خطوات على الطريق

والسؤال الذي لا بد أن يُسْأَلَ الآن هو: كيف يحدث التغيير؟ كيف يُمكن أن تُصحَّحَ الأخطاء؟ كيف يمكن أن نقضيَ على الجهل؟ كيف يمكن أن تتغير الظروف الاجتماعية التي تحكم على المرأة بالكبت والتناقض الذي تعيش فيه؟ كيف يمكن القضاء على استغلال الرجل للمرأة في العلاقة الزوجية؟

وقد اتَّضح مما سبق أن تحرير المرأة لا يمكن أن يحدث في مجتمع رأسمالي، وأن مساواة المرأة بالرجل لا يمكن أن تحدُث في مجتمع يفرق بين فرد وفرد، وبين طبقة وطبقة؛ ولهذا فإنَّ أول ما يجب أن تدركه المرأة أن تحريرها إنما هو جزء من تحرير المجتمع كله من النظام الرأسمالي وقيمه التجارية والأخلاقية، وأن كفاحها من أجل التخلُّص من قيم الرأسمالية وتقاليدها ونظمها هو الكفاح المجدي.

وعلى المرأة أن تدرك أيضًا أن الاشتراكية بمعناها الحقيقي من حيث العدالة والمساواة بين البشر لا تكون واقعًا لمجرَّد إعلان الشعارات الاشتراكية، أو إصدار القوانين الاشتراكية، إن تغيير القوانين ضروري، ولكنه لا يكفي لإحداث التغيير، فكم من قوانين تظل حبرًا على ورق.

إنَّ إحداث التغيير يقتضي جهودًا شاقة طويلة في جميع مجالات الحياة على اختلافها وتنوعها.

ولا شك أن من العوامل الهامة في إحداث التغيير هو التربية، تربية جديدة ترتكز على المساواة الكاملة بين المرأة والرجل في جميع مراحل العمر منذ الولادة حتى الممات، مساواة في الحقوق والواجبات خارج البيت وداخله وفي تربية الأطفال.

ومعنى ذلك أن البنت حين تولد يجب ألا تشعر بفرق بينها وبين أخيها أو بينها وبين الأطفال الذكور سواء في البيت أو في المدرسة أو في الشارع، وتتلقى البنت التربية التي تنمي نفسها وعقلها وجسمها وتعدها للعمل في المجتمع والمشاركة في مختلف مجالات الحياة، ويتلقى الولد التربية نفسها، وتفهم البنت منذ طفولتها أن دورها في الحياة لا يختلف عن دور الذكر، وأن كليهما يجب أن يُعَدَّ إعدادًا صحيحًا لممارسة هذا الدور، وتحظى بالثقة والحرية ولا تخاف من الجنس، ويصبح دور الأم والأب المساعدة على أن تفهم البنت مشاعرها ورغباتها، وأن تمر بجميع المراحل اللازمة لنضوج شخصيتها، ويكون اهتمام الأم والأب بتفوق البنت الدراسي مساويًا لاهتمامهما بتفوق الولد الدراسي، ويكون اهتمام الأم والأب بملابس البنت ومظهرها مساويًا لاهتمامهما بملابس الولد ومظهره، وإذا أظهرت البنت ميلًا إلى الجرأة والإقدام وقوة الشخصية أكثر من أخيها فلا يُنْظَر إليها على أنها مسترجلة أو شاذة، وأن البنت يجب أن تكون هادئة وادعة مستسلمة رقيقة، ولا يُنْظَر إلى أخيها على أنه هو الذي يجب أن يكون الأقوى والأشجع والأكثر إقدامًا. يجب أن تنمَّى صفات البنت الطبيعية وتحصل شخصيتها على كل الفرص للنمو دون أن تفرض عليها صفات معينة يجب أن تتحلَّى بها البنت لمجرَّد أنها بنت؛ فقد تتفوَّق البنت على الولد في الذكاء أو في قوة الشخصية وقد تقلُّ عنه، المهم هو أن يحظى كل طفل (ولدًا كان أو بنتًا) بجميع الفرص التي تُظْهِر نبوغه أو قوته في أي مجال من المجالات.

كذلك يجب ألا يُطْلَقَ على الولد الوديع الخجول الهادئ أنه بنت أو ضعيف الشخصية، فلكل طفل شخصيته واستعداده، وقد ينبغ هذا الطفل الخجول فيما بعد في أعمال فنية تُناسب شخصيته وتكوينه، كذلك يجب ألا يطلق على البنت الجريئة غير الخجولة أنها ولد، فهذه البنت قد تصبح فيما بعد نابغة في الأعمال القيادية والسياسية وغيرها من المجالات التي تناسب شخصيتها.

والتربية ليست بالكلام فحسب وإنما بالعمل والنموذج، لا بد أن يشعر الأطفال أن أمهم مساوية لأبيهم في الحقوق والواجبات، وأنها تخرج إلى العمل مثله وتشترك معه في الإنفاق على البيت، وأنه يشترك معها في تربية الأطفال وإطعامهم وترتيب البيت.

ولا بدَّ للبنت أن تقوم بنفس المسئوليات والأعمال التي يقوم بها أخوها الولد؛ فهي تذهب إلى المدرسة مثله وتذاكر مثله، وهي لا تتحمَّل مسئوليات أو أعمال منزلية لا يتحمَّلها هو، إذا كان النظام في البيت يستدعي أن يُرتِّب كل فرد سريره فيجب أن يرتِّب الولد سريره كما تفعل أخته، ويجب أن يساعد الولد في إعداد المائدة إذا كانت أخته تساعد في إعداد المائدة … وهكذا لا يشعر أحدهما أن هناك أعمالًا معيَّنة يجب أن يؤديها لمجرَّد أنه ذكر أو أنثى.

