المقدمة

١

كان نابوليون الأول عائدًا من مدينة موسكو بعدما نشبت فيها نار الروسيين، وقد غرق نصف معسكره العظيم في مياه نهر بريزينا الثلجية، وكان السيل عرمًا والريح زعزعًا تهب من جهة الشمال، والأفق مقتمًا متلبدًا بالغيوم السوداء، والبرد قارصًا، فكانت تلك الجنود التي ألقت الرعب في قلوب أوروبا المتحدة، تقاوم بقوة اليأس جواذب النعاس المميت، وتدافع بعامل الأنفة ألم الجوع القاتل، وكان بعض المشاة ينازعون العقبان جثث الخيول، ومنهم مَن كان يغلبه النوم فيرقد رقدة لا انتباه بعدها، وهم مع كل ذلك يلجئون إلى الفرار من حين إلى حين خشيةَ مدافع الروسيين ومطاردة القوزاق، وإن بين أولئك المنكودين ثلاثةَ فرسان قد أووا إلى غابة صغيرة، وجعلوا يجردون الثلوج عن أغصان العليق، ثم أحرقوها وقعدوا حولها يصطلون.

وكان أحدهم في الخامسة والثلاثين من عمره مرتديًا بملابس تدل على أن له في الجيش رتبة أميرالاي، وهو فوق الربعة في الرجال، أزرق العينين، قد ارتسمت على محيَّاه النبيل علائم الشجاعة والصبر، وهو ملقى بين رفيقيه، وقد تكسَّرت ذراعه وأثخن بالجراح.

وكان الثاني قائد مائة، وهو في مقتبل الشباب أسمر لون الوجه، ذو نظر مضطرب لا يستقر، وقد جلس إلى جنب رئيسه يعينه على الاصطلاء، ولوائح الاضطراب ظاهرة على وجهه العبوس.

أما الثالث فكان من جنود الحرس، وقد طار فؤاده شعاعًا لجراح مولاه، فكان جالسًا بقربه، ودموع الحنو تنهمل من عينيه، فكان إذا سمع دوي مدافع أو أحس بوقع حوافر ينهض نهضة الليث، ويسير باحثًا عن جهة المطاردين، ثم يعود إلى مولاه فيغسل جراحه الثخينة بمنهل الدموع.

وكان الظلام قد أقبل، وأخذ ضباب الشفق المقتم يمزج الأرض بالسماء، فنظر الأميرالاي إلى قائد المائة وقال له: ما ترتئي يا فيليبون، أنقيم الليلة في هذا المكان؟

فلم يدع الجندي مجالًا للقائد، وأجاب بحماسة: مولاي، إن البرد قارص، وليس من الحكمة أن نبيت في هذه الغابة؛ فإن القوزاق قريبون منا.

فجعل الأميرالاي ينظر إليهما، ثم سأل فيليبون ثانيةً عن رأيه، فأجاب: لقد أصاب بستيان فيما ارتآه من وجوب الرحيل؛ لأننا إذا اختفينا في هذا المكان الخطر فلا نفيق، ومتى خمدت النار نموت من البرد، وفوق ذلك فإن دوي مدافع الروسيين ينذرنا بقربهم منَّا، فلا نجاة لنا إلا بالفرار.

فتنهَّدَ الأميرالاي وقال: يا للشقاء ويا للعار! أنهرب من وجه فرقة من القوزاق، وما يتحدث الناس عنا ومن عرف ما لنا من الإقدام، ولكن ويلاه مَن يستطيع أن يغلب الطبيعة، ومَن يطيق ثباتًا أمام هذا البرد الهائل؟ بل كيف أقدر على الرحيل وقد وهنت قواي لفرط ما نزف من دمائي؟ بالله دعوني أموت قرب هذه النار، فإن رجلي قد ضعفتا عن حملي.

قال هذا وقد صاح صيحة الألم، وانطرح أمام النار وهو على وشك الموت.

فتشاور رفيقاه بالنظر، ثم همس القائد بأذن الجندي وقال: إذا تركناه ينام، فلا نعود نقوى على إيقاظه.

فمال الجندي على أذنه وقال: لا بأس من رقاده ساعة، فإني أحمله نائمًا على كتفي.

فأصغى القائد قليلًا ثم قال: إن الروسيين على مسافة ثلاثة فراسخ منَّا، فَلْينم إذا شاء ونحن نسهر بقربه.

وقد سمع الأميرالاي هذه العبارة فمد يده إلى فيليبون، وقال له: إنني أسديك أيها الصديق الحميم جميل الشكر لما تُظهِره نحوي من الرأفة والبر بي، وإني أهنئك لثباتك أمام البرد الهائل، فلو لم تكن أشجع مني وأصبر لكنتَ على ما تراني عليه الآن من الوهن وضعف العزيمة.

فأجابه القائد قائلًا: إني أقاسي من البرد نفس ما تقاسيه، غير أنك مثخن بالجراح، وأنا لم ينزف مني قطرة دم، وهذا هو السبب فيما اتهمت به نفسك من الوهن وضعف العزيمة.

فشكره الأميرالاي وقال له: إصغِ إليَّ فإني أشعر بدنوِّ الأجل، وأحب أن أحدثك بأمر أرجو ألَّا يثقل عليك سماعه؛ إن لي من العمر خمسة وثلاثين عامًا، وقد دخلت في سلك الجندية في السادسة عشرة من عمري، وارتقيت إلى رتبة أميرالاي ولي من العمر ثلاثون عامًا، أريد بذلك أنه كان لي شيء من الشجاعة والصبر تدرَّجْتُ بهما في سلم المعالي، وكدت أبلغ بهما منتهى آمالي، وهما صفتان ما نزلتا بنفس امرئ إلا رفعتاها من دركات الخمول إلى أقصى درجات التقدم، وكأني بهما الآن وقد سالتا مع دمائي النازفة من جراحي، وحلَّ مكانهما هذا البرد القارص الذي لا يُحتمَل، وطالما خضت المعامع، واستهدفت لسهام الخطوب، وعرضت نفسًا رخصت في حب الوطن إلى الأخطار، فإني أذكر معركةً دُفِنتُ بها يومًا كاملًا تحت جثث القتلى، ويومًا اقتحمت صفوف الأعداء في حصار ساراكوس في إسبانيا وفي صدري رصاصتان، وأخرى في واركرام ثبتُّ على ظهر الجواد إلى نهاية القتال، وقد جرحَتْ فخذي إحدى الحراب، وتراني الآن أشبه بالأموات جسمًا بغير روح، جبانًا يهرب من مطاردة القوزاق، كل ذلك مما أقاسي من البرد لا مما نزف من الدماء.

فقال له القائد بلهجة المعزي: صبرًا أيها الصديق، فسنغادر هذه البلاد المصقعة إلى بلاد تسطع بها أشعةُ الشمس، فيخرج الأسد من عرينه.

فتنهَّدَ الأميرالاي وقال: وا شدة شوقي إلى الأوطان! ووا أسفاه فإني سأموت قبل أن أرى بلادي! ثم تبسَّم ابتسام القانط وقال وهو يدفع جواذب النعاس القاتل: لا، لا يجب أن أنام، فإن عليَّ أن أفتكر بامرأتي وولدي قبل ذلك، فأصغيا إليَّ، إنكما يا صاحبَي ستعيشان بعدي، وسيطبع تذكار ودادي أثرًا في قلبيكما، فأعيراني السمع فهذا آخِر ما أحدثكما به. ثم مدَّ يده إلى فيليبون، وقال: إنني تركت أيها الصديق في فرنسا وطني المحبوب امرأةً في مقتبل الشباب وطفلًا صغيرًا، وعن قريب ستصبح تلك المرأة أرملة وذلك الطفل يتيمًا … لا تقطع علي حديثي أيها الصديق، فإنني أتمنى لنفسي ما تتمناه لي من العيش لأشاهد امرأتي وولدي، ولكن قلبي يحدِّثني بقرب الوفاة، وأن تلك الأرملة وذلك اليتيم يحتاجان إلى نصير أمين.

فركع بستيان على ركبتيه، واستشهد السماء بيديه وهو يقول: إني سأبذل حياتي ودمي قطرة فقطرة في خدمة امرأتك وولدك إذا أصابك الدهر بمكروه.

فشكره الأميرالاي، وكان اسمه أرمان دي كركاز، ثم حوَّل نظره إلى القائد فقال: وأنت … أنت أيها الأخ الشفيق والصديق الصدوق …

وكأن هذه الكلمات قد فعلت بالقائد فعل الكهربائية بالأجسام، فاضطرب عند سماعها كاضطراب الريشة في مهب الريح، ولكن ذلك مَرَّ بأسرع من التصور، فلم يلبث أن عاد إلى ما كان عليه من الكدر، واقترب من أرمان مصغيًا إليه، فقال أرمان: أنت يا خير مَن عرفتُه في أيامي، إنك ستكون سندَ تلك الأرملة، ووالدَ ذلك الطفل الصغير.

