الفصل الأول

العرب قبل الإسلام

لم يكن العرب قبل الإسلام أمة منعزلة عن العالم المتمدين، بل إنها أمة يدل تاريخها على نشاط تجاري ونشاط علمي، فقد كان لهم اتصال بالبلاد الواقعة شمالي الجزيرة وهي بلاد ذاعت فيها ضروب من الثقافة اليونانية وضروب من الثقافة الرومانية، وكان لهم علاقة بالإسكندرية قبل أن يفتحوا مصر بقرون عديدة، فقد ذكر المؤرخ «أرثر ويجل» الإنكليزي أن «إقليوفطرا» كان لها علم بلغة العرب، وذكر أنه كان لها اتصال بأمير عربي١ من شرقي الأردن ذكر له اسمًا يونانيًّا،٢ ولعله اسم أطلق عليه لعلاقة سياسية ما، وذكر اسم قبيلته، ولعلها عُنَيزَة، وأن انصراف أميرة من بيت بطلميوس إلى تعلم العربية دليلٌ على أن شأنًا ما كان للعرب في تلك الأيام، وفي الإسكندرية خاصة، فإذا صح هذا، مضافًا إليه أن الإسكندرية كانت منذ عهد بطلميوس الأول نواة كبرى لنشر الثقافة الهلينية في شرقي البحر المتوسط، أي في بحر الروم جميعه، كان لنا أن نلمح شيئًا من علاقة العرب قبل الإسلام بثقافة الأغارقة.

كذلك قد انحدر إلينا من أخبارهم أنهم عرفوا مدرسة «جنديسابور» من أعمال «خوزستان» التي أسسها «كسرى أنو شروان»، وكان حكم كسرى بين ٥٣١–٥٧٨م، فاتصل أثناء حروبه في سورية (تلقاء إمبراطورية بوزنطية) بتعاليم اليونان، فضَيَّف فئة من فلاسفتهم، عقيب الأمر الذي أصدره الإمبراطور «يوستنيانوس» بغلق المدارس والمعابد في أثينا.

وفي الفهرست لابن النديم (ص٢٤٢) أن الذين وفدوا على «كسرى» من فلاسفة اليونان سبعة، فأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية، فنقلوا المنطق والطب وألفوا كتبًا طالعها هو ورغَّب الناس فيها، ومن الدلالات البالغة على أن عناية كسرى بمن استوفد من فلاسفة اليونان كانت كبيرة، أنه وضع في المعاهدة التي عقدها مع إمبراطورية بوزنطية نصًّا خاصًّا بهم ضمن لهم به حريتهم المدنية والدينية، وأنهم أحرار في أن يعودوا إلى بلادهم فيما لو أرادوا العودة.

وكان هؤلاء الفلاسفة من معتنقي مذهب «الأفلاطونية الجديدة» Neo-Platonism ولعل لهم أثرًا في الصبغة التي اصطبغ بها مذهب «التأله» Mysticism في فارس قبيل انتشار الإسلام، فقد كتب المستشرق «نيكلسون» في كتاب «أشعار منتخبة من الديوان» طبع كمبردج (١٨٩٨) شيئًا يكشف عن العلاقة التي تربط «الأفلاطونية الجديدة» بمذهب «التأله» كما أُخِذَ به في فارس، وذكر الأستاذ «أوليري» في الفصل السابع من كتابه في «الفكر العربي» ما يوضح شيئًا من العلاقة بين الأفلاطونية الجديدة والتأله كما عرف في بلاد فارس في العصر الوثني، وما كان من أثر ذلك في مذاهب التصوف التي عرفت في فارس، بل وفي العالم الإسلامي من بعد.

وممن اشتهر في مدرسة جنديسابور من العرب قبل الإسلام طبيبان هما الحارث ابن كلدة وابنه «النضر» الذي ذكره الرئيس ابن سينا، وكان مع الذين هزموا يوم «بدر» فأسر وقتل، وقيل: إن الذي قتله هو «علي بن أبي طالب» (راجع أبا إسحاق الحصري الكيرواني في زهر الآداب ص٢٧ ج١)، وكلاهما من ذوي قرابة النبي فهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، فنسبه يلتقي ونسب النبي في الجد الثالث.

كذلك كان للعرب معرفة بعلم النجوم قبل الإسلام، قال المرحوم الأستاذ «نلينو» في كتابه المعروف «تاريخ الفلك عند العرب في القرون الوسطى»، ص١٠٥–١٠٨ ما يلي:

إن قدماء أهل بابل قد تصوروا السماء كأنها سبع طبقات٣ منضدة، وجعلوا في كل طبقة أحد النيرين والكواكب الخمسة المتحيرة حسب قدر أبعادها عن الأرض، وهو في طبقته كأنه ساكنها وربُّها، فانتشر هذا الرأي عند أمم أخرى مثل اليونان والسريان، وراج عند عوامهم أيضًا حتى أخذته أهل الحضر من عرب الجاهلية كما يظهر من ورود ذكره في جملة من النصوص القرآنية:
  • تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ (سورة الإسراء ٤٤).
  • اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ (سورة الطلاق ١٢).
  • وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (سورة المؤمنون ١٧).
  • فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا (سورة فصلت ١٢).
  • أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (سورة نوح ١٥).
  • أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (سورة نوح ١٥).
  • وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (سورة النبأ ١٢).