وليس معنى ذلك أن تُهْمَلَ الميول الخاصة والاستعدادات الخاصة، مثلًا إذا أظهرت البنت ميلًا إلى أعمال كانت تقتصر على الأولاد مثل إصلاح الأدوات الكهربية في البيت أو أعمال النجارة أو إصلاح صنابير المياه وغيرها، فلا بد أن يُشجَّع ميلها وينمى ولا يقال لها إن هذه أعمال الأولاد وعليها أن تتقن الطبخ مثلًا.

كذلك إذا أبدى ولد من الأولاد ميلًا إلى أعمال الخياطة أو ترتيب البيت أو الطبيخ، فيجب ألا يُنْهَرَ على أساس أن هذه الأعمال نسائية ولا يصح للرجل أن يمارسها.

إن مثل هذه التربية في البيت منذ الطفولة ستضع أسس المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة في حياتهما الناضجة، وتقضي على كثير من العُقَد النفسية التي يعاني منها الرجال والنساء الذين يؤمنون عقليًّا بالمساواة ولكنهم يعجزون نفسيًّا عن ممارستها؛ بسبب التربية الخاطئة التي حدَّدت منذ الطفولة دور كل من الرجل والمرأة في الحياة.

ويجب أن يفهم الأطفال بالتدريج رغباتهم الطبيعية، ولا يخوفوا منه، يجب أن تعرف البنت الصغيرة ما الذي سيحدث لها عند البلوغ، والتغيرات الجسمية التي ستحدث لجسمها، وكيفية حدوث الحيض، وكيفية نمو الثديين والردفين، ومعنى الرغبات الجنسية التي تشعر بها أحيانًا وهكذا.

وكذلك الولد يجب أن يعرف ما الذي سيحدث عند البلوغ، فلا يفاجئه الاحتلام بالفزع، أو التشكك بقدرته الجنسية أو أي شيء آخر، ويجب أن يتساوى البنت والولد في حقهما من الحرية ومن الإحساس برغباتهم الطبيعية التي خُلِقَت معهم وتنمو بنموهم.

ولا بد أن تصبح التربية في المدارس امتدادًا للتربية في البيت وترتكز على نفس المفهوم، فلا يفرَّق بين التلميذات والتلاميذ في أي شيء، يتلقون الدروس نفسها والمواد نفسها ولا تكون هناك مواد خاصة بالبنات كالتدبير المنزلي والخياطة ومواد خاصة بالبنين كالفلاحة والتجارة وغيرها، لا بدَّ وأن تكون جميع الفصول مختلطة تجمع البنات والبنين، ولا بد أن يحصلوا جميعًا — بنات وبنين — على كل المواد بما فيها التدبير المنزلي والخياطة والفلاحة والنجارة وكل شيء.

إن تلقِّي التلميذ الولد لدروس التدبير المنزلي يجعله في المستقبل قادِرًا على مشاركة المرأة مسئوليات البيت نفسيًّا وعمليًّا، فهذه الدروس بالإضافة إلى أنها تزوده بالمعلومات ذاتها إلا أنها تقنعه نفسيًّا بأن هذه الأعمال لا تعيب الرجل إذا أداها، وإنها جزء من مسئوليته مثله مثل المرأة سواء بسواء.

وإن تلقِّي البنت لأعمال النجارة والفلاحة يجعلها قادرة على مشاركة الرجل جميع الأعمال دون أن تشعر بأي حرج أو خجل أو تنتظر الرجل ليقوم بها.

وبهذا تحتاج المدارس إلى أسلوب جديد في التربية، وإلى تغيير في بعض المناهج، وإلى تغيير في بعض الكتب والصور التي تُعْرَض على التلاميذ والتلميذات.

أذكر أن أول كتاب تعلمت منه القراءة كانت فيه صورة لبنت تلبس فوطة المطبخ وقد كُتِبَ تحتها «سعاد تطبخ»، وصورة مقابلة لها لولد جالس إلى المكتب وقد كُتِبَ تحتها «عماد يكتب»، إن مثل هذه الكتب والصور يجب أن تتغير، وتصور البنت جالسة إلى المكتب وإلى جوارها الولد جالسًا إلى المكتب، ثم صورة أخرى وهما معًا يعملان في الحديقة، أو وهما معًا يعملان في المطبخ.

ولن يتَّسع هذا الكتاب لما يجب أن يحدث من تغيير في التربية وأساليبها سواء في البيوت أو في المدارس، وإنما كل ما يُهمني هو التركيز على أن هذه التربية الجديدة يجب أن تسوي بين البنت والولد في كل شيء، وأن تكون هناك لكلٍّ منهما فرص متكافئة للنبوغ في أي مجال يناسب شخصياتهم وميولهم وقدراتهم الذاتية بصرف النظر عن الجنس.

وبالإضافة إلى هذا فإن التربية في حاجة إلى مبادئ وأسس جديدة سواء من ناحية المضمون أو الأسلوب، لا بد أن ترتكز التربية على عدم إخفاء الحقائق وعلى التعريف بكل مكوِّنات الإنسان جسمًا ونفسًا وبيئة، أما أسلوب التربية فلا بدَّ أن يعتمد أساسًا على المناقشة وعلى اشتراك التلاميذ والتلميذات الإيجابي فيها، وعلى تعوُّدهم على إبداء آرائهم وعدم الجلوس صامتين كأجهزة استقبال فحسب يتلقون المعلومات وآراء الغير بالتسليم المطلق دون مناقشة.

