الفصل العاشر

الحرب السورية الرابعة

رأينا فيما سبق أن «بطليموس» وبطانة السوء الملتفِّين حوله قد وجَّهوا جهودهم في بادئ أمرهم للقضاء على كل عدوٍّ يقف في وجه سيادتهم في داخل البلاد، وتخليص الملك من كل شائبة أو عقبة تعترض نفوذهم، وكان من حسن حظ مصر في هذه الفترة أن «أنتيوكوس الثالث» الذي كان يتحرق شوقًا إلى استرداد بلاد سوريا التي طالما حارب بيت السليوكيين من أجلها، قد تحولت أنظاره وقتئذٍ إلى جهة أخرى كان الخطر يطلُّ عليه منها؛ وذلك أنه عندما علم «أنتيجونوس» ملك مقدونيا أن «بطليموس الثالث» قد حضره الموت كان غرضه أن يقوم بحملة على شاطئ «ميديا» و«فارس». غير أن موت «بطليموس» وما كان معروفًا عن خَلَفِه من خلاعة ومجون قد فتح أمام «أنتيوكوس» آفاقًا جديدة، وبخاصة عندما نعلم أن هذا العاهل كان يتأثر عن طيب خاطر في هذه الفترة بنصائح وزيره المسن «هرمياس» الكاري المنبت؛ ولا غرابة في ذلك فإن «سليوكوس الثالث» كان قد جعله شبه وصي على عرش الملك أثناء قيام الأخير بالحملة التي لاقى فيها حتفه، وقد عرف كيف يجعل نفوذه يستمر في عهد الملك الجديد.

وقد وصف لنا المؤرخ «بوليبيوس»، شخصية «هرمياس» هذا الذي أصبح الوزير الأول للملك «أنتيوكوس» بعبارة تذكرنا بأخلاق «سوسيبيوس» وزير «بطليموس الرابع»؛ فقد وصفه بأنه حسود سيِّئ الظن قاسٍ معقد وغد إلى أقصى حدٍّ، فضلًا عن أنه كان يجهل فنون الحرب وسياستها، وقد أراد هذا الوزير — كما يقص علينا «بوليبيوس» — أن يجعل الملك في قبضة يده، وأن يشغله بصورة لا تجعل عنده من الوقت ما يمكنه من أن يشرف على ما يقوم به هذا الوزير من حركات وأعمال في خارج البلاد وداخلها؛ فنجد أن هذا الوزير بدلًا من أن يترك سيده يسافر إلى بلاد الشرق للقضاء على الفتن ينصحه بألَّا يحطَّ من كرامة نفسه، ويعرض حياته للخطر باقتفاء الثائرين الذين خرجوا عليه، وذلك زعمًا منه أن مِثْل هذا العمل من وظيفة قواده، وأن الأجدر به أن يقوم بالحرب بنفسه بالهجوم على مدينة «بطوليمياس» في سوريا الجوفاء حيث يقابل «بطليموس» وجهًا لوجه، وقد زيَّن له «هرمياس» أن هذه الحرب لا خطر فيها، وذلك بسبب خمول «بطليموس الرابع» وتراخيه وانصرافه عن ممتلكاته خارج حدود مصر. غير أن ناصحًا آخر من قواده يُدعَى «أبيجين» شكَّكه في هذا المشروع برأي على النقيض؛ غير أن «هرمياس» حبًّا في تنفيذ مآربه قيل إنه زوَّر خطابًا قدمه للملك قال عنه إنه وصل إليه من «آخاوس» يعده فيه بأنه سيساعده بقوة، وذلك بتزويده بالمال والسفن إذا أراد أن يستولي على تاج هذه البلاد.