فاحمرَّ وجه القائد، وبرقت أسرة وجهه، غير أن أرمان لم ينتبه إلى ذلك، فمضى في حديثه يقول: إني لا أجهل سابق غرامك بامرأتي منذ كانت تُدعَى باسم ذويها، وإنك تذكر يوم خلبت قلبَيْنا بآدابها، وتزاحمنا على حبها، كيف تركنا لها الخيار في انتخاب أحدنا بعلًا لها، فكنتُ يومئذٍ أوفر منك حظًّا، واختارتني لها قرينًا برضاك، فلم يكن ذلك ليقطع صلات المودة بيننا؛ بل استحكمت في أثره علائق الوئام، واستوثقت عُرَى الإخاء؛ مما دعاني إلى شكرك في حينه شكر محبٍّ عرف سر الولاء، ودعا لك الله في صلواته إذ كنتَ السبب في ما وصل إليه من ذلك الهناء.

والآن فإن ذلك الزوج الرءوف سيزج في ظلمات الأبدية، وسيغادر تلك المرأة أرملةً لا نصير لها إلَّاك، ولا رجاء لها سواك، فأنت ستكون بعدي زوج تلك الأرملة؛ لتكون أبًا لذلك اليتيم.

نعم، إنك ستتزوجها من بعدي، وهذه وصيتي الأخيرة كتبتها عند نشوب هذه الحرب، وقد تركتُ لكَ بها نصفَ ثروتي، أما الآن فإنك ستقتسمها مع امرأتي وولدي؛ لأني أثق بك وبإخلاصك، ولا ريب عندي بأنك ستنفِّذ إرادة محبتك الأخيرة. قال ذلك ومدَّ يده السليمة إلى جيب صدرته، فأخذ منها غلافًا ضخمًا وأعطاه لفيليبون.

فاصفرَّ وجه القائد، وأخذ الغلاف بيد ترتجف وهو يقول: كُنْ مطمئنًا أيها الصديق، فسأمتثل لأمرك إذا أُصِبتَ بمكروه، ولكنك ستبرأ من جراحك، وستعيش لامرأتك التي طبعت على قلبي خير أثر من الاحترام.

فتبسَّمَ أرمان تبسُّم القانط الواثق بدنوِّ الأجل، ولم ينبس ببنت شفة، بل تأوَّه وأطبق عينيه، وقد غلبه النعاس، فقال فيليبون لبستيان: لندعه ينام بضع ساعات نتناوب بها السهر عليه. ثم أضجعاه بقرب النار وغطَّيَاه بما كان عليهما من الثياب، فلم تمر دقيقة حتى سُمِع غطيطه.

فجلس بستيان بقرب رأسه، وجعل يزيد الضرم كلما أخمدت النار أو كادت، وهو يحاذر من وقوع الشرر عليه، ويكاد يذوب حنوًّا على مولاه.

أما فيليبون فكان غارقًا في لجج التصورات، ملقيًا بنظره إلى الأرض وهو ينكتها بحسامه الطويل، وكان يقطع تصوراته من حين إلى حين ناظرًا إلى أرمان نظرةَ احتقار وانتقام، وإلى بستيان نظرة حذر وتحسُّب، ولا بد لنا في سياق هذا الحديث من الإلماح إلى ماضي هذا الرجل الذي كان يحبه أرمان محبةَ إخاء، ويثق به ثقة عمياء، وهو لو مثلت صورة اللؤم لما مثلت بغير رسمه، نقول: إنه كان فاسد الأخلاق، كثير اللين والمكر، وهو في الأصل من رعاع الطليان، تطوَّع في الجيش الفرنسي فلم يكن أصحابه على فقره المدقع إلا من أصحاب الملايين.

ولم يمضِ عليه زمن يسير حتى ارتقى إلى رتبة قائد لفرط تحيُّله، ولاحتياج الجيش إلى قواد لا لبأسه وإقدامه، فإنه كان يستر جبنه ومكره ببراقع من الرثاء.

وقد ارتبط مع أرمان منذ خمس عشرة سنة برابط متين من الوداد حتى أصبحا لا يفترقان، وقد لقيا منذ ثلاثة أعوام مرَّتْ على المعركة التي نحن بصددها السيدة هيلانة ديران، ابنة أحد كبار القواد، وكانت بارعة في الجمال فعلق بها الاثنان، أما هي فاختارت أرمان بعلًا لها على ما ذكرناه آنفًا، فثارت الغيرة بفيليبون، وأضمر الشر لرفيقه كاتمًا أحقاده مترقِّبًا فرص الانتقام، حتى إنه أطلق عليه الرصاص في مواقع كثيرة فلم يُصِبه بأذى، ولم يوفَّق لقتله، وهو في كل ذلك يُظهِر له التودد، وتزيد أحقاده بازدياد محبة أرمان له شأنَ مَن طُبِع على الخسة والدناءة.

والآن فقد وجد ضالته المنشودة، وتيسَّرَ له ما كان يحلم به من الانتقام، فنظر إلى بستيان الساهر على مولاه بحنو الوالدة، وقال بنفسه: إن هذا الجندي يثقل عليَّ ويحبط مساعي. قال ذلك، وانتصب على قدميه، وذهب إلى جواده.

فسأله بستيان: ماذا تفعل؟

– أريد أن أمتحن غدارتي، فإني أخشى أن تكون قد ترطَّبَتْ من البرد.

وعند ذلك أخذ مسدسًا، وامتحنه أمام الجندي الذي كان يراقبه بسكون وارتياح، ثم أخذ مسدسًا ثانيًا فامتحنه كما امتحن الأول، وبعد أن وثق منهما صوَّب أحدهما على الجندي، وقال: أتعلم يا بستيان أن لي مهارة شديدة بإطلاق الرصاص؟

– هذا لا ريب فيه أيها القائد.

– أتعلم أني أصبتُ يومًا قلب عدو لي بمبارزة على بعد ثلاثين خطوة؟

– ذلك ممكن.

– ولقد فعلتُ أعظم من ذلك، فإني كنتُ أراهن على أن أصيب إحدى عينَيْ خصمي، وكنت أربح دائمًا، ولكني أؤثر دائمًا إصابة القلب؛ فإن ذلك يقتل الخصم على الفور.

فرجع بستيان منذعرًا إلى الوراء لمَّا رآه يصوب المسدس إليه، وقال بلهجة الرعب: ماذا تفعل؟

فأجابه ببرود: إني أصوِّب إلى القلب، فإني لا أريد لكَ العذاب.

وللحال أطلق عليه المسدس، فصاح ذلك الخادم الأمين من الألم، وسقط على الأرض مخضبًا بدمائه.

وقد دوتِ الغابة بصوت البارود، واستيقظ أرمان بالرغم عن نعاسه الشديد، فنظر إلى ما حوله نظرة الرعب والقلق، ورأى ذلك الجندي المسكين ساقطًا على الأرض ينظر إليه نظرة المودع الآسف، ويده على قلبه المطعون.

ثم نظر إلى فيليبون فرأى الزبد على شدقيه، وملامح الانتقام الوحشي ظاهرة بين عينيه، فنسي جراحه المؤلمة، وجلس مسرعًا وهو يحاول الوقوف، ولكن فيليبون لم يمهله بل وثب عليه وثوب النمر المفترس، وألقاه على الأرض فوضع إحدى ركبتيه على صدره المثخن بالجراح، وضغط عليه ضغطًا شديدًا، وهو يقول: تبًّا لك أيها الغر الأبله، فلقد وثقتَ بي في حين كان يجب أن تحذر مني كما تحذر من ألد أعدائك، أنت يا مَن سلبني المرأة التي كانت مطمح آمالي، تلك التي لم أحب ولن أحب سواها في هذا العالم، طِبْ نفسًا فسأتزوج بامرأتك، وسأتمتع بأموالك على ما أوصيت، والآن فلم يَعُدْ لك إلا دقيقة واحدة للحياة؛ إذ لا فائدة لي من حياتك، فَلْتَمُتْ لأحيا بعدك.

فاجتهد أرمان أن يتخلص مجذوبًا بميل حفظ الحياة، فعاجله فيليبون بإطلاق الرصاص، فسقط أرمان وهو يقول: يا أيها النذل! وكانت هذه آخِر كلمة قالها.

أما فيليبون فغادر أرمان وقد سال نخاعه على يده الأثيمة، وبستيان وهو غارق بدمائه، ولم يطَّلِع على ذنبه غير الله.

مضى على تلك الموقعة الهائلة والجرم الفظيع أربع سنوات، أصبح في غضونها ذلك القائد الوحشي أميرالايًا وزوجًا لأرملة ذلك النبيل أرمان دي كركاز.

وكان فيليبون يصيف مع امرأته وابنها في قصر له في كرلوفان، وهى من أحسن قرى بريطانيا، وكان هذا القصر من قبلُ لعائلة أرمان دي كركاز، فانتقل بعضه بالإرث إلى أرملته وبعضه بالوصية إلى ذلك الغادر، وهو واقع عند حدود فيتر على شاطئ البحر، تحيط به من أكثر جهاته غابات كثيرة الأشجار.

