الفصل السابع

علم الطب

بعد أن أسس الخليفة المنصور العباسي مدينة بغداد سنة ١٤٨ بعد الهجرة (٧٦٥م) استقدم الطبيب النسطوري «جورجيس بن بختيشوع» من مدرسة جنديسابور وعينه طبيبًا ملكيًّا، ومنذ ذلك الحين توارث الأطباء النسطوريون وظيفة التطبيب في قصور الخلفاء زمانًا، وأسسوا مدرسة طبية في بغداد.

ولما مرض «جورجيس» في بغداد وأذن له الخليفة بالرجوع إلى جنديسابور عين مكانه تلميذه «عيسى بن صهاربخت» وقد ألف كتابًا في فن الأدوية — الأقرباذين — غير أن القفطي صاحب كتاب «أخبار الحكماء» يقول: «لما طلب المنصور جرجيس بعد رجوعه إلى جنديسابور مريضًا وعوفي، وُجِدَ عند الطلب ضعيفًا من سقطة سقطها من سطح داره فاعتذر عن ذلك، وتقدم إلى عيسى هذا بالمضي إلى المنصور فامتنع، فسيَّرَ عِوَضَهُ إبراهيمَ تلميذه، وبقي عيسى هذا في البيمارستان بجنديسابور مقيمًا»، غير أن أكثر المؤرخين على الضد من رواية القفطي، يثبتون أن عيسى قدم بغداد وطبَّ بها.

وقدم من بعد ذلك إلى بغداد «بختيشوع» بن «جورجيس» وكان طبيبًا للخليفة هارون الرشيد سنة ١٧١ﻫ/٧٨٧م، ومن بعده قدم ابنه جبرائيل، فأرسل ليقوم على تطبيب جعفر البرمكي، وزير هارون الرشيد، وكتب جبرائيل مدخلًا لعلم المنطق، ورسالة للمأمون في التغذية والمشاريب، وملخصًا في الطب، وأخذ عن ديسقوريدس Discorides وجالينوس وبولص الأجانيطي، وكتب في وصايا طبية كثيرة، ورسائل في الروائح، وغير ذلك، ومن المعروف أن الطب الهندي كان أول ما أدخل في مدرسة جنديسابور، ومن ثم امتزج بالطب اليوناني، ولكن اليوناني تغلب أخيرًا.
ومن الذين اشتهروا من الأطباء في بغداد «يحيى بن ماسرجس» أو ماسرجويه John bar Maserjoye وقد رأس مدرسة الطب في بغداد زمانًا، وله مترجمات كثيرة ومؤلفات، ويقول الأستاذ «أوليري»: إنه مترجم كتاب «سنتاغما» Syntagma إلى اللغة السريانية.

وظل الطب عند العرب واقفًا عند حد النقل والترجمة تأليفًا، وعند تجارب مدرسة الإسكندرية عمليًّا، ولقد أشرنا من قبل إلى تلك الأساطير التي تخالطت بالطب والكيمياء في مصر بمدرسة الإسكندرية، فإن هذه الأساطير قد ظلت مؤثرة أثرها المحتوم في العرب طوال أيام مدنيتهم، وكان هذا الأمر في أن العقل العربي لم يَثِبْ إلى الابتكار في علم الطب مبكرًا، شأنه في كثير من ضروب المعارف التي زاولها، فإن الابتكار في الطب لم يأتِ إلا في عصور متأخرة من المدنية العربية.

وفي أواخر القرن الثالث الهجري نقع على أبي العباس أحمد بن الطيب السرخسي وكان تلميذًا للكندي، ويقال: إنه كتب مقالة في الروح، ومختصرًا لإيساغوجي، والمدخل إلى صناعة الطب (راجع المسعودي جزء ٢ ص٧٢ طبع لبيزج).

وحتى عصر السرخسي كانت المباحث الطبية محصورة في يد المسيحيين واليهود غالبًا حتى إنك لتجد مؤلفًا يقال: يوحنا أو يحيى بن سيرابيون John bar Serapion ولم أقف على كنيته العربية في أواخر القرن التاسع الميلادي، يكتب في الطب في اللغة السريانية مختصرات ترجم أحدها عدة ترجمات، وطبعها بعد ذلك في اللاتينية «جيرار الكريموني» Gerard of cremonia.
ويعتبر أبو بكر محمد بن زكريا الرازي أبا الطب العربي، توفي سنة ٣١١ أو ٣٢٠ﻫ، (٩٢٣ أو ٩٣٢م) ويلقبه كتاب اللاتينية «بالرازيس» Rhazes وكان مؤلفًا موسيقيًّا، كما كتب في الفلسفة والأدب والطب، وغالبًا ما يشير في مؤلفاته الطبية إلى ثقاة من كتاب الهند واليونان.

ولا مشاحة في أن إدخال العنصر اليوناني الصرف في المؤلفات الطبية والاستعاضة به، عما كتب أطباء مدرسة الإسكندرية نقلًا عن القدماء، كان أعظم ما قام به مؤلفو العرب لصناعة الطب من الخدمات، على أن مؤلفات «الرازي» قد سادت فيها الفوضى، ووصف بضعف التأليف، فهي ليست سوى مجموعة من المقالات مفككة العرى غير متواصلة الحلقات، ولهذا السبب وحده رجع طلاب الطب عن مؤلفاته إلى ما كتب ابن سينا؛ لأن مؤلفات ابن سينا فيها من الإلفة والنظام بقدر ما في مؤلفات «الرازي» من التفكك وعدم التواصل.

ولقد تلقى «الرازي» العلم بعد أن كبر، ولما نبغ تولى رياسة الأطباء في بيمارستان بغداد، ومن الأمثال التي كانت جارية على الألسنة، وتدل على منزلة الرازي قولهم: «كان الطب معدومًا فأحياه جالينوس، وكان متفرقًا فجمعه الرازي، وكان ناقصًا فكمله ابن سينا»، وهذا المثل يدل واضحَ الدلالة على أن مؤلفات «الرازي» خليقة بما وصفناها به من قبل.

وكان الخليفة المنصور أكبر مشجع للأطباء النسطوريين على أن يسكنوا بغداد ويعملوا فيها وكان له ضلع كبير في ترجمة الكتب العلمية والفلسفية عن اللغات اليونانية والسريانية والفارسية غير أن اهتمام الخليفة المأمون بهذا الأمر كان أكبر، وحمايته للعلماء والحكماء أثبت وأكثر تشجيعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