خاتمة

نصل إلى خاتمة الموضوع، وإلا فإن الموضوع من وجهة نظر الفكر المنهجي يمثل بداية وفاتحة مرحلة جديدة لاستئناف النظر في قضايا ما تزال فيها الجهود قليلة وفردية، فالمسألة ليست مسألة بحث يُكتب في مرحلة من المراحل، بقدر ما هي قضية الأمة المركزية المطروحة على استمرار، التي تستدعي تكاثف الجهود؛ وتجميع الطاقات الإبداعية على اختلافها وتنوعها في الأمة، التي تقف اليوم على عتبة تحولات جوهرية تضعها بين مصيرَين لا ثالث لهما:

إما المشاركة في تأسيس مشروع حضاري عالمي واستئناف عملها التجديدي، وإما التبعية الدائمة والمركبة للآخر. ولهذا كان سعينا في هذا العمل إبراز بعض الإشكالات المعرفية والمنهجية التي حالت دون الانطلاقة الطبيعية لها في مشروع استكمال استقلالها الاستقلال الفكري والمنهجي، لصياغة الحلول المناسبة لإشكالاتها وتوسيع أُفق عمَلها وانتظاراتها المستقبلية.

وقد ميَّزنا في هذا العمل بين ثلاث مدارس في الفكر العربي المعاصر:

المدرسة القومية التي استشعرت مبكرًا قضية التحيز لاختيارات الأمة وبرامج عملها، وحقها في المحافظة على تميزها الحضاري، بعد محاولات نقدية من الداخل، لكنها بقيت وفية في كثير من أطروحاتها على مستوى التحليل للإطار المرجعي للحضارة الغربية، ولم تستطع أن تُنجز ما وعدت، لعجزٍ في تصوُّرها أو خللٍ في أدوات العمل عندها.

المدرسة العلمانية التي فضَّلت الإبحار خارج المياه الإقليمية والحدود الجغرافية والتاريخية للأمة، وانخرطت بشكل كلي في مشروع الآخر الذي رأت فيه الحل النهائي لأزمتها، فشرعَت في استيراد النماذج الجاهزة والمعلبة، دون اعتبار للشروط الحضارية والتاريخية لهذه النماذج وللمجتمع المراد تحديثه، فافتقدت آليات التحليل عندها للزمن التاريخي وللوعي الحضاري، في حين أن عملية التحديث والنهضة عملية شاقة يرتبط فيها ما هو نفسي بالتاريخي والواقعي والعقدي.

أما النموذج الثالث الذي اشتغلنا عليه «المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر» فقد توخَّى أن تسلك الأمة مسلكها الطبيعي الذي سلكته كل أمم العالم في مشاريعها النهضوية، مسلك الذات والهُويَّة الحضارية العربية الإسلامية، لا مسلك المقايسة المعكوسة، دون أن يعنيَ ذلك بخس جهود المدارس الأخرى.

وخلَصنا في هذه الدراسة المتواضعة إلى نتائج تقريبية غرضها البحث عن سُبل المواجهة لكل مظاهر القصور في الأمة، أكَّدنا فيها أن اهتمامات وانشغالات الفكر العربي المعاصر لم تكن تعكس حقيقة هموم الأمة بقدر ما كانت قضايا مستعارة، كانت نتيجتها الهزيمة، التي يقر بها رواد هذا الفكر (من القوميين واليساريين) على كل المستويات.

هذا الفشل يرجع في تقديرنا إلى طبيعة الفكرة التي يحملها هذا الفكر وضعف دلالتها الوظيفية الاجتماعية، أي إنها تفتقد إلى مبرر وجودها واستمرارها في الواقع والوجدان العربي، فطبيعة الفكرة الدافعة هي التي تقف وراء أي مشروع ومقدار قوتها في لحظة الانطلاق، وهذا ما افتقدت إليه الفكرة التي شكلت نقطة ارتكاز في مشروع هذا الفكر الذي نَظَر إلى مجتمعه بمركبات ذهنية خارج السياق العربي وبعنف في كثير من الأحيان.

