تمهيد
كانت آخر مرحلة وصلنا إليها في الجزء السابق من مصر القديمة هي الأحداث الجِسام، والإصلاحات الجبارة، والتطورات السياسية المثيرة، والأنظمة الاجتماعية الحديثة التي وقعت في عهد «بطليموس الثاني» الذي يُعَدُّ عهده بحق زمنَ رخاءٍ وسؤددٍ وفَلَاحٍ، في داخل البلاد المصرية وخارجها بالنسبة لما كانت تصبو إليه نفسه وأُسْرته من قبل، وكذلك ما كان يرغب فيه الشعب الهيلانستيكي المستعمر.
حقًّا؛ بلغت أرض الكنانة في عهد هذا العاهل ظاهرًا شأوًا بعيدًا في الزراعة والتجارة والصناعة لم تصل إليه قط في أيام أعظم فراعنة مصر في كل عهود التاريخ المصري القديم، كما امتدت فتوحها في آسيا، وبحر إيجا، وبلاد النوبة إلى آفاق لم يكن يحلم بها أعظم الفاتحين من الفراعنة. ولا غرابة في ذلك؛ فقد كانت كل الأحوال في الواقع مهيئة «لبطليموس الثاني» ليصل إلى ما وصل إليه من قوة، وجاه، ونفوذ عند توليه عرش ملك مصر. فقد ترك له والده «بطليموس الأول» إمبراطورية ثابتة الأركان عظيمة السلطان في داخل البلاد وخارجها. وتدل الظواهر على أنه تأثَّرَ نهجَ والده، وسار على خطته شوطًا بعيدًا في سبيل التقدم المادي والعلمي؛ مما جعل عصرَه مضربَ الأمثال من حيث النعمة والرفعة والسيطرة العالمية التي كان يتمتع بها بين الممالك الهيلانستيكية المجاورة له، والمحيطة به في تلك الفترة من تاريخ العالم المتمدين الذي وضع أسسه «الإسكندر الأكبر».
والآن قد يتساءل المرء: لماذا أفلح البطالمة الأُول في السيطرة على مصر والسير بها قدمًا في داخل البلاد، ومد فتوحهم وسلطانهم ونفوذهم في الخارج (؟) والجواب على ذلك لا شك يرجع إلى سببين رئيسين يأخذ الواحد منهما بزمام الآخر:
السبب الأول: هو أن البطالمة عندما استقر لهم الملك، وتمكنوا من أرض الكنانة، اتضح لهم أنهم في الواقع لا يملكون شعبًا واحدًا، بل شعبين مختلفين لا تربط الواحد منهما بالآخر روابط وثيقة من حيث السلالة والدين والثقافة. وهذان الشعبان هما: الشعب الهيلاني المستعمر، والشعب المصري المغلوب على أمره. ومنذ البداية كان كل من هذين الشعبين ينظر للآخر بنظرته الخاصة؛ فالشعب الهيلاني كان ينظر إلى الشعب المصري نظرة الحاكم للمحكوم، أو بعبارة أخرى نظرة الشعب المستعمر للشعب المقهور، الذي يريد أن يستنفذ كل ما لديه من مجهود ومال لإثراء نفسه، والعيش عالة على حسابه في بحبوحة ورخاء. ومن جهة أخرى، كان الشعب المصري الذي فقد استقلاله حديثًا ينظر لأولئك المستعمرين نظرة ملؤها الحقد والكراهية والبغضاء، وبخاصة عندما نعلم أن الشعب المصري منذ أقدم عهوده كان محافظًا على عاداته وطباعه وأخلاقه إلى أبعد حدود المحافظة، وقد ظل كذلك حتى دخول الإسلام في وطنه.
وقد ظهرت براعة البطالمة، وحسن سياستهم وتدبيرهم للأمور في التوفيق — ولو ظاهرًا — بين جماعة الهيلانيين المستعمرين وبين المصريين، على الرغم فيما بينهم من خلافات بينة، والواقع أن «بطليموس الثاني» ومن قبله والده «بطليموس الأول»، منذ بداية حكمه وجد أن توحيد الهيلانستيكيين والمصريين من كل الوجوه الحيوية كان ضربًا من المحال. فقد كان لكل من الطرفين تقاليده وعاداته وأخلاقه، ومن ثَم أخذ يعالج الأمور بالنسبة لهذا الموقف الحرج بصبر وأناة وحكمة بالغة.
فمن الوجهة المصرية: كان «بطليموس الثاني» يعلم تمام العلم من ماضي تاريخ أرض الكنانة أنه لم يتمكن فاتح من السيطرة عليها إلا إذا كان فرعونًا من نسل الإله «رع»، والسبب في ذلك يرجع إلى أن رجال الدين والشعب المصري كذلك كانوا ينظرون إلى الفرعون على أنه ابن الإله «رع» أول ملك سيطر على العالم المصري، ومن ثم كان لزامًا على البطالمة لإرضاء الشعب المصري أن يعتنقوا الديانة المصرية القديمة، وكذلك أن ينسبوا أنفسهم إلى سلالة «رع»، وعندما انتهجوا هذا السبيل استقر لهم الملك، وأصبحوا في مأمن على ملكهم، وبخاصة أن زمام الشعب المصري كان في أيدي الكهنة المصريين، الذين كان ينظر إليهم على أنهم أقوى طائفة في البلاد يمكنها أن توجه الشعب بأسره كما تريد في زمن السلم والحرب، وبذلك ضمن «بطليموس الثاني» عن طريق استمالة الكهنة إليه أن يجعل الفلاحين، وكل اليد العاملة تحت تصرفه يوجههم كيفما شاء، وذلك بوصفه إله يُعبَد ويُطاع في الأرض.
