السيد والعبد

إنَّ العالم الذي نعيش فيه يتميَّز بالسرعة الشديدة في التقدم العلمي والبطء الشديد في التقدم الإنساني، وهكذا تزداد الهوَّة بين النضج العقلي والمادي من ناحية، وبين النضج الاجتماعي والإنساني من الناحية الأخرى.

ولم تكن الحَربان العالَميتان السابقتان أو الحروب التي لا تزال تشتغل في مناطق مُتعدِّدة من العالم وتُهدِّد بحرب عالَمية ثالثة إلا نتيجة مجتمع بشري نما عقله وعلمه وتضاءل وجدانه وإنسانيته، مجتمع بشري يتنافَس على الطمع والمِلكية وامتلاك أقصى ما يستطيع، مُجتمع غلبت فيه القيم التجارية على القيم الإنسانية، وأصبحت القيمة الاجتماعية للإنسان تَعتمِد على مقدار ما «يملك» لا مقدار ما «يكون».

الملكية هي سبب العدوانية والأنانية في عالَمنا الراهن، وهي الصخرة الكبيرة التي تقف في سبيل التقدم الإنساني، والإنسان قد يمتلك الأرض أو المباني أو أدوات الإنتاج أو أي شيء من الأشياء، ولكن أقسى أنواع المِلكية هو مِلكية الإنسان للإنسان.

وقد عرفنا في التاريخ كيف امتلك الأسياد الرقيق، وكان العبد يُباع ويُشتَرى بالمال، وحين يشتري السيد عبدًا يصبح هذا العبد خادمًا لهذا السيد بغير أجر، لا يستطيع أن يترك خدمته إلا إذا أطلق السيد سراحه أو باعه في سوق الرقيق لسيد آخر، وكان من واجب العبد الطاعة المطلقة، ومن حق السيد أن يَفعل بهذا العبد ما يشاء دون أن يحاسبه أحد، كأن يستأصل بالمشرط خصيتي العبد فيصبح رجلًا بلا ذكورة، ويخدم نساء سيده دن أن يخشى السيد منه شيئًا.

ولا تختلف ملكية الرجل للمرأة كثيرًا عن ملكية السيد للعبد؛ فالرجل يشتري المرأة بمقدم الصداق، وينصُّ عقد الزواج في أول بنوده على أن الزوجة ملك لزوجها واجبها الطاعة المُطلقة، وتخدم الزوجة في بيت زوجها بغير أجر؛ فإن عصت أو تذمَّرت أو مرضت أو وهنت باعها الرجل بحقه المطلق في الطلاق.

وأودُّ أن أنقل هنا نص أحد مواد قانون الزواج في مجتمعنا، وهو نص المادة ٦٧: «لا تجب النفقة للزوجة إذا امتنعت مختارة عن تسليم نفسها بدون حق، أو اضطرت إلى ذلك بسبب ليس من قبل الزوج، كما لا تَستحِق النفقة إذا حُبِسَت ولو بغير حق أو اعتُقلت أو غُصِبَت أو ارتدت أو منعها أولياؤها، أو كانت في حالة لا يُمكن الانتفاع بها كزوجة.»

ولا شكَّ أن هذا النص دليل واضح على نوع العلاقة بين الزوج والزوجة التي تُشبه العلاقة بين السيد والعبد، بل إنَّ العبد كان في ظل تقاليد الرقيق يعالَج إذا مرض ويتحمل سيده العلاج حتى يُشْفَى، أما الزوجة فليس لها هذا الحق إذا مرضَت ولم تَستطع أن تُلبي رغبة زوجها الجنسية فمن حقِّه أن يَلفظها ويُلقي بها خارج بيته وتسقط عنها النفقة، وعليها أن تتجوَّل في الشوارع أو تتسوَّل، أو تتحوَّل إلى مومس، كذلك إذا حُبِسَت هذه الزوجة ولو بغير حق أو اعتدى عليها رجل واغتصبها فمن حق زوجها أن يطردها وتسقط عنها النفقة أيضًا.

