الفصل الثالث

المدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر: الرؤية والمنهج

(دراسة في نماذج)

عاشت الأمة العربية الإسلامية أطوارًا حضارية متقلبة ومتناقضة في تشكيلها الفكري والمنهجي، وكانت مسرحًا لتجارب فكرية ومشاريع إصلاحية منذ طرح سؤال النهضة، وأطوارًا متنقلة بين مدارس فكرية غريبة الهُويَّة والحضارة، لم تثمر ما كانت ترجو وتصبو إليه من تحقيق النهضة والتقدم والحضارة، فظلت متأرجحة في تصوُّراتها بين حقول معرفية ولَّدت لديها أزمة عميقة في نسقها الفكري وبنائها المنهجي، وشوَّهت معالمها الحضارية.

وكان الضعف التاريخي والحضارة سببًا مباشرًا في التمكين لمنظورات ومنهجيات متعددة في نسقها الفكري والمعرفي، وغياب بدائل داخلية من شأنها المنافسة والمزاحمة والتدافع الحضاري الإيجابي، فظلت خاضعة للبدائل الغربية ومركزيتها التي اختارتها «النخب» العربية بديلًا وقبلتها المفضلة — رؤية ومنهجًا — لا تبغي عنها حِولًا، معتقدة صوابية الوجهة والتوجه، فكانت الحصيلة كما يرى الجميع ويتفق، لا هي أمة أصالة ولا أمة معاصرة، لا هي حداثية ولا هي تراثية، أمة التناقضات والنماذج الفكرية والمنهجية المجربة والمخصبة خارج رحم الأمة، فترك التطبيقُ التعسفي لنماذج فكرية متأرجحة ولمنهجياتها آثارًا مدمرة على الشاكلة الثقافية للأمة، وأفقدها استقلالها التاريخي والفكري، فضاعت كثير من الجهود في تحقيق حُلم النهضة.

ونسوق شهادة وفاة واقعية موقعة لأحد رموز التيار القومي العربي، الدكتور محمد عابد الجابري، على الفشل الذي مُنيَت بها تيارات الأمة، وكساد بضاعتها الفكرية وعُدَّتها المنهجية، ويصوغ هذا الفشل على شكل تساؤلات: «هل تمكَّن العرب فعلًا من تحقيق نهضتهم؟ وهل حققوا من التقدُّم ما يكفي لجعل مشروع النهضة يتحول فعلًا إلى مشروع ثورة؟» إشكالات تعبر عن القلق، يقول: «ومهما تنوَّعت الآراء واختلفت الاتجاهات، فإن أحدًا منا نحن العرب المعاصرين لن يجادل في مشروعية طرح مثل هذه الأسئلة، وفي هذا الوقت بالذات، ودون أن نستخلص من هذه الأسئلة أو من المعطيات — التي تستحثنا على طرحها — نتائج قد تكون أكبر مما ينبغي، فإن الواقع اليومي الذي يفرض نفسه علينا في الظروف الراهنة يجعلنا نشعر فعلًا وكل يوم بأن «شيئًا ما» لم يتحقق، أو لم يُنجَز في هذه «النهضة» العربية، وبالتالي نشعر بأننا لم ننجز بعد نهضتنا كاملة»،١ لأنها مشاريع أُسست على مقدمات خاطئة، ولافتقادها لإطار مرجعي جامع وموحد، يجمع شتات أفكارها ويرتبها في نسق حضاري جامع.
وقد شكَّلت هذه التيارات محور أزمة فكرية ومنهجية عميقة، ولهذا فإن «النخب الفكرية في واقعنا العربي الإسلامي لا يمكن أن تتوجه إلى الفعل الحضاري إلا بقدر تمسُّكها بمرجعية عميقة الجذور ومرتبطة بكيانها التاريخي (…) فالمجتمع الإسلامي المعاصر لا يمكن أن ينطلق إلى تأكيد ذاته من خلال مرجعية خارجية مستمدة من تاريخ مغاير، ومن فكر وافد (…) ومن ثم يغدو النهوض من خلال تأكيد الذات هو الخيار الحضاري الوحيد أمام كل البدائل الفكرية التي روَّج لها سدنة الغرب في واقعنا العربي المعاصر.»٢

ومن هنا برزت جهود البناء والتأصيل للخيار الحضاري العربي الإسلامي، وتجاوز الخيارات الاغترابية والمقارباتية والمقارناتية، وإشاعة المرتكزات المنهجية والفكرية والمعرفية الإسلامية القادرة على الإمساك بالمعضلات الحضارية للأمة، مع الانفتاح والتفاعل الإيجابي مع الخيارات الإنسانية المتاحة في ظل هذه المرتكزات والأصول، ومنهاجية مفاهيمية متحررة من إكراهات الماضي وثقله واستلابية الحاضر وضغطه.

ويمكن التأريخ لهذه الجهود من العمليات والمحاولات التي دشَّنها كثير من روَّاد وقادة الفكر العربي والإسلامي، محاولات تؤشر كلها — كما يقول طه جابر العلواني — إلى ضرورة بناء «فقه النقد» الإبستيمولوجي من عمليات التعامل والتفاعل مع الفكر الغربي، ونقد أسسه ومناهجه.

البدايات التي دشنها محمد إقبال، والندوي، ومالك بن نبي، وعلي شريعتي، وإسماعيل راجي الفاروقي، وسيد قطب، ومنير شفيق، وعبد الوهاب المسيري، وطه عبد الرحمن، وغيرهم، ممن كتب الله له أن يكتب في هذا المجال (مجال التأصيل الأصيل)، دون أن ننسى جهود المعهد العالمي للفكر الإسلامي في إطار «إسلامية المعرفة».

فانصبت كل هذه الجهود على إعادة الاعتبار للمنظومة الفكرية والنواظم المنهجية الإسلامية في عملية البناء المعرفي؛ أولًا: لإعادة الثقة بهذه المنظومة وقدرتها، ثانيًا: على البناء والتحرر والاستقلال الحضاري، وتقديم نموذج معرفي تفاعلي غير مستبد وغير متمركز، نموذج يحرر الإنسانية من تغوُّل النموذج الغربي ومن مواليده الفكرية ونماذجه المنهجية. لكن طبيعة الموضوع تفرض علينا اختيار الاشتغال على نموذجين من نماذج هذا الخطاب التأصيلي البنائي الحداثي، أعتبرهما قد استوفيا الشرائط الفكرية والمنهجية في البناء الفكري المعرفي المنهجي المعاصر، من خلال استيعاب الأدوات الداخلية التي أنتجتها ممارسة الأمة التاريخية، وهضم الأدوات الخارجية والقدرة على تفكيكها ونقدها.
  • النموذج الأول: نموذج مغربي دأبَ منذ وقت مبكر «بداية السبعينيات» على إبراز رسالة المدرسة البنائية الأصيلة في كشف كثير من عيوب مدارس الفكر العربي المعاصر واضطراب عباراتها وقلقها، وبناء منظومة فكرية تُعيد للأمة عِزَّتها بين الأمم، نموذج طه عبد الرحمن.
  • أما النموذج الثاني: فهو نموذج مشرقي مصري عُرف هو الآخر بدقة مفاهيمه ومعاركه الفكرية القوية، ومتابعته لمستجدات الساحة الفكرية العالمية. إنه نموذج عبد الوهاب المسيري، فبين الأنموذجين (طه عبد الرحمن، وعبد الوهاب المسيري) مُتَّحدات على مستوى مرجعيات البحث المعرفي والمنهجي، والتأسيس لنماذجهما الفكرية.

فكلاهما اتجها إلى نقد أطروحات الفكر الفلسفي الغربي، وتحرير الفكر العربي المعاصر من سطوة مفاهيمه ومرجعياته، وبناء مقدمات إبستيمية في التعامل مع الفكر الإنساني تتجاوز كل التحيزات الجغرافية والتاريخية.

نموذجان يشتركان في أفق اشتغالهما بالتجديد المنهجي المعرفي المرتبط بالرؤية التوحيدية الكونية، والتأسيس لحداثة إسلامية إنسانية معاصرة، حداثة ينتقل فيها الإنسان من إنسان الآلة — مجموع غرائز وماديات وشهوات وآلة مسخرة — إلى إنسان الآية — مجموع قيم ومقاصد.

فإبراز جهود هذه النماذج التوليدية البنائية لا يلغي السابق جملة، كما لا يقبله جملة، إنما يؤسس لتحيُّزات العقل العربي المعاصر، وفق أصوله التداولية وما تقتضيه الحكمة الإنسانية من الانفتاح الراشد على ثمراتها.

(١) المبحث الأول: مشروع طه عبد الرحمن: الرؤية والمنهج

يندرج المشروع الذي نقدمه في إطار المحاولات الجادة الجدية التي تعرفها الساحة الفكرية العربية المعاصرة، وفي ظل التدافع بين قيم الإسلام ومشاريعه في مستوياتها المتعددة، وقيم الحداثة الغربية ومشاريعها بسلبياتها وبعض إيجابياتها، كما يندرج ضمن سياقات متعددة، لعل أبرزها الانتكاسات المتتالية للخطابات التغريبية، وفي سياق صياغة معادلة حضارية ناجعة ومتوازنة بين ضوابط الانفتاح ومخاطر الانغلاق.

محاولة من شأنها تحديد معالم منهجية ضابطة لحركة انتقال الأفكار والمناهج ومفاهيمها، مشروع عُرف صاحبه بكفاءته الحوارية العالية مع كثير من القضايا الفكرية المعاصرة التي كانت إلى وقت قريب من المسلَّمات التي لا تتزعزع، وكان عليها الرِّهان أكبر في إنجاز تحولات كبرى.

فكان له مسار آخر إبداعي يتجاوز الآليات التحليلية التي استنبتت في ثقافة الأمة، مسار ينطلق من الإيمان العميق بقدرة العقلية العربية الإسلامية على الإبداع خارج القوالب الفكرية الخارجية التي ابتُليت بها النخب العربية المقلِّدة.