وبهذه الحيلة أفلح «هرمياس» الماكر في إثارة «أنتيوكوس» على «بطليموس الرابع» وفي أن يجعل «آخاوس» موضع شكٍّ عند عمه، وعلى ذلك نرى أن «أنتيوكوس» قد أرسل — على حسب رأي «هرمياس» — إلى الشرق جيشًا بقيادة إكزنون Xenon و«تيودوتوس» Theodotos الذي كان يُلقَّب «هرميوليوس» Hermiolios، وأخذ في الاستعداد لغزو «سوريا الجوفاء»، وكانت الفرصة سانحة أمام «أنتيوكوس» لأن أحوال الجيش المصري كانت غاية في التدهور، وسوء النظام، وقلة التدريب، وعلى ذلك لم يتوان «أنتيوكوس» في الهجوم على سوريا إلا فترة قصيرة كان في خلالها يقترن بابنة الملك «ميتراديس الثاني» وهي التي تُدعَى لاؤديس، وقد كان هذا التأخير القليل في الزحف على «سوريا» سببًا في حلول كوارث بقواده مما حفَّزه على الذهاب بنفسه لنجدتهم، ومن أجل ذلك أخذ قيادة الجيش بنفسه عند «أباما» وزحف به على لاؤديسي لبنان في صيف عام ٢٢١ق.م ومن هناك دخل «أنتيوكوس» وادي «مارسيا» أحد روافد نهر العاصي (الأرنت)، وعند مدخل الوادي تصادم جيش «أنتيوكوس» بحِصنَيْ «بروخي» Brochi و«جرها» Gerrha وكان قد احتلهما فعلًا حاكم «سوريا الجوفاء» «تيودوتوس الأيتولي» Etolien، ولما كان «تيودوتوس» محصَّنًا بالخنادق والمتاريس التي كانت تحيط مواقعه، فإنه جعل جنود الأعداء تترقب عبثًا في البِرَك والأوحال التي في هذه الجهة، ولما لم يجد «أنتيوكوس» — في نهاية الأمر — لنفسه منفذًا لاختراق الحصنين رجع أدراجه إلى أنطاكية؛ حيث كانت أخبار النحس قد وصلت إليه من الشرق، وكان الوقت قد أزِف ليأخذ «أنتيوكوس» حذره، وتفسير ذلك: أن القائد الأعلى «أكزنوتاس» قد أهمل في تحركاته لدرجة أنه أُخذ على غرة على شاطئ نهر «دجلة»، وتفرَّق شمل جيشه، في حين أن القائد «مولون» كان مسيطرًا على «سليوس» وزحف إلى قلب «مسوبوتاميا»، وفي تلك الأثناء جمع «أنتيوكوس» كلَّ ما لديه من جنود، وزحف بسرعة خاطفة لأجل أن يسدَّ الطريق في وجهه في نهاية عام ٢٢١ق.م، ومن ثَم بدأت سلسلة الحملات المظفرة التي هيَّأت له أن يحمل لقب «الملك العظيم» وأن يحفظ اسمه في التاريخ بوصفه الملك «العظيم».١

وعلى أية حال كان من حسن حظ «بطليموس الرابع» وبطانته أن «أنتيوكوس الثالث» هذا قد شُغِل عن مهاجمة «سوريا الجوفاء»، وقد انتهز «سوسيبيوس» هذه الفرصة قبل الدخول مع «أنتيوكوس» في حرب فقضى على كل عقبة كانت تعترض سبيل سيده في داخل البلاد، كما ذكرنا من قبل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن مصر قد أصبحت وقتئذٍ في موقف شرعي للدفاع عن سوريا التي حاول «أنتيوكوس» أن يستولي عليها عَنْوَة؛ ومن ثَم أخذ «سوسيبيوس» في حَبْك المؤامرات لتنفيذ خطته، وكانت الطريق أمامه واضحة. هذا، وكان «هرمياس» نصيح «أنتيوكوس» قد تنبَّأ بها دون كبير عناء، وذلك أنه كان في الإمكان أن ينقلب «آخاوس» مناهضًا للملك «أنتيوكوس» ويكون أكثر خطرًا عليه من الشطربين اللذين خرجا عليه في الشرق كما أسلفنا، ولكن مما يُؤسَف له جد الأسف أن المصادر عن هذا البطل المخلص لم تسعفنا بمعلومات شافية عن الدسائس التي كانت تُحاك حوله، والتي انتهت بالتغلب عليه بسبب تردُّده.