كذلك إذا دفعت الزوجة شبابها من أجل زوجها وأطفالها، ثم استُهلِكَت أو أُرهِقَت أو مرضت أو عجزت عن الوفاء بكل هذه الالتزامات وأصبحت في حال لا يُمكن الانتفاع بها كزوجة فمن حق زوجها أن يلفظها كالنواة.

إن تعبير «لا يُمكن الانتفاع بها كزوجة» يدلُّ على أن العلاقة الزوجية في أساسها وجوهرها قائمة على انتفاع الرجل من المرأة واستغلاله لها استغلالًا بشعًا، أشد بشاعة من استغلال المالك للأجير أو السيد للعبد الذي كان يَتحرَّج من بيع العبد وهو مريض، أما الزوجة فهي حين تمرَض (بنَص قانون الزواج) تعود إلى أهلها ليتولَّوا علاجها؛ لأن زوجها غير مسئول عن هذا العلاج.

ثم إن عبارة «تسليم نفسها» تدلُّ على نوع العلاقة بين الرجل والمرأة، وأن المرأة هي التي تُسلِّم نفسها والرجل هو الذي يتسلَّم هذه النفس، وكأنها شيء من الأشياء أو بضاعة من البضائع.

وحينما تُطلَّق المرأة بسبب أو بغير سبب فإنَّ ثمنها يَنخفِض في سوق الزواج كأيِّ سلعة ينخفض ثمنها إذا ما استُعْمِلَت من قبل.

وفي بحث للدكتور سيد عويس المُستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عن أهم العوامل التي تُواجه تنظيم النسل في مجتمعنا قال: إنَّ من أهم هذه العوامل انخفاض مكانة المرأة المصرية للأسباب الآتية:
  • حيث إن الأسرة المصرية هي أسرة أبوية وليست أسرة أموية؛ ومن ثم فالذكور هم المسئولون وانتساب الأبناء إلى أبيهم وليس إلى أمهم.

  • وحيث تُعدُّ الأنثى لتكون «ست بيت»؛ ومن ثم فأدوارُها الاجتماعية خارج أسرتها محدودة للغاية «البنت مسيرها البيت» مثل شعبي.

  • وحيث يُحرم على الأنثى المصرية بعض الأعمال الخطيرة ويقتصر العمل فيها على الذكور (مثل أعمال الحاكم والمشرع ورجل الدين والقاضي والجندي ورجل الشرطة مثلًا).

  • وحيث يكون حق الأنثى المصرية في سنٍّ معينة في أن تَنتخِب وتُنتخَب حقًّا اختياريًّا.

  • وحيث تتزوج المرأة لخدمة الذكر الزوج ومفهوم الخدمة هنا يتضمن كل الأدوار التي يفترض أن تقوم بها الزوجة مثل دور العمل في البيت ودور أم الأولاد ودور العشيقة … إلخ.

  • وحيث تَنخفِض مكانة الأنثى المصرية إذا تزوَّج زوجها بغيرها.

  • وحيث تَنخفِض مكانة الأنثى المصرية إذا لم تتزوَّج أو «تبور».

  • وحيث تُواجه الأنثى المصرية تقلبات ويتفاوت مهرُها حسب كونها «بكرًا» أو «عَزبة»، فإذا كانت بكرًا فهي أغلى سعرًا، وإذا كانت مطلقة أو عزبة فهي أرخص سعرًا، ويا ويل الأنثى البالغة التي لم تتزوج (بارَتْ)؛ فإن سعرَها يكون في الحضيض.

  • وحيث تُرغَم الأنثى المصرية على الزواج في كثير من الأحيان.

  • وحيث تكون الزوجة في نظر الذكر الزوج مجرد «متاع».

  • وحيث تعيش الزوجة في كنَف زوجها في ظل المعاملة السيئة التي لا ترقى إلى المعاملة الرشيدة. فهي تَصبر على المكاره (الزواج بأخرى) وتصبر على ألوان الضيم (منها الشتم والضرب) من أجل لقمة العيش أو من أجل أن يحميها رجل .. (ظل راجل ولا ظل حيطة) مثل شعبي.

  • وحيث تعيش الزوجة في وجل وخوف من شبح «الضرة».

  • وحيث تُطَلَّق الأنثى المصرية؛ لأنها لا تُنجِب الذكور، أو تُطَلَّق أحيانًا لأتفه الأسباب.