وتبدأ هذه الممارسة البنائية الأصيلة عند طه عبد الرحمن من محورَين أساسيَّين يراهما الأقدر على مواجهة التحديات الراهنة: «الروح العقلانية النافعة»، و«الروح الجماعية الصالحة»، اللتين ثورتهما الممارسة الحوارية الحاصلة على شرائطهما المعلومة، «فلا يحتاج مجتمعنا في القرن الجديد إلى شيء احتياجنا إلى هاتين الروحين المتكاملتين»٣ من خلال اختبار اختياراتنا الفكرية، وفتح آفاق واسعة للحوار، والتواصل والعمل المشترك النافع للأمة، بدل الاستمرار في ممارسة الشذوذ الفكري والمنهجي؛ لأنه طريق موصد وغير مثمر، داعيًا إلى تثبيت الرحل أولًا قبل البدء في الممارسة النقدية.
فكان اختياره على مستوى المرجعيات مخالفًا لما أَلِفناه عند من سبقوه، إذ لم يكن طه عبد الرحمن ناقدًا فقط، بل جمع بين النقد والبناء والإنشاء والإبداع، فقد توسَّل في عمله وسائل ومفاهيم وطرائق تضاهي في قوتها المنهجية وسائل الحداثيين العرب، إن لم تتعداها جِدَّة ودقة؛ لأن مستنده لم يكن النظر العميق التقليدي، وإنما كان مستجدات البحث المنهجي الصريح.٤
استمد وسائله المنهجية ومفاهيمها النظرية من عِلمين دقيقَين عرفا منذ زمن يسير «انقلابًا» في أدواتهما ومبادئهما ومضمونهما:٥ علم اللسانيات بأقسامه الثلاثة: الداليات والدلاليات والتداوليات، التي اعتمد عليها في قسم كبير في كتابه «أصول الحوار» وأصبحت مصطلحًا ملازمًا له في كل أبحاثه، باعتباره أوفى المصطلحات بالغرض من غيرها، واشتق منه مفهوم «المجال التداولي».
وهو من المفاهيم الإبداعية في منهجية طه، كما كانت اللغة العربية المرجعية الأم في اصطناع أدوات بحثه العلمية. يقول: «لقد غلب على الباحثين العرب في وضع مصطلحاتهم العلمية وبناء أجهزتهم الوصفية التفسيرية، الاشتغال بقوالب اللغة الأجنبية: الفرنسية والإنجليزية، فلا نكاد نجد عند معظمهم من المعاني العلمية إلا ما كان نقلًا حرفيًّا لمصطلحات أجنبية من غير وعي بأصول بعضها النسبية، وفائدتها المحدودة. وبلغ سلطان هذه المعايير على هؤلاء درجة أصبحت معها ألفاظهم «أشكالًا» منقطعة الصلة بدلالاتها اللغوية، وفاقدة لأسباب الإنتاج والتعبير في الفكر العلمي.»٦
فهذه الغلبة في المصطلح والتداول لم تُغنِ الأمة ولم تحقق لها وظائفها. وسعيًا في تحقيق الاستقلال عن المعايير الأجنبية وطرد هذا الاحتلال المفاهيمي في إنتاج المعرفة يقول طه عبد الرحمن: «اجتهدنا قدر المستطاع في الأخذ بأسباب اللغة العربية في التعبير والتبليغ، ووظائفها في التنظير (…) وتمهيد الطريق لممارسة علمية باللسان العربي في ميدان تحليل الخطاب.»٧

أما المرجعية الثانية التي اعتمدها فهي المنطق، فقد تدققت وسائله وتشعَّبت أبوابه وتعددت مستوياته واتسع مجاله، فاستعانت به مختلف العلوم في ضبط مناهجها وتنسيق نتائجها، واستفادت منه العلوم الإنسانية على الخصوص طُرقًا في البحث الدقيق والوصف المحكم. على ضوء هذه المرجعيات أنتج طه عبد الرحمن صيغًا مفاهيمية وجهت مشروعه الفكري والمنهجي، وأغنت الحقل المعرفي العربي الإسلامي المعاصر، وأعادت له معماريته الفنية والجمالية.

لم تساهم الدراسات التغريبية في نظره إلا في إفقار الإنسان العربي المسلم من خلال إغراقه بمفاهيم إسقاطية، وتقليد لأهلها، فكل الدعوات التي شهِدَتها الساحة الفكرية العربية لم تساهم إلا في تكريس هذا الإفقار من خلال التقليد بدل الإبداع، أما «الواجب في دعوة التجديد الصحيحة هو أن تُغْنيَ العربي أو المسلم، لا أن تُفقرهما، ولا سبيل إلى تحقيق هذا الغِنى لهما إلا بأن نترك محاكاة أصحاب هذا التقرير فيما يعتقدون ويفكرون ويقولون.»٨

كما كان للمنهجية الأصولية حضور متميز نظرًا لما تتميز به من قوة في بناء الاعتراضات وردها، وصياغة الإشكالات، حيث اعتبرها هي العطاء المنطقي الإسلامي غير «الأرسطي» البارز في عموم التراث الإسلامي.

أما الاعتبار الثاني: أن هذه المنهجية أسهمت في دراسة الظاهرة الخطابية بما يثير الإعجاب، وضمنت أدوات علمية ما زالت تحتفظ بفائدتها الإجرائية، ثم إنها ذات طابع موسوعي، حيث تتداخل فيها علوم متعددة، وتتعاضد فيما بينها، حتى كانت أوسع المنهجيات الإسلامية على الإطلاق.

كما أن استئناف العطاء المعرفي الإسلامي يقتضي الصلة بالعطاء المعرفي الماضي من غير جمود عليه، وما وجدت في جوانب المنهجية الإسلامية عمومًا أصلح للقيام بهذه الصلة من المنهجية الأصولية؛ لما تتميز به من إبداع وتكامل وانفتاح.٩

هكذا شرع في بناء وتأسيس منهجه من خلال المحورَين التاليَين:

(١-١) منهجية بناء المفاهيم والمصطلحات

تنطلق هذه المدرسة في عملية التجديد الفكري والمنهجي من نقطة ارتكاز في صناعة الأفكار وبناء المنهجيات، وتثبيت الأنظمة الفكرية، من بناء المفاهيم؛ إيمانًا منها بأن المعركة اليوم هي معركة المفاهيم، إذا صحَّت صح الإنتاج المعرفي والمنهجي، وإذا فسدت فسد، وتعطلت مسيرة الأمة؛ ولهذا لا أحد يُنكر أن «المجتمع المسلم اليوم يكابد من التحديات المعنوية مقدار ما يكابده من التحديات المادية، ويتصدر التحديات المعنوية ما يواجهه من تيه فكري ممثل في فتنة مفهومية كبرى لا يعرف كيف يخرج منها، إذ لا تفتأ تتوارد عليه كثرة متكاثرة من المفاهيم التي تضعها المجتمعات الأخرى، فيأخذ في التخبُّط في معاقدها ومغالقها، بل في متاهاتها وأحابيلها، لا قدرة له على استيعابها، ولا طاقة له على صرفها، والواقع أن المجتمع المسلم ما لم يهتدِ إلى إبداع مفاهيمه أو إعادة إبداع مفاهيم غيره، حتى كأنها من إبداعه ابتداءً، فلا مطمع في أن يخرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول.»١٠

فهذه الصناعة المفهومية هي التي تمنح للأمة حق الارتقاء — كما يقول طه — إلى رتبة الاستقلال في تقديم إجابات واقعية لمشكلاتها المعاصرة، ودفع التحديات التي تواجهها بعيدًا عن تقليد تجارب الآخرين واستعارة ألسنتهم.

فقد خسرت الأمة معركتها الحضارية؛ لأنها خسرت معركة المفاهيم، وخاضت معاركها بأسلحة الغير لا بأسلحتها، كما تخوض الجيوش العربية معاركها — إن كانت لها معارك — بأسلحة مستعارة من الغرب، وهو يعلم مداها ومفعولها ومدة صلاحيتها، حتى إذا ما قُدر لها أن ترد على الهجومات المباغتة أو المنظمة، فإن العدو يعلم أنها أسلحة خفيفة لا تقوى على المواجهة، وغير ذات مفعول في المعركة، ولهذا لم «تتعرض الأمة المسلمة في تاريخها لحرب مفهومية أو على الأصح لاعتداء مفهومي، تعرُّضها له في أيامنا هذه، وقد اتخذ هذا الاعتداء شكل إلزام الأمة بمفاهيمَ مخصوصة الغرض منها إعادة صياغة عقول المسلمين وأخلاقهم حتى يسهل قيادهم، سعيًا وراء إفساد عاداتهم وطبائعهم (…) ويتبع «المعتدون المفهوميون» في هذا الإلزام أساليبَ عدة١١ ذكر منها ثمانية نماذج،١٢ كلها تتجه إلى محو شخصية الأمة المفهومية الأصلية، وإدخالها في دائرة التزييف والاحتواء الحضاري والإملاء.
هذا الأسلوب «الذي ما فتئ أصحاب الاعتداء المفهومي يستحدثونها ويلقون بها إلى الأمة المسلمة كلما جددوا استراتيجيتهم في الهيمنة، معبئين لها كل وسائل الضغط والقهر التي يملكون، ويتولى ترويجها عنهم وكلاؤهم ووسطاؤهم من الإعلاميين والمثقفين، فيخدع بها الكثيرون من أبناء هذه الأمة.»١٣
فكل هذه النماذج والأساليب التي قدمها من الاعتداء المفهومي، تدخل في إطار مساهمته فيما أسماه «دفع التحديات المفهومية التي تواجه أمتنا المسلمة، لكي تجد طريقها إلى فكر مستقل ومبدع، حتى إذا أخذت من غيرها لم يكن عن ضعف، ولا مع شعور بعقدة نقص، وإذا أعطت غيرها لم يكن عن متعة، ولا مع شعور بعقدة عظمة، وأفضى بنا هذا التفكير إلى أن نجهز أنفسنا لجهاد مفهومي في ساحة الفكر الفلسفي»،١٤ في أفق تحرير المثقف المسلم من عقدة «الخوف من الإبداع»، والارتهان لشبكة مفاهيمية فقدت قيمتها، وبعث الهمة فيه لصناعة مفاهيم مخصوصة كما «يصنعها غيره، فيقابل المفهوم بالمفهوم والتعريف بالتعريف والتدليل بالتدليل، بل في نهاية المطاف يقابل التنظير بالتنظير، فيكون بذلك إيذانًا بولادة أمة جديدة»،١٥ تملك قرارها العلمي والمعرفي، وذات سيادة مفاهيمية تملك خرائط تفكيرها وأدوات إبداعها، إذ لا إبداع إلا في إطار هذا التنظير المفاهيمي الذي يراعي خصوصيات الأمة.
ويفتح طه عبد الرحمن في إطار هذه الاستراتيجية المفهومية ثغرات في الجهاز المفاهيمي المهيمن على حقل الدراسات العربية المعاصرة، ويخلق للقارئ مشاكل في أفق البحث عن طرق الحل، وسد الخلل، فهو يرى أنه «لا بد لعمل يعيد الصلة بهذه الآلة — آلة صناعة المفاهيم المنطقية واللغوية — أن يستصعبه القارئ العربي، نظرًا لأنه يُحدث انقطاعًا في ما كان مألوفًا له منذ أمدٍ بعيد، فضلًا عن الدقة البالغة التي تختصُّ بها هذه الآلة، والتي تدعو أصلًا إلى زيادة التركيز للذهن وتسديد للانتباه، ومهما يكن من أمر فإن هذا القارئ مطالب اليوم بأن يخرج عن مألوفه الذي لم يُفلح إلا قليلًا في زحزحته عن ركوده العلمي، كما هو مطالب بأن يُجهِد نفسه بما يبلغ نهاية طاقته، إن هو أراد أن يحدد عطاءه ويضمن استمراره، فلا اجتهاد بغير إجهاد ولا بقاء بغير عطاء»،١٦ فيشرك معه القارئ في عملية البناء والتجديد المعرفي، فيكون الجهد جهدين: جهد الباحث وجهد القارئ.
هكذا يتصور المعادلة بين الباحث والأمة، لا طرف دون آخر، فكان وضع المصطلح والمفهوم في الإنتاج العربي الإسلامي أحد أهم انشغالاته؛ لتحرير المعرفة العربية الإسلامية مما أسماه بطَوْر استهلاك المصطلح الأجنبي، بحيث ظل الإنتاج المعرفي العربي مشدودًا إلى هذه المرحلة من الاستهلاك ناقلًا لمحتوياته ومفاهيمه، والانتقال إلى طور جديد هو «طور إنتاج المصطلح الأصلي» البديل للمفاهيم المتداولة، وهو طور لا يبلغه الباحث إلا إذا اكتسب القدرة على ممارسة التنظير، أي إنه حصل الملكة المنطقية التي تؤهله لبناء المناهج والنظريات والنماذج حسب حاجته،١٧ وإنتاج هذا المصطلح وبلوغ هذا الطور على مستوى الإنتاج ارتبط عنده باستيفاء ثلاث شرائط ومعايير:١٨
  • (١)

    العمل بأحدث الضوابط والشروط النظرية والمنهجية في وضع المصطلح العلمي.