بقي بعد ذلك على «بطليموس الثاني» أن يسيطر على جماعة الهيلانستيكيين، الذين كانوا خليطًا من الإغريق والمقدونيين وغيرهم ممن أتوا مع الإسكندر والبطالمة من بعده من جهات أخرى من البلاد الهيلانية، وكانت أول خطوة خطاها في هذه السبيل أن ألَّه نفسه كما فعل «الإسكندر» من قبل مدعيًا أنه من نسل «هيراكليس» الإله الإغريقي، وقد لاقى في بادئ الأمر مشقة وعنادًا من جهة الإغريق والمقدونيين المستعمرين؛ وذلك لأنهم لم يتعودوا عبادة الأفراد، ولكنه بعد جهد عظيم وصل إلى غرضه وفرض نفسه إلهًا على المستعمرين، ومن ثم نرى أنه كان يعتبر نفسه إلهًا على المصريين منحدرًا من نسل «رع»، ومعبودًا منحدرًا من صلب هيراكليس عند الإغريق والمقدونيين وغيرهم ممن وفدوا من البلاد الهيلانية، وأصبحوا أصحاب الكلمة العليا في مصر. وهكذا نرى أن «بطليموس» كان إلهًا للمستعمرين يُعبَد على طريقتهم، وإلهًا للمصريين يُعبَد على شاكلتهم، ولا نزاع في أن كلًّا من الجماعتين كان لها ديانتها الخاصة، وطرق عبادتها التي تسير على مقتضى تعاليمها؛ ولذلك نجد أنه منذ عهد «بطليموس الثاني» — ويجوز من قبله — كانت توجد في مصر طائفتان من الكهنة؛ وهما: طائفة الكهنة المصريين، وطائفة الكهنة الهيلانستيكيين. ولقد كان التنافس بينهما في أول الأمر على أشده، وكان «بطليموس الثاني» يعمل جاهدًا على إرضاء كل من الطائفتين، وذلك إما بإغداق الهبات أو بإقامة المباني الدينية.
وقد كانت سياسة البطالمة منذ البداية تهدف إلى أن يوحدوا بين العبادة المصرية والعبادة الإغريقية المقدونية؛ باستمالتهم إلى عبادة إله واحد وهو الإله «سرابيس» الذي كان يمثل عند المصريين في إلههم الشعبي ﺑ «أوزير»، وعند الإغريق في إلههم «ديونيسوس». وقد أسهبنا القول في ذلك في غير هذا المكان، وعلى الرغم من قبول الطرفين هذه العبادة المشتركة فإن كل طائفة كانت تعبد إلهها على حسب تقاليدها، وطرقها الخاصة بها التي ورثتها عن أجدادها.
ولا نزاع في أن مركز البطالمة بالنسبة لشئون العبادة في مصر كان دقيقًا يحتاج إلى مهارة وحذق ودهاء وحسن تصرف؛ حتى تسير الأمور في البلاد دون وقوع خلافات أو مصادمات، ومن أجل ذلك نجد أن «بطليموس الثاني» كان يقظًا حذرًا في سلوكه مع الطائفتين، وذلك على الرغم من أن كلًّا من الهيلانيين والمصريين كانوا قد اتخذوه إلهًا بطريقة خاصة، ولكن لما كانت الأغلبية الساحقة من سكان وادي النيل من المصريين القدامى، وكان يتوقف على مجهوداتهم ثراء البلاد ورخائها؛ لأنهم كانوا الأيدي العاملة في زراعة الأرض، وفي الصناعات والحرف بوجه عام، فإن «بطليموس الثاني» عمل جهده على أن يكونوا طوع بنانه، ولكن لم يكن ليتأتى له ذلك إلا بإرضاء طائفة الكهنة المصريين الذين كانوا يُعتبَرون قادة الشعب المصري من الوجهة الروحية، وقد فطن إلى أن الوسيلة الوحيدة لضم طبقة الكهنة إلى جانبه: هي إقامة المباني الدينية، وبذل الهبات السخية للمعابد من أراضٍ تُحبَس عليها، ومن قرابين تُقرَّب في طول البلاد وعرضها إلى آلهتهم.