٢

وكان ظاهر القصر يدل على قِدَمه، وهو محاط بسور تدل آثاره أنه من عهد الصليبيين، ومزدان من الداخل بأجمل التصاوير التاريخية، وقد جاء إليه فيليبون مع امرأته في أواخر أبريل عام ١٨٣٦، ومعهما ولدهما الذي كان يُدعَى أرمان باسم أبيه القتيل، فكان قد حصل على لقب كونت عندما خمدت نار الثورة، فكان يعيش عيشة العزلة والانفراد مع تلك المرأة التعيسة التي أصبحت بعدما علمت بوفاة زوجها أرمان، شاحبةَ اللون ساهية الطرف نحيلة الأعضاء، بعد أن كانت من أجمل نساء عصرها كما شهد لها بذلك كلُّ مَن كان يراها في بلاط نابليون العظيم.

فبينما كانت يومًا منذ أربعة أعوام جالسة في منزلها تنتظر عودة زوجها بملء الجزع، وتتسلى على فراقه المؤلم بمداعبة ولدها الصغير، دخل عليها فيليبون وهو بملابس الحداد.

ولا بد لنا أن نذكر أن هيلانة كانت تكره هذا الرجل كرهًا شديدًا، وتؤنِّب زوجها لموالاته وتحذره منه، غير أن أرمان كان طاهر القلب صافي السريرة، فلم يُعِر امرأته أذنًا صاغية ولم يرعها سمعًا، واستمر على مودة صديقه، فكان ذلك يزيد هيلانة نفورًا من هذا الرجل وبغضًا له، حتى إنها كانت تتشاغل عندما يزورهم أو تتمارض كي لا تجتمع به ولا تراه.

فلما رأته داخلًا عليها بملابس الحداد، وهيئته تنذر بالمصاب، وقفت منذعرةً، وقد ارتعدت فرائصها من الخوف، فدنا منها وأخذ يدها بين يديه وهو يتكلَّف البكاء، وقال: لا حيلة لنا يا سيدتي بقضاء الله، فلقد فجعتِ بزوجك، وفجعتُ بخير صديق لي، فَلْنستوف البكاء إذ نحن في المصاب سواء.

ولم يمر على ذلك بضعة أيام حتى علمت الأرملة بوصية زوجها القائلة بوجوب زواجها بعده بفيليبون، غير أن كره الأرملة لفيليبون كان شديدًا، فعصت في بادئ الأمر إرادة زوجها ورفضت الزواج بصديقه الخائن.

أما القائد، فإنه أظهر انذهاله لوصية صديقه، وأنه غير أهل لها، وكان واسع الصدر كثير الصبر شديد اللين، فتوسَّل إلى الأرملة أن تقبله كصديق لها ولطفها فقَبِلته، وبقي بقربها ثلاثة أعوام يتظاهر بالحشمة والوقار، ثم جعل يستعطفها بملء التودد والحنان إلى أن أخذت تراجِع نفسها في سابق حكمها عليه، وكانت قد سمت رتبته في البلاط الإمبراطوري، وأملت لولدها خيرًا بواسطته لما رأت من علو منزلته واستحالة أخلاقه، فرضيت عنه بعض الرضى، وركنت إليه بعض الركون، فاغتنم تلك الفرصة، وجعل يزيد من تذﻟﻠﻪ وتصببه، وما زال بها إلى أن رضيت به بعلًا وأُشهِر قرانهما.

ولكنها لم تلبث بعد ذلك القران التعيس أن عادت إلى سابق كرهها له ونفورها منه؛ لما رأته من شراسته وقسوته التي كانت كامنة في صدره كمون النار، ولما كان يُظهِر في الانتقام من تلك الأرملة الضعيفة، فرجعت إلى عزلتها فرارًا من ذلك المفترس الذي كان يبسم لها أمام الناس ابتسام الحب والاحترام، ويبلوها بأشد العذاب عند اختلائهما.

وكان لا يشغل باله إلا بما يستطيع أن يسيء به إلى تلك المرأة التي لم تحبه غير يوم واحد، ولا يهتم إلا بما يسهِّل له سُبُل الانتقام منها، وهي لم تسئ إليه قطُّ بحياتها إلى أن علم يومًا أنها علقت بولد منه، فوجد ضالته المنشودة، وأملت عليه قريحته الجهنمية هذا التصور الفظيع: «إذا مات ابنها فإن ابني يرث جميع هذه الثروة العظيمة وحده، ولا أسهل من إعدام طفل لم يبلغ أربعة أعوام.» ومن ذلك الحين أخذ يترقب الفرص للوصول إلى هذه الغاية الهائلة.

ولقد سبق لنا القول أن قصر كرلوفان كان قائمًا على شاطئ البحر، وكان به سطح يحيط به رواق ضيق كان يلعب عليه أرمان عندما تتحول عنه أشعة الشمس.

وكانت أمه كثيرة الخشوع شديدة الرغبة في الصلاة؛ إذ كانت تجد بها خير تعزية على أحزانها، فتركته يومًا يلعب وحده على السطح، وولجت غرفتها فجثت أمام صليب من العاج، واستغرقت في صلاتها فلم تفرغ منها إلا وقد غربت الشمس وسار الظلام، فانتبهت مرعوبة لهدير الأمواج، وأول ما خطر على بالها ولدها الذي لم تَرَه بقربها.

وكان الجو قد أقتم، وثارت الرياح، وأدلهمَّتِ السماء، فلعلعت الرعود واندفع السيل كأفواه القرب، فهاجت الأنواء حتى كاد صوت الأمواج يزيد على قصف الرعود؛ فخرجت تبحث عن ولدها وهي تضطرب كالعصفور بلَّلَه القطر، فلم تكد تبلغ الباب حتى لقت زوجها داخلًا بملابس الصيد وعليه ملامح الرعب، فارتاعت لرؤياه، وانقبضت نفسها لمنظره، فلم تستطع كتمان اضطرابها وسألته عن ولدها سؤال قلق وارتياب، فأجابها ببرود: إني عجبت لبعده عنك، ولو لم تسبقيني بالسؤال عنه لَكنتُ سبقتك إليه.

فاختلج فؤاد تلك الأم التعيسة، وفتحت نافذة الغرفة تطل على السطح، ونادت بصوت متقطع: أرمان. فلم تسمع لصوتها صدى، ولم تجبها غير الرياح الثائرة.

وكان على الطاولة في الغرفة مصباح ضعيف يضيء بأشعته المضطربة جوانب الغرفة، فنظرت إلى فيليبون، وإذا بعلائم الخوف مرتسمة على وجهه، وعيناه تضطربان اضطراب الأثيم الخائف، فأحست بالخيانة وصرخت به تقول: ولدي، قُلْ لي ما صنعت بولدي.

أما فيليبون فإنه تجلَّد جهد الطاقة، وقال: إني لم أَرَ ولدكِ، ولم أدخل القصر إلا الآن.

فلم يزدها جوابه غير ريبة، وخرجت من الغرفة هائجةً تصيح: أرمان أرمان. ولكن صوتها لم يسمعه غير ذلك البحر الهائج.

٣

كان فيليبون قد عاد من الصيد، ودخل القصر منذ حين دون أن ينتبه إليه أحد من الخدم، فسار اتفاقًا إلى السطح الذي كان يلعب الطفل عليه.

وكان الظلام قد أقبل، فلم يسر بضع خطوات حتى عثرت رجله بألعوبة الطفل، وهي فرس صغير من الخشب، فتحقَّق منها وجود الولد؛ لأنه لا يفارق ألعوبته، وبينما هو يبحث عنه إذ سمع غطيطًا خفيفًا، فسار إليه فرأى الطفل نائمًا بقرب حصانه الخشبي وقد تعب من اللعب.

وكان فيليبون قد صرف جميع ساعات النهار في العزلة، يجهد الفكرة لتمكنه من حيلة يلقي بها الطفل في شراك الموت طمعًا بأمواله وتشفيًا من أمه، فلم يهتدِ إلى سبيل، ولم يُفتَح له باب، فلما رآه راقدًا على السطح أيقن بالفوز والظفر بأمنيته، فأخذ الطفل بين يديه، ونظر إلى الجهات الأربع نظرة السارق يحاذر رقيبًا، ثم ألقى به إلى البحر، ووقف في الرواق يراقب سقوطه بعينين تتوقدان بنار ذلك القلب الفظ الأثيم، فهوى الطفل إلى البحر، واحتجب عن مرآه بين الأمواج، فكان كفنه الأبيض ذلك العَجَاج المتلاطم.

ثم وقف بعد ذلك يبتسم ابتسام المنتصر، وهو يقول في نفسه: قد بلغتُ ما أردتُ؛ فإن تلك الثروة العظيمة ستكون لابني من بعدي ولا دليل على جرمي، فإن ما يتبادر إلى الذهن هو أن الولد قد هوى إلى البحر من نفسه ولا بد لي في ذلك، ولم يرني أحد عند دخولي فلا خوف عليَّ من التهمة. ثم لبث برهةً ساهي الطرف بغير حراك إلى أن عاد إليه هدوءه وسكونه، فدخل إلى غرفة امرأته، وكان ما كان من محادثتهما.