  • (٢)

    استثمار الإمكانات التعبيرية والتبليغية التي تختص بها اللغة العربية، والتي لم تقع الاستفادة منها على المستوى الفلسفي.

  • (٣)

    مراعاة التوجُّهات العملية للتراث العربي الإسلامي، التي تجعل له خصوصية معينة.

الالتزام بهذه المعايير يمنح الباحث والبحث العلمي الفلسفي بالدرجة الأولى قدرة على الإبداع، إبداع المفاهيم، وإبداع على مستوى الإنتاج، أما «ملاحقة المصطلح الأجنبي فتحول دون فعاليته وإنتاجيته داخل الممارسة الفكرية التي وفد عليها، ذلك أن هذا المصطلح يبقى جاهلًا لآثار أصله الأجنبي وداخلًا في شبكات معرفية مرتبطة بهذا الأصل، بحيث يحتاج مستعمله العربي إلى إحضارها في ذهنه كلما اشتغل به، فيبقى غير قادر على الإبداع بواسطته»،١٩ الأمر الذي جعله يصف الإنتاج العربي الفكري والفلسفي بأنه إنتاج مقلِّد لا غير، يخلو من أي صفة إبداعية، رغم ادعاء أصحابه الوصل بالإبداع؛ لأنه فكَّر بوسيلة غير وسيلته هو، وأنتج بغير آلياته.

ومسلك طه عبد الرحمن للمفهوم الأصيل وحل معضلة الفكر الفلسفي، الترجمة، باعتبارها أحد المداخل الأساسية التي أوتي منها الإبداع العربي الإسلامي قديمًا وحديثًا تدشين طور جديد في هذا المجال بعد الطور الأول والثاني الذي تم في المرحلة العباسية والحديثة، لكن بمقاييس ومعايير جديدة، تتيح إمكانات إنتاج مفاهيم أكثر قوة وارتباطًا بمجالها التداولي الأصلي. وما لم ينجز عقل الأمة هذه المرحلة وفق حاجاته يبقى استقلاله استقلالًا منقوصًا.

طورٌ دشنه بنقد مسلَّمات الترجمة العربية الحديثة التي لم تسلم من عيوب واعوجاجات عطلت مسيرة النهضة الفكرية والفلسفية للأمة، لإخلالها بركن من أركان الترجمة هو «الاستقلال المسئول»، وظلت مرتبطة بالتطبيق الغربي ومبنية على مسلَّمات ذكر منها ثلاثًا كلها باطلة:

أولاها: «مسلَّمة المماثلة بين التجربتين القديمة والتجربة الحديثة في الترجمة»، وبطلان هذه المماثلة من أوجه نذكر منها:٢٠
  • (أ)

    أن التجربة الأولى للترجمة — في العصر العباسي — فعل اختياري صدرَ عن إرادة إثبات الذات وتحقيق إمكاناتها الواسعة، بينما التجربة الثانية انفعال اضطراري دفاعًا عن النفس وحماية الحدود.

  • (ب)

    التجربة الأولى مارسها أهلها وهم في موقع قوة، إذ شرعوا في تأسيس هوية ثقافية وشخصية حضارية خاصتين بهم، بينما المتأخرون منهم يمارسون التجربة الثانية من موقع ضعف ولَّد لديهم شعورًا حادًّا بتخلف مجتمعاتهم وعُقدًا نفسية تهدد هُويَّتهم وشخصيتهم.

  • (جـ)

    أن التجربة كانت تتخير النصوص التي ينبغي نقلُها بحيث لا تصادم القيم الأخلاقية التي تشبَّعت بها الروح الإسلامية، بينما التجربة الثانية تتهافت على نقل كل النصوص، لا تبالي إن أضرَّت بالقيم الأخلاقية الإسلامية أو لم تضرَّ بها.

  • (د)

    أن تجربة الترجمة الأولى نقلت نصوصًا أنتجتها حضارة غابرة، ولو أن بعض آثارها باقية، في حين أن التجربة الثانية تنقُل نصوصًا تنتجها حضارة قائمة بيدها أسباب صنع التاريخ الإنساني في هذا العصر.

التجربة الأولى — في نظره — تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال بوجود رغبة داخلية، بينما التجربة الثانية لا تتمتع بهذه الدرجة من الاستقلال، فهي مجبرة ومستضعفة. وهذا ردٌّ واضح على أطروحة الجابري التي دعا فيها إلى تأسيس وبدء عصر تدوين جديد، يشابه ويماثل عصر التدوين الأول، والتمكين للجوانب العقلانية من كلا التراثين من الاستمرار فينا: تراث الأمة وتراث الغرب.٢١

أما ثاني هذه المسلمات ﻓ «الترجمة الواحدة للكتاب الواحد»، مع ما في هذا العمل من ضياع للجهد وإهدار له، حيث تتعدد الترجمات لكتاب واحد. أما المسلمة الثالثة ﻓ «الترجمة الواحدة للمترجم الواحد».

من شأن هذه الاعتراضات زعزعة أصول الترجمة المعتمدة في الفكر العربي المعاصر، وقدرتها على التشكيك في المفاهيم التي ترجمت واعتمدت أساسيات في التحديث والنهضة والتقدم، فتكون المشاريع التي اقترحت على الأمة من النوع الخارجي الذي لم تحصل معه فائدة؛ لأنه حصل وَقف نماذج مقتبسة خارج المجال التداولي الأصلي، فقدَّم — وكعادته في الاستدلال والاعتراض وورود الشبهات، وهو أسلوب منطقي فقهي أصولي كان له شأن عظيم في صياغة الفروض المنهجية عند طه — شبهًا مختلفة على هذا الاقتباس الخارجي: «شبهة الخلط» و«ضعف الاستدلال» و«استبدال التراث» و«دوام الاقتباس» و«تمييع الهُويَّة».٢٢
وكل «هذه الشبهات تُبيِّن أن محاولة تحديث الفكر الإسلامي العربي لا تخرج عن نطاق الأخذ بأفكار الآخرين وعن حد التشبُّه بعقولهم، ومعلوم أن الأخذ الذي ليس معه عطاء لا يكون إلا تقليدًا، وأن التشبه الذي ليس معه استقلال لا يكون إلا اعتقالًا، وحينئذٍ لا يكون تحديث الفكر الإسلامي العربي تحديثًا حقيقيًّا، وإنما تحديث وهمي وحسب».٢٣ لقد ميَّز في هذا المشروع بين ثلاثة أنواع من الترجمة:٢٤
  • (أ)

    الترجمة التحصيلية التي تتوخى الحرفية اللفظية، بحيث لا لفظ من ألفاظ النص إلا نقلته، وقد تزيد ألفاظُها عن ألفاظ النص الأصلي.

  • (ب)

    الترجمة التوصيلية التي تتوخى الحرفية المضمونية، بحيث لا معنى من معاني النص إلا نقلته، سواء طابقت ألفاظَ النص الأصلي أو باينتها، لكن الراجح أن تباينها.

  • (جـ)
    الترجمة التأصيلية التي تتوخى التصرف في النص الأصلي، ألفاظًا ومعانيَ بالقدر الذي يمكِّن المتلقي من اكتساب القدرة على التفلسف في النص والإبداع فيه، حيث تدخل المفاهيم في حالة تفاعل، ويكتسي المنقول صفة الإقامة الطبيعية، ويكتسب جنسيته، وقد كان مشروعه كله يتجه نحو إبداع عتاد مفاهيمي يقتدر به الإنسان العربي على الإبداع الفكري والاستقلال عن المفاهيم الغربية، تفوق المفاهيم المنقولة وأكثر ارتباطًا بمجالها التداولي، ولهذا فإن بعض ما أنشأناه — يقول طه: «يبدو خيرًا من مقابلاتها في أصولها الأجنبية، وما ذاك إلا أنه توفر لنا بصدد القضايا المعروضة في هذه الأصول، من وجوه التعبير في لساننا أو من عناصر المعرفة في ثقافتنا، ما لم يتوفر في هذه الأصول نفسها — الأصول الأجنبية — لا لقصور فيها، وإنما لوجود الاختلاف بين الأمم في طرق أداء المقاصد.»٢٥
بهذا العمل يفتح طه عبد الرحمن آفاقًا واسعة للمعرفة العربية الإسلامية ويُمكِّنها من آليات التثاقف الإيجابي المثمر، بدل الاستمرار في التقليد والتبعية واستنساخ التجارب، ولهذا ليس صحيحًا ما ذهب إليه الأستاذ عمر كوش في كتابه «أقلمة المفاهيم» من اتهام مجهودات طه التأصيلية بأنها جهود مبنية على ميتافيزيقا ينغلق معها النص عنده على حقائقَ ومعانٍ ليفسح المجال للمعنى (الوحيد).٢٦

كما تنطلق عنده عملية التأصيل — يضيف الكاتب — في إطار مشروعه الهادف إلى إحياء التفلسف العربي، من ثنائيات متقابلة: الأنا/الآخر، يضع الذات في مواجهة الآخر، مما يُفسِح المجال عنده إلى بروز منطق الإلغاء والإقصاء والتهميش، وأن جهوده تمثل الفكر المنغلق في الفكر العربي المعاصر، مع في هذا الحكم من مصادرة الحق في الاختلاف، الأمر الذي جعل طه يتهم الناقد العربي بقلة العلم والاطلاع والمعرفة، فالناقد العربي يقرأ قليلًا ويكتب كثيرًا.