لا بد أن يتعوَّد المدرس أو المدرسة على أن يعارضه التلاميذ والتلميذات ويختلفوا معه في الرأي، ومن خلال المناقشة يحدث الاقتناع وليس من خلال الطاعة والأصول والأدب. إن المثل الشائع في مجتمعنا الذي يقول بأن مَنْ علمني حرفًا صرت له عبدًا يجب أن يتغير؛ فالعبد لا يستطيع أن يناقش سيده أو يختلف معه في الرأي، يجب أن تتحرر أمثالنا الشعبية من كلمة العبد والعبودية لأي أحد ولأي سبب؛ فإن هذا الإحساس بالعبودية سواء للمدرس أو الأب أو الأم أو رئيس العمل أو كل من كان في موقع السلطة إحساس متخلف يحول بين الناس والنضوج والاستقلال.

وكما سبق أن ذكرت أن النموذج الذي يراه الطفل (سواء في البيت أو المدرسة) له أهمية بالغة، إن البنت والولد ينظران إلى أمهما وأبيهما كنموذج، أو ينظران إلى المدرس أو المدرسة كنموذج؛ ولهذا لا بد أن تكون الأم نموذجًا للمرأة التي تؤمن بعملها خارج البيت وتحب هذا العمل وتحترمه وتحرص على النجاح فيه، ليس بسبب الأجر الذي تتقاضاه، وإنما لأنها عن طريق هذا العمل تحقق ذاتها كإنسانة.

وقد أجرت روث هارتلي بحثًا بين عدد من الأمهات الأمريكيات العاملات من الحاصلات على درجات جامعية عالية، واتضح لها في هذا البحث أن معظم هؤلاء الأمهات بالرغم من تعليمهن العالي وبالرغم من أنهن يتولين مناصب فنية عالية وأنهن يحببن عملهن ولا يعملن من أجل المال أو الأجر فحسب، إلا أنهن يقلن لأبنائهن وبناتهن إنهن يعملن من أجل الحصول على المال، وقد سألت الباحثة هؤلاء الأمهات: لماذا يخفين حبهن للعمل ويُظْهِرْن فقط السبب المالي؟ وكان رد الأمهات هو: «وأي عذر آخر نلتمسه لخروجنا للعمل وابتعادنا عن أولادنا وبناتنا، حينما نقول لهم إننا نخرج ونعمل من أجلهم ومن أجل تلبية احتياجاتهم المالية فإنهم يغفرون لنا الساعات التي نغيبُها عنهم.»

وتقول الباحثة: إنَّ مثل هؤلاء الأمهات لا يعرفن التربية الصحيحة، وإنهن يُرسِّبن في نفوس أولادهن وبناتهن مفهومًا خاطئًا للعمل عامة، ولعمل المرأة خاصة؛ فالعمل في حياة الإنسان ضرورة نفسية واجتماعية يُحقِّق من خلاله ذاته ويسعى عن طريقه إلى تطوير المجتمع إلى الأفضل والأرقى، أما الأجر المالي الذي يتقاضاه الإنسان عن عمله فليس إلا أحد نتائج هذا العمل وليس الهدف من العمل.

والأم التي تخرج إلى العمل وتشعر بالذنب لأنها تغيب عن أولادها لم تتخلَّص بعدُ من التخلف النفسي والعقلي الذي تعيشه مع النساء بسبب التربية الخاطئة منذ الصغر التي تحدِّد وظيفة المرأة في الحياة بوظيفة الإنجاب وتربية الأولاد.

ولا بد للأم العاملة أن تتخلَّص من تخلفها، وتدرك أن عملها خارج البيت واشتراكها في بناء المجتمع وتطويره هو وظيفتها الأساسية في الحياة كإنسان، أما دورها بالنسبة للزوج والإنجاب وتربية الأولاد فهو كدور الرجل بالنسبة للزوج والإنجاب وتربية الأولاد، ومسئوليات الأمومة مساوية لمسئوليات الأبوة تمامًا، وكلاهما في حاجة إلى مفاهيم جديدة غير مريضة تتساوى فيها الأم والأب في منح الحب والحنان والرعاية لأطفالهما، ويدرك الأب أنه يجب ألا يقضي النهار بطوله خارج البيت ولا يرى أطفاله إلا لمامًا ويترك مسئولية رعايتهم للأم كاملة. إن الأبوة بمعناها الصحيح هي أن يمنح الأب أطفاله حبه وحنانه ويخصص لهم وقتًا يقضيه معهم، وكذلك الأم يجب ألا تقضي النهار بطوله مُلتصقة بأطفالها في البيت ترضعهم حنانًا مريضًا وتعفي الأب من مسئوليات أبوَّته، بل يجب أن تفهم معنى الأمومة الصحيحة من حيث القدرة على منح أطفالها كل فرص النضوج والاستقلال ومنحهم من الحنان والحب القدر المطلوب حتى يُمكن أن تكتمل للأطفال صحتهم النفسية.

وبهذا لا تشعر الأم بالذنب حين تخرج من بيتها إلى العمل، بل إنها تشعر بالذنب حين تبقى بالبيت طول النهار مع أولادها. لقد ثبَت أن بقاء الأم طول الوقت مع أطفالها يضرُّ بصحة الأطفال النفسية ويؤجِّل نضوجهم ويُسبِّب لهم أنواعًا مختلفة من العُقَد.