أما امرأته، فكانت قد أقلقَتْ بصياحها القصرَ وساكنيه، فشُغِلوا جميعهم في البحث عن أرمان، يجولون من مكان إلى آخَر، وهي تبكي بكاء الخنساء، وتنادي ولدها بصوت متقطع يذيب قلب الجماد، كل ذلك وفيليبون يسير في إثرها وهو يتكلَّف الحزن ويتظاهر بالقلق، وما زالوا كذلك إلى أن عاد إليهم أحد الخدم وبيده قبعة الطفل وألعوبته، فلما رآهما فيليبون أظهر الاضطراب، وقال: وا أسفاه! إني أخشى أن يكون قد سقط إلى البحر. فوهت قوى امرأته لخوفها من هذا القول، وسقطت على كرسيها وهي توشك أن يغمى عليها من الإشفاق، فبينما الخدم يحيطون بها وفيليبون يحاول أن يطمئنها ويسكن روعها، إذ دخل رجل غريب ووقف في الباب ينظر إلى فيليبون نظرةَ العظمة والاحتقار، فلم يكد فيليبون يتبيَّن وجهه حتى رجع وجلًا إلى الوراء منذعرًا، كأن الصاعقة قد انقضت عليه، واتَّكَأ على الحائط كأن رجليه قد ضعفتا عن حمله.

٤

أما ذلك الرجل الذي ظهر على باب الغرفة وراع منظره فيليبون، فقد كان يناهز الأربعين من العمر مرتديًا برداء أزرق طويل، عليه إشارة حمراء كما كانت تلبس الجنود في ذلك العصر، وكان عالي القامة عليه ملامح الشهامة، وقد اصفرَّ وجهه من الغيظ عندما أبصر بفيليبون، فرماه بنظرة احتقار خرجت من عينيه كالسهم المارق إلى فؤاده، ثم تقدَّمَ إليه وصرخ به يقول: أيها القاتل.

فانذعر فيليبون، وقال بصوت متقطع: مَن الذي أرى … بستيان؟ أَدَنَا يومُ النشور؟ أَبُعِثَ مَن في القبور؟

فقطع بستيان عليه الكلام، وقال: نعم، أنا هو بستيان، أنا هو ذلك الرجل الذي ظننت أنكَ قتلته وهو لا يزال حيًّا يُرزَق، نعم أنا هو ذلك الجندي الأمين الذي أطلقتَ عليه غدارتك، فأغمي عليه لفرط ما نزف من دمائه، ثم أفاق فوجد نفسه قرب مولاه القتيل، نعم أنا ذلك الخادم المطيع الذي مكث في أسر الروسيين أربعة أعوام، فعاد الآن يسألك عن دم مولاه الذي هدرته غدرًا وعدوانًا.

ثم نظر إلى الكونتسة وقال: سيدتي، إن هذا هو الذي قتل الولد كما قتل أباه.

ولقد تعجز الأقلام وينحبس اللسان عن وصف ما كان من الكونتسة بعد أن تبيَّنَتْ لها تلك الخيانة، وعلمت بمقتل زوجها وابنها، فزأرت كاللبوة التي فقدت أشبالها، وانقضت على فيليبون انقضاض الكواسر، تحاول تمزيقه بأظافرها وهي تصيح به: أيها القاتل، إن النطع ينتظرك، وسأقودك إلى الجلاد بيدي.

فكان فيليبون يهرب من وجهها، وقد شعر بدنوِّ الأجل، وهي تجدُّ في أثره، فبينما هي هاجمة عليه إذ وقفت متكئة على كرسي وصاحت صيحة ألم أضلت صوابها.

ذلك أن المخاض فاجأها، وأحست بابن ذلك الرجل يتحرَّك بأحشائها، فسقطت على الأرض واهية القوى بغير حراك، وكان مخاضها علة نجاة ذلك الرجل الذي عزمت أن تقوده إلى النطع، ذلك الخائن القاتل الذي لم ينقذه من انتقامها سوى ولده الذي كان يشفع به في أحشائها.

٥

مضى على تلك الحوادث الهائلة أربعة وعشرون عامًا، نعود بعدها إلى قص ما ستقفون عليه من حوادث، كان بدؤها في أواخر أكتوبر من عام ١٨٤٠.

كان في إحدى ليالي هذا الشهر رجل يُحكَم عليه من لباسه أنه فرنسي الأصل، قطع نهر التيبر وسار إلى تراستاقر ماشيًا مشية الفاكر المتأني.

وكان في عنفوان الشباب، له من العمر ثمانية وعشرون عامًا، جميل الهيئة حسن الوجه أسود العينين ذو جبين متجعد، يدل على شدة معاناة ذلك الشاب لمتاعب الحياة لندور الغضون في جباه الشبان.

وكان يسير الهويناء في طريق ضيق إلى أن بلغ منزل قائم عند منتصف ذلك الطريق تعرش على جدرانه الدوالي الأيرلندية، وقد تهدلت أغصانها، واختبأت عناقيدها الذهبية تحت الأوراق، وكانت جميع نوافذ المنزل مغلقة، والسكوت سائدًا شاملًا، والنسيم بليلًا لطيفًا، والقمر تتماوج أشعته فوق الدوالي، فلا يُسمَع إلا حفيف الأوراق وتملمُل العناقيد.

فوقف الشاب عندما بلغ الباب، وفتحه بمفتاح صغير كان في جيبه، فولج منه إلى دهليز ضيق إلى أن وصل إلى سلم طويلة من المرمر كان في أسفلها غرفة فدخلها، وقد استاء إذ لم ير بها أحدًا، فصعد السلم بمنتهى السرعة والقلق إلى أن بلغ إلى غرفةٍ، فوقف أمامها يلهث من التعب، وطرق الباب فسمع صوتًا لطيفًا من الداخل قال له: ادخل.

فدخل ورأى صاحبة هذا الصوت مضطجعة على مقعد في تلك الغرفة المفروشة بأجمل الأثاث.

وكانت الصبية على غاية من الجمال تكاد تبلغ العشرين من العمر، فمذ رأته نهضت مسرِعةً، وهرعت إليه تقول ببشاشة وارتياح: لقد طال غيابك يا أرمان، فإني أنتظرك منذ حين.

فاعتذر لها أرمان وقال: إني كنتُ قادمًا إليك منذ ساعة، فأعاقتني زيارة رجل طلب إليَّ أن أنقش له تمثالًا، فكان ما كان من أمرٍ عاقني، ولكن ما لي أراك شاحبة اللون، وعليك ملامح التأثر الشديد؟

فاضطربت الفتاة وقالت: أنت ترد ذلك؟

فأجابها وقد أخذ يدها بين يديه، وجلس على المقعد بقربها: نعم يا حبيبتي مرتا، ويسوءني جدًّا أن أراك دائمًا قلقة البال ساهية الطرف واجفة القلب، كمَن يخاف أمرًا، ولقد رأيتكِ اليوم على ازدياد، فهل تريدين أن تُطلِعيني على كُنْه أمرك؟

فأجابت الفتاة: نعم يا أرمان، إنك مصيب بظنك، فلقد خفتُ اليوم كثيرًا؛ ولذلك أنتظرك على جمر.

– ممَّن خفتِ؟ وممَّن تخافين؟ وكيف تخافين وأنا بقربك؟

فأسكتته الفتاة وقالت: إصغِ إليَّ يا أرمان واعمل برأيي، فإنه يجب أن نغادر روما، فإنك ظننت أني هنا بمأمن من مطارِدي، وتوهمت أنه لا يهتدي إليَّ بهذا الشارع المنفرد، ولكن ظنونك قد خابت، فإنه قد علم بوجودي بروما كما علم بذلك بفلورانسا، ويجب أن نخرج من هذه المدينة العظمى كما خرجنا من تلك.

وبينما كانت تتكلم اعتراها اصفرار شديد، فسألها أرمان: أين هي فورترينا الخادمة؟

– إني أرسلتها كي تدعوك، فربما تكون قد سارت بطريق آخَر غير الطريق التي أتيتَ منها.

– ربما، ولكني موجس ريبة من تلك المرأة التي أقمتها في خدمتك، وأمرتها ألَّا تفارقك على الإطلاق.

– لا تظن سوءًا، فهي تؤثر الموت على خيانتي.

فنهض أرمان، وجعل يمشي في الغرفة بخطوات غير موزونة تدل على قلقه وارتيابه، ثم نظر إليها وقال: ولكن ما الذي دعاك إلى طلب الرحيل؟

– قد رأيته.

– مَن؟

– هو.

ثم قامت إلى النافذة، وأشارت بأصبعها إلى باب على قارعة الطريق، وقالت: أمس رأيتُه بعد ذهابك من عندي واقفًا على هذا الباب وهو ينظر إلى منزلي بعين يتطاير منها الشرر، وما كنتُ أضأتُ المصباح في منزلي، ولكن القمر كان مضيئًا، فما وقع نظري عليه حتى صرخت من الرعب وأغشي عليَّ.

وكأنها رأته إذ كانت تقص حكايته، فعاد إليها اضطرابها إلى حدٍّ خشي عليها من الإغماء، فأخذها أرمان بين يديه، وأجلسها على المقعد، ثم جثا أمامها على ركبتيه وقال: أتريدين أيتها الحبيبة أن تصغي إليَّ؟ أتريدين أن تتكلي عليَّ كما يتكل المؤمن على الله، وأن تثقي بي كما يثق الولد بابيه؟

فتنهَّدَتْ مرتا وقالت: نعم أيها الحبيب، قُلْ ما تشاء فليس لي سواك في هذا العالم، فإنك عضدي ونصيري وأبي وأمي، فعليك معتمدي في كل حال، وعليك اتكالي بعد الله.