فنحن لا نحتاج — يقول عمر كوش — «ولا نفتقر إلى التأصيل بقدر ما نفتقر إلى الإبداع والخَلْق، أي سبر أغواره وطرح مشكلاته، دون أيِّ تقابلٍ ميتافيزيقي مع تراثنا أو مع الآخر (الغرب)، وبشكل يُمكِّننا من خَلْق وتأسيس مفاهيم لها عَلاقة مع مشكلاتنا في هذه العصر وصيرورتنا».٢٧ لا أعتقد أن الإبداع والخَلْق يمكن إنجازه خارج التأصيل وفي استقلال تام عن جهود الاتكاء على ذات فاعلة، هي الذات والهُويَّة العربية الإسلامية، وما يجعل كلام الأستاذ عمر كوش حول التأصيل غير ذي معنًى وفارغًا من محتواه ويجعل دعواه مردودة وباطلة، هو أن الغرب نفسه عندما خطَّط لانطلاقته أصَّل لذاته بالرجوع إلى العقيدة المسيحية وإلى التراث الإغريقي، وأسس لمركزيته من خلال هذا العمق التاريخي.
تسعى جهود طه عبد الرحمن البنائية لإخراج الأمة من النماذج الفكرية والمنهجية المتأرجحة الفاقدة لإطار مرجعي، إلى نموذج وسطي قائم على إطار مرجعي سمته الثبات والمرونة والاستيعاب، إطار الإسلام منهجًا ورؤية وحضارة، وإكسابها القدرة على التواصل الحضاري الواعي الموصول بتاريخها وحاضرها ومستقبلها، ويخلص الأمة من الوصاية الخارجية، ويُمكِّنها من تحقيق خصوصيتها، مجددة أسباب الاتصال بالآخر — عكس ما ذهب إليه عمر كوش في المقالة السابقة — وهي بهذا تضاد «الاستقلال المنقول، الذي يتعاطى فيه المرء تقليد الآخر في مقصد استقلاله ومسلكه، لا يقدر على أن يتبين بنفسه ما إذا كان هذا التقليد المزدوج ينفعه أو يضره»،٢٨ لتسلك الأمة بعد تحقيق استقلالها عن الوصاية الخارجية طريق الإبداع الموصول بإسلامها وتراثها واكتشاف الذات. ونُقفل هذا المحور بقاعدتين منهجيتين اشتغل عليهما طه عبد الرحمن في وضع المفاهيم، وتفيدان في التمرس بالإبداع بقدر ما تفيدان كذلك في ممارسة النقد:٢٩
  • القاعدة الأولى: كل أمر معترَضٌ عليه، حتى تثبت بالدليل صحته، وسماها ﺑ «النقد الإثباتي»، ومثل هذا النقد يدفع عنا آفة الإسقاط التي يقع فيها مقلدة المتأخرين، وهم الذين لا قدرة لهم على نقد ما يرد عليهم من خارج مجالهم التداولي؛ ذلك أن تحصيل الأدلة المثبتة هو أحد الطرق الموصلة إلى إنتاج أمثال هذه المفاهيم في مجالها التداولي الأصلي، أو إعادة إنتاجها في غير هذا المجال، فيصبح المنقول الذي تثبت صحته بعزلة المأصول، وكلتا الحالتين — الإنتاج وإعادة الإنتاج — علامة على التوسل بأسباب الإبداع.
  • القاعدة الثانية: كل أمر مأصول مُسلَّم به، حتى يثبت بالدليل فساده، وسمى هذه القاعدة ﺑ «النقد الإبطالي»، فهذا النقد يدرأ عنا آفة الإسقاط التي يقع فيها مقلدة المتقدمين الذين يقدرون على نقد ما يصدر من مجالهم التداولي، فتحصيل الأدلة المبطلة هو أحد الطرق الموصلة إلى إنتاج أضداد هذه المفاهيم في مجالها التداولي الأصلي.
    وبهذا يتبين — يقول طه — أننا في ممارستنا المفهومية بعيدون عن تقليد المتقدمين بُعدنا عن تقليد المتأخرين، إذ لا نعمد إلى تغطية المفاهيم المنقولة بالمفاهيم المأصولة، وإنما نعيد إبداعها بما يجعلها تحمل جديدًا،٣٠ لتكون هذه المعركة هي معركة تأسيس الآليات المنهجية وفرشًا نظريًّا لها.

(١-٢) التجديد في المنهج: القواعد والأسس

سعى طه عبد الرحمن منذ باكورة أعماله إلى إنجاز عمل إبداعي فكري منهجي تنفرد به الأمة العربية الإسلامية عن غيرها، وهذا حق من حقوق الاختلاف، والخروج من دائرة الاتباع إلى دائرة الإبداع موصولة بعقيدتها وتراثها، متجاوزًا ما هو متداول في الساحة الفكرية العربية المعاصرة، فقد هاله ما يدور من سموم فكرية وأدوات أصابها الصدأ في تشريح التاريخ الفكري التراثي للأمة، واستبداله بتراث أجنبي أو التعامل معه وفق مطامح أيديولوجية فضفاضة.

عملٌ انطلق من تفحُّص أشهر الأعمال والمشاريع التي أنجزت في مجال الدراسات المنهجية المعاصرة في الفكر العربي المعاصر، فانتهى إلى أن هذه الأعمال تنكَّبت الصواب المنهجي في قراءة تراث الأمة؛ لأن أغلب النقاد توسَّلوا في دراسته بأدوات «البحث التي اصطنعها المحدثون من مفاهيم ومناهج ونظريات، معتقدين أنهم بهذا التقليد قد استوفَوا شرائط النظر العلمي الصحيح …»٣١ فمحَّص هذه الآليات والوسائل المنهجية، فما وجدنا — يقول: «في أكثرها ما تناسب مقتضياته مقتضيات الممارسة التراثية»،٣٢ كما أن التمكن من «هذه المناهج لم يكن من نصيبهم، ولا التفنن في استخدامها كان طوع أيديهم.»٣٣

فكان الوضع المنهجي المعكوس محركًا ومحرضًا للكشف عن خفي الأوهام وعن دقيق التلبيسات التي انبنى عليها هذا الوضع، وقد جاء كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث» ليُشكِّل نقلة نوعية في مجال البحث المنهجي المعاصر، ويزعزع بعض «الثوابت» المنهجية التي كانت إلى وقت قريب لا تناقَش وغير قابلة للمراجعة.

مشروع قدَّم تصورًا متكاملًا لقراءة التراث وفق منهجية علمية صارمة ودقيقة وواضحة وغير مسبوقة، يقول: «لقد نحَوْنا في تقديم التراث منحًى غير مسبوق ولا مألوف، فهو غير مسبوق لأننا نقول بالنظرة التكاملية، حيث يقول غيرنا بالنظرة التفاضلية، وهو غير مألوف؛ لأننا توسلنا فيه بأدوات «مأصولة»، حيث توسل غيرنا بأدوات منقولة»،٣٤ فكانت محاولته لا مجرد انعطاف في الدرس التراثي، وإنما انقطاع حقيقي فيه. وذكر هنا ثلاثة مظاهر تبين هذا الانقطاع:٣٥
  • أولها: إذا كان الغالب على الأبحاث السابقة هو النظر في التراث من أجل «تحديثه» أو «عقلنته» أو «استصلاحه» أو «تنقيته» تحت ضغط الاستعجال الثقافي والسياسي الظرفي، فإن بحثي لم يكن هدف هذا وذاك، وإنما كان هو معرفة التراث من حيث مُحدِّداته الموضوعية ومقوماته الذاتية على مقتضى موجبات النظر العلمي الخالص، إذ لا يجوز الاشتغال بتلك الأهداف إلا بعد تمام المعرفة بهذه المُحدِّدات والمقدمات التراثية.
  • ثانيها: أن الدراسات السابقة تمسكت في دراسة التراث بالمضامين والمحتويات، باعتبارها أهم ما فيه؛ فإن دراستي — يقول — اشتغلت أساسًا بالوسائل أو الآليات التي تم بها إنشاء هذه المضامين وتبليغها وتقويمها.
  • ثالثها: أنه إذا كان الغالب على الأعمال السابقة تقسيم التراث أقسامًا متعددة وتفضيل بعضها على بعض، ثم الانتهاء إلى حفظ أقل قسم منها بحُجة أنه هو الذي يستجيب لمتطلبات الحداثة، فإن عملي لا يقسم ولا يفضل ولا ينتهي إلى حذف ولا إلى استثناء.
هكذا اجتهد طه عبد الرحمن في الاحتفاظ بنوع من التوازن والانسجام بين التراث وأدوات القراءة، فلم ينقُلها من تراثات أخرى قديمة ولا حديثة، بل أدوات من داخل هذا التراث، حرصًا على «استيفاء المقتضى المنطقي الذي يوجب أن يكون المنهج مستمدًّا من الموضوع ذاته لا مُسلَّطًا عليه من خارجه»،٣٦ وسمى هذه الأدوات باسم «الآليات المأصولة» مقابل «الآليات المنقولة»، لكن دون عدِّ كل أداة منقولة مذمومة — حتى لا يتوهم المتوهمون — أو غير صالحة، وإنما اشترط كل نقل شرائط مرور، وأن يتقدم هذا النقلَ نقدٌ كافٍ يمتحن فائدة الآلية المنقولة ومناسبتها للموضوع.
ولا يكاد يخلو فصل من فصول الكتاب من «ممارسة منهجية، إمَّا وضعًا لمفاهيم أو إنشاء لتعاريف أو صوغًا لدعاوى أو تقريرًا لقواعد أو تحريرًا لأدلة أو إيرادًا لاعتراضات»،٣٧ فتوجه بنقده إلى الآليات المنهجية المنقولة في دراسة التراث، وأثبت بما لا يدع مجالًا للشك قصور هذه الآليات في تحقيق أغراض الدراسة؛ لأنها توسلت بآليات خارجية سمَّاها ﺑ «الآليات الاستهلاكية» أو «الآليات الفرعية» أو «الآليات الفوقية»، وحصرها في صنفين أساسيين: صنف «الآليات العقلانية» وصنف «الآليات الأيديولوجية» أو الفكرانية باصطلاحه.٣٨

وخصص جانبًا مهمًّا في كتابه لنقد الآليات العقلانية في قراءة التراث، ووقف عند حدود استعمال الآليات المجردة في النقد، واختلاف «العقلانيين» اختلافًا شديدًا في تحديد الشرائح التراثية التي تمثل أفضل تمثيل النموذج العقلاني.