وفي أبحاث سنة ١٩٥٠م في أمريكا ثبت أن أبناء النساء العاملات لا يعانون من المشاكل النفسية التي يعاني منها أبناء النساء المتفرغات بالبيوت.

هذا بالإضافة إلى أن بقاء المرأة في البيت إهدار لإنسانيتها وقدراتها النفسية والعقلية التي يجب من خلال العمل في المجتمع أن تنمو وتتطور.

إنَّ العمل يساعد على نضوج المرأة فتصبح شخصية مستقلة حققت ذاتها، وحين تحقق المرأة ذاتها من خلال العمل فإنها لن تحتاج إلى أن تعيش من خلال أطفالها وتحقق ذاتها من خلالهم ومن خلال حاجتهم الدائمة إليها، فتلتصِق بهم ذلك الالتصاق الذي يُعْجِزهم عن الاستقلال عنها، والذي يُشْعِرهم بالذنب إذا هم استقلوا عنها، وتشعر مثل هذه الأم بالأسى حين يستقلُّ عنها ابنها الشاب مثلًا، أو يخطب فتاة ليتزوجها، ومثل هذه الأم هي الحماة الأنانية التي تتشبَّث بحقها في ابنها حتى بعد أن يتزوَّج وتحقد على زوجته؛ لأنها خطفت منها ابنها واستحوذت على حبه واهتمامه، وحينما ينصف الزوج زوجته تتَّهمه أمه بأنه لم يكن يستحق أن تنفق حياتها لتربيته، وتشعر بالندم لأنها أعطت لمن لا يرد، فيشعر الابن بالإثم وقد يظن أن زوجته هي سبب المشاكل وتفسد حياتهم الثلاثة، ومن المعروف أن مشكلة الحموات شائعة في جميع أنحاء العالم وسببها هو بقاء الأم بالبيت مع أطفالها.

ولا شك أن الاتجاه العام إلى تحديد النسل يجعل الأم غير العاملة تركز كل حياتها وتصوب كل أمومتها المتضخِّمة المريضة نحو طفل واحد أو طفلين بعد أن كانت توزعها على عدد من الأطفال فيخفف الضرر على الواحد منهم كلما زاد عددُهم، بالإضافة إلى أن الإقلال من عدد الأطفال يمنح الأم سنوات أكثر من الفراغ والوحدة القاتلة فتُصبح في حاجة أكثر إلى العمل والاستفادة من الوقت.

إنَّ تأكيد معنى العمل وهدفه لتحقيق الذات يمنح السعادة لجميع النساء العاملات، ولن تشعر المرأة التي لم تُنجِب أنها لم تحقِّق ذاتها أو لم تصنع بحياتها شيئًا، ولن ينظر إليها المجتمع نظرته القديمة كامرأة عاقر بغير فائدة.

إن تحقيق الذات عند الإنسان رجلًا كان أو امرأة لا يُمكن أن يكون عن طريق إنجاب الأطفال، ومن الخطأ والتخلُّف أن تشعر النساء بالرضا بحياتهن والسعادة لمجرَّد إنجاب الأطفال. إن العمل ضرورة إنسانية، أما الإنجاب فليس إلا وظيفة بيولوجية تقوم بها جميع الكائنات الحية ابتداءً من الأميبا إلى القرود.

إن الإنسان الذي لا يفهم معنى العمل وهدفه الحقيقي لا يستطيع أن ينبغ في هذا العمل، ولا يستطيع أن يجدد فيه ويطوره إلى الأفضل، ويظلُّ كالآلة يؤدِّيه ويكرر نفسه كل يوم بغير ابتكار أو تجديد، ولا شك أن مثل هذا الشخص يظلُّ قانعًا بالأعمال الصغيرة في المجتمع غير قادر على النشاط في مجالات أكبر؛ ولهذا فإن معظم النساء العاملات وبسبب عدم إيمانهن بالعمل وفهمهن لهدفه الصحيح فإنهنَّ يقنعن بأعمال السكرتارية والتمريض وغيرهما من أعمال الخدمة، والقلة القليلة منهن مَنْ تخوض مجالات فنية كبيرة تثبت فيها نبوغها وقدرتها على الخلق والابتكار.

من إحصاءات أخيرة عن المرأة العاملة في الولايات المتحدة اتضح أن ١٤٪ فقط من النساء العاملات يشغلن وظائف مهنية وفنية عالية، أما الباقي فيشتغلن بأعمال تندرج تحت أعمال الخدمة والسكرتارية وغيرها.

وقد اتَّضح أن الزوجة الذكية الطموحة في كثير من الأحيان والتي قد تنبغ في مجال ما من المجالات تخشى نبوغها، وقد تُفوِّت على نفسها فرصة هذا النبوغ حمايةً لحياتها الزوجية من المشاكل؛ فالرجل الزوج لا زال يشعر بالحرج أو الغيرة حين تتفوَّق زوجته عليه أو يزيد نجاحها عن نجاحه، والعلاج في مثل هذه الحالات ليس هو أن تتخلَّى المرأة عن ذكائها وتتظاهر بالغباء لتهبط إلى مستوى زوجها الفكري، ولكن العلاج هو أن يُدرك الرجل أن تفوق زوجته عليه ليس عيبًا بالنسبة إليه، وليس داعيًا لأن يُصيبه بمركب النقص، فليس من الضروري أن يكون الزوج دائمًا هو الأكثر ذكاءً والأكثر نجاحًا من زوجته، بل إن الزوجة قد تكون هي الأكثر ذكاءً والأكثر نجاحًا فلا ينتقص ذلك شيئًا من الزوج، ولا يُسبِّب ذلك أن تنهار الحياة الزوجية أو تحدث المشاكل.