  • وحيث لا يُستحب إذاعة اسم الأنثى المصرية إذا كانت زوجة أو أمًّا.

  • وحيث إن الابن الذكر مفضَّل عند الأب والأم معًا.

  • وحيث إن المرأة المصرية إذا سارت في الطريق مع أحد رجال الأسرة تسير من ورائه.

  • وحيث يستخدم مفهوم «امرأة» «مرة» استخدامًا سيئًا، ويُعتبر سبًّا وشتيمة إذا وُجِّه إلى ذكر.

  • وحيث لا تمارس الأنثى المتزوِّجة حق الطلاق إلا إذا كانت العصمة بيدها وهذا نادر.

  • وحيث تُخطَب الأنثى المصرية لحسبها ونسبها.

  • وحيث يحرم على الإناث المصريات في سن معينة وفي ظروف معينة الاختلاط بالذكور.

  • وحيث يُنظر إلى النساء على أنهن ناقصات عقل ودين.

  • وحيث نجد أن نسبة العاملات الماهرات من الإناث المصريات نسبة ضئيلة.

  • وحيث تعمل الإناث المصريات الماهرات منهن وغير الماهرات في ظل سيطرة الذكر المصري في أغلب الأحيان، وإذا اعتبرنا أن الإناث المصريات الريفيات يعملن فإنهن في ظروف بائسة يسيطر عليها الذكور كذلك.

  • وحيث ترث الأنثى أقل من الذكر، ولا تمنع الأنثى الأقارب من غير المقرَّبين من الميراث.

  • وحيث إن نسبة الأمية بين الإناث نسبة مُرتفِعة للغاية قد تصل في بعض القرى المصرية في بعض الأحيان إلى ١٠٠٪ أو تقلُّ عن ذلك قليلًا.

•••

وكما كان العبيد يُخْصَون لتُفْرَض عليهم العفة وهم يخدمون حريم السيد فقد كانت الإناث في مجتمعنا وفي كثير من المجتمعات الأخرى تُجْرَى لهنَّ عملية جراحية أشبه ما تكون بالإخصاء لفرض العفة عليهن.

فما إن تبلغ البنت التاسعة أو العاشرة من عمرها وقبل أن تبدأ مرحلة البلوغ تأتي تلك المرأة المسماة ﺑ «الداية» وتمسك الطفلة من ساقيها كما تمسك الدجاجة قبل الذبح، وتستأصل بالموسى «البظر»، وقد عُرِفَت هذه العملية بختان البنات، وكانت شائعة إلى عهد قريب في مجتمعنا ولا تزال بعض الأسر حتى الآن تحرص على ختان بناتها.

وكثيرًا ما استُدْعِيتُ لإنقاذ حياة البنات إثر هذه العملية البشعة؛ فقد كانت الداية لجهلها ولاعتقادها أنها إذا ما أوغلت بالموسى في لحم الفتاة واستأصلت البظر من جذوره فإن ذلك يضمن عفَّة الفتاة وزهدها الأكبر في الجنس، وكان الموسى الحاد يُحْدِث نزفًا غزيرًا، وفي بعض الأحيان تفقد الفتاة حياتها قبل أن تُنْقَذ، ولم تكن الداية تعرف شيئًا عن التعقيم بطبيعة الحال، وكان الموسى القذر يُسبِّب الالتهابات في معظم الحالات، أما الصدمة النفسية لهذه العملية المهينة على الطفلة الصغيرة فقد كانت بالغةً لا شك، وتظل صورة هذه المذبحة الصغيرة راسخة في ذاكرة الطفلة مما يسبِّب لها في حياتها الزوجية مشاكل كثيرة أحدها ذلك البرود الجنسي الذي ينعكِس على الرجل بالانحرافات الجنسية وإدمان الحشيش.

وهناك مجتمعات أخرى أَخْصَت نساءها بعمليات أخرى أكثر قسوة من عملية استئصال البظر. لقد فوجئت وأنا طبيبة حديثة التخرج سنة ١٩٥٥م حين فحصت سيدة سودانية لأول مرة فإذا جميع أعضائها التناسلية الخارجية قد استؤصِلَت تمامًا، ولم يبقَ مكانها إلا جرح قديم طويل تتوسطه فتحة صغيرة مستديرة لخروج الحيض، ومن الطبيعي أن مثل هذه الفتحة الصغيرة تتمزق عند ولادة أول طفل وتتعرَّض المرأة للنزيف الشديد أو المضاعفات الخطيرة.