فتوزعت اهتماماتهم بين النصوص الفقهية، والفلسفية، واللغوية، والكلامية، ومنهم من يجمع بين أجزاء هذه النصوص، فما كان من هذه «النصوص واضح الانتساب إلى العقلانية، لزم في نظرهم تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل، وما كان منها مجانبًا أو مخاصمًا لهذه العقلانية، وجبَ عندهم تركه، وإن دعت الضرورة إلى تحقيقه قصد المقارنة والمقابلة، فليتجزأ منه بعينيات تؤخذ منها العبرة، ويحصل بها الاتعاظ.»٣٩
وينتقد طه أصحاب هذا التوجه، وأنهم لم يبرهنوا على تحصيل الدربة في استخدام هذه الآليات، ولا أحاطوا بتمام تقنياتها وبكمال وجوه إجرائيتها، كما لم يقوموا بنقد كافٍ وشامل لها حتى تتبين مدى كفايتها الوصفية وقدرتها التحليلية وقوتها الاستنتاجية»،٤٠ كما انتقد الآليات المسيسة لقصورها هي الأخرى في تحقيق أغراض التراث لأن النص التراثي أقرب إلى «التأنيس»، ويقصد بالتأنيس «إيلاء الجانب الأخلاقي والمعنوي والروحي وظيفة رئيسية في النهوض بالفكر، فتكون قيمة النص المقروء من جهة التأنيس كامنة في الفوائد العملية والآثار المعنوية التي يولدها عند القارئ أكثر مما تكمن في الجوانب التسييسية والمادية، فالنص التراثي هو على الحقيقة «وحدة تأنسية» وليس وحدة تسييسية، كما يعتقد الفكرانيون،٤١ ليؤسس لنظر تكاملي وفق آليات منهجية تتجاوز الثغرات التي خلَّفها الاشتغال السياسي والعقلاني المجرد، فجاء بناؤه المنهجي مستوفيًا للشرائط والقواعد التي قعَّد لها، ليس في قراءة التراث فحسب بل في كل قراءة.٤٢
  • أولاها: ينبغي للقراءة أن تعتنيَ بآليات النص التراثي اعتناءها بمضامينه، وأن نتوسل بهذه الآليات في فَهْم هذه المضامين؛ لأن هذا التراث مشبع بهذه الآليات على قدر كبير، ولا سيما اللغوية والمنطقية.
  • ثانيها: ينبغي اعتماد المستجدات في باب المناهج، لا في طمر هذه الآليات التراثية أو طمس معالمها، وإنما استخراجها وتحديث إجرائيتها.
  • ثالثها: إجراء النقد والتمحيص الكافيين لكل آلية مقتبسة من تراث أجنبي قبل تنزيلها على التراث العربي الإسلامي، حتى نتبين كفايتها الوصفية أو التفسيرية؛ الآليات العقلانية على سبيل المثال.
  • رابعها: أنه ينبغي ألا يتخذ تنقيح — أو تلقيح — الآليات اتجاهًا واحدًا، فتنقح الآليات الإسلامية العربية بواسطة الآليات الغربية من دون العكس، بل ينبغي إجراء هذا التنقيح في الاتجاهين معًا، فتنفتح الآليات الغربية بواسطة الآليات الإسلامية العربية؛ لأن من شأن هذا الجهد أن يفتح طريق الإبداع للمفكر العربي، فيخصب الآليات الأصلية ويبعث فيها الحياة، ومن جهة ثانية يفتح في الآليات الحديثة آفاقًا لم تخطر على بال واضعيها.
هذه هي أمهات القواعد التي أسَّس عليها طه عبد الرحمن عمله الاجتهادي المتواصل في استئناف العطاء المعرفي الإسلامي المعاصر المبني على النظر المُسدَّد بأخلاق الدين ومقاصده، ولأن «النمط المعرفي الحديث غير مناسب إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية؛ لأن مناهجه العقلية ونتائجه العلمية تنبني على أصلين؛ أحدهما: فصل العلم عن الأخلاق، ويتفرع عليه مبدأ الموضوعية الجامدة، ومبدأ التساهل المسبب. والثاني: فصل العقل عن الغيب، ويتفرع عليه مبدأ السببية الجامدة، ومبدأ الآلية المُسيبة»،٤٣ فتحتاج الأمة إلى نمط معرفي محفوظ من هاتين الآفتين: آفة الانقطاع عن الأخلاق، وآفة الانقطاع عن الغيب.
وقد زاوج في مساره النقدي بين الآليات المادية والمعنوية، تكاملية من شأنها أن تعيد للعقل العربي الإسلامي صفاءه وفاعليته في النهوض الحضاري المعاصر، ﻓ «ينهض على تطهير نفسه من الطبقات العقلية والمحلية الموروثة عن النمط المعرفي المتداول، كما تعيد إليه رسوخ وحدة النظر، فينهض إلى تجديد المعرفة تجديدًا يزداد فيه عملًا بعلمه وكمالًا بعقله، فيكون علمه نافعًا وعقله كاملًا».٤٤

ولأول مرة — على مستوى المنهج — تصدر دراسات ذات عمق منهجي تتخذ من الإسلام مرجعية الانطلاق في الفكر العربي المعاصر، في مساءلة النمط المعرفي الغربي الحداثي خارج الآليات المعهودة، و«أخلاقيات السطح»؛ لأن أمر الحداثة وفتنتها واعوجاجاتها بلغت مبلغًا لا ينفع في تقويمها اعتماد هذه الآليات المنهجية، فدفع هذه الأسباب المؤذية التي خلقتها الحداثة وما كسبت لا يكون إلا بقيم تعلو درجات على هذه الأسباب.

وجاءت الممارسة النقدية عنده تحمل عناصر الجِدة والإبداع غير معهودة عند من سبقوه في هذا المجال. يقول: «جئنا بنقد أخلاقي غير معهود لمظاهر أساسية من الحداثة تعد عند سوانا سببًا يحمله على تعظيم أمر الحداثة الغربية، في حين تعد عندنا سببًا يدعونا إلى تعظيم حاجتنا إلى أخلاق الدين لحصول الانتفاع بهذه الحداثة»،٤٥ وإلا ظل الجهد ضائعًا والتحليل والنقد خاليًا من أية قيمة إنسانية، وبُعدٍ علمي يراعي حقوق الآخرين في السؤال والأخذ والرفض، واختيار أدوات الحكم على الأشياء والأفكار، أما الدعوة إلى تسوية المفاهيم المنهجية على عقل واحد فذلك تحكُّم ومصادرة للمطلوب. فيحدد اختيارات الأمة الكبرى التي لا تقبل المساومة (الإسلام) أرضية الإبداع والبناء والتوجهات، لا أخلاق علمية ولا علمانية كما يتوهم أهل الحداثة عندنا، ليؤسس لمشروع معرفي ناهض تحدده أخلاق الإسلام ونظامه المعرفي والمنهجي، مع الانفتاح الواعي والمبصر على مستجدات المعرفة الإنسانية ومناهجها.

وإذا كان من فضل لهذه المدرسة فإنها استطاعت أن تخرج الفكر العربي الإسلامي من النماذج الفكرية المتأرجحة الخارجية وتقترح بدائل واقعية وعملية، وأن تُبدع في إطار الثوابت الفكرية والمنهجية للأمة، وتقدم قراءة جديدة لواقع الفكر العربي المعاصر، وتشخص أزماته المركبة، وأن مبلغ هذا الفكر هو تكرار وتقليد أقوال وأفعال الآخرين دون أن يمتلك الجرأة الكافية في أن يقول لنا منهجنا ولكم منهجكم.

إن المدخل الأساس والطبيعي لنهضة الأمة وتأسيس حداثة إسلامية راشدة هو مدى قدرتها على حصول قراءة جديدة للقرآن الكريم؛ ذلك أن «القرآن هو سر وجود الأمة المسلمة، وسر صنعها للتاريخ، فإذا كان هذا الوجود والتاريخ ابتدآ مع «البيان النبوي» أو قل «القراءة النبوية» للقرآن، قد دشنت بذلك الفعل الحداثي الإسلامي الأول إن جاز هذا التعبير في حقها، فإنَّ استئناف هذا الوجود لعطائه ومواصلة هذا التاريخ لمساره، وبالتالي تدشين الفعل الحداثي الإسلامي الثاني، كل هذا لا يتحقق إلا بإحداث قراءة أخرى تجدد الصلة بهذه القراءة النبوية. ومعيار حصول هذا التجديد هو أن تكون هذه القراءة الثانية قادرة على توريث الطاقة الإبداعية في هذا العصر كما أورثتها القراءة المحمدية في عصرها.»٤٦

هكذا رفع طه عبد الرحمن قلم التحدي المعرفي والمنهجي ضد التغول الغربي وحداثته ووسطائه من أبناء هذه الأمة، وكشف قلق عباراتهم وتهافت أطروحاتهم، وفعلًا كان تحديًا قويًّا وناجحًا إلى أبعد الحدود رؤيةً ومنهجًا، فلم يكن طه عبد الرحمن في مشروعه الفلسفي عدميًّا تفكيكيًّا، بل كان تفكيكيًّا إنشائيًّا مبدعًا، ومحاورًا ذكيًّا، حُجته البرهان العقلي والمنطق الأخلاقي والواقعي.

مشروع سعى من خلال عمقه التأويلي إلى تحرير الإنسان العربي من معتقِد بمفاهيم الغرب إلى منتقِد لها، فالانتقاد — كما يقول — دليل القوة، والاعتقاد دليل ضعف، والمنتقد مقاوم لكل مظاهر الفساد المعرفي والمنهجي، فينقل فعل التفلسف العربي من تقليد الغير، إلى إكسابه القدرة على إنشاء فلسفته الخاصة، ويحيي فيه أسباب الدخول في الحداثة المبدعة الراشدة لا المقلدة المشوهة.

(٢) المبحث الثاني: عبد الوهاب المسيري: رؤية معرفية منهجية بديلة

نقف في هذا المبحث عند تجربة فكرية غنية في مسارها، متميزة في أدائها، قوية في منهجها، إنها تجربة المفكر المصري عبد الوهاب المسيري رحمة الله عليه. متميزة لأنها حاولت تحرير الفكر العربي المعاصر من المسار المتحيز للفكر الغربي والاستقلال عن هذه التحيزات، والفكر الإنساني من الثنائيات المتناقضة ومن حداثة الغرب الداروينية.

وما يجعل هذا المشروع في صُلب اهتماماتنا هو عمق التحليل الذي يقترحه في دراسة القضايا والإشكالات والبدائل التي يطرحها، على مستوى الآليات المنهجية البديلة أو النظام المعرفي البديل لما هو متداول منذ عصر النهضة العربية إلى اليوم.