أما إذا أصرَّ الزوج على نظرته المتخلِّفة إلى زوجته وإلى نفسه وإلى العلاقة الزوجية بينهما، فعلى الزوجة ألا تُضحي بنبوغها من أجل هذا الزوج، وإلا فقد أخطأت في حقِّ نفسها وفي حق المجتمع الذي يحتاج إلى نبوغها ليتطوَّر إلى الأفضل.

إن غيرة الأزواج وأنانيتهم وخوفهم من تفوق زوجاتهم لا يعني أبدًا أن تظل الزوجات خاملات فاشلات إرضاءً لهؤلاء الأزواج، والأجدر بهؤلاء الأزواج أن يتغيَّروا، ويغيروا نظرتهم القديمة إلى المرأة الزوجة.

إنَّ الرجل الحديث قد يقبل أي امرأة رئيسة له في العمل فيما عدا زوجته، كذلك الرجل الذي يعمل كطباخ في فندق مثلًا، إنه يطبخ كل يوم لمئات الرجال والنساء الوافدين على مطعم الفندق، لكنه إذا عاد إلى بيته شعر بالحرج والضيق إذا طبخ هو ولم تطبخ له زوجته، واعتبر ممارسته للطبخ في بيته عيبًا، أما ممارسته للطبخ في الفندق فليس عيبًا.

والواقع أن الطبخ هو الطبخ بصرف النظر عن المكان الذي يحدث فيه، لكن نظرة الرجل إلى الزواج والمرأة هي التي تجعله يشعر أن زوجته لا بد أن تخدمه وتطعمه، وأنها لا بد أن تكون أقل منه ذكاءً ونجاحًا في الحياة؛ لتستقيم الحياة الزوجية بينهما وتسير في طريقها المعتاد المألوف في المجتمع.

ويظنُّ بعض الناس أن نبوغ المرأة وقوة شخصيتها وقدرتها على السيطرة والقيادة تفقدها أنوثتها، وتُقلِّل من قدرتها الجنسية والعاطفية، لكن «ماسلو» أثبت خطأ هذه الفكرة في بحث له بين ١٣٠ شابة أمريكية من الحاصلات على درجات جامعية؛ فقد اكتشف ماسلو أنه كلما كانت شخصية المرأة قوية ومسيطرة زادَت متعتها في الجنس، وزادت قدرتها على الحب الحقيقي؛ ذلك أن المرأة ذات الشخصية القوية تشعر بأنها حرة وأنها حقَّقت ذاتها واستطاعت أن تكون نفسها الحقيقية الطبيعية، وهذا كله ضروري في الحب والجنس بمعناهما الحقيقي.

وهؤلاء هن النساء بالمعنى الحقيقي للأنوثة، أما المعنى التقليدي لمفهوم الأنوثة الموروث عن فرويد ونظريات التحليل النفسي فقد ثبت بُعده عن العلم الصحيح وعن الحقيقة.

وقد أثبت ماسلو أيضًا أن هؤلاء النساء العاملات القويات الشخصية أكثر سعادةً من النساء الأخريات اللائي يعشن في البيت ويخدمن أزواجهن وأطفالهن، ووجد هوفمان (١٩٦١م) أن الأم العاملة أكثر دفئًا في علاقتها مع أطفالها من المرأة غير العاملة، وأنها أكثر تعاونًا ورقَّة وهدوءًا، وفي بحث آخر اتضح أن ٩٠٪ من هؤلاء الأمهات غير العاملات لا يتمنَّين لبناتهن أن يعشن الحياة التي عشنها هن، وهذا يوضح عدم رضا الأم غير العاملة عن حياتها وإن تظاهرت بالرضا أو بأنها تحقِّق ذاتها من خلال زوجها وأطفالها. إن مثل هذه الأم تكتشف بعد فوات الأوان أنها ضيعت نفسها وحياتها.

•••

إن حركة تحرير النساء في مجتمعنا العربي أو ما يُسمى بالنشاط النسائي يركز الاهتمام على تغيير القوانين التي تنظم العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة أو ما تُسمى بقوانين الأحوال الشخصية، ولا شك أن تغيير مثل هذه القوانين المجحفة بالمرأة ضروري لإقرار مبادئ المساواة بين الرجل والمرأة في جميع الحقوق والواجبات، لكن التغيير الاجتماعي المنشود يتطلب أن تتحول هذه القوانين الجديدة إلى ممارسة يومية في حياة الناس الخاصة والعامة، وأن تنصهر المفاهيم الجديدة لتصبح نسيج المجتمع الجديد.

إن عملية تحويل القوانين إلى خيوط في نسيج المجتمع ليست بالعملية السهلة؛ فالناس قد يتمسَّحون لتغيير قانون الزواج أو قانون الأحوال الشخصية، ويؤيدون أن تنص مواده على مساواة المرأة بالرجل، ولكنهم يُقاومون مظهر هذه المساواة في حياتهم الشخصية؛ ولهذا فإن حركة تحرير المرأة أو النشاط النسائي لا يستطيع أن يحقِّق الشيء الكثير بالاهتمام بتغيير القوانين فحسب، وإنما لا بد من أن يقترن الكفاح من أجل تغيير القوانين بكفاح مماثل بل أشد من أجل تغيير المؤسسات الاجتماعية التي من خلالها يتحقَّق تطبيق هذه القوانين، وبغير هذا التغيير في المؤسسات الاجتماعية لا يُمكن للقوانين الجديدة أن تطبق وتظلَّ حبرًا على ورق، ويُصبح الانتصار الذي تشعر به النساء لمجرَّد تغيير القوانين انتصارًا أجوف بغير معنى؛ لأنه ليس انتصارًا، ولأن مساواة المرأة والرجل لم تحدث ولم تُتَرْجَم إلى واقع عملي يعيشه الناس.

