تمهيد

إن بين الدين والثقافة تشابهًا من حيث الطبيعة، ومن حيث الأثر، فمن الأديان ما هو عالمي يخرج من البيئة التي نشأ فيها وينتشر في بيئات أخر، فتعتنقه شعوب مختلفة وتؤمن به أمم متفرقة، ومنها ما هو موضعي ينشأ ويشب ويكتمل، ثم يهرم ويموت في نفس البيئة وفي عين المكان، فلا يخلف من ورائه آثارًا عامة بين فئات مختلفة من الناس، ومثل الثقافة من هذه الناحية كمثل الدين؛ منها ما هو عالميٌّ، ومنها ما هو موضعيٌّ، والثقافة اليونانية أولى الثقافات العالمية في تاريخ الإنسان، نشأت وربت في بقعة فريدة من بقاع الأرض، سيالة العيون، متدفقة الأنهر، مخضوضرة الجبال والسهول، حسنة المناخ، بعد أن نشأ وفَنِيَ من قبلها حضارات موضعية عديدة، كحضارة الكلدان وأشوريا ومصر، وحضارة جزر بحر الروم، فكانت الحضارة اليونانية عصارة تلك الحضارات ولبها، انتحلها شعب فيه استعداد للابتكار ونزعة إلى البحث، فرببها وصبغها بالصبغة التي وصلت إلينا مصبوغة بها.

وفي الثقافة العربية نفس هذه الصفات، ظهرت فيها كاملة وتجلت شاملة وافية، ولا ريبة في أن صفة «العالمية» التي عرفت في الثقافة العربية ترجع إلى أصلين جامعين؛ الأول: أنها ثقافة إسلامية استمدت من روح الدين الإسلامي ما فيه من صفات أنه دين «عالمي»، والثاني: أنها ثقافة استمدت عناصرها الأجنبية من الثقافة اليونانية وهي ثقافة عالمية أيضًا، «فالعالمية» في الثقافة العربية تستمد أصالتها من الإسلام، وتستمد فروعها من أعظم حضارة ظهرت في العالم القديم، ومن هذا المزيج الفذ تكونت ثاني الحضارات العالمية في تاريخ البشرية، وعندي أن أعظم ميراث انحدر إلى الثقافة العربية من الثقافة اليونانية هو هذا التراث العظيم الذي جعل مما خلف العرب لأعقابهم صفات القوة والخلود، يزداد بها ما في ثقافتهم الخاصة من قدرة على البقاء والاستمرار.

إن النزعة «العالمية» التي أسلمها العرب إلى أوروبا في القرون الوسطى، كانت بدورها أعظم تراث حمله العرب على أعناقهم ليؤدوه إلى أهل الحضارة الحديثة، ولو لم يكن للعرب من فضل غير هذا الفضل لكفى به دليلًا على ضخامة الأساس الذي وضعوا قواعده للحضارة وللمدنية.

وإني لعلى يقين من أن فهم الثقافة العربية فهمًا وثيقًا لا يتأتى إلا بالاستعماق في درس ناحيتين منفصلتين من نواحي المعرفة الإنسانية؛ الناحية الأولى: ناحية الدين الإسلامي وتفهم روحه واستيعاب طبيعته استيعابًا إنسانيًّا لا استيعابًا غيبيًّا، والناحية الثانية: ناحية الثقافة اليونانية وأثرها في تلوين الفكر البشري بذلك اللون الهليني الصرف البعيد عن تزوير العقائد القديمة.

ولا يتسع لي الفراغ حتى أطنب في شرح ما في الدين الإسلامي من صفات «العالمية»، كما أنه لا يتسع لي حتى أتكلم باستفاضة في روح الثقافة اليونانية مظهرًا ما فيها من تلك الصفات، وإن كانت الموازنة بين الدين الإسلامي وبين الثقافة اليونانية من حيث إنهما «عالميين» بحث لا ينبغي أن يفوت القادرين من كتابنا، وإنما أكتفي هنا بالقول بأن تقوية ما ورث العرب من صفات العالمية عن الدين الإسلامي، بما انتحلوا من ضروب الثقافة اليونانية، هو الأثر الأول الذي يلمحه الباحث المتريث بينًا جليًّا في الصورة التي تكيفت بها الثقافة العربية في عصورها الذهبية.

•••

إن نظرة جامعة في الأصول التي قامت عليها الثقافة اليونانية تظهرنا على أنها قد قامت على قليل من الأصول، تولدت منها فروع عديدة، أما هذه الأصول فمن المستطاع إحصاؤها وعدها، أما الفروع التي تفرعت منها والشعب التي تشعبت عنها، فمن العسير أن يلم بها الباحث لكثرتها واختلاف منازعها وتباين مشاربها، حتى قيل، وقيل بحق: إنه لا يوجد تحت الشمس من منزع فكري حديث لا يمت إلى الفكر اليوناني بسبب من الأسباب، قريب العلاقة أو بعيدها.

إن الأصول التي قام عليها الفكر اليوناني في عصر ازدهاره تنحصر إجمالًا في الدين والفلسفة والرياضيات والعلم الطبيعي وعلم الأحياء والطب والأدب والتاريخ والنظام السياسي وهندسة العمارة، ومن كل أصل من هذه الأصول نشأت فروع عديدة، وتلونت الفروع بألوان وفيرة، واتخذ كل لون من تلك الألوان ظلالًا وتدرجات، فتضخم بذلك ميراث الإنسانية عن الفكر اليوناني حتى شمل نواحي الفكر والعقائد والعلوم والآداب، فكان من مجموع ذلك ما سماه المؤرخون الحضارة الهلينية.

وأنت إذا نظرت في الثقافة العربية ألفيت لأول وهلة أن علاقتها بالأصول التي قامت عليها الثقافة اليونانية قد تشتد وتتوثق ببعض تلك الأصول، وقد تفتر وتنأى عن البعض الآخر، على قدر ما يكون في كل أصل منها من القرب أو البعد عن القواعد الأساسية في الإسلام، فما كان من تلك الأصول ملائمًا لأسس الإسلام اشتدت آصرته بالثقافة العربية، وما كان منها منابذًا لأسس الإسلام ضعفت آصرته بها، والسبب الأول في هذه الظاهرة جَلِيٌّ واضح، فإنه ما كان لعربي أو بالحري لمسلم أن يتبدل من عقائد اليونان وآدابهم بشيء يحل محل عقيدة أو فكرة تقوم على أصل الإسلام، لهذا نفت أصول الإسلام عن الثقافة العربية كل ما كان في ثقافة اليونان منابذًا لها أو معاندًا لطبيعتها.

مثل ذلك أن العرب لم يعنوا يومًا بالنظر في العقائد «الأرفية»١ — وهي عقائد تَمُتُّ إلى الفلسفة وإلى الدين — وهي من ناحية أخرى عقائد كان لها أثر بالغ فيما علَّم «فيثاغورس» في النفس، في حين أن معرفة العرب بنواحٍ أخرى من فلسفة «فيثاغورس» كان شاملًا، وإن جاء في كتبهم منثورًا غير منظوم في وحدة فكرية، كذلك كان لهذه العقائد علاقات جمة بما خلف شعراء الحكمة عند اليونان من الآثار، وإنك لترى أن العرب لم يعرفوا شاعرًا واحدًا منهم، ولا أتى في مخلفاتهم ذكر لشيء من آثارهم ولا آدابهم، وعلى هذا يقاس جميع ما أخذ العرب عن الثقافة اليونانية.
١  Orphic Doctrines.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