بديل يرى فيه القدرة للخروج من مصائب الحضارة الغربية وتحيزاتها السلبية، لكن لهذا التأسيس وهذا البناء عند المسيري مقدمات واضحة ومعالم بارزة ينبغي التحكم فيها وفهمها، وإلا كان الأمر إعادة وتكرارًا للتجارب الماضية. ومن المداخل التي اعتمدها المسيري في تأسيس بدائله نقد النموذج المعرفي الغربي كخطوة أساسية في توليد نماذجنا المعرفية العربية الإسلامية، وهكذا سنركز في هذا المبحث على خطوتين أساسيتين:

(٢-١) النموذج المعرفي الغربي: رؤية نقدية

يؤمن المسيري إيمانًا عميقًا بأن امتلاك رؤية معرفية منهجية بديلة مستقلة عن النموذج المعرفي الغربي إنما تبدأ عنده من تأسيس ما سماه ﺑ «المحور النقدي للمشروع الحضاري الإسلامي»،٤٧ الذي تبدأ أولى خطواته بنقد المشروع الغربي المهيمن وكل نماذجه وتفكيك منظومته المعرفية، وقد ساعده على ذلك تمرُّسه بالآليات المنهجية وخبرته في التعامل معها على اختلاف تكويناتها العقدية.
وقد حدَّد المسيري موقفه القوي والصريح من هذه الحضارة وآلياتها، ودعا إلى إجراء نقدٍ صارم وحاد. يقول: «إن ما أدعو له من نقدٍ كلي وشامل للنموذج الحضاري الغربي الحديث واكتشاف تحيُّزاته لا يعني أن نقوم بتهنئة أنفسنا، فليس الهدف هو تمجيد التراث أو إسباغ الشرعية على الوضع القائم في بلادنا (…) وإنما تأكيد فكرة أن استيراد هذا النموذج لن يُفيدنا كثيرًا في محاولتنا الإصلاح والتغيير»،٤٨ كما تهدف الممارسة النقدية عنده إلى كسر ثوابت هذا الغرب.
كسر مركزيته وتأكيد نسبيته، وهو أحد المداخل الأساسية في كشف الخاص والعام في هذه الحضارة. إن النقد عند المسيري هو أساسًا «عملية تهدف إلى الفهم المتعمق، أي يجعل من الممكن أن نعزل ما هو خاص بالغرب عما يصلح لأن يكون عامًّا عالميًّا، فما هو عالمي يعبر عن إنسانية مشتركة، ومن ثم لن يكون من الصعب تبنِّيه وفق شروط نسقنا النظري المستقل النابع من أسئلة واقعنا وقضاياه»،٤٩ ويراهن المسيري في هذا النقد أن يستعيد الغرب نسبيته وأن يتحول إلى مركز من المراكز، لا أن يبقى مركزًا مسيطرًا وموجهًا وحيدًا للمراكز الأخرى.
فيواكب كسر هذا الثابت عنده نزع «صفة العالمية والمطلقية عن الحضارة الغربية، وتوضيح أن كثيرًا من «القوانين العلمية»، التي يدافع عنها دعاة التغريب، باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان، هي نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد، وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة»،٥٠ وإنجاز هذا العمل لا يمكن أن يتم في نظره إلا من خلال استعادة المنظور العالمي المقارن، بحيث يصبح «التشكيل الحضاري الغربي تشكيلًا حضاريًّا واحدًا له خصوصيته وسماته مثلما لكل التشكيلات الأخرى خصوصيتها وسماتها»،٥١ ولهذا لا اعتبار لمنهجية التعميم التي تحاول فرض نمط حضاري معرفي تَشكَّل في ظروف ذاتية خاصة على تشكيلات حضارية خاصة لها مسار تاريخي معين، وقد فشِلَت كل محاولات التعميم في العالم العربي الإسلامي؛ لأنها لم تدرك هذه الخصوصيات.
ويجزم المسيري باستحالة تكرار النماذج في سياقات حضارية مختلفة، وتبنيها في توليد نماذجنا المعرفية والحضارية كمسلَّمة ثابتة، يقول: «يجب أن نعرف أن المشروع الغربي لسد كل الثغرات وللتوصل للقانون العام مشروع مستحيل من الناحيتين المعرفية والعلمية، فمن الناحية المعرفية يفترض هذا النموذج بساطة العقل وبساطة واقع الإنسان الطبيعي والاجتماعي، وبساطة الدال اللغوي، وبساطة المدلول الإنساني، وبساطة العَلاقة بينهما، وهو يفترض بيقين كامل متعصب أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملًا، وهو افتراض أقل ما يوصف به أنه طفولي سخيف.»٥٢
فأزمة هذا النموذج أزمة مركبة تنطلق — حسب المسيري — من أنه نموذج «يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون (حتى تصفى كل الثنائيات)، وهو ينكر على الإنسان أي خصوصية، وينكر أن عقله مبدع فعال، ومن ثم ينفي مركزيته في الكون»،٥٣ فأنشأ نظام التماثل بين الظواهر الإنسانية والمادية الصماء، فلا فرق بين الإنسان عنده واليرقة، كما يقول المسيري.

فسقطت في هذا النموذج المعرفي كل الحدود الإنسانية ومعها كل الهُويَّات، لإنجاز الوحدة المنهجية بين هذه الظواهر، والوصول إلى درجة عالية من اليقينية والشمولية في التفسير، مستبعدة الإنسان كعنصر فاعل ومؤثر في المعرفة ومسارها، وحوَّلته إلى عنصر متلقٍّ سلبي، لتحقيق النظر الموضوعي؛ فينحصر عمل وجهد الإنسان المعرفي في عملية تراكمية، تلغي كل خاصية ذاتية له.

وينتقد المسيري العقلانية المادية الغربية أو ما يسميه بالموضوعية المتلقية، وهي النماذج الإدراكية والتفسيرية التي تبنَّتها الاستنارة الفكرية الغربية بعقلانيتها المادية، حين اعتبرت «المعرفة عملية تراكمية تتكون من مجرد التقاط أكبر قدر ممكن من تفاصيل الواقع كما هو تقريبًا بصورة فوتوغرافية، وأن المعطيات الحسية تتراكم لتكون أفكارًا بسيطة من تلقاء نفسها وبشكل آلي (…) فلا يختلف باحث عن آخر في إدراك الحقائق، فإن عملية التراكم هذه ستؤدي إلى التوصل إلى معرفة موضوعية خالية من التحيزات»،٥٤ فلا اعتبار لذاكرة الإنسان الباحث وآماله وأحلامه باعتبارها تشكل عائقًا في طريق التلقي الموضوعي والرصد الفوتوغرافي، كل هذا يعني عند المسيري أنه لا يوجد «فرق بين الإنسان والطبيعة بين العلوم الطبيعية والإنسانية، ومن ثم استبعدت كل العناصر التي تتجاوز سطح المادة، أي استبعدت كل ما يميز الإنسان كإنسان، وانتهى الأمر باستبعاد الطبيعة البشرية ذاتها بوصفها نقطة مرجعية، وتم تأكيد أن البحث العلمي الحقيقي لا بد أن يستبعد الذات والخيال والقيم، فهو يجب أن يكون موضوعيًّا ومنفصلًا عن القيمة»،٥٥ ويطلب من الباحث أن يتجرد من ذاكرته التاريخية. مما يجعل هذه الموضوعية المتلقية موضوعية منزوعة الجذور لا انتماء لها. لكن هذا النموذج التفسيري مُنيَ بإخفاقات؛ لأن «الافتراضات التي استند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر التنوير، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة أو بسيطة إلى درجة كبيرة، ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة»،٥٦ رغم ذلك يؤكد المسيري أن لهذا النموذج فعاليته في مجاله (عالم الظواهر الطبيعية)، لكنه يفقدها ويصبح أداة اختزال حين يطبق على الظواهر الإنسانية، كما عرف استقطابًا حادًّا بين العلماء في الغرب انتهى إلى أزمة المنهج في الفكر الغربي، وواكبته احتجاجات وانتقادات منذ عصر النهضة، ومراجعات للأسس المنهجية التي أفرزتها العقلانية المادية الغربية الأنوارية في مجالات شمِلَت كل ميادين المعرفة (النقد الأدبي – اللغة – الفلسفة – التاريخ – العلوم الطبيعية والإنسانية].
ويطالبنا المسيري بإعادة تعريف الغرب «وفقًا لما يطرحه والنتائج التي يحصدها من هذا الطرح، وعدم الاكتفاء بتعريفه وفقًا لما يفرضه هو من تحيُّزاته، ثم الوقوف والتحرك في الحاضر صوب مستقبل تسوده قيم الإنسانية المشتركة وليس الفردوس الأرضي المزعوم.»٥٧ من شأن هذه القدرة في إعادة التعريف وإنشاء خرائط إدراكية بديلة أن تعيد ترتيب العَلاقة بين الغرب والأمة على المستوى المعرفي والحضاري، ونخرج من دائرة الموضوعية المتلقية السلبية الكسولة — بتعبير المسيري — التي سقطنا فيها أثناء بناء مشاريعنا الفكرية واختياراتنا المنهجية. هذا السقوط منعنا من رصد الجوانب السلبية في هذا النموذج، فعملية النقل السلبية التي مارسها رواد النهضة على تعدُّد توجهاتهم ومرجعياتهم تحولت — في رأي المسيري — إلى آلة فوتوغرافية أسكتت ذاكرة الأمة وقتلت مقدراتها وقدرتها على الإبداع والخَلْق.
فالخريطة الإدراكية للنخبة العربية، مع ما تعانيه من فقر — على مستوى المرجعيات — أدت إلى تصوُّر أن نهضة الغرب هي نهضة الأمة على أساس هذا التماثل غير الطبيعي، فحين تتبنى أمة من الأمم النماذج الإدراكية لمجتمعات أخرى يتوقف عندها الإبداع والحلم (ولعل الجابري يشترك مع المسيري في المقدمات والملاحظات نفسها، مع اختلاف على مستوى الرؤية والمنهج)، فوقعت في التبعية الإدراكية،٥٨ أي إن الآخر هو الذي يصوغ المقولات والنماذج التحليلية والتفسيرية، واستبطانها بوعي أو بدون وعي ويعتبر «إمبريالية المقولات» تعبيرًا عن هذه التبعية الإدراكية للغرب. يقول: «وأعتقد أنه يتحكم في رؤيتنا للعالم مخزوننا الإدراكي المشبع بالهزيمة. لقد قامت المقولات التحليلية الغربية بغزونا منذ نهاية القرن التاسع عشر وأصبحنا ننظر إلى أنفسنا من خلال المقولات الغربية.»٥٩
فهذا الإسهال المصطلحي والمفاهيمي — يقول المسيري — الذي أصابنا وأصاب جهاز التفكير عندنا هو «إحدى مشاكل الفكر العربي الذي ما يزال فكرًا موضوعيًّا، أي يتعامل مع المضامين المباشرة ولا يصل إلى العَلاقات الكامنة أو إلى النموذج الكامن»٦٠ في كل ما يستورده ويستهلكه من المعرفة والحضارة الغربية. ويرى المسيري أن النماذج المعرفية الإدراكية ليست معايير واحدة ومماثلة، إذ «لكل نموذج معرفي معاييره الداخلية (أو مرجعيته النهائية) التي تتكون من معتقدات وفروض ومسلَّمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق وتزوده ببعده الغائي، وهو جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك، حلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق ونسبي من منظوره، فهي باختصار مسلَّمات النموذج الكلية أو مرجعيته التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية.»٦١
وعلى ضوء هذه الحقيقة والمرجعيات يحدد المسيري مفهوم المنهج في البحث العلمي، إذ المنهج ليس هو مجرد آليات وإجراءات تقنية يوظفها الباحث في دراسة الظواهر، بل هو «إجراءات وآليات تتضمن تحيزات محددة وأعباء أيديولوجية»،٦٢ إذ من خلالها يتم «استبقاء بعض التفاصيل والمعطيات والمعلومات، واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب خريطة الباحث الإدراكية، وحسب النموذج المعرفي الذي يحدد من خلاله الجوهري من الهامشي، وعليه فالمنهج هو تعبير عن طريقة تفكير الباحث ورؤيته للعالم.»٦٣ (يصدُق هذا التحليل على النماذج السابقة القومية والعلمانية واليسارية أثناء تعاملها مع التراث ومخزون الأمة الحضاري ورموزها.)