ولعَمْرُ الحق، فإن هذه هي نفس الطريقة التي سار على هديها فراعنة مصر في كل زمان، وبخاصة في العهد الأخير من حكمهم؛ إذ رأوا أن توطيد سلطان الفرعون وقتئذٍ على عرشه كان يتوقف على إرضاء الكهنة بإقامة المعابد والهبات الكريمة، والواقع أن «بطليموس الثاني» كان أول من استجاب إلى رغائب الكهنة المصريين بصورة ملموسة. فقد أخذ في إقامة المعابد الضخمة في كل من الوجهين القبلي والبحري، وكذلك أصلح ما تهدم من المعابد القديمة، فكان لا يختلف بما أنجزه من مبانٍ دينية عن عظماء الفراعنة في أمجد عصورهم، ولقد أفردنا للأعمال الدينية العارمة التي تمت في عهد هذا العاهل فصلًا خاصًّا تحدثنا فيه عما أقامه من معابد جديدة، وما أصلحه من مؤسسات كانت قد تداعت، ونخص بالذكر من بين المعابد التي رفع بنيانها معبد «إزيس» المعروف الآن بمعبد الفيلة، وهذا المعبد قد حُفِظ لنا حتى الآن، ويُعَدُّ درة من أنفس الدرر التي خلفها لنا البطالمة من حيث العمارة والفن والدين المصري القديم بما نُقِش عليه من فنون وصور ومناظر.
وعلى الرغم من أن «بطليموس الثاني» قد أقام الكثير من المعابد المصرية الفخمة؛ مما يدل على أن مصر كانت وقتئذٍ في بحبوحة من العيش الرغيد، وأن الأهلين كانوا يتمتعون بعيشة ناعمة، فإن ذلك في الواقع كان لا ينطبق إلا على جماعة الهيلانيين المستعمرين وطبقة الكهنة من المصريين والإغريق وحسب، أما الشعب المصري الأصيل، أو بعبارة أخرى طبقة الفلاحين والكادحين، فقد كانوا يكدون ويكدحون لا لأنفسهم، بل لإرضاء شهوة الملك الذي لم يكن له هم إلا جمع الأموال لإنفاقها على شن الحروب لمد سلطانه على البلاد المجاورة، أو ليبذلها على شهواته وملاذِّه هو ومن حوله من رجال بلاطه وبطانته الذين كانوا كلهم من الأجانب. ومن أجل ذلك، يُعتَقد أن بذور الفتنة التي قامت في البلاد بعد موقعة رفح ترجع أصولها إلى عهد بطليموس الثاني الذي استنزف دم المصريين.
ولم يكن الفلاح يملك شيئًا من الأرض إذ كانت كلها ملكًا «لبطليموس»، والواقع أنه لم يكن للمصريين من الأمر شيء، إلا رجال الدين، وحتى رجال هذه الطائفة فإنهم قد ظلوا متوارين عن الأعين ما دام الملك لا يمس أملاكهم الخاصة، ويستولي على ما ينتجه الفلاح بعرق جبينه وقوة ساعده، ويغدق عليهم بعضه إما في إقامة المعابد أو حبس الأوقاف على الآلهة، هذا فضلًا عما كانوا يملكونه من ضِياع شاسعة تركها لهم البطالمة دون فرض ضرائب عليها. ومن أجل ذلك، كان الوفاق تامًّا بين الفرعون وبين الكهنة ما دام يغدق عليهم الخيرات، ولا يضايقهم في ممتلكاتهم واستقلالهم في معابدهم، وكان الكهنة من جانبهم يمجدونه في أعين الشعب بإصدار المراسيم والمنشورات في هذا الصدد كلما دعت الحاجة إلى ذلك، وكان كل ذلك على حساب الفلاح الكادح الذي كان يفني زهرة حياته بين الفأس والمحراث، ومع ذلك كان لا يكاد يكسب قوت يومه إلا بشق الأنفس؛ لكثرة ما كان يدفع من ضرائب فادحة كانت لا تُحصى، وليت الأمر قد اقتصر على ذلك، بل كان على هذا الفلاح الفقير أن يؤدي أعمال السخرة لسيده ومليكه.
هذا، ولم نقرأ عن واحد من هؤلاء الفلاحين أو من المصريين جميعًا أنه قد نال مكانة رفيعة في وظائف الدولة أو حتى شغل مكانة متوسطة؛ إذ كانت كل هذه الوظائف في أيدي طبقة الأجانب من الإغريق والمقدونيين، وكذلك كانت الحرف الراقية موقوفة على المستعمرين، ولم نسمع في مدة العهد الأول من حكم البطالمة أن مصريًّا كان وزيرًا أو وكيلًا لوزير، أضف إلى ذلك أن كل الحرف والمهن الحقيرة كان يقوم بها المصريون الذين لم يكونوا يعملون في الحقول، وحتى الكهنة أنفسهم لم يكونوا جميعًا في بحبوحة من العيش؛ فقد كان من بينهم طوائف تعمل في أحقر المهن، كما كانوا يعملون كذلك في زراعة الأرض كالمستعمر.
وخلاصة القول: أن «بطليموس الثاني» كان ينظر إلى البلاد المصرية على أنها ضيعته الخاصة، يهب من خيراتها من يشاء، ويحرم من يشاء، ولقد ظل «بطليموس الثاني» يسير على هذه السياسة حتى نهاية حكمه مع المصريين لا همَّ له إلا جمع المال ومد سلطانه في الخارج.