ثم أنهضته وأجلسته بقربها، فأخذ يدها بين يديه وقال: إني لقيتك منذ ستة أشهر جاثيةً عند منتصف الليل على باب الكنيسة باكيةً قانطةً وعيناك مرتفعتان إلى الأفق، فخلتُ أني أنظر ملاكًا هبط من السماء، وكنتِ تبكين وتبتهلين إلى الله أن يغفر لك، فدنوت منك وكلمتك بصوت لا أعلم في ذلك الحين إذا كان وجد طريقًا إلى قلبك الطاهر، ولكني أذكر أنك نهضت في الحال، واتَّكَأْتِ على ذراعي فتبعتني.

وقد كنتِ على ثقة مني فأنقذتُكِ من الموت وقد كنتِ تطلبينه، وعوَّضتك عن اليأس بالأمل، فكنتِ حينئذٍ من أسعد الناس، وأنت فقد برئت بعض البرء مما كنت تقاسيه، أليس كذلك؟

قالت: نعم يا أرمان، فإنك شريف وإني أحبك.

فتنهَّدَ أرمان وقال: وا أسفاه! ما أنا إلا نقَّاش بسيط ليس لي اسم ولا لقب ولا موطن، فلقد وُجِدتُ في البحر، ولي من العمر خمسة أعوام، وأنا معلق بما لا أعلم، أصادم الأمواج بالرغم من حداثتي، وإني وإن أكن مثريًا فإن صناعتي كافية للقيام بأودي وأودك، وسأجعلك امرأتي بأقرب حين، ولكن لكي أحميك أَلَا يجب أن أعرف اسم عدوك وأطَّلِع على سرك؟ مَن هو هذا الرجل الذي يطاردك، وكيف لا تخبرينني عنه، أَلَا تظنين بي الكفاءة لحمايتك منه؟

فأطرقَتْ مرتا إلى الأرض، وقد احمرَّ خدَّاها من الخجل، ثم جعلت تختلج، وقد تبدلت تلك الحمرة باصفرار شديد كمذنب اضطر إلى قرار يخاف منه، فقال لها أرمان بصوت محب حنون خرج من صدره كمَن يجهش للبكاء: حبيبة قلبي، لا تكتمي عني أمرًا مهما كان من أمر ماضي حياتكِ، فإن ذلك لا يؤثِّر شيئًا على حبي لكِ الذي لا تضعفه قوةٌ في هذا العالم.

فرفعت عند ذلك رأسها وقالت: وا أسفاه! إذا لم يكن الحب ذنبًا فلا أخجل لماضي حياتي. نعم، لقد أحببتُ حبًّا نقيًّا طاهرًا رجلًا فاسد الأخلاق لئيم دني الطبع، خُدِعت به وخلته شريفًا ولا جرم، فقد كان لي من العمر سبع عشرة سنة، فاستغواني وسرقني من بيت أبي، ولكن شهد الله أني ما لبثت أن عرفت ما انطوى عليه من الخسة واللؤم حتى هجرته وهربت منه.

فوقف أرمان متأثرًا وقال: قسمًا بحبك إني سأقتل هذا التعيس.

فأجلسته مرتا وقالت: أصغِ أيها الحبيب، فإني سأقص لك أمري مع هذا الفاجر.

فجلس أرمان وعادت هي إلى حديثها فقالت: إني ولدت في بلوا من أب تاجر غني وأم من الشرفاء، وقد ماتت أمي وأنا في العاشرة من عمري، فبعث بي أبي إلى الدير، وحين بلغتُ السابعة عشرة خرجت من الدير، فلقيت ذلك الرجل الهائل.

وكان أبي قد ترك التجارة، وانسحب من الأشغال بثروة عظيمة، فمذ خرجتُ من الدير ترك مدينة بلوا وذهب بي إلى أرض جميلة له في أورليان، وهي تبعد بضعة فراسخ عن بلوا.

وكان على بعد ساعة من منزلنا قصر جميل لضابط إيطالي الأصل فرنسي التبعة، كان يُدعَى الكونت فيليبون.

وكان هذا الكونت يصرف مدة الصيف في هذا القصر مع امرأته وابنه الفيكونت أندريا، أكبر مجرم ظهر على وجه الأرض من أيام آدم وحواء.

أما الكونت فإنه كان رجلًا حاد المزاج شرس الأخلاق، بعكس امرأته التي كانت مثال اللطف والدعة، والذي ظهر لي أنه كان يسيء إليها إساءة شديدة أثَّرَتْ شر تأثير على مزاجها اللطيف، فإن رائيها كان يظنها في الثمانين من عمرها مع أنها لم تبلغ الخمسين.

وكانت علائق الوداد بين الكونت وبين أبي متينة، فذهب بي يومًا إلى قصره حيث عرفت الكونتسة التي أحبتني بحنان وإشفاق، فصرت أزورها في كل يوم وهي تزداد نحولًا، ولكنها كانت تتعزى بقربي منها بعض العزاء.

فما مضى على ذلك شهر حتى تبيَّنْتُ أنها عائشة مع زوجها كغريبين في هذا القصر، وعرفت ابنها الفيكونت أندريا، فتبيَّنَ لي أيضًا أنه لا يحب أمه على الإطلاق.

لم تزل تلك المرأة الفاضلة تزيدها العزلة وهنًا والأحزان ذبولًا حتى دنت ساعتها الأخيرة وأحست بالنزع الشديد في ليلة برد هواؤها وأظلم جوها، وهي تقاسي ألم النزع وحدها؛ لأن زوجها وابنها كانا في الصيد.

فبعثَتْ تدعوني إليها، فأتيت على الفور ورأيتها مسجاة على فراشها تختلج، والكاهن بقربها يصلي صلاة الموت، وبعض الخدم رُكَّع يبكون.

وكانت تبحث عبثًا بنظرها الملتهب عن ابنها، ففاضت روحها الطاهرة في الساعة العاشرة، وكانت آخِر ما قالت: «أندريا يا أيها الابن العقوق.» وأذكر أني سمعت خادمًا طاعنًا في السن قال بصوت منخفض: «إن الفيكونت هو الذي قتل أمه.»

وبعد موتها بيومين عاد الكونت وابنه إلى القصر، وكان الفيكونت يكاد لا يفارق منزلنا، فلم يمضِ على هذا الائتلاف ثلاثة أشهر حتى استعضنا باللسان عن العين في نقل أحاديث قلبينا، ولا أعلم كيف دخل حبه إلى قلبي، ولا كيف فُتِنْتُ به بعد أن علمت أنه كان السبب في موت أمه، بل أعلم أنه مرت بنا ساعة آمنتُ به كما تؤمن الملائكة بالله، فاستسلمت إليه، وضحيت — وا أسفاه — نفسًا زكية على هيكل ذلك الحب الفاسد.

ومما كان يقوله لي بعد ذلك: مرتا إني أقسم لك بما تريدين من الأيمان أني سأتزوج بك. كنتُ عندما ألحُّ عليه بوفاء وعوده كان يتعلل برفض أبيه؛ لما بين عائلتينا من التفاوت في الغنى، ويقول: إن ذلك لا يكون قبل وفاة أبي، وقد اتَّخَذَ من هذا الحاجز حجةً على وجوب هربنا، فقال لي يومًا: أَلَا تذهبين معي إلى إيطاليا فأتزوج بك فيها؟

– وأبوكَ؟

– إنه يغضب حينًا، ثم لا يلبث أن يرضى.

– وأبي؟

– سندعوه إلينا.

– إذن فَلْنخبره بما عزمنا عليه، فهو لا يرفض إذا اعترفتُ له بما كان بيننا، ولئن يكون معنا أجدر بنا وأشرف لنا من أن نكون وحدنا.

فأطرق برهةً وقد ظهرت عليه علائم الارتباك، ثم قال: ذلك لا يكون أبدًا، وعلينا بذلك الإقرار خطر شديد؛ فإن أباك شديد المحافظة على الشرف، فلا آمَن عليكِ منه إذا اعترفتِ له بما كان، وإذا صفح عنك فهو لا يشترك معنا بخداع أبي، ولكن متى علم الاثنان بارتباطنا الشرعي، وعلم أبي أن لا حل لذلك العقد فهو يصفح عني؛ لأني وحيده كما تعلمين، وله بي مبرة وإشفاق.

وكان ذلك جل ما تتوق إليه نفسي، وأنا أعتقد به الصلاح والإفراط في حبي، فقبلت بما اقترحه عليَّ، وكتبتُ إلى أبي كتابًا كادت تمحو سطورَه دموعي، ثم سِرْتُ مع مَن عشقَتْه نفسي في ليلة حالكة الأديم تكاد تكون أشد سوادًا من حظي، فبلغنا مدينة ليلان بعد ٨ أيام.

فاستأجر منزلًا رحبًا، وتعرف بأشراف ميلان الذين كان يقدمني إليهم كامرأته، فعاش فيها عيشة بذخ وإسراف كانت أعظم وسيلة لتقربه من أشراف تلك المدينة وحسن علائقه مع أعيانها.