فالمنهج عنده رؤية معرفية يُبنى من خلال النموذج المعرفي لكل أمة، ومن خلاله تُحدَّد الأسئلة والمقدمات ونحصل النتائج، وفي حالة عدم امتلاك هذه الرؤية وهذا المنهج سنجد أنفسنا نطرح أسئلة حُددت لنا سلفًا قد لا تعنينا كثيرًا، ونصل في نهاية الأمر إلى نتائج تدعم وجهة نظر الآخر، وتهمل قضايا مصيرية في الأمة ونُرغَم على الدخول في حركة تاريخية خطية أحادية التصور والرؤية والنموذج، وتهمل التعددية والحق في الاختلاف.

فهذا الإحساس والإدراك بعدم براءة هذه النماذج والآليات المنهجية الموظفة في تحليل بنية المجتمع العربي الفكرية واستبطانها لنماذجها القيمية؛ جعل المسيري يدعو إلى ضرورة إخضاع المنهج الذي نستخدمه لعملية «تقييم حتى نكتشف تحيُّزاته وننقي آلياته منها، أو على الأقل نُطوِّعها بحيث يمكن توظيفه وتوظيف آلياته داخل إطارنا المعرفي، فيمكن أن أستخدم المنهج البنيوي في التحصيل دون أن أصبح بنيويًّا معاديًا للإنسان، وأن أستخدم المنهج التفكيكي دون أن أصبح تفكيكيًّا عدميًّا»،٦٤ داعيًا إلى تجاوز الخطاب الاختزالي، وتبني الخطاب التفسيري التركيبي في تقييم النماذج المعرفية الغربية لأن «التوقف عند المستوى الجزئي مع بقاء البناء على حاله قد يؤدي إلى عملية ترقيع وتلفيق تُفقِدنا هويتنا دون أن نكتسب هوية جديدة.»٦٥ بهذه الرؤية يتجاوز المسيري النماذج المعرفية التفسيرية، التي عرَفها تاريخ المناهج في الغرب وهيمنت على الفكر العربي الحديث والمعاصر، العلماني، القومي، المادي، ليؤسس لخريطة إدراكية ولنموذج معرفي يستمد مقوماته من النموذج المعرفي الإسلامي التوليدي.

(٢-٢) النموذج المعرفي الإسلامي التوليدي، البديل: الأسس والمنطلقات

لم يقف المسيري عند نقطة الرصد لمنزلقات النموذج المعرفي الغربي وتحيزاته، وانتقاده للتيارات التغريبية في الوطن العربي وفشلها في صناعة نماذجها المعرفية الخاصة، بل فعل هذا بكفاءة عالية، لكن تجاوزه إلى اقتراح بديل معرفي لتجاوز مثالب النماذج المستعارة، من خلال الأسس المنهجية الآتية:

(أ) الهُويَّة العربية الإسلامية

شكلت الهُويَّة العربية الإسلامية أهم عناصر النموذج الذي حاول المسيري «صكه للبناء وللإعمار، وهو نموذج مستلهم من البيئة العربية الإسلامية وغير مهزوم أمام الآخر»٦٦ من المرجعية الكبرى للأمة — الوحي — لا خارجها، ودفاعه عن هذه الهُويَّة — المرجعية — ليس من باب «الكلام المرسل أو الشعارات التي يرددها بصدق كثير من مثقفي الأمة، وإنما عن دراية بسبل تأكيد الهُويَّة، فأولى خطوات النهضة إنما تبدأ عنده بإعادة الثقة فيما نملك، فلدينا قيمة مطلقة من استخلافنا في الأرض، إلى جانب قيم واقعية متمثلة في الموروث الحضاري القيمي»،٦٧ نسمات هذا البديل نابعة من هذه المرجعية المطلقة: القرآن والسنة «اللذان يحويان القيم الإسلامية المطلقة والإجابة الإسلامية على الأسئلة النهائية»،٦٨ لكن لا ليكرر النموذج المرفوض — نموذج الموضوعية المتلقية — والوصول إلى قوانين صارمة نهائية وصيَغ جبرية تفسر كل شيء، وتستبعد الذات الإنسانية، فالنموذج «المقترح لن يسقط في الموضوعية المتلقية، والتي تفترض عقلًا قادرًا على الإحاطة بكل شيء، وواقع بسيط يمكن الإحاطة به، كما أنه لن يسقط في الذاتية التي تعني ذاتًا متمحورة حول نفسها لا تكثرت بتركيبة الواقع، وتحاول أن تُملي رؤيتنا وإرادتنا عليه.»٦٩
ارتباط مفهوم الاجتهاد بهذا النموذج البديل عنده سيحول دون السقوط في المنحى الذي حاربه في النموذج المتلقي، لأن المنطلقات المرجعية مختلفة، فالنموذج الاجتهاد التفسيري تتسم فيه بالتوليدية والانفتاح والتركيب، عكس النموذج المتلقي الذي تتسم فيه بالتراكم والانغلاق والاختزال، وأن محاولة «المعرفة الكاملة والتحكم الكامل محاولة شيطانية مستحيلة؛ لأن الواقع الإنساني مركب ثري ولا نهاية لهذا التركيب وهذا الثراء.»٧٠
وأهم منطلقات هذا النموذج المعرفي هو إدراك أن «ثمة حيزًا إنسانيًّا يترك فيه الإنسان ويمارس إنسانيته، ومن ثم يصبح مختلفًا عن الكائنات الطبيعية، فهو كائن مركب وعنصر حر مسئول لا يتجاوز حتميات النظام الطبيعي المادي، ولا يمكن أن يرد في كُليته إليه، ولا يمكن أن يمزج بالظواهر الطبيعية ويذوب فيها (…) وهذا يعني أن ثمة ثنائية أساسية تترجم نفسها إلى انفصال بين الإنسان المركب والواقع الطبيعي المادي.»٧١
فالمقولة الإنسانية جوهر هذا النموذج بإمكانات هذا الإنسان وعلامات تميزه وتفرده كائنًا فريدًا مركبًا، والعالم من «منظور النموذج البديل ليس مادة مصمتة، بل تتسم بثنائية لا يمكن تصفيتها، وبدلًا من استخدام مقولات مادية تفسيرية وحسب، تفرض الواحدية على الواقع وتسوي الإنسان بالطبيعة، يمكن استخدام مقولات تفسيرية مادية، غير مادية، كمية/كيفية مستمدة من النظام الطبيعي متجاوزة له في ذات الوقت، ومن ثم يمكننا من خلالها التعامل مع ظاهرة الإنسان في كل تركيبتها.»٧٢ نموذج يعترف بكل الثنائيات، ولا يعمل على تصفيتها: ثنائية الإنسان والطبيعة، ثنائية الخالق والمخلوق، وهي الثنائيات التي استطاع المسيري أن يؤسس من خلالها نماذجه التفسيرية وخرائطه الإدراكية، ومن ثم استطاع قراءة الأحداث على تنوع مجالاتها وساحاتها (الفكرية والسياسية، والفنية والأدبية …) من خلال وضعها داخل نماذج فضفاضة لا تنغلق على ذاتها.٧٣
وعلى هذا الأساس ﻓ «الإنسان ووحداته الاجتماعية لا يمكن تصفيتها لصالح الدولة، والماضي لا يمكن إسقاطه أو تجاهله لصالح الحاضر، ولا يمكن إلغاء الحاضر لصالح الماضي أو المستقبل، والإنساني لا يمكن تجاهله لصالح الطبيعي»،٧٤ بذلك يزحزح المسيري كل العقائد المنهجية التي عرفها الفكر الغربي والعربي على حد سواء، ويعيد تركيب وصياغة المنهجيات والآليات التفسيرية، وفق النموذج المعرفي الإسلامي، ووفق الخريطة الإدراكية التي يؤسسها النموذج الذي سمَّاه ﺑ «نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي»، بمعنى أنه «يسمح بوجود ثغرات بين الأسباب والنتائج، بين الكل والجزء، وبين الأجزاء بعضها وبعض (…) ولذا لا يسقط في الواحدية أو التماسك العضوي.»٧٥ ووجود الله تعالى هو «ضمان ألَّا تسد هذه الثغرة وألَّا تصفى ثنائية الإنسان والطبيعة؛ إذ تظل هناك مقولة تفسيرية غير مادية تشكل ثنائية كبرى، هي ثنائية الخالق والمخلوق، تتفرع عنها كل الثنائيات الأخرى.»٧٦
فالإنسان في هذا الكون يتمتع بكامل الحرية دون أن يعني ذلك استقلاله عن الله تعالى وإرادته ومشيئته، فيكون النموذج الاجتهادي هو الذي يحدد المسافة بين المطلق (الله تعالى)، والنسبي (العقل الإنساني وإرادته) في تفسير الأحداث ورصدها وتركيبها. نموذج لا يطمح «للتحكم الكامل والمعرفة الكاملة أو التفسير النهائي أو اليقين المطلق، فإنه لن يحاول الوصول إلى نظرية كبرى شاملة نهائية، وإنما إلى نظرية كبرى وشاملة نسبيًّا أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانيًّا».٧٧