وإن الأسس والمنطلقات المنهجية التي ابتكرها الغرب كانت استجابة ذاتية، ووفق منطق داخلي وتطورات تاريخية مرتبطة بالسياق الغربي، غير قابلة للتعميم الصارم، لهذا فإن أي تناول علمي لهذه الأسس، ومحاولة تقريبها إلى المجال التداولي العربي الإسلامي، ينبغي — وبالضرورة — أن يضع في الاعتبار هذا السياق التاريخي والحضاري.

كما حاولنا خلال هذا العمل أن نبرهن أن المشكلة المنهجية التي تواجه الأمة في حاضرها ومستقبلها هي مشكلة المفاهيم، حيث ظلت وإلى الآن تحت الاستعمار المفهومي الغربي (في التربية، والاقتصاد، والسياسة، والمعرفة وفروعها …) دون أن تقوى على صناعة مفاهيمها الذاتية، وأن أي تخطيط للمستقبل إنما يبدأ من معركة المفاهيم وتحقيق الاستقلال على مستوى مقولات التحليل والتفسير، مع تطوير منهجية استيعاب المفهوم الوافد وتتبع آثاره في ثقافة الأمة ودرجة انسجامه مع أصولها؛ لأن فهم المنهجيات الوافدة واستيعابها هو ارتقاء في المواجهة وخروج من التبعية وقدرة على الإبداع.

إن حل القضايا الخلافية الفكرية والمعرفية بين دعاة التقليد للغرب والاستقلال الحضاري سبيله الحوار النافع بحثًا عن نقاط الاتفاق وتعزيزها — لأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا — ونقاط الاختلاف وتقريب وجهات النظر فيها. ويبدو أن التحولات الراهنة للواقع أكبر تحدٍّ للنخب العربية على إجراء نقد ذاتي وعقلاني لبدء مرحلة جديدة حول المرتكزات الفكرية والمنهجية المخلصة لها من أمراض التقليد التاريخي والغربي.

التأصيل لقواعد المنهجية الإسلامية لا بد أن يرتكز على مكونات وعناصر متكاملة، وإغفال عنصر من هذه العناصر سيضر لا محالة بالموقف الفكري المنهجي السليم، ويُفوِّت على الأمة توطين الذات، ويُضعفها في ساحة المواجهة مع الاختيارات المنهجية الأخرى.

اختيارات ترتبط بالوحي إطارًا منهجيًّا، ومرجعيًّا شاملًا للمعرفة الإسلامية، وبناء التصورات والاختيارات الكبرى، ثم التراث بمدارسه المختلفة التي تعتبر ترسانة فكرية وخبرة منهجية لا يمكن تجاهلها في أي بناء فكري ومنهجي، فإذا جاز لأمم العالم أن تُفرِّط في تراثها، فإنه لا يجوز للأمة العربية الإسلامية التي يشكل التاريخ ذاكرتها الحضارية، بشرط تطوير منهجية القراءة والاستيعاب. منهجية قادرة على استصحاب قيم الحق الثابتة فيه، والواقع وما يفرزه من إشكالات معرفية، ومعالجات منهجية لطوارئ الأحداث والقضايا.

كما لا تستغني عن الانفتاح على التراث الإنساني العالمي — لا الغربي — ومستجدات المنهجيات وفق منهجية تُجنبنا تكرار التجارب الفاشلة.

هذه الدراسة جهدُ مُقلٍّ أحسبه لَبِنة في الفكر المنهجي تنتظره لبنات أخرى، حاولنا فيه قدر الوسع والطاقة أن نلامس بعضًا من الإشكالات المنهجية، ومجالات وأسباب القصور فيها في الفكر العربي المعاصر، وحاجة الأمة إلى وصفات منهجية تشفي العلل، وتزيد المناعة الذاتية قوة وصلابة.

والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.
حُرر ببني ملال، ١٣ من ذي الحجة ١٤٣٩ﻫ، الموافق ٢٥ غشت ٢٠١٨م.
د. عبد الله أخواض

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