وكنتُ دائمًا ألحُّ عليه أن يكتب إلى أبي ويدعوه إلى المجيء إلينا، فكان يماطلني في ذلك إلى أن قال لي يومًا: قد وصلني كتابٌ من أبيكِ وأبي يدلان على سخطهما علينا، فلا أستطيع الآن أن أكتب إلى أبيك في هذا الشأن، وَلْنصبر إلى أن تهدأ ثورة غضبهما.

فامتثلتُ لما أمر، وصبرتُ كما صبر، أما مسألة الزواج فكان يتجنَّب المباحثة فيها إلى أن أعياني الأمر، فكتبتُ إلى أبي رسائل جمة لم تصله واحدة منها؛ لأن أندريا كان يأخذها من الخادم كما علمتُ ذلك بعد حين.

ثم إني ألححتُ عليه يومًا في طلب القران، فأخرج من جيبه كتابًا، وأعطاني إياه وهو يقول: إن أبي قد طعن في السن، وهو سيموت عن قريب، فأتزوَّج بكِ.

أما الكتاب: فكان من أبيه، وهذا مفاده:

إنكَ مخطئ يا بني بإساءتك إلى تلك الصبية وإغرائها على الفرار معك، ولكني أؤمل أن لا تقترن بها، فإن بين نسبيكما ودرجتيكما بونًا عظيمًا، وفوق ذلك فإني توفَّقْتُ ووجدت لكَ عروسًا موافقة، فأسرع بالعودة ودَعْ تلك الفتاة تعود إلى منزل أبيها.

فسقط الكتاب من يدي مما نالني من الضعف، وقلتُ له: على ماذا عوَّلْتَ؟

– على أن ننتظر.

– ماذا تنتظر؟

– موت أبي، فإني أعرف طباعه، فإذا عصيتُ له أمرًا فهو يحرمني من إرثه لا محالة.

ثم تركني وانصرف ضاحكًا كأن لم يكن شيء.

ومن ذلك اليوم ابتدأتُ أن أعلم أنه يريد أن يتخذني خليلة له لا حليلة، فأُصِبْتُ بحمى ضعضعت حواسي أيامًا طويلة، ثم نقهت من دائي فذهبت من يوم برئي إلى كاهن، واعترفت له بجميع ما كان، فأملني بعفو الله عني، وأمرني أن أغادر هذا الرجل وأن أعود إلى أبي، فخرجت من حضرته وقد عزمتُ على أن أمتثل لأمره، وذهبت إلى منزله فأخبرته باعترافي إلى الكاهن، وبعزمي على الرحيل، فلم يحفل بطلبي وقال لي ببرود: إلى أين؟

فأنست من سؤاله عدم الاهتمام، وثارت بي الأنفة والأبوة، فقلتُ بعظمة وكبرياء: إني سأذهب إلى بيت أبي.

فتصنَّعَ الاضطراب وقال: أبوكِ؟

قلتُ: نعم أبي، وهو سيصفح عني ويغفر لي ذنبي لا ريب متى علم كيف كان خداعكَ لي.

فتنهَّدَ وقال بصوت الحزين الآسِف: وا أسفاه! إني أكتم عنكِ من زمن طويل أمرًا لم أكن أجسر على إطلاعك عليه لرقة عواطفك، ولخوفي عليك من تأثير الأحزان، ولكني لا أجد الآن بدًّا من إيقافك على ما كنتُ أكره أن أوقفكِ عليه؛ لأنك عزمت عزمًا ثابتًا على فراقي.

ثم أخذ من جيبه كتابًا عليه إطار أسود وقدَّمَه لي، فأغمي عليَّ بعد أن اطَّلَعتُ عليه، وكان هذا الكتاب — وا أسفاه — ينعي أبي الذي مات من الحزن لأجلي، والذي لم يقتله سواي.

قالت هذا واتكأت على صدر أرمان تبكي بكاءً مؤلمًا، فجعل يعزيها ويلاطفها إلى أن هدأت ثورة أحزانها، فعادت إلى تتمة حديثها فقالت: قلتُ لكَ إن أبي قد مات ولم يكن لي سواه في هذا العالم، فمذ رأيتني فريدة شريدة لا ملجأ لي ولا نصير غير أندريا الذي كان حبه لا يزال متمكنًا من قلبي، رجعت عن سابق عزمي، وعولت على البقاء معه، وأنا أرجو أن يرق لمصابي ويفي بوعوده لي، فصرفت الشهور الأولى من حدادي وهو يتودد إليَّ ويعاملني بلطف وحنان، ولكنه لم يلبث بعد حين أن غلبه الطبع وعاد إلى معاملتي كخليلة، فقطعت كل رجاء، وعلمت أني كتبتُ أمالي على صفحات الماء.

وربما كان يحبني، ولكن حبه لي كان أشبه بحبه لكلبه أو لحصانه أو لمتاع يملكه، ثم أدركه الملل فجعل حبه يتلاشى شيئًا فشيئًا إلى أن زال تمامًا، وقام مقامه الجفاء والقسوة.

ولا بد أنك تستغرب بقائي على حبه بعد ما ظهر لي من قسوته، وبعد ما تيقَّنْتُه من جفائه، فإني كنت معه على حد قول الشاعر:

أدعوه إلى هجرةِ قلبي فيتبعني
حتى إذا قلتُ هذا صادقٌ نزعَا

ولكنه كان يزدني جفاءً في كل يوم، وآخِر ما كان منه أنه علق ببائعة زهر لقيها على باب أحد المراسح فشنفت قلبه، وانقطع اليها حتى سئمتُ الحياة، وعزمتُ عزمًا ثابتًا على الهرب، ولكن كيف أفر؟ وإلى أين؟

٦

ولا بد لي قبل أن أذكر لك أمر فراري أن أوضِّح لكَ شيئًا عن أخلاق هذا الرجل وشراسته، فمن ذلك أنه اختصم يومًا مع ضابط نمساوي فآلَ بهما الأمر إلى المبارزة.

وكان من شروط المبارزة أن يكون لكلٍّ من المتبارزين الحق بالإطلاق على خصمه متى شاء، فأطلق الضابط أولًا فلم يُصِبْه، فصرخت الشهود بأندريا كي يطلق النار، ولكنه لم يصغِ إليهم بل تقدَّم إلى خصمه — وقد أيقن من فراغ غدارته — حتى صار منه على قيد خطوة، فوقف الضابط مكتوف اليدين باسِمَ الثغر، ولكن ذلك اللئيم لم يتأثر لتلك البسالة، بل تقدَّم منه أيضًا إلى أن وضع غدارته بصدره، وقال: إنك لا تزال بريعان الشباب، وسيكون حزن أمك عليك شديدًا.

ثم قهقه ضاحكًا وأطلق عليه الرصاص، فسقط المسكين يخبط بدمائه.

وقد كان مولعًا بالقمار وفاتحًا منزله للمتقامرين، فكان كثير التوفيق يربح في كل يوم أرباحًا عظيمة، ولكن حظ المقامر لا يدوم ولا يثبت على حال.

وقد اتَّفَق يومًا أنه خسر مبالغ طائلة أربت على كل ما ربحه، فانصرف جميع المدعوين، ولم يَبْقَ منهم إلا البارون سبولتي، وهو كثير العناد في اللعب شديد الحظ فيه، فأقام يلعب وحده مع أندريا.

وكان أندريا قد امتقع وجهه، وأخذ العرق البارد يتصبَّب من جبينه؛ لفرط ما خسر في تلك الليلة المشئومة، فكان يلعب بحدة ويَأْس، بعكس البارون الذي كان يلعب بمنتهى البرود كمَن هو واثق من حظه.

وكان قد ذهب أكثر الليل فلم يَبْقَ أمام أندريا سوى ورقة واحدة بألف فرنك فخسر، ولما لم يَعُدْ لديه شيء، وأحس بعزم البارون على الانصراف قال له: أيها البارون إن الدراهم قد نفدت مني، ولكن أبي وافر الغنى، وإني أريد أن تلاعبني على الشرف بمائة ألف ريال فقط.

فتململ البارون، ولكنه خشي أن يسيء إليه برفضه بعد كل ما كسب منه، فقبل بذلك على شرط أن يلعب دورًا واحدًا بلعبة «الكاراتيه»، فبرقت أسرة أندريا بأشعة الأمل، وأخذ الورق وقدَّمه لخصمه.

وإني لم أجد أشد هولًا من هذا اللعب، ولا أعظم خطرًا على أندريا من خسارته فيه، فإن شرفه كان متعلقًا على الخسارة أو الربح؛ لأنه كان على ثقة من أن أباه لا يمده بشيء، وإذا خسر ولم يدفعه في اليوم الثاني حسب القواعد المقرَّرة في المقامرة، فإنه يخسر شرفه وتسقط حرمته عند أشراف ميلان.

فأخذ البارون الورق وخلطه جيدًا، ثم شرعا في اللعب، فربح أندريا في مرتين أربعة أعداد، ولم يَبْقَ عليه إلا عدد واحد ليربح، فخسر ذلك العدد، وربح في الدور الثاني أيضًا فتساوَيَا في الأعداد، وأصبح كلاهما في حاجة إلى عدد واحد، ولكن الأرجحية كانت للبارون لأن الورق كان بيده، فنظر إليه أندريا نظرة النمر المفترس وقال: أَلَا تريد أن نوقف اللعب ونؤجله إلى الغد؟

– لا حاجة إلى ذلك.