وهناك في التاريخ وفي مختلف العصور والمجتمعات أمثلة عديدة متنوعة تُبيِّن لنا كيف أن المجتمع الرجالي كان يستبيح لنفسه تشويه جسم المرأة ونفسها باسم العفة، وقد عرف التاريخ «حزام العفة»، وهو حزام من المعدن يُغطي أعضاء المرأة التناسلية وبه ثقبان: أحدهما للبول والآخر للبراز عند فتحتَي البول والشرج.

ويقول «ديزموند موريس» في كتابه «القرد العاري»: إنَّ التاريخ عرف عهدًا كانت أعضاء البنات التناسلية الخارجية تُغْلَق قبل الزواج بواسطة دبابيس معدنية أو بالحياكة بالإبرة والفتلة، وكتب ديزموند موريس يصِف رجلًا صنع في شفرتي امرأته الخارجيتَين ثقبَين أدخل فيهما قفلًا حديديًّا يغلقه بالمفتاح بعد كل عملية جنسية كما يغلق دكانه.

وقد يندهِش بعض الناس لهذه الحقائق التاريخية، ولكني أعتقد أن دهشتهم تقلُّ كثيرًا حين يذكرون أن التاريخ عرف عهدًا استباح فيه المجتمع دفن البنات وهن على قيد الحياة.

كان كل ذلك يحدث باسم العفة والأخلاق؛ فالمجتمع الذي يستأصِل بظر البنت يعتقد أن البظر هو أكثر أعضاء المرأة إحساسًا بلذة الجنس؛ وبالتالي فإن استئصال البظر يُفقد المرأة الكثير من هذا الإحساس فتصبح أكثر زهدًا في الجنس ويضمن الرجل عفتها، ألا تشبه هذه العملية في مضمونها وجوهرها عملية إخصاء العبيد؟ أليس هذا دليلًا على أن الرجل امتلك المرأة كما امتلك العبد؟ لكن امتلاك الرقيق حُرِّم بحكم القانون، أما النساء فلا تزال الأغلبية الساحقة منهن رقيقًا بحكم تقاليد الزواج والطلاق والطاعة.

وفي الوقت الذي يفرض فيه المجتمع العفة على المرأة ويُعقمها ويقتل رغباتها فهو يترك الرجل حرًّا، لا يفرض عليه العفة، بل يُشجعه على الاستمتاع بكل رغباته فيُبدِّل من الزوجات ما يشاء، ويشرد من الأطفال ما يشاء، ويضمن له النظام والقانون الحماية المدنية والشرعية والأخلاقية.

والويل للمرأة لو أنها استجابت لإغراءات الرجل ومحاولاته غير اليائسة لإيقاعها في الشَّرَك، وعليها أن تقمع مشاعرها وتكبتها وتقاوم مطاردة الرجل وإغراءه ووعوده، وأصبحت المرأة ذاتها تتخلَّى عن قيمة نفسها كإنسانة وعن صدق مشاعرها لتضمن الشرف الاجتماعي الظاهري، وتعلَّمت المرأة الزيف وعرفت كيف تعامل المجتمع كما يعاملها، تعلمت كيف تُرضي الرجل وتمارس معه الجنس دون أن تفقد عذريتها، تعلَّمت كيف تبيع نفسها بعقد الزواج وتكبت حبها الحقيقي إلى الأبد أو تمارسه في الخفاء.

