الفصل الثامن

بيت الحكمة

أسس الخليفة المأمون مدرسة ببغداد سنة ٢١٧ﻫ/٨٣٢م على نسق المدارس النسطورية والزرادشتية وسماها «بيت الحكمة» وعهد بها إلى يحيى بن ماسويه John bar Maswai الذي توفي سنة ٢٤٣ﻫ/٨٥٧م وهو من المؤلفين في السريانية والعربية، وقد كتب مقالة في الحميات ظلت العمدة في دراسة تلك الأمراض عهدًا طويلًا، وقد نقلت إلى اللاتينية والعبرية.

وأما أعظم الأعمال التي أداها بيت الحكمة شأنًا فترجع إلى الجهود التي بذلها تلاميذ يحيى وتابعوه وبخاصة أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي المتوفى سنة ٢٦٣ﻫ/٨٧٦م وهو ذلك الطبيب النسطوري الذي عرف بأنه أكبر المترجمين في ذلك الوقت عن اليونانية إلى السريانية، فقد نقل فضلًا عن المؤلفات الطبية جزءًا من منطق أرسطوطاليس «الأورغانون»، وبعد أن درس أبو زيد في بغداد رحل إلى الإسكندرية، وعاد مزودًا بكل ثمار الدرس التي كانت شائعة في وقته وأتقن اللغة اليونانية التي اتخذها أداة للنقل إلى السريانية والعربية.

وكان معه في بيت الحكمة ابنه إسحاق وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي، وترجم حنين إلى العربية مقالات إقليدس Euclid وبضعة مؤلفات عن جالينوس وأبقراط وأرخميديس، وأبولونيوس الفرغوسي، وهو أكبر الذين اشتغلوا في الهندسة في العالم الإغريقي بعد إقليدس وأرخميديس، ولد في الغالب سنة ٢٥٠ق.م ومات في حكم بطلميوس فيلوباطر «محب أبيه»، فكأنه عاش بعد أرخميديس بأربعين عامًا على التقريب، وكتب في أشياء كثيرة غير أن ما كتبه فُقِدَ بتمامه، ولم يبقَ إلا ما ترجم العرب عنه.

كذلك ترجم أبو زيد عن غير هؤلاء كما ترجم الجمهورية وطيمادس لأفلاطون وقاطيغورياس وفوسيقا والماغناموراليا؛ أي الأخلاق الكبير لأرسطوطاليس، وتعليقات طمستبوس على المقالة الثلاثين من الميتافزيقا، وترجم الإنجيل كاملًا إلى العربية، ولم يقتصر على هذا بل ترجم أيضًا كتاب أرسطوطاليس في المعادن، وهو كتاب ظلَّ زمنًا طويلًا العمدة في دراسة الكيمياء، وعن أصله اليوناني أخذ بولس الأجانيطي.

أما ابنه إسحاق فقد نقل في الطب، وترجم إلى العربية مؤلفات أخرى؛ منها السفسطائي لأفلاطون، والميتافيزيقا والروح والكون والفساد وأرمانوطيقا أو «باري أرميناس» أي العبارة لأرسطوطاليس، وهذه المؤلفات ترجمها أبوه حنين إلى السريانية، ثم تعليقات فرفوريوس الصوري والإسكندر الإفروديسي وأمونيوس.

وعقب على هؤلاء قسطا بن لوقا البعلبكي، وقد درس في بلاد اليونان وترجم كثيرًا، ومن أشهر ما كتب كتاب «الفلاحة اليونانية» نقلًا عن السريانية، وقد طبع بمصر سنة ١٢٩٣ﻫ، وتوفي ابن لوقا سنة ٣١١ﻫ/٩٢٣م.

وكان القرن الرابع الهجري العصر الذهبي في تاريخ الترجمة والنقل عند العرب، أما ذلك العمل العظيم الذي تم في ذلك العهد، فإنه كان في الواقع راجعًا إلى فئة من المسيحيين الذين كانوا يجيدون السريانية، واحتذوا الأمثال التي درسوها في لغتهم؛ فإن عددًا عظيمًا من الترجمات قد نقلت حينذاك عن اليونانية مباشرة، وقد نقلها مترجمون درسوا هذه اللغة في الإسكندرية أو في إغريقية، وغالب ما كان المترجم منهم قادرًا على أن ينقل عن اليونانية إلى العربية والسريانية معًا، وكان هناك مترجمون عن السريانية، غير أنهم كانوا يعتبرون في الرتبة الثانية بعد المترجمين عن اليونانية.

من مترجمي النساطرة الذين نقلوا عن السريانية «أبو بشر متى بن يونس» المتوفى سنة ٣٢٨ﻫ/٩٣٩م وقد ترجم أنوليطيقا الثانية والبويطيقا لأرسطوطاليس وتعليقات الإسكندر الأفروديسي على كتاب الكون والفساد لأرسطو، وتعليقات طمستيوس على الكتاب الثلاثين في الميتافزيقا، وله مؤلفات مبتكرة في التعليق على قاطيغورياس أي المقولات لأرسطو وإيساغوجي لفرفوريوس.

ومن الثابت أن مترجمي اليعقوبيين يأتون بعد النساطرة، وكان من الذين نقلوا منهم عن السريانية إلى العربية «يحيى بن عدي» المتوفى سنة ٣٦٤ﻫ/٩٧٤م، وكان تلميذًا لحنين بن إسحاق، وقد راجع كثيرًا من الترجمات التي تقدم عليه بها المترجمون، وأصلح نقصها وأضاف إليها ما استقامت به معانيها، وترجم عن أرسطوطاليس كتاب قاطيغورياس والسوفسطيقا والبوليطيقا والميتافيزيقا، وعن أفلاطون القوانين وطيماوس، وعن الإسكندر الأفروديسي تعليقاته على قاطيغورياس «المقولات» وعن تئوفراسطؤس كتاب الأخلاق، وكذلك ترجم «أبو علي عيسى بن زاره» عن أرسطوطاليس كتاب قاطيغورياس والتاريخ الطبيعي والحيوانات مع تعليقات يوحنا فيلوبونس.

•••

هذه صورة مصغرة لما كان بين العرب واليونان من العلاقات الثقافية، إذا كان الباحث يتوسع فيها ملأت مجلدات، ولعل لنا فرصة أخرى بالعودة إلى هذا البحث لنوفيه حقه من البيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