ولا شك أن المؤسسات التربوية والتعليمية (أي المدارس والمعاهد والجامعات) هي أهم المؤسسات التي يجب أن تغير مضمونها وأسلوبها؛ لأن تربية الأطفال — كما سبق أن ذكرت — هي الأسس التي تُبْنَى عليها الشخصية والتكوين النفسي والعقلي للإنسان، والتي تتحكَّم فيه في مراحل النضوج جميعًا.

ومن المؤسسات الاجتماعية الأخرى التي لا تقلُّ أهمية عن سابقتها: المؤسسات الثقافية والإعلامية وتشمل الإذاعة والتليفزيون والمجلات والصحف والكتب وغيرها من وسائل توصيل المعلومات إلى الناس، يجب أن تتحرَّر هذه المؤسسات من القيم التجارية التي تقوم على تحقيق الربح بأيِّ شكل؛ وبالتالي تكون في غنى عن افتعال الموضوعات المثيرة واستغلال الجنس وجسد المرأة في ترويج بضاعتها للناس.

وأن تحلَّ قيم المساواة الجديدة محلَّ هذه القيم التجارية. إن برامج الإذاعة والتليفزيون مطالبة في مجتمعنا الذي يسعى إلى أن يساوي بين الرجل والمرأة بتقديم برامج للنساء والرجال معًا، ويجب أن تلغى تلك البرامج التي تُسمى بالبرامج النسائية، والتي يقدم فيها طرق الطهي والغسل وعروض الأزياء ومُستحضَرات التجميل، يجب أن توجه البرامج الثقافية للمرأة والرجل على السواء، وتلعب دورًا في تغيير ذلك المفهوم التقليدي الذي يحدد وظيفة المرأة بالطهي والغسل والتزين.

وبالمثل يجب إلغاء كل ما هو نسائي في الصحف والمجلات، وألا تقسم الثقافة التي تُعْطَى للناس حسب اختلافهم ذكورًا أو إناثًا. إن ذلك القسم أو الركن الذي يُسمى ركن المرأة يقدم لها نصائح لتحافظ على نعومة بشرتها وغزارة شعرها وطول رمشها يجب أن تلغى، وليس معنى ذلك أن تُقاطع الصحف ومجلات الجمال كيفية التجميل، ولكن المطلوب هو أن تنشر هذه الصحف والمجلات المعنى الشامل للجمال كجمال الجسم وجمال النفس وجمال العقل، ويجب أن تقدم للناس رجالًا ونساءً كل المعلومات التي تساعدهم على تجميل أجسامهم ونفوسهم وعقولهم، وبالطبع سوف يحتاج تجميل الجسم إلى وسائل ومستحضرات معينة، ولكنها في ذلك الوقت لن تكون هي كل ما يقدَّم عن الجمال، كما أنها لن توجَّه إلى النساء وحدهن وإنما إلى جميع الناس.

ولا شك أن الزواج والأسرة أحد المؤسسات الاجتماعية التي يجب أن يشملها التغيير، وسواء تغيرت قوانين الزواج القديمة أم لم تتغيَّر فيجب على الزوجة أن تعرف حقوقها وواجباتها وتعرف أنها مساوية تمامًا لزوجها وتتعامَل معه على هذا الأساس.

يجب أن تدرك المرأة أنها مسئولة عن الإنفاق على الأسرة بالتساوي مع زوجها طالَما أنها تتقاضى عن عملها أجرًا مساويًا لأجره، ويجب أن تُدرك أن عملها خارج البيت ليس شيئًا كماليًّا وإنما ضرورة، وأن مشاركتها في الإنفاق على الأسرة ليس تطوعًا منها، وإنما واجب كالرجال سواء بسواء.

كذلك يجب أن يُدرك الزوج أنه مسئول عن أعمال البيت وتربية الأولاد بالتساوي مع زوجته العاملة، وأن واجبات الأبوة مساوية لواجبات الأمومة وقضاء الأب بعض الوقت مع أطفاله بالبيت له نفس أهمية قضاء الأم بعض الوقت مع أطفالها.

وكما يتساوى الزوج والزوجة في واجبات الأبوة والأمومة، كذلك يجب أن يتساويا في حقوق الأبوة والأمومة، ولا تزيد حقوق الأبوة عن حقوق الأمومة في أي شيء بما في ذلك حق النسب وحق تسمية الأطفال.

ولا تقتصر المساواة بين الزوج وزوجته على الحقوق والواجبات الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولكنها يجب أن تشمل أيضًا المساواة في الحقوق والواجبات الشخصية والجنسية، يجب أن تدرك المرأة أن حقها في الحصول على قمة اللذة الجنسية (الأورجازم) مُساويًا لحق الرجل، وكما يطالبها الرجل بهذا الحق ولا يشعر بالحرج فيجب أن تطالبه هي أيضًا بهذا الحق دون حرج، وتُساعده على أن يُحقِّقا في الجنس متعته الكاملة لهما هما الاثنين، يجب أن تدرك الزوجة أن الإيجابية في الجنس ليست واجب الزوج فحسب وإنما هي واجبها أيضًا، ويجب أن تشترك مع زوجها إيجابيًّا في كل شيء وأن تتبادل معه كل رأي، وأنه ليس هناك من عيب إلا أن يخفي الإنسان مشاعره الحقيقية ويتظاهر بغيرها.