•••

جاءتني إلى العيادة — وهي في أزمة نفسية — فتاة في العشرين أحبها أحد أقاربها الذي كان يتردَّد على بيت أسرتها، شعرت نحوه بالحب ووعدها الشاب بالزواج بعد أن يعثر على شقة، وفي يوم زارها الشاب في البيت وكانت وحدها، غلبته مشاعرُه وحاول الاتصال بها لكنها تذكرت أنهما لم يتزوَّجا بعد فامتنعت، فقال لها الشاب في احتجاج: إن الحب الصادق هو الذي يجب أن يجمعهما معًا بإرادتهما وليس بتصريح من المأذون وإرادته، واقتنعت الفتاة بكلامه وكانت تحبه بصدق فعلًا وحدث بينهما اللقاء الجنسي، واضطربت الفتاة لكن الشاب طمأنها إلى أنه سيتزوَّجها، لكنه لم يتزوجها كما يحدث في كثير من مثل هذه الحالات، وقال لها في النهاية إنه لن يتزوج فتاة سلَّمت نفسها لشابٍّ قبل الزواج وإن كان هو هذا الشاب.

أصيبت الفتاة بالصدمة النفسية التي تُصيب الفتيات في مثل هذه الظروف، وكان من الممكن أن تفقد ثقتها في الرجال وتُعاملهم بمثل ما عوملت به «الكذب والخداع»، لكنها كانت فتاة قوية النفس والشخصية تؤمن بذاتها وتَحترم مشاعرها وصدقها، وساعدها على ذلك أنها كانت تعمل وفي غير حاجة إلى أن يعولها رجل، وحينما تقدَّم إليها شابٌّ ليتزوَّجها وشعرت أنها تميل إليه أفضت إليه بسرِّها قبل أن يتزوَّجها لتبدأ معه حياة أساسها الصدق والشرف، لكن الشاب لم يحترم صدقها، فسرعان ما تركها، وقلت لها ألا تتنازل عن صدقها بأي ثمن وإن كان هو الزواج، وعليها أن تبحث عن الرجل الذي يرتفع بفكره ومشاعره عن التقاليد الشكلية ويحترم صدقها وشخصيتها.

•••

إنَّ حق الرجل في اللذة الجنسية مقدَّس في نظر المجتمع، ويجب أن يناله في التو واللحظة حين يطلبه، أما المرأة فواجبها المقدَّس أن تُلبي رغبة الرجل متى شاء، وليس من حقها أن تشعر باللذة، وإذا حدَث وشعرت فيجب أن تخفي هذا الشعور.

وأعضاء الرجل الجنسية في نظر المجتمع لها قيمتها واحترامها، وكفاءة الرجل الجنسية لها قيمتها واحترامها، أما المرأة فإنها قد تعيش في برود جنسي طول حياتها بسبب الكبت، فلا يقلق المجتمع ولا يهتم. ولا تحظى أعضاء المرأة الجنسية في المجتمع بالاحترام، بل لقد استعار المجتمع أسماء بعض هذه الأعضاء لتكون نعوت تحقير وسباب.

وكما يحترم المجتمع أعضاء الرجل فإنه يحترم ما تُفرزه هذه الأعضاء، وينظر المجتمع إلى السائل المنوي نظرة احترام بالغة، ويعدُّه إكسير الحياة وخلاصتها الخالصة، ولا شك أن هذا السائل يحتوي على الحيوانات المنوية التي يتَّحد الواحد منها ببيضة المرأة ليحدث الجنين.

ورغم أن الحيوان المنوي والبيضة يتساويان في قيمتهما لتكوين الجنين، إلا أن المجتمع لا يساوي بينهما من حيث القيمة والأهمية والاحترام أسوة بعدم المساواة في كل ما يتعلق بالرجل أو المرأة، وفي الوقت الذي يبجل فيه المجتمع السائل المنوي ويُقدِّسه فإنه ينظر إلى الطمث كدم فاسد ونجاسة، مع أن هذا الطمث يحتوي في كل مرة على البيضة الوحيدة التي يُفرزها أحد المبيضين مرة واحدة في الشهر الواحد، كما أنه ليس هناك ما يُسمى بالدم الفاسد؛ لأن دم الإنسان هو دم الإنسان، سواء كان في رأسه، في كبده، أو في أعضائه التناسلية، وإذا ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون في الدم الذي يجري في الأوردة، فليس معنى ذلك أنه دم فاسد ولكنه يسمى علميًّا بالدم غير المؤكسَد لتفرقته من الدم المؤكسد الذي يجري في الشرايين ويحتوي على نسبة أعلى من الأكسجين.