ثم خلط الورق وأعطاه، وبعد ذلك رمى ورقة إلى الأرض فكانت «الروا» وعدده واحد في قاعدة هذه اللعبة، فربح البارون ونهض يقول: إنك مديوني أيها الفيكونت بمائة ألف ريال.

فقال أندريا بصوت متهدج من اليأس: لنلعب أيضًا أيها البارون، فإني كثير الغنى.

– لم تسبق لي عادة أيها الصديق أن ألعب مرتين على الشرف، وفوق ذلك فإن الصباح قد طلع وأنا في حاجة إلى النوم.

فسكت أندريا وكأن الصاعقة انقضت على رأسه، ثم جعل ينظر بجمود إلى البارون وهو يجمع ذهبه وأوراقه، وأنا أراقبه حتى خشيتُ عليه من تأثيرات اليأس.

وبينما أنا أنظر إليه فاكرة في مصيره، وأكاد أذوب إشفاقًا عليه؛ إذ رأيت عينيه قد برقتا بأشعة من الأمل، واستحالت هيئته بغتةً من القنوط إلى البشر، فاعتذر إليَّ لكونه اضطرني إلى كثرة السهر، وقام يشيع البارون.

وكان جميع الخدم نيامًا، وأنا وحدي ساهرة، وقد نالني من اليأس لخسارته نفس ما ناله، فلم يمضِ خمس دقائق حتى عاد إلى المنزل وعيناه تقدحان بشرر الغيظ، فرأيت بإحدى يديه خنجرًا مصبوغًا بالدماء، وباليد الثانية محفظة وبها جميع ما كسبه البارون تلك الليلة الهائلة، فصرخت من الرعب، وهربت من ذلك المنزل التعيس بغير أن يراني، فعثرتُ وأنا أعدو في الحديقة بجثة البارون القتيل، فزادني ذلك رعبًا على رعبي، وأسرعت في العدو وأنا لا أعلم أين أسير، إلى أن بلغت للكنيسة التي رأيتَني منطرحة على بابها، وكان ما كان من أمر إنقاذك إياي ومسيري معك.

فقال أرمان: قد علمتُ الآن ذلك السر في يأسك أيها الملاك المعبود، وعلمت لماذا تلحين في طلب الفرار.

– كلا، فإنك لم تعلم بعدُ كل شيء، فإن هذا الشقي قد علم بإقامتنا في فلورانسا، وبعث إليَّ بهذه الرسالة الوجيزة وهي: «ارجعي إليَّ حالًا، وإلا فإن عاشقك الجديد مقتول لا محالة.» يريد به أنتَ، فهل علمت الآن السبب الذي دعوتك لأجله إلى مغادرة فلورانسا؛ لأننا لو بقينا فيها لكان قتلك، فهو ذو قلب لا يعرف الرحمة، والآن فإنه يجب علينا أن نترك روما أيضًا؛ لأنه عالم بوجودنا فيها.

ثم طوقته بذراعيها وقالت له بحنان: لنهرب أيها الحبيب، لنفر من ذلك القاتل.

– كلا، لا نفارق أبدًا روما، وإذا جسر على الدخول إلى هذا المنزل، فإني أُرِيكِ كيف أقتله.

فاختلجت مرتا كالورقة تحركها رياح الخريف، وجعلت تنظر إلى أرمان نظرةَ ذهول، فأخذ ساعته من جيبه ونظر فيها ثم قال: إني ذاهبٌ الآن لقضاء بعض المهام، وسأعود إليك بعد ساعة فأسهر على عتبة بابك، والويل لذلك الشقي إذا جسر على الدنو من هذا المكان.

قال ذلك وخرج عاجلًا وجهته نهر التيبر، وفيما هو خارج لقي الخادمة مرتي، وهي عجوز كهلة أقامها في خدمتها لحراستها، فقال لها: أسرعي إلى سيدتك، واقفلي الباب جيدًا، ولا تفتحي لأحد على الإطلاق، فإن معي مفتاحًا.

فانحنت الخادمة وذهبت، ولكنها لم تكد تبلغ المنزل حتى سمعت صفيرًا سريًّا، فولجت الباب، وبدلًا من أن تقفله كما أمرها مولاها تركته مفتوحًا.

وكانت تلك الليلة حالكة الظلام، والشارع خاويًا خاليًا من المارة، فلما دوى ذلك الصفير ظهر على إثره رجل كان يمشي الهوينا إلى أن بلغ المنزل، ففتح الباب ونادى بصوت منخفض «فلورينا»، فأجابت الخادمة: ها أنا.

– وها أنا قد أتيتُ.

– على الرحب والسعة فإنه قد ذهب، ولكنه سيرجع.

– لا بأس، فإن الوقت فسيح لدينا، وقد هيَّأتُ العربة فلم يَبْقَ علينا إلا العمل.

ثم أخذ كيسًا من جيبه وأعطاه إياها على سبيل المكافأة، فشكرت فضله، ودعت بالتوفيق، ثم تركت المنزل وهربت.

أما هو فإنه صعد السلم إلى غرفة مرتا فطرق الباب ثلاثًا، ولبث ينتظر بسكينة أن يُؤذَن له بالدخول.

فاضطربت مرتا إذ علمت أن الطارق لا يمكن أن يكون أرمان؛ لأنه لم يَحِنْ وقت إيابه، ولا الخادمة؛ لأنها اعتادت أن تدخل بغير استئذان، وفيما هي مضطربة حائرة لا تعلم ما تعمل، إذ فُتِح الباب، ودخل ذلك الرجل فصرخت صراخ القانط، ورجعت إلى الوراء كأنها رأت الشيطانَ بصورة ذلك الإنسان.

أما هو فلم يبالِ بهذا الاضطراب، ولم يكترث بما لقيه من انذعارها، بل إنه خلع رداءه، وتقدَّم منها فقال: هذا أنا.

فقالت بصوت مختنق: أندريا!

– نعم، أندريا فما الموجب لعجبك.

فرجعت أيضًا إلى الوراء منذعرة، ولم تُحِرْ جوابًا، فدنا منها وقال لها ببرود: أيتها الحبيبة، إنك هربت مني بسبب بسيط دلَّني على ضعف قلبك وشدة طيشك، وكان يجب أن تعلمي أنك إذا تركت الفيكونت أندريا فهو لا يتركك؛ لأنك تعلمين أنه من الذين لا يدعون خليلتهم تفر منهم إلى رجل عامل لا ثروةَ عنده ولا رزقَ له إلا من شغل يديه.

وكان أندريا في الخامسة والعشرين من عمره، أشقر الشعر، ربعة القامة، جميل الطلعة، قوي الأعصاب، فدنا منها وهي منطرحة على المقعد بين حية وميتة، وقال لها بلطف: هيا بنا أيتها الحبيبة، فإنك لا تعلمين أني لا أزال على ما كنتُ عليه من حبك.

ثم أخذ بيدها، فنفرت وأفلتت منه وهي تصيح به: اذهب من هنا.

فقال لها بصوت المتهكم: إن ذهابي لا بد منه، ولكننا نذهب سواء؛ لأني ما أتيت إلا لأجلك، وقد شِدْتُ لكِ قصرًا في نابولي، فهلم بنا إليه نقيم على رغد العيش ونعيم الحياة.

فرجعت مرتا منذعرة إلى أن لصقت بالحائط، وقالت: كلا، ذلك لا يكون فاذهب عني لأني أبغضك.

– ذلك ممكن، ولكني أحبك، فالبسي شيئًا يقيك البرد وهلمي بنا فإن الوقت ضيق.

ولما رأى منها ذلك النفور، وأيقن أنها لا يمكن أن تتبعه عن رضى، أقبل عليها وحاول أن يحملها بين ذراعَيْه ويفر بها، فصرخت تستغيث: إليَّ يا أهل النجدة، إليَّ يا أهل المروءة، إليَّ يا أهل العِرْض!

فلم يجبها غير الصدى، أما أندريا فإنه حملها بين يديه ومشى بها إلى الباب، وفيما هو يسير بها وهي تستغيث ولا مجيب، إذ سمعَتْ وقع أقدام سريعة على السلم، وكأنها علمت أن تلك الخطوات هي خطوات أرمان، فصرخت بذلك الصوت الذي تستغيث به النساء في موقف الخطر: إليَّ يا أرمان.

فألقاها أندريا على مقعد في ساحة الدار، وتأهَّبَ للقاء عدوه الألد.

أما مرتا فإنها لم تنقطع عن الصراخ، ولم تكفَّ عن الاستغاثة حتى بلغ صوتها إلى مسمع أرمان، فهرول إليها كالنمر المفترس.

وقابله أندريا على الباب، فصرخ به أرمان: إلى الوراء أيها المختلس.

فأجابه أندريا بمثل هذا الشتم، ثم جرَّدَا خنجريهما، والتحم بينهما القتال، فلم يُرَ أشد هولًا من هذه الساعة.

