي وَهْيَ لَمْ تَشِبِ
قال التبريزي: المتعارف بين الناس أن الإسكندر بالألف واللام، فحذفوهما منه، وأما قولة الرومي فهو من قبيل المجاز.
١١١  حضرة الرجل: قربه، وكانت في الأصل حظيرة، قال في «النهاية» في أثر «لا يلج حظيرة القدس مدمن خمر»: أراد بحظيرة القدس الجنة، وهي في الأصل الموضع الذي يحاط عليه لتأوي إليه الغنم والإبل ليقيهما البرد والحر.
١١٢  أشفى على الهلاك: أشرف عليه.
١١٣  الرِّمة بالكسر: العظام البالية والجمع رمم ورمام.
١١٤  وهذه القصة مذكورة في «سيرة ابن هشام» في قصة سيف بن ذي يزن الحميري.
١١٥  الناووس: تابوت يجعل فيه جثة الميت.
١١٦  كذا في الأصل.
١١٧  الركض: تحريك الرجل، ومنه قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ.
١١٨  كذا في الأصل.
١١٩  الريف: كل أرض فيها زرع ونخل، وقيل: هو ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها.
١٢٠  الصدى: الجسد من الآدمي بعد موته، وطائر يخرج من رأس المقتول إذا بَلِيَ فيما تزعم الجاهلية، وما يرده الجبل على المصوت فيه.
١٢١  ذوو الهيئات: هم الذين لا يُعرفون بالشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