أما طائفة المستعمرين — وهم قلة — فكانت لهم حياة أخرى خاصة بهم على النقيض من حياة الفلاح الكادح، والواقع أن هؤلاء المستعمرين الذين كان معظمهم من الإغريق والمقدونيين كانوا يعيشون بمعزل عن الشعب المصري لدرجة كبيرة؛ والسبب في ذلك يرجع إلى أنهم كانوا يجهلون اللغة المصرية الشعبية جهلًا تامًّا، ولم يهتموا يومًا ما بتعلمها؛ لأنها كانت من جهة لغة صعبة جدًّا، ومن جهة أخرى لأنهم لم يكونوا في حاجة إليها لأنهم كانوا الأسياد المسيطرين على أرزاق الناس شأن كل مستعمر.
وأخيرًا كان السكان المصريون قد انقطعوا عن العالم الخارجي، وأصبحوا لا صلة لهم به أو بعلومه، وكذلك لم يكن للمستعمرين صلة بالمصريين من الناحية العلمية، بل كان اتصالهم وعلمهم وثقافتهم متجهة نحو ثقافة بلادهم الأصلية، والواقع أن الثقافة الإغريقية وقتئذٍ كانت قد انتقلت منذ موت «الإسكندر» وتقسيم إمبراطوريته إلى عواصم الدول التي قامت حديثًا، وكونت العالم الهيلانستيكي وبخاصة الإسكندرية، وكانت كلها تقوم على مبادئ الحضارة والعلوم الإغريقية، ومن ثم أخذت الدول الهيلانستيكية الحديثة التي قامت على أنقاض إمبراطورية «الإسكندر» تتنافس في ميدان العلوم والمعارف والآداب الإغريقية بدرجة عارمة جعلتها محط أنظار العالم المتمدين، فكان يحج إليها العلماء والطلاب من كل أنحاء العالم الهيلانستيكي، وعلى رأسها الإسكندرية التي كانت قبلة للعلم والأدب في كل أنحاء العالم.
وقد رأينا أن البحوث العلمية البحتة قد خطت خطوات واسعة، كما أُحيِيَتْ الآداب القديمة الإغريقية والبحوث التاريخية المصرية، كما فتحت بحوثُ العلماء آفاقًا جديدة غير أن معظمها كان بعيدًا عن الحضارة المصرية إلى حد بعيد؛ فكان لا يُشار إليها إلا من طرف خفي بوصفها مصدر الحضارات القديمة في نظر الإغريق وحسب.
وفي تلك الفترة كان الشعب المصري الأصيل منقطع الصلة عن جماعة الهيلانيين المستعمرين، ويعيش بعيدًا عنهم من حيث الثقافة فكان في عزلة تامَّة، ومن ثَم كانوا يعيشون في عقر دارهم كما كانوا يعيشون من قبل دخول الاستعمار الأجنبي، على زراعة الأرض ومزاولة الحرف والصنائع التي ورثوها عن آبائهم، ولكن بجهد أكبر تلبية لمطالب «بطليموس» الذي كان لا يبحث ولا يريد إلا المال، وقد وصلت إلينا معلومات قيمة عن حياتهم، وحياة المستعمرين من الإغريق والمقدونيين الاجتماعية والدينية من أوراق البردي التي كشف عنها أعمال الحفر في القرنين الأخيرين مما تحدثنا عنه كثيرًا في الجزء السابق من مصر القديمة.
ومما يُؤسَف له جد الأسف أن ما وصل إلينا من أوراق ديموطيقية عن العهد الأول البطلمي، وبخاصة في عهد كل من «بطليموس الأول» والثاني قليل جدًّا بالنسبة لما وصل إلينا عن الإغريق، ويرجع السبب في ذلك — على ما يُظَن — إلى عدم كثرة المعاملات المصرية خارج دائرة بيئتهم، يُضاف إلى ذلك: أن الموضوعات التي كانوا يحررون بها وثائق في معاملاتهم مع المستعمرين كانت قليلة جدًّا، بل ربما كانت تنحصر فيما يخص الأرض وزراعتها وإيجارها، أما المعاملات التي كانت تجري بين المصريين أنفسهم فكانت كثيرة وفي موضوعات شتى، وقد أخذت هذه الوثائق تكثر منذ عهد «بطليموس الثالث» الذي بدأ يحكم مصر منذ عام ٢٤٦ق.م.
على أن أهم ما كانت تصبو إليه نفس «بطليموس الثالث» هو إقامة المعابد المصرية الضخمة إرضاءً للكهنة والشعب المصري، ولاجتذابهم إلى جانبه، ولا غرابة إذن أن نراه أخذ في إقامة معبد للإله «حور» في «إدفو»، وهذا المعبد يُعَد من أروع المعابد المصرية بهجة وفخامة وضخامة، ولحسن الحظ بقي سليمًا حافظًا لرونقه حتى الآن، وما عليه من نقوش ومناظر لا تزال تقدم لنا صفحة من المتون المصرية التي بها أمكن الوقوف على الكثير من الشعائر المصرية التي تضرب بأعراقها إلى الماضي البعيد.