والواقع أن «آخاوس» هذا لم يكن رجلًا صاحب مطامع يتلاشى أمامها ضميره؛ فقد رأينا أنه خدم «سليوكوس الثالث» بإخلاص، وانتقم له من قاتله، وبعد انتصاره على أعدائه رفض بإباء أن يتسلم تاج الملك الذي قدمه له أجناده، بل فضَّل أن يحفظه «لأنتيوكوس» الثالث عمه وشقيق الملك المتوفَّى، وعلى أية حال نجده عندما أصبح سيِّد كل آسيا الصغرى، وبعد أن قهر «أتالوس» الذي أصبح محصورًا في إقليم «برجام»، قد أظهر حتى الآن سموًّا في الروح وإباء.

ولكن بعد ذلك نرى أن نشوة الانتصارات التي أحرزها قد أخذت تستولي على مشاعره٢ وتجعله ينحرف عن مسلكه المثالي الذي نشأ عليه. هذا، ولم يقدم لنا المؤرخ «بوليبيوس» أيَّ سبب آخر عن انحرافه، ولم يحدثنا بأي شيء عن علاقات كانت بين «آخاوس» وحكومة الإسكندرية، وذلك لأنه كان معتقدًا أن الخطاب الذي قدمه «هرمياس» إلى «أنتيوكوس» في العام السابق كان خطابًا مدسوسًا عليه، ومن المحتمل أنه كان في الأمر شيء من الصحة، وبخاصة عند نعلم أن والد «آخاوس» المسمى «أندروماكوس» كان سجينًا في الإسكندرية، وأن الأول كان يريد خلاص والده بكل ما لديه من قوة وسعة حيلة،٣ ويقول «بوليبيوس» عند تحدُّثه عن المفاوضات التي كان يقوم بها فعلًا بنجاح في هذا الصدد مع حكومة «رودس» بأنها لم تأت بنتائج مرضية، وكان من جرَّاء عدم نجاح هذه المفاوضات الأولى لخلاص «أندروماكوس» أنْ دلَّت الأحوال على أن حكومة «بطليموس الرابع» قد جعلت مقابل ذلك ثمنًا باهظًا، ومن أجل ذلك أبى «آخاوس» أن يشتري خلاص والده بخيانة وطنه، ومهما يكن من أمر فإن «أندروماكوس» كان لا يزال حيًّا في الإسكندرية عندما خضع «آخاوس» لإلحاح ناصحه «جارسيريس» Garsyris واتخذ الخطوة الحاسمة، وكانت الفرصة مواتية، وذلك أن «أنتيوكوس» كان وقتئذٍ في «أتروباتين» Atropatine معرَّضًا لكل أخطار الحرب، وعلى أية حال كان بعيدًا جدًّا حتى يتدخل في الوقت المناسب.
أضف إلى ذلك أنه في «سيرهستيك» Cyrrhistique التي تقع على مسافة قصيرة من «الماكية»؛ كانت قد حدثت ثورة لا ندري سببها، وكانت لا تزال مستمرة مما سهَّل المشروع، ومن ثَم غادر «آخاوس» «سارديس» عاصمته بجيش دون أن يُخْبر جيشه بالجهة التي يقودهم إليها، وعندما وصل إلى «لاؤديس» الفريجية استولى على تاج الملك وأعلن نفسه ملكًا. غير أن جنوده المرتزقة الذين كانوا — على ما يُحتَمل — لا يرحبون بهذا العمل لو أطلعهم على حقيقة غرضه في بادئ الأمر؛ من أجل ذلك شعروا أنه لم يكن صريحًا معهم في هذه اللعبة التي لعبها، وأخذوا يتألَّبون عليه، وذلك أنهم بعد أن قفَّوا أثره حتى وصل إلى ليكاؤني Laycaonie وعندها أبى الجنود التقدم معه في سيره معلنين أنهم لا يرضون لأنفسهم أن يقوموا بحملة على مليكهم الشرعي الذي أخذوا على أنفسهم المواثيق أن يخلصوا في خدمته، وعندئذ أحسَّ «آخاوس» بحرج موقفه، واحتجَّ بأنه لم يقصد قط أن يقودهم إلى سوريا، وعلى ذلك انقض بجيشه على «بزيديا» Pesidia حيث استولى فيها على غنائم عظيمة لجيشه؛ وبعد ذلك عادت المياة إلى مجاريها مع جنوده،٤ وسواء أكان «آخاوس» مخلصًا في الحركات التي قام بها أم لا، فإن شك جنوده المرتزقة كان علامة جديدة يجدر ملاحظتها؛ لأننا سنراها تُكرَّر على الأقل مرتين أخريين في نفس هذا العام، وكان ذلك سببًا في الإسراع بهزيمة القائد «مولون» كما يقول المؤرخ «بوشيه لكلرك».٥
fig18
شكل ١٠-١: أنتيوكوس الثالث.