ولا شكَّ أن الدم هو أثمن ما في جسم الإنسان، وهو الذي يمكن أن يسمى حقًّا بإكسير الحياة؛ لأن عن طريقه يتغذَّى الإنسان ويتجدَّد وبغيره لا يستطيع أن يحيا.

وبرغم أن الدم الذي قد يسيل من جرح في العنق أو الإصبع هو نفسه الدم الذي يسيل من رحم المرأة أثناء الطمث، بالإضافة إلى احتواء الأخير على البيضة، إلا أنَّ الدم الأول يعدُّ دمًا بكل ما للدم من قيمة، لكن دم الطمث يعدُّ شيئًا فاسدًا أو نجسًا، ويعتقد بعض الرجال أن مجرد مصافحتهم للمرأة الحائض يُفسد طهارتهم أو وضوءهم، ويرجع الاعتقاد السائد بنجاسة المرأة أثناء الحيض إلى ارتباط الدم في المجتمعات البدائية بالكوارث والجروج وهجوم الحيوانات المفترسة والموت، كما أنه من رواسب الخوف القديم الذي كان يشعر به الرجل نحو مظاهر إخصاب المرأة.

ويفرز السائل المنوي كل يوم عدة مرات، وفي كل مرة يحتوي على ملايين الحيوانات المنوية يخصب واحد منها فقط البيضة في حالة حدوث العملية الجنسية مع المرأة وتموت بقية الملايين الأخرى، وفي غير العلاقة بالمرأة فإنَّ هذه الملايين من الحيوانات المنوية تُقْذَف إلى الخارج ولا تخصِّب شيئًا كما في حالات الاحتلام والعادة السرية وغيرهما.

وقد نشأت فكرة تخويف المراهقين الذكور من العادة السرية أو كثرة الاحتلام بسبب ارتفاع قيمة السائل المنوي في نظر المجتمع، وأن فقدان هذا السائل الثمين يُهلك صحة المراهق.

وقد اتضح خطأ هذه الفكرة؛ فإن فقدان هذا السائل بسبب العادة السرية أو الاحتلام لا يحرم الجسم شيئًا هامًّا؛ فإن هرمون الذكورة الذي تفرزه الخصيتان والذي هو الشيء الهام لا يُقْذَف إلى الخارج مع السائل المنوي، ولكنه يعود مباشرة إلى الدم، وعلى هذا فإن فقدان السائل المنوي بسبب تكرار الاستحلام أو العادة السرية لا يسبب أي ضرر للإنسان، بل إنه مفيد وصحي.

ويتمثَّل عدم المساواة بين الرجل والمرأة بوضوح في تلك التفرقة الكبيرة بينهما بالنسبة لموضوع تحديد النسل.

إن المجتمع في جميع أنحاء العالم يُحمِّل النساء العبء الأكبر، ويُشجِّعهن على ابتلاع تلك الكميات الكبيرة من حبوب منع الحمل دون أن يهتمَّ بأثرها على صحة المرأة جسميًّا أو نفسيًّا، كل ما يهمه هو أن يجد حلًّا لمشكلة الزيادة السكانية التي تُهدِّده اقتصاديًّا، وقد انقضت سنوات كثيرة منذ استخدام النساء لهذه الحبوب قبل أن يكتشف العلماء أنها تصيب ٣٠٪ من النساء بالاكتئاب، بالإضافة إلى بعض المضاعفات العضوية أو النفسية الأخرى التي قد تحدث لعدد قليل أو كثير من النساء.

أما الرجل فإنه لا يحمل من هذا العبء شيئًا أو شيئًا قليلًا في بعض الحالات، وحين يقترح أحد بأن يتساوى الرجل مع المرأة في مسئولية وعبء تحديد النسل، وأن يبحث العلماء عن وسائل تحديد النسل لدى الرجل كما يبحثون عنها لدى المرأة ترتفِع الأصوات العالية بالاحتجاج، وكم من معارضات قامت في كثير من المجتمعات ضد عملية التعقيم السطحية للرجل، على حين تقابل عملية تعقيم النساء الأكثر خطورة وتعقيدًا بالتشجيع أو الرضا أو على الأقل بالسكوت وعدم الاعتراض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