والواقع أن الفضل كل الفضل يرجع إلى هذه النقوش في معرفة كل جزء من أجزاء المعبد، وماهية كل حجرة من حجراته بصورة لا لبس فيها ولا إبهام، وأهم من ذلك توصل علماء الآثار بعد حل كل الرموز التي على جدران هذا المعبد إلى معرفة أنواع العبادات والصلوات التي كانت تُقام فيه يوميًّا، وبخاصة الصلوات الثلاث التي كانت تُؤدَّى فيه يوميًّا، وكذلك الخطوات التي كانت تُتبَع عند أدائها؛ وهذه كانت صلاة الصبح وهي أهمها ثم صلاة الظهيرة ثم صلاة المغرب، وأخيرًا وليس آخرًا نُقِش على جدران هذا المعبد تفاصيل الأعياد العظيمة التي كانت تُقام سنويًّا؛ وهي: عيد رأس السنة أو عيد تتويج الصقر المقدس، وعيد النصر، وأخيرًا عيد الزواج أي عيد زواج الإله «حور» صاحب «إدفو» بالإلهة «حتحور» صاحبة معبد «دندرة»، وكان يُحتفَل بهذه الأعياد سنويًّا، ومن العجيب أن هذه الصلوات وهذه الأعياد كان لا يشترك فيها الشعب؛ إذ كانت وقفًا على صنف خاص من الكهنة.
هذا، وقد امتد نشاط هذا العاهل إلى إقليم الفيوم وبخاصة إصلاح أراضيها، وإدخال المحاصيل الجديدة في مزارعها، كما وطن فيها الجنود المرتزقين الذين حاربوا معه في ساحة القتال في «آسيا» وقد استن سنة جديدة في أراضي هذا الإقليم؛ إذ قد وهب كل جندي قطعة أرض تكون ملكًا له ولأولاده من بعده ما داموا يعملون في الجيش، وبذلك ضمن بقاءهم في مصر تحت تصرفه عند قيام أية حرب، وقد بدأ الإغريق والمقدونيون في تلك الفترة يتزوجُون بالمصريات ولكن على نطاق ضيق، وكان أولادهم يحملون أحيانًا أسماء مصرية وأسماء إغريقية في آنٍ واحد.
وعلى أية حال، تُعتبَر فترة حكم هذا العاهل أحسن فترة في تاريخ حكم البطالمة بوجه عام، وبخاصة عندما نعلم أن إمبراطوريته قد امتدت في بلاد «آسيا» وجزر أرخبيل اليونان إلى مسافات بعيدة، كما أصبح مهيب الجانب عظيم السلطان بين الممالك الهيلانستيكية المعاصرة له، ويرجع الفضل في ذلك إلى أن ملوك البطالمة على وجه عام كانوا يفضلون السلم على الحرب في مواقف كثيرة.
ومما يُؤسَف له جد الأسف أن الملك الذي خلف «بطليموس الثالث» لم يكن كفأ لتولي زمام تلك الإمبراطورية العظيمة التي كانت في قمة مجدها، وآية ذلك أن «بطليموس الرابع» (٢٢١–٢٠٥ق.م) الذي خلف والده «بطليموس الثالث» كان منذ بداية حكمه ملكًا خليعًا. فقد كان مضرب الأمثال في عيشة الخلاعة والفحش والفسوق والدعارة إلى أبعد حد، وقد ساعده على هذه العيشة المشينة في أول سني حكمه بطانة السوء الذين كانوا ملتفين حوله، فاستولوا على مشاعره، وقادوه كما قادوا البلاد إلى مزالق التهلكة والفوضى في نهاية الأمر.
وقد كانت باكورة أعماله أن وزيره «سيسيبوس» قد حرضه على قتل عمه وأخيه وأمه، وأخيرًا أوعز إليه بقتل «كليومنيس» ملك إسبرتا الذي كان قد أجار والده فأجاره ومعه زمرة من جنوده المرتزقين بالإسكندرية. ومما زاد الطين بلة أن «أجاتوكليس» وزيره ونصيحه وأخته «أجاتو كليا» حظية الملك تقودهما أمهما قد استولوا على زمام الأمور في البلاد، وقد بدأ الفساد يسري في كل مرافق البلاد إلى أن طمع في الممتلكات المصرية جيرانها وبخاصة «أنتيوكوس» الثالث ملك سوريا وبابل. فقد استولى على أملاك مصر في سوريا، ثم زحف بجيشه حتى أبواب الحدود المصرية وكاد أن يستولي عليها، لولا أن المصريين وقفوا في وجهه، وانتهى الأمر بتوقيع هدنة تمهيدًا لإبرام صلح دائم، غير أن مصر لم ترضَ بشروط الصلح، وأخذت تستعد للحرب كرة أخرى بغية استرداد «سوريا الجوفاء» التي كانت موضع نزاع مستمر بين البطالمة والسليوكيين منذ بداية حكم البطالمة، وفعلًا دلت شواهد الأحوال على أن مفاوضات الصلح بين الطرفين قد فشلت لأن مصر قد رفضت كل مطالب «أنتيوكوس»، ومن ثم أخذ يستعد للزحف على مصر التي كانت بدورها تستعد خفية لملاقاة عدوها. فقد كانت تدرب جيشًا مصريًّا في الإسكندرية آنذاك.