عاد بعد ذلك «آخاوس» إلى «سارديس» مقر حكمه بعد خيبته؛ ليرفِّه عن نفسه بعض الشيء، ولكن لسوء الحظ وجد نفسه أمام مشاكل مختلفة، ومسائل معقدة لا بدَّ من العمل على حلِّها؛ فمن ذلك أن أهالي جزيرة «رودس» قد أعلنوا الحرب على البيزنطيين كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وكان على كلٍّ من المتحاربين أن يسعى إلى عقد محالفة مع «آخاوس» وقد وعد من جهته في بادئ الأمر بمساعدة البيزنطيين، ولكن نجده بعد ذلك قد استسلم لإلحاح أهل «رودس» ولجاجاتهم، وقَبِل مدَّ يد العون لهم، وبخاصة أنهم كانوا على صفاء تام مع مصر، وأخذوا على أنفسهم أن يفاوضوا من جديد حكومة «بطليموس الرابع» في فك أسر والده «أندروماكوس». غير أن «بطليموس» عندما وصل إليه سفراء «رودس» أراد أن يحتفظ «بأندروماكوس» وكان أمله من وراء ذلك أن يستعمله في تنفيذ أغراضه عندما تحين الفرصة، ويرجع السبب في ذلك من جهة إلى أن موقفه من «أنتيوكوس» كان لا يزال غير مستقر؛ ومن جهة أخرى إلى أن «آخاوس» بعد أن أعلن نفسه ملكًا قد تصرف في أشياء محدودة لا بد أن يُنظَر إليها بعين الاعتبار، وتفسير ذلك أن «سوسيبيوس» قد حسب حسابه في أنه لما كان «آخاوس» قد أعلن فعلًا خروجه على «أنتيوكوس» فليس لديه سبب لشراء إجابته ليكون في صفه؛ لأن والده «أندروماكوس» يمكن أن يُستخَدم في جعل ابنه «آخاوس» يقوم له بخدمات آخرى.

غير أن أهل «رودس» الذين كانوا في حاجة ماسة لمساعدة «آخاوس» ألحو في طلبهم على «بطليموس» الذي كان يريد أن ينزل لهم عن كل طلباتهم، فقبل في نهاية الأمر بتسليم «أندروماكوس» ليعود لابنه،٦ وعلى أية حال نفهم مما أورده المؤرخ «بوليبيوس» في هذا الصدد أن «بطليموس الرابع» قد تجنَّب وقتئذٍ عقد معاهدة مع «آخاوس» يكون له فيها فائدة، لدرجة أنه لم يقبل أن يعده صديقًا له، وعلى أية حال كان يعتبر «آخاوس» مساعد بلاط الإسكندرية، والواقع أن رجال السياسة في الإسكندرية كان من فائدتهم أن يظلوا في موقف بين بين أو بعبارة أدق في موقف مذبذب يسمح لهم فيما بعد أن ينحازوا إلى الجانب الأقوى، أو إلى الجانب الذي يقوم لهم بأفضل معاونة.
١  Bevan Antrochus III and The title Great King, Journal of IIellen stud, XXII, (1902). P. 241–244.
٢  Polyb. IV, 48.
٣  Polyb. IV, 51.
٤  Polyb., V, 57.
٥  B.L.I. P. 299.
٦  Polyb., V, 51.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