(ب) تحرير المصطلحات والمفاهيم من التحيزات

في سبيل استكمال البناء، يطرح المسيري إشكالية المصطلح والتحيز، فبناء النماذج المعرفية والآليات التحليلية يفرض إدراك هذا التحيز المصطلحي، بمعنى أن ثمة اختلافات جوهرية تحددها اللغة الإنسانية، إذ لا توجد «لغة إنسانية واحدة تحتوي كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوناته، أي لا بد من الاختيار، وكل لغة مرتبطة إلى حد كبير ببيئتها الحضارية وأكثر كفاءة في التعبير عنها.»٧٨
ويدرك المسيري أهمية المعجم العربي في توليد المفاهيم وبناء النموذج المعرفي، لأن اللغة مرتبطة بحضارتها، فلا يمكن أن تنتج بلغة غيرنا ومفاهيمها، فجهاز مفاهيمنا ينبغي توليده وبالضرورة من هذه اللغة المتجذرة تاريخيًّا وحضاريًّا، فمعظم المصطلحات التي نستخدمها في العلوم الإنسانية تم استيرادها من الغرب «بأمانة وموضوعية دون إدراك للمفاهيم المتحيزة، ولهذا فقَدَ الإنسان العربي القدرة على تسمية الأشياء، ومن لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة على الواقع والمقدرة على التعامل معه بكفاءة».٧٩
والتحيز في المصطلح — كما يرى المسيري — تحيز مزدوج، تحيز سياقه، وتحيز من صاغه. ولهذا فإن «المصطلحات التي نستوردها تم سكُّها في العالم الغربي بعناية بالغة تنبع من تجارب تاريخية ونماذج تحليلية ورؤًى معرفية ووجهات نظر غربية (…) ومرتبطة بسياقها الحضاري الذي نشأت فيه.»٨٠ ويدعو إلى تنقية المعجم المصطلحي والمفهومي المتداول منذ القرن التاسع عشر وإنشاء، وتوليد مفاهيم بديلة تعبر عن حقيقة الرؤى التي نحملها ونبشر بها وتحررنا من تحيزات الحضارة الغربية.
أما منهجية بناء هذه المفاهيم وتوليدها فتبدأ عنده بالدعوة إلى إلغاء الاعتماد على الترجمة للأسماء والأشياء ومعانيها، والنظر إلى الظاهرة في سياقها، بحيث تتم دراسة المصطلح الغربي الذي يشير إليها في سياقه الأصلي دراسة جيدة، والتعرف على مدلولاته، ومحاولة توليد المصطلح من داخل المعجم العربي، بحيث لا يكون ترجمة حرفية٨١ دون أن يعنيَ ذلك انغلاقًا على الذات؛ لأن «الانفتاح الحقيقي هو عملية تفاعل مع الآخر نأخذ منه ونعطي ونبدع من خلال معجمنا؛ لأن الإبداع من خلال معجم الآخر مستحيل.»٨٢

لذا يرى ضرورة تفعيل المعجم العربي حتى نتمكن من توليد معارفنا ومناهجنا واكتساب القدرة على التواصل والتعبير عن هُويَّتنا الحضارية، فمن الظواهر ما لا يمكن التعبير عنها بواسطة النماذج المستوردة بسبب حدودها الإدراكية.

وعندما نتمكن — الكلام للمسيري — من تحقيق الجهد التفكيكي النقدي الإبداعي للنموذج المعرفي الغربي، وتوضيح هُويَّته وإعادة تركيبه، وزيادة القدرة التوليدية للنموذج البديل، وتحول الغرب إلى مركز من المراكز، سننظر إلى الغرب بدون قلق ودون مركب نقص، ليس كما فعَل ويفعل دعاة التغريب، وإنما يُمكننا دراسته كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات،٨٣ ونتعامل معه برؤية نقدية إبداعية منفتحة ووفق قيمنا الحضارية.

ما قدَّمناه من جهد لهذه المحاولة لا يعني أن الأمر قد صفي نهائيًّا، بل هي محاولة جريئة تنتظرها محاولات أكثر جرأة في إطار عمل مؤسساتي يحتضن الأفكار، ويمكِّن لها في مؤسسات المجتمع. تلك مشكلة المشاريع الفكرية في عالم العرب والمسلمين. لكن يكفي أن أفكار الرجل أعادت ترتيب كثير من القضايا على المستوى المنهجي ونفثت نفَسًا جديدًا في العقل العربي المسلم، وقدَّم جهدًا متميزًا في منهجية بناء المعرفة، من خلال مفهوم مركزي في مشروعه الفكري، هو مفهوم التحيز، وإعادة تشكيل العقل العربي، من عقل تراكمي اختزالي إلى عقل تركيبي اجتهادي بنائي توليدي.

١  محمد عابد الجابري: «الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية»، دار الطليعة، بيروت، ط٢، ١٩٨٨م، ص٦.
٢  سليمان الخطيب: «أنماط انتقال الأفكار وآلياتها بين التفاعل والاستلاب»، ضمن كتاب «الحوار والغرب: آلياته – أهدافه – دوافعه»، سلسلة التأصيل النظري للدراسات الحضارية (١) ٢٠٠٨م، ص١٣٠.
٣  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص ٧.
٤  انظر طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، ط٢، ٢٠٠٧م، مقدمة الطبعة الثانية، ص١٩.
٥  انظر المرجع نفسه، ص٢٧.
٦  المرجع نفسه، ص٢٩.
٧  المرجع نفسه، ص٢٩.
٨  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص١٣٩.
٩  المرجع نفسه، ص٦٧.
١٠  طه عبد الرحمن: روح الحداثة، م. س، ص١١.
١١  طه عبد الرحمن: الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، ط١، ٢٠٠٥م، ص٣٠٢.
١٢  انظر المرجع نفسه من ص٣٠٢–٣٠٦، فيها بسط مُفصَّل لهذه النماذج يضيق المقام بذكرها فلتراجع.
١٣  المرجع نفسه، م. س، ص٣٠٥.
١٤  المرجع نفسه، ص٣٠٦.
١٥  المرجع نفسه، ص٣٠٦-٣٠٧.
١٦  طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، م. س، ص٢٥.
١٧  انظر طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٥٨.
١٨  المرجع نفسه، ص٥٨-٥٩.
١٩  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٥٩-٦٠.
٢٠  طه عبد الرحمن: روح الحداثة، م. س، ص١٤٩–١٥٢.
٢١  انظر الجابري «بنية العقل العربي»، ص٥٥٥، من أجل «عصر تدوين» جديد. ثم ص٥١٣ مشروع إعادة التأسيس.
٢٢  انظر في طه عبد الرحمن تفاصيل هذه الشبه في روح الحداثة، م. س، ص١٥٥ إلى ص١٥٨.
٢٣  المرجع نفسه، ص١٥٨.
٢٤  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص٧٤-٧٥.
٢٥  طه عبد الرحمن: الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، م. س، ص٣٠٧.
٢٦  انظر: عمر كوش: أقلمة المفاهيم، م. س، ص١٥٣.
٢٧  المرجع نفسه، ص١٦٠.
٢٨  طه عبد الرحمن: روح الحداثة، م. س، ص١٤٣.
٢٩  المرجع نفسه، ص١٣-١٤.
٣٠  انظر: طه عبد الرحمن: روح الحداثة، م. س، ص١٤.
٣١  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص١٠.
٣٢  المرجع نفسه، ص٩.
٣٣  المرجع نفسه، ص١١.
٣٤  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص١٢.
٣٥  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س: ص١٨-١٩.
٣٦  المرجع نفسه، ص١٩.
٣٧  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص١٣.
٣٨  انظر المرجع نفسه، ص٢٤.
٣٩  المرجع نفسه، ص٢٥.
٤٠  المرجع نفسه، ص٢٥.
٤١  طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، م. س، ص٢٧.
٤٢  طه عبد الرحمن: حوارات من أجل المستقبل، م. س، ص١٦-١٧-١٨.
٤٣  طه عبد الرحمن: «سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية»، المركز الثقافي العربي، ط٤، ٢٠٠٩م ص١١١.
٤٤  المرجع نفسه، ص١١٢.
٤٥  المرجع نفسه، ص٢٦-٢٧.
٤٦  طه عبد الرحمن: روح الحداثة، م. س، ص١٩٣.
٤٧  انظر: عبد الوهاب المسيري: «الفكر الغربي: مشروع رؤية نقدية»، مجلة إسلامية المعرفة، السنة الثانية، العدد الخامس، ص١٢٥.
٤٨  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، تحرير سوزان حرفي، دار الفكر دمشق، ط١، ٢٠٠٩م، ص٢٩٧.
٤٩  المرجع نفسه، ص٣٣٠.
٥٠  عبد الوهاب المسيري: «إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد»، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط٢، ١٩٩٨م، ج ١/ ٩٨.
٥١  عبد الوهاب المسيري: الفكر الغربي، مشروع رؤية نقدية، م. س، ص١٢٦.
٥٢  عبد الوهاب المسيري: إشكالية التحيز، م. س، ١ / ٨٩.
٥٣  المرجع نفسه، ص٨٨.
٥٤  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٢٣٣.
٥٥  المرجع نفسه، ص٢٣٤.
٥٦  عبد الوهاب المسيري: نحو نموذج تفسيري اجتهادي، م. س ص١٠٢.
٥٧  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص١١.
٥٨  انظر: انتقادات المسيري للنخب العربية في إشكالية التحيز: محور إدراك التحيز في الفكر العربي الحديث، م. س، ص٦٩-٧٠.
٥٩  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٢٦٨.
٦٠  المرجع نفسه، ص٢٥٤.
٦١  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٢٧٧.
٦٢  المرجع نفسه، ص٢٣١.
٦٣  المرجع نفسه ص٢٣١.
٦٤  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٢٣١.
٦٥  المرجع نفسه، ص٣٣٠.
٦٦  المرجع نفسه، ص١١.
٦٧  المرجع نفسه، ص١١.
٦٨  عبد الوهاب المسيري: «إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد»، تصدير المقدمة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة المنهجية الإسلامية (٩)، ص١٠٦.
٦٩  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٢٩٩-٣٠٠.
٧٠  المرجع نفسه، ص٣٠٠.
٧١  المسيري: نحو نموذج تفسيري اجتهادي، م. س، ص١٠٧.
٧٢  المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٢٩٩.
٧٣  انظر المرجع نفسه، ص١٣.
٧٤  المرجع نفسه، ص٣٠١.
٧٥  المرجع نفسه، ص٣٠١.
٧٦  المسيري: إشكالية التحيز، المقدمة، م. س، ص١١٠.
٧٧  المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٣٠٢.
٧٨  المرجع نفسه، ص٣٠٢.
٧٩  المرجع نفسه، ص٣٣٧.
٨٠  عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، م. س، ص٣٣٨-٣٣٩.
٨١  انظر المرجع نفسه، ص٣٥٠.
٨٢  المرجع نفسه، ص٣٥٠.
٨٣  انظر المسيري: إشكالية التحيز، المقدمة، م. س، ص١١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