وقد زحف فعلًا «أنتيوكوس» بجيشه حتى حدود مصر وعسكر بالقرب من «رفح» حيث كان الجيش المصري على أهبة الاستعداد لخوض معركة فاصلة، وكان من حسن طالع «بطليموس الرابع» أن وزيره قد جند فرقة من أبناء مصر الشجعان، ودربها على أحسن النظام لخوض غمار هذه الحرب؛ وذلك بعد أن فطن إلى أن الجنود المرتزقين لا يمكن الاتكال عليهم في حرب مثل هذه. هذا، وكان الجنود المصريون محرمًا عليهم الانخراط في سلك الجندية؛ لأن البطالمة كانوا لا يأمنون جانبهم، كما كان المصريون يشاركونهم في نفس الشعور، ولكن الضرورة حتمت تجنيدهم للدفاع عن وطنهم على الرغم من كل اعتبار، وفي ساحة القتال أظهر الجنود المصريون من ضروب البسالة وحسن البلاء في موقعة «رفح» التي دارت رحاها بين الفريقين ما جعل كفة النصر في جانب الجيش البطلمي عام ٢١٧ق.م.
وكان من نتائج هذه الموقعة الفاصلة أن استرد «بطليموس الرابع» «سوريا الجوفاء» وغيرها من المواقع على ساحل «سوريا»، وبعد انتصار «بطليموس» قام بحملة إلى بلاد «سوريا» وهناك قابله الشعب السوري بكل ترحاب، وبعد ذلك عاد إلى مصر حاملًا معه كل تماثيل الآلهة التي كان قد استولى عليها الأعداء من قبل في حروبهم؛ وبذلك أرضى طائفة الكهنة. غير أن النصر الذي أحرزه المصريون في ساحة القتال قد أيقظ في نفوسهم روح العزة الوطنية، والشعور بشخصيتهم، وبخاصة عندما نعلم أن كل مقاليد الأمور كانت في يد الأجانب، وأنهم ليس لهم من الأمر شيء، وأنهم الكادحون المغلوبون على أمرهم يعملون ويكدحون؛ ليجني ثمرةَ جهدِهم الأجانبُ الذين برهنوا في ساحة القتال على أنهم مخنثون جبناء؛ ومن أجل ذلك بدأ المصريون بالخروج على نظام الحكم البطلمي وإعلان العصيان، وقد كان ذلك أولًا في الدلتا حيث كان لا يزال فيها بعض سلالات الفراعنة السابقين الذين حتمت عليهم الأحوال أن يختفوا عن الأنظار، وهؤلاء قد ترأسوا العصيان وأقاموا لأنفسهم حكومة في قلب مناقع الدلتا.
وهكذا استمرت حرب العصابات بين المصريين والبطالمة لا تخمد نارها، ولم تلبث بعد ذلك أن امتدت بذور الثورة إلى الصعيد، وسنرى فيما بعد أن المصريين قد نصبوا عليهم ملوكًا من المصريين كانوا يحملون الألقاب الملكية وتزيوا بزي الفراعنة.
وفي تلك الأثناء كان «بطليموس الرابع» وبطانته لا حول لهم ولا قوة قبل هذه الثورات، ومع ذلك كان لا ينفك عن الانغماس في شهواته وملذاته بصورة لا يُعرَف لها مثيل كما فصلنا القول في ذلك، وهكذا استمر في تهالكه على الكأس والطاس والفجور والعصيان حتى مات في أحضان الغانيات والغلمان؛ ومما زاد الطين بلة: أن زوجه «أرسنوي الثالثة» التي عاشت طوال حياتها مبعدة عنه وعن شئون الملك قد اغتيلت بدورها بتحريض من «أجاتوكليا» حظية الملك الأولى، وقد كان لاغتيالها رنة حزن وأسي في قلوب الشعب الإسكندري الذي انتقم لها كما سنرى بعد.
وعلى أية حال فقد اختفى «بطليموس الرابع» من مسرح الحياة تاركًا الملك لطفل صغير كانت قد أنجبته له «أرسنوي الثالثة» قبل وفاتها بقليل.