قال: والمحتمل أن العرب كانوا يسمون سماء كوكب فلكه كما ورد في الآية: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (سورة الأنبياء ٣٣): لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (سورة يس ٤٠).

ولفظ الفلك مأخوذ أيضًا على المحتمل من كلمة بابلية Pulukka، ولكن لا نعرف شيئًا مما كانت العرب يفتكرون في طبيعة تلك السموات.
ثم قال: كانت العرب قد ميزوا الكواكب الخمسة المتحيرة من النجوم الثابتة وسموها بأسماء مخصوصة قديمة الأصل، مجهولة الاشتقاق، لم يزل استعمالها إلى الآن، إني لا أجهل أنه فيما وصل إلينا من أشعار الجاهلية لا يوجد ذكر الكواكب الخمسة المتحيرة غير الزهرة وعطارد، ولكني لا أشك في قدم أسماء زحل والمشتري والمريخ أيضًا؛ لأنها مذكورة عند المؤلفين المسلمين قبل أن نقلت إليهم العلوم الدخيلة٤ — ولأن عدم معرفة اشتقاقها مع عدم مشابهة ظاهرة بينها وبين أسمائها باللغات الأخرى السامية والفارسية، يدل على أنها قديمة الأصل عند العرب، أما عطارد فقيل: إن عرب تميم كانوا يعبدونه،٥ أما الزهرة فمن المؤلفين السريان واليونانيين من القرن الخامس والسادس للمسيح نستفيد أن بعض العرب المجاورين للشام والعراق، كانوا يعبدونها عند ظهورها في الغدوات فكانوا يسمونها إذ ذاك العُزَّى.٦

ثم قال: كانت أهل البادية من أحوج الناس إلى معرفة الكواكب الثابتة الكبرى ومواقع طلوعها وغروبها؛ لأنهم كثيرًا ما اضطروا إلى قطع الفيافي والقفار ليلًا مهتدين برؤية الدراري، فلولاها لضلت جيوشهم وهلكت قوافلهم في الكثبان والبراري، كما ورد في سورة الأنعام (الآية ٩٧): وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.

فلا غرو أنهم عرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسموها بأسماء مخصوصة، يذكر جزء منها في أشعارهم مثل الفرقدين والدبران والعيوق والثريا والسماكين والشِّعريين وغيرهما، ولكن لا يتوصل إلى فهم سعة معرفتهم بالكواكب الثابتة إلا من اطلع على كتاب أبي الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي (المتوفى سنة ٣٧٦ﻫ/٩٨٦م) في الكواكب والصور؛ فإنه عند وصف كل صورة على طريقة الفلكيين، جمع أسماء الكواكب المستعملة عند عرب البادية، فبلغت هذه الأسماء عدد نحو مائتين وخمسين أو أكثر، فمن كتاب عبد الرحمن الصوفي ومن أقوالهم في منازل القمر، ترى أيضًا أنهم في إثبات الصور النجومية، سلكوا طريقة فلكيي اليونان، حتى لا نجد في الأكثر موافقة بين صورهم وصور اليونان.

هذا طرف مما وصل إلينا من علم العرب قبل الإسلام، على أن التدقيق في أشعارهم يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا ذوي نظر نافذ وقريحة وضاءة يستدل بها على استعدادهم الفطري لاستيعاب المعارف، على أنه لا ينبغي أن نغفل عن أن ما ضاع من آثار الأقدمين، وبخاصة علومهم التي لم يقيدوا إلا طرفًا منها، يحول دون الحكم الصحيح على مقدار ما حصلوا من المعارف والفنون المختلفة، ولا يخرج العرب عن حكم ذلك فإنهم في جاهليتهم تجري عليهم الأحكام التي جرت على غيرهم من أهل الحضارات القديمة، وهم في إسلامهم قد نزلت بهم من النكبات والكوارث ما لا يقاس به ما نزل بالأمم الأخرى، إلا أن يكون القياس مع الفارق البعيد.

١  Cleopatra: Her Life and Time.
٢  Iamblichus “Hamasa”   أيامبليخوس.
٣  سموها: تبقات Tupuqati وهو أصل الاصطلاح العربي.
٤  ورد مثلًا ذكر زحل والمريخ في أشعار الكميت المولود سنة ٦٠ﻫ/٦٨٠م المتوفى سنة ١٢٦ﻫ/٧٤٤م: فقال يصف ثورًا وحشيًّا: «كأنه كوكب المريخ أو زحل». اطلب كتاب نثار الأزهار في الليل والنهار، تأليف جمال الدين محمد الإفريقي الملقب بابن منظور ص١٨٣ من طبعة القسطنطينية سنة ١٢٩٨ﻫ.
٥  Willhausen’ Reste 210.
٦  Willhausen 40–44.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