يجب على الزوجة أن تدرك أن تظاهرها بأنها بلغت قمة اللذة في الجنس بالرغم من أنها لم تبلغها إنما هو العيب أو عدم الشرف؛ لأنه نوع من الكذب، وبصرف النظر عن هدفها لإرضاء الزوج وإشباع غروره إلا أنه يظلَّ كذبًا، وينعكس أثره النفسي السيئ على الزوجة، بالإضافة إلى أنه يضلل الرجل، والأجدر بالزوجة التي لا تبلغ قمة اللذة أن تُصارح زوجها بالحقيقة، وأن تشترك معه في إزالة الأسباب التي تحول دون تحقيق هذه اللذة.

وقد لا يستطيب الزوج التقليدي مثل هذه المصارحة من زوجته ويعدُّها نوعًا من قلة الشرف عند المرأة، لكن العلاج ليس هو أن تُخفي المرأة الحقيقةَ من أجل إرضاء الرجل التقليدي، ولكن العلاج هو أن يتغير الرجل التقليدي وأن يدرك أن حقوق زوجته في المتعة الجنسية مساوية لحقوقه تمامًا، وأن الشرف ليس معناه إخفاء الرغبات والمشاعر الحقيقية، وإنما الشرف هو الصدق في التعبير عن هذه المشاعر.

ولا أظنُّ أنني بحاجة في مثل هذا الكتاب إلى شرحٍ علمي لتكنيك العملية الجنسية بين الرجل والمرأة والمراحل التي يمرُّ بها ابتداءً من التمهيد النفسي إلى الإعداد والمداعبة وإثارة المناطق الجسمية الحساسة وتعاون الرجل مع المرأة على اكتشاف جسمَيهما معًا وعلى إدراك أفضل الوسائل لبلوغ قمة اللذة. لست بحاجة إلى هذا لأني أعتقد أن فشل العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة ليس بسبب جهلها بتكنيك العملية الجنسية، وإنما بسبب الجهل الأعظم، وهو جهل الرجل بالمرأة كإنسان مثله ومساوية له في جميع الحقوق والواجبات في الحياة بما فيها الجنس، وكذلك جهل المرأة بنفسِها وبقيمتها كإنسانة مساوية للرجل تمامًا في جميع الحقوق والواجبات الجنسية وغير الجنسية.

إن تصحيح نظرة الرجل إلى المرأة، وتصحيح نظرة المرأة إلى نفسِها يتبعه بالضرورة تصحيح لكل العمليات التي تحدث بينهما في حياتهما المشتركة بما فيها العملية الجنسية؛ فالعملية الجنسية ليست مجرَّد تكنيك معين أو حركات تؤدَّى أو أوضاع معينة، أو أن لها زمنًا محددًا أو مواصفات معينة لشكل وأحجام الأعضاء التناسلية، أو مراحل معينة يجب أن تمر بها مرحلة بعد مرحلة بنظام دقيق لا يتغير.

العملية الجنسية لها قاعدة ثابتة محدَّدة، وإنما هي تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والظروف، ولا يمكن لأيِّ شخص أن يحدِّد لزوجين ما يجب أن تكون عليه العملية الجنسية بينهما، إنهما هما وحدهما، وبالتعاون مع بعضهما البعض، يُمكن لهما أن يكتشفا أفضل الوسائل وأفضل الطرق التي يمارسون بها العملية الجنسية.

•••

ولا يقلُّ عن المؤسسات السابق ذكرها في الأهمية: مؤسسات العمل على اختلاف أنواعه ومجالاته السياسية والاقتصادية والمهنية والتشريعية والتنفيذية وغيرها، ولا يُمكن أن تتحوَّل قوانين المساواة بين الرجل والمرأة في حقوق العمل وواجباته إلى حقيقة فعلية ما لم تشترك المرأة مع الرجل على قدم المساواة في جميع هذه المجالات دون استثناء، يجب ألا تكون هناك مجالات أو وظائف قاصرة على الرجل مثل وظيفة الحاكم والمشرع والقاضي والجندي ورجل الشرطة وغيرها، لا بد أن تُعْطَى المرأة فرصًا مساوية لفرص الرجل في ممارسة العمل الذي تختاره والذي تُريد أن تنبغ فيه. إن الرجل لمجرَّد أنه ذكر لا يستمتع بصفات عقلية أو نفسية تجعله في مهمة القاضي مثلًا أكثر من المرأة، وقد تكون هناك امرأة أكثر قدرة على ممارسة مهنة القضاء أكثر من رجال كثيرين، ومن الظلم أن نحرمها من إثبات تفوقها في هذا المجال لمجرَّد أنها امرأة، وهكذا في المجالات الأخرى.