ومن الغريب المدهش أنه على الرغم من عيشة الخلاعة واللهو التي كان يعيشها «بطليموس الرابع» فإنه كان يتمتع بمزايا حسنة لا يمكن إغفالها. فقد رأيناه بعد عودته من بلاد «سوريا» يغدق الإنعامات على رجال الدين والمعابد المصرية، كما أخذ في إقامة المعابد في كل أنحاء البلاد بصورة تلفت النظر إرضاء للمصريين، كذلك نجده قد أخذ في الإشادة بعبادة الإله «ديونيسوس» وإقامة شعائره، وبخاصة لأنه كان إله الخمر والشراب من جهة، ومن جهة أخرى كان يقابل عند المصريين على وجه التقريب الإله «أوزير». يُضاف إلى ذلك أنه في عهده أخذت قوة الكهنة تزداد لدرجة أنهم حتموا استعمال المراسيم المصرية، وترجموها إلى الإغريقية بعد أن كانت لا تُستعمَل قط في المراسيم الإغريقية، وأخيرًا وليس آخرًا نجد أن «بطليموس الرابع» أخذ في تنصيب كهنة يُعيَّنون سنويًّا لعبادة «بطليموس الأول» وجعله إلهًا رسميًّا هو وزوجه «برنيكي»، وذلك على غرار ما كان يُعمَل «لبطليموس الثاني» وزوجه «أرسنوي الثانية». يُضاف إلى ذلك أن «بطليموس الرابع» كان مؤلفًا وشاعرًا، فقد كتب روايات وأشعارًا أهداها إلى «هومر» أبي الشعراء الإغريق. وعلى أية حال، فإن التاريخ يقف موقف الحائر عما وصل إلينا من روايات متضاربة عن هذا العاهل، والخلاصة: أنه قد جمع بين المجون والخلاعة والدعارة والتدين والعلم والأدب.
وعلى أية حال، فإن عصره يُعتبَر عصر تحول في تاريخ أرض الكنانة؛ إذ في عهده دبت الروح الوطنية في الشعب المصري الأصيل، وأخذ ينفض عن نفسه عار الاستعباد الذي لم يرضَ به قط طوال تاريخه المديد إلا تحت الضغط الشديد. والواقع أن البلاد في تلك الفترة قد أخذت تنحدر نحو الانحلال والفوضى بسبب الثورات التي قام بها المواطنون المصريون، وقد استمرت الأحوال من سيئ إلى أسوأ إلى أن جاء الرومان فاغتصبوا مقاليد الأمور في أرض الكنانة بسهولة ويسر.
هذا من الناحية السياسية الهيلانستيكية، أما من ناحية الشعب المصري نفسه — إذا استثنينا جماعة الثوار — فقد كان يعيش عيشة التقشف والضنك، يكدح طول يومه في الحقل أو في المعمل أو في خدمة المستعمر في الأعمال الحقيرة. ولا غرابة إذن إذا كان كل ما وُجِد له من آثار لا يدل على أي تدخل في شئون حكومة البلاد في الداخل أو في الخارج.
وينحصر كل ما تركه لنا المصري في هذه الفترة من آثار مدونة في طائفة من الوثائق الديموطيقية التي تضع أمامنا صورة واضحة عن المعاملات التي كانت تجري بين المصري وأخيه المصري، وأحيانًا بين المصري وبين المستعمر الهيلانستيكي، وكلها محصورة في الشئون الاجتماعية المحلية، ومما يؤسف له جد الأسف أن هذه الوثائق لم يُعثَر عليها في مناطق متفرقة من مناطق القطر المصري، بل وُجِدَت أغلبيتها في مناطق معينة محددة معروفة، وبخاصة في منطقة «طيبة» التي تُعَد المصدر الرئيسي للأوراق الديموطيقية في العصر البطلمي.
ومما يلفت النظر في هذا الموضوع أن الوجه البحري لم يُعثَر فيه على أوراق ديموطيقية من هذا العهد حتى الآن، وقد يكون السبب في ذلك عدم ملاءمة الجو لحفظ مثل هذه الوثائق لشدة الرطوبة فيه. هذا، وقد عُثِر كذلك في «الفيوم» على عدد عظيم من أوراق البردي التي كشفت اللثام عن حقائق هامة في تاريخ هذه الفترة من حكم البطالمة.
وعلى أية حال، فإنه على الرغم من أن ما لدينا من وثائق ديموطيقية لا تمثل مختلف جهات القطر، فإنها مع ذلك تميط اللثام عن كثير من أوجه الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية في أعظم مدينة مصرية قديمة، وما جاورها من قرى. والواقع أنه أصبح في متناولنا الآن من هذه الوثائق ما يحدثنا عن إيجار الأطيان والبيوت وبيعها وشرائها، كما وصلت إلينا وثائق عن رهونات ووصايا وقضايا نزاع وأوقاف، وقسمة وإيصالات ضرائب وهبات وسلفيات وشكاوى وبيع، ووظائف وتعهدات وتسديد ديون وتنازلات، وعقود زواج وعقود طلاق، هذا بالإضافة إلى وثائق خاصة بتأليف مؤسسات دينية تعاونية ووثائق ضمانات عن عقار وأشخاص.
ومن الموضوعات الهامة التي كشفت لنا عنها هذه الوثائق بصورة غير مباشرة؛ ما كان في البلاد وقتئذٍ من حِرَف وصنائع ووظائف كهنية وحكومية، وقد وصلنا إلى ذلك مما عرفناه عن أصحاب هذه الوثائق والحرف التي كانوا يحترفونها، يُضاف إلى ذلك أن نفس الأسماء الأعلام في هذه الوثائق كانت كلها مركبة تركيبًا مزجيًّا مع أسماء آلهة، ومن ثم كان في مقدورنا أن نعرف الآلهة الذين كانوا يُعبدون في هذه المدن بصورة بارزة.
هذا، وقد عرفنا كذلك من هذه الأوراق الديموطيقية الحالة التي انحدرت إليها مدينة «طيبة» في تلك الفترة، يُضاف إلى ذلك ما كشفته لنا عن المعتقدات الدينية في تلك الفترة، وكذلك حالة الطبقة الدنيا من رجال الكهنة، وما وصلوا إليه من فقر وبؤس، والواقع أن مثلهم كان كمثل الفلاح الكادح الذي لا ينال قوت يومه إلا بشق الأنفس.
هذا، ولدينا بعض وثائق فريدة في بابها تكشف لنا عن نواحٍ هامة في حياة المجتمع المصري، وما كان بين أفراده من ارتباط وثيق جاء عن طريق تأليف الجمعيات، وبخاصة الدينية منها. فقد كانت هذه الجمعيات تسعى إلى رفع مستوى الأفراد من الناحية الخلقية والاقتصادية، وكذلك لدينا وثائق من هذا العهد تدل على عناية الأسرة بتنشئة الطفل، ورضاعته حتى يصبح عضوًا عاملًا صحيحًا في المجتمع المصري.
ونقرأ بين سطور بعض هذه الوثائق وجود بعض عادات ومعتقدات قد انحدرت إلينا من الماضي البعيد، ولا تزال باقية في عهدنا الحالي، نخص بالذكر منها تقديس الأولياء والشهداء وعبادتهم بوصفهم آلهة، وحبس الأوقاف عليهم وعبادتهم.
ومن الأشياء البارزة التي تكشف عنها وثائق هذا العهد عبادة الحيوانات، فقد ازدادت بصورة واضحة، وقد بولغ في تقديس هذه الحيوانات لدرجة عظيمة لم يُسمَع بها من قبل في العهد الفرعوني لدرجة أن إنقاذ قطة من الحريق كان يُعتبَر أهم من إخماد النار نفسها.
ومن أهم الموضوعات التي ظلت غامضة في حياة الأسرة المصرية حتى جاء عهد البطالمة، وكشف عنها اللثام موضوع الزواج والطلاق، والواقع أنه لم تصل إلينا وثيقة صريحة عن الزواج في العهد المصري القديم، وقد ظلت الحال كذلك إلى العهد الديموطيقي وبخاصة في العهد البطلمي، حيث عُثِر على سلسلة وثائق خاصة بالزواج صريحة، نُصَّ فيها على ما كان للزوجة من حقوق، فكان على الرجل أن يدفع لها صداقًا، وأنها تصبح شريكة له في كل أملاكه بحق الثلث، وأن أولادها من بعدها يحلون محلها، وأن حقوقها كانت محفوظة لها فيما يتعلق بجهازها الذي كانت تحضره معها إلى بيت الزوجية، كما هي العادة الآن في مصر في كثير من الأحوال، وعندما كان الرجل يطلق المرأة دون سبب يشينها، فقد كان لها الحق في تعويض باهظ كان الرجل في معظم الأحيان لا قبل له في تحمله؛ ومن ثم نجد أن وثائق الطلاق كانت نادرة على ما يُظَن لهذا السبب، ومن الغريب أنه في العهد الفارسي كانت العصمة أحيانًا في يد الزوجة، هذا وقد وجدنا وثائق زواج كانت المرأة هي التي تدفع صداقًا لزوجها.
وأخيرًا نلحظ أن العقود المصرية في هذا العهد كانت تُكتَب بصيغ خاصة على حسب الموضوع تكرر في كل الحالات المشابهة تقريبًا، والشيء الذي يلفت النظر في هذه الوثائق بوجه عام هو أنها كانت مكتوبة بدقة وعناية؛ مما يدل على يقظة أصحاب الحقوق، وحذرهم من الوقوع في أي ملابسات قد تسبب سوء فهم ومقاضاة، والواقع أن الإيضاحات التي تحتويها هذه الوثائق لا تجعل مجالًا لأي شك أو إبهام في كلمات العقد.
هذه نظرة عامة عما جاء في هذه الفترة من عهد البطالمة الأول، وما كان فيها من أحداث، وبخاصة الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية التي كان يعيشها الشعب المصري الأصيل الذي ظل تاريخه في عهد البطالمة مجهولًا إلى حد بعيد، واللهَ نسأل التوفيق لما فيه خير الوطن.
وإني أقدم هنا عظيم شكري للأستاذ إبراهيم كامل الأمين بالمتحف المصري؛ لما بذله من مجهود صادق في قراءة تجارب هذا الكتاب، ورسم بعض أشكاله، كما أشكر السيد نبيه إبراهيم كامل على ما قام به من مجهود لعمل الفهرس، كما أشكر السيد آدم مدير مطبعة كوستا وهيئة الفنيين؛ لما بذلوه من إتقان وعناية في إخراج الكتاب.