وحيث إنَّ عدد النساء العاملات والمثقفات أقل بكثير من عدد الرجال فإن تمثيل المرأة في جميع المؤسسات الاجتماعية والتشريعية والسياسية أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه، وبالرغم من أن هذا التمثيل يجب أن يكون ٥٠٪ على الأقل ليُعبر تعبيرًا صحيحًا عن نسبة عدد النساء إلى عدد الرجال في المجتمع، إلا أن الأرقام الحقيقية تدلُّ على أن المرأة لا تزال غير ممثلة فعلًا. إن وجود خمسة أو ستة نساء في مجلس يضمُّ ٣٠٠ أو ٤٠٠ رجل لا يمكن أن يسمَّى تمثيلًا بأي حال من الأحوال؛ ولهذا لا يُمكن لمثل هذا المجلس — سواء كان تشريعيًّا أو تنفيذيًّا — أن يتحمَّس لشيء يمسُّ حياة المرأة واحتياجاتها الجسمية والنفسية والعقلية أو يسعى لتحقيق المساواة بين النساء والرجال السعي المطلوب.

لا بد أن يتزايد عدد النساء العاملات في جميع المجالات وبالذات المجالات الهامة مثل السياسة والتشريع والقضاء والأعمال الفنية والمهنية العالية؛ ليُصبح عددهن مساويًا لعدد الرجال في هذه المجالات. حينئذ يُصبح صوت المرأة مسموعًا كصوت الرجل، وتُصبح قوة النساء الاجتماعية مساوية لقوة الرجال، وبهذه القوة الاجتماعية يُمكن للمرأة أن تحقق المساواة التي تنشدها، ويمكن أن تحول القرارات والقوانين من حبر على ورق إلى حقيقة عملية يعيشها الناس كل يوم.

ولكن هناك حقيقة لا يُمكِن إغفالها، وهناك عائق لا يمكن تجاهله يحول دون قدرة المرأة المتزوجة عن العمل خارج البيت، وهو المسئوليات الملقاة على عاتقها وحدها داخل البيت من أعمال الطهي والخدمة وتربية الأطفال، وإذا كان المجتمع ينشد المساواة فعلًا بين الرجال والنساء فلا بد أن يزول هذا العائق بشتى الطرق، كأن يتحمَّل المجتمع عن الأم هذه المسئوليات بأن ينشئ دورًا للحضانة والأطفال في كل مكان، وأن تنشئ المطاعم العامة التي تعفي المرأة من الطهي، وأن يصبح غسل الملابس تابعًا لمؤسسات عامة في المجتمع، وكذلك وسائل تنظيف البيوت وما شاكلها، ولا بد حتى إتمام هذه المنشآت أن يُساهم الزوج مع زوجته في تحمُّل أعباء البيت والأطفال بالتساوي حتى لا يحرمها من العمل خارج البيت.

إن مطالبة المرأة العاملة بأن تجمع بين عملها خارج البيت وداخله دون معاونة من الزوج أو المجتمع ما هو إلا تعجيز للمرأة واستنزاف لصحتها الجسمية والنفسية والعقلية، بحيث تصل إلى مرحلة من الإرهاق تصيبها بالضرر والمرض وتقلل من إنتاجها وفرصها في النبوغ، ولا أقول مجرد مواصلة العمل، والحل ليس هو أن تتخلى المرأة عن عملها خارج البيت كما يحدث في معظم الأحيان؛ لأن تخلي المرأة عن عملها معناه تخلي المرأة عن حياتها كإنسانة؛ ولهذا فإنها إذا ما اضطرت يومًا أن تختار بين عملها خارج البيت وعملها داخل البيت؛ فالأجدر بها كإنسانة أن تختار عملها خارج البيت. إن أيَّ تضحيات تدفعها المرأة من أجل مواصلتها العمل خارج البيت أقل في رأيي من التضحيات التي تدفعها حين تبقى في البيت، وتستسلم للمصير الذي استسلمت له من قبل أمها وجدتها. إن هذه التضحيات لن تزيد عن غضب زوجها الذي قد يؤدي إلى فشل حياتهما الزوجية، لكن الفشل في الحياة الزوجية أقل ضررًا للمرأة من الفشل في الحياة كلها وفقدان نفسها بين جدران البيت.

ولا شكَّ أن التاريخ يثبت أن معظم النساء النابغات فشلن في حياتهن الزوجية أو رفضن الزواج على الإطلاق، ومنهنَّ جورج إليوت وجورج صاند وسيمون دي بوفوار اللائي رفضن الزواج.

وفي رأيي أنه إذا تعارَض الزواج مع عمل المرأة خارج البيت ونبوغها في الحياة فالذي يجب أن يتغير ليس هو عمل المرأة أو إرادتها في النبوغ، وإنما الزواج هو الذي يجب أن تتغيَّر أسسه ومفاهيمه وقوانينه حيث لا يتعارض مع عمل المرأة ونبوغها.

•••

وأخيرًا فليس هذا كله إلا خطوات على الطريق، وعلى النساء الناضجات الواعيات أن يدركن أن الطريق طويل وشاق، وأنه يحتاج إلى مزيد من الشجاعة والقوة والصبر والتآزر، وإلى مزيد من المعرفة والوعي، لعلَّ هذا هو هدف كتابي، وعليهن أن يدركن أن أي محاولة للتصحيح لا بد وأن تتجه نحو المجتمع والظروف التي يعيش فيها الناس والمعلومات التي تغزو عقولهم ونفوسهم منذ الصغر.

وعلى المرأة أن تُدرك أن نجاح حركتها للتحرير يرتكز على مقدار نجاحها في المساهمة في تغيير المجتمع وتحويله إلى مجتمع اشتراكي حقيقي يُحقِّق المساواة والعدالة لجميع البشر بصرف النظر عن لونهم أو جنسهم أو طبقاتهم الاجتماعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