أما مرتا، فإنها لم تر شيئًا من هذه المعركة الهائلة؛ لأنها أغمي عليها، ووقعت قرب المقعد الذي كانت عليه جثة باردة بغير حراك، فلم ينتبِهَا إليها، وشُغِلَا عنها بما هما فيه، وكذلك الجيران والمارة فإنهم كانوا يسمعون صراخ المتقاتلَيْن ولا يبالون، شأن سكان إيطاليا في ذلك الزمن؛ لكثرة تعدُّد مثل هذه الحوادث، ويقولون: ليس من الحكمة أن نتداخل في شئون الغير.

ومرَّ عليهما ساعةٌ وهما في أشد قتال حتى سالت الدماء من جسدَيْهما، وصبغت ثيابهما بلون الأرجوان، فكانا إذا تَعِبَا من الصدام يفترقان برهة وهما يلهثان لخفوق قلبيهما، وكلاهما ينظر إلى الآخَر بعين الأفعى، ثم ينقَضَّان على بعضهما انقضاض الكواسر، وما زالا يتراوحان بين النصر والفشل إلى أن لاحت فرصةٌ لأندريا، فطعن خصمه بخنجره طعنة وقعت في عنقه؛ فسقط على الأرض لا يعي، وهكذا انتصر أندريا على أرمان، وأسرع إلى مرتا وهو مخصب بالدماء، فحملها بين يديه وخرج بها مسرعًا فرحًا وهو يقول: ظفرت بها وهي لي.

٧

يوجد في باريس شارع عظيم بالقرب من مونتمارتر يُدعَى شارع بريدا يجتمع إليه الناس على اختلاف طبقاتهم، ومنازله مختصة بأرباب الحِرَف وبعض المتمولين، وكان يحيي به في أكثر الأحياء ليالي رقص عمومية يحضرها مَن يشاء بأزياء مختلفة، وبراقع على الوجوه يراد به التستر والخفاء، جريًا على عاداتهم في مثل هذه الحفلات.

وقد غصَّ في أحد الليالي منزلُ أحد المصورين بالناس، من مدعُوٍّ وطفيليٍّ، فدار الرقص والتفت الخصور وترنحت القدود على أطيب الألحان.

وإن بين أولئك المدعوين شابًّا مرتديًا بملابس سوداء، وعلى وجهه برقع كان ينظر إلى تلك الحفلة نظرة الازدراء، وهو واقف على شرفة تطل على الطريق، لاهٍ عن الرقص وبهجة ذلك المجلس بتأملات عميقة، وتصورات كان يجسمها التأثُّر فيُخرِجها صوتًا متقطعًا، بحيث لو دنا منه رقيب لسمع كلَّ ما يقول.

وكان ينظر إلى منازل باريس وقصورها الباذخة بملء السويداء، وهو يقول بصوت منخفض: «هكذا تمر الحياة، وتسير بنا الأيام، وكلنا نسعى وراء السعادة، ونجدُّ في أثر النعيم، ولا ينال من ذلك إربًا ولا تُقضى له لبانة. ارقصوا أيها المغترون، فإنكم لا تزالون في عنفوان الشباب ونضارة العمر، ولم تصلوا بعدُ إلى متاعب الحياة. افرحوا واضحكوا فإنكم لا تهتمون بغير أنفسكم، وأعينكم غافلة عن إخوانكم الذين يتعذَّبون ويبكون.

يا مدينة باريز العظمى، ويا ملكة العواصم، ويا أم البلاد، فيك اجتمع النعيم والهناء، وبساحتك استقر البؤس والشقاء. هنا النعيم طالع، وهناك البؤس مخيم، وأمامي الحظ مقيم، وورائي الكد عامل، وعن يميني أغاني السعداء وابتسام المحبين وأحلام الآمال الذهبية، وعن يساري بكاء المنكودين وشقاء الأرامل والأيتام وأنين الموجع ودموع ابن السبيل.

هنا ضجيج مركبات الموسرين، وهناك عويل المظلومين، وصوت سياط الجائرين، وقلقلة مفاتيح السارقين. أيتها المدينة العظمى لقد حويت وحدك من الفضائل والرذائل أكثر مما حوته جميع ممالك الدنيا! يا بابل القديمة ويا مرسح الوقائع الهائلة، لقد عجزَتْ شرائعك عن معاقبة الجانين، وعجز أولو البرِّ فيكِ عن إغاثة المساكين؛ فلا عوقب المسيء ولا كُوفِئ المحسن، فمَن لكِ برجلٍ موسر طاهر الأخلاق يغل يد الظالم، ويجبر قلب البائس، ويرثي لدمع الأرملة، ويحن لشقاء اليتيم؟ أواه ومَن لي بالمال؟ فلو كنتُ مثريًا لَكنتُ ذلك الرجل.»

وقال ذلك ثم تنهَّدَ تنهُّدًا طويلًا، وحاول الدخول إلى ساحة الرقص فاعترضه أحد الرقاصين، وكان متسترًا بثوب أيكوسي وقال بلهجةِ سخرية: عفوًا يا سيدي، فإني أرى تشابهًا بين أخلاقك وثوبك المقتم.

فلم يكد يسمع الشاب صوت الأيكوسي حتى اختلج فؤاده واضطرب، ووقف مصغيًا إلى حديث الأيكوسي، وقد تبيَّن له أنه سمع هذا الصوت في موقف شديد، فقال الأيكوسي: يخال لي أني سمعتك تحدِّث نفسك بأحاديث جليلة الفائدة.

– ربما.

– ألَمْ تقل فيما كنتَ تحدِّث به نفسَك، أنك لو كان لك مال لكنتَ ذلك الرجل؟

– نعم، يوجد مهمة عظيمة لا يستطيع أن يتولَّاها في هذه المدينة الرحبة إلا مَن كان كثير المال.

– أنا لها، فإن أبي أصبح على أُهْبَة الموت، وسيدع لي بعد موته دخلًا سنويًّا يزيد على المليون.

– أنت؟

– نعم أنا.

– إذن انظر إلى هذه المدينة التي بلغت إلى أضعاف ما بلغته بابل من العظمة. انظر إليها تَرَ الذنوب تحتكُّ بالفضائل، وأصوات الضحك تقترن بأنَّات البكاء، وأغاني الحب تمتزج بدموع اليأس، والقاتل السفاك يمشي على الأرض التي يمشي عليها الوَرِع الشهيد، أَلَا تظن أن الرجل الحاذق الموسر يقدر أن يفرِّق بين هذه الأضداد؟

فنظر إليه الأيكوسي وقال له بصوت الهازئ: لقد أصبتَ فيما تقول، فإن مَن كان مثريًا في هذه المدينة يعمل بها ما لا تقوى على عمله الأَبَالِسَة، فإن بها كثيرًا من النساء تغري، وكثيرًا من البنات تُبَاع وتُشرَى، ولا أسهل على صاحب الثروة من أن يغري الفتاة التي تشتغل الليل والنهار لكسب درهم تنفقه على طعامها إذا أراحها من عناء هذه الأشغال بما ينفق عليها من المال، ولا أقرب إليه من إفساد ذلك الشاب الذي يعيش من عرق الكد والعمل أن يشتريه بالذهب الوضاح، والمرء ميَّال إلى الراحة مفطور على الكسل. هذا الذي أفهمه من هذه المهمة، وهذا ما كنتُ أجريه بفضل أموالي، لو لم أَكُنْ في غنًى عنه بما هو موفور لديَّ من أسبابه.

وكان هذا الرجل مرتديًا بثوب يمثِّل دون جوان، وهو رجل شهير بالفساد، فأتمَّ حديثه يقول: ولا جرم إذا كنتُ أصرف اهتمامي إلى مثل هذه الشئون، فأني أمثِّل دورَ صاحب هذا الثوب التي لا تجهل سيرته، فلا فضيلة عندي إلا ما تعتقدونه رذيلة، ولا خيانة إلا ما تتوهمونه شرفًا وصدقًا، فإن الملاذ خُلِقَتْ لي فوجب عليَّ أن أتمتع بها وأسعى وراءها، وما الشرف والمروءة والفضائل غير أحاديث أوهام. قال هذا وهو يضحك ضحك الساخر، ثم أزاح البرقع عن وجهه، فرجع ذلك الشاب منزعجًا إلى الوراء وصاح قائلًا: أندريا!

فقال الفيكونت، وكان هو أندريا بعينه: نعم، أنا هو فهل تعرفني؟

– ربما.

– إذن، أَزِح البرقع عن وجهك، عسى أن أعرف مَن أنت كما عرفتَ مَن أنا.

– لم يَحِن الوقت بعدُ، وستعرفني عند العشاء.

– لماذا؟

– ستعلم ذلك فيما بعدُ.

ثم تركه ودخل إلى قاعة الرقص، فتبعه أندريا وهو يقول: عجبًا! يخال لي أني سمعتُ هذا الصوت ولا أذكر أين!

وبعد ذلك بهنيهة جلس جميع الحضور على المائدة، ورفعوا البراقع عن وجوههم حسب العادة المألوفة عندهم، فلم يَبْقَ منهم واقفًا ومستترًا غير ذلك الرجل الذي كان يحادِث أندريا على الشرفة.

فاستغرب الجميع وقوفه وتستُّره، وقالت إحدى النساء: نحن على المائدة الآن، فاجلسْ وأَزِح البرقع.

– لم يَحِن الوقت يا سيدتي، فإني آليت على نفسي أن لا أُعلِمكم بنفسي قبل أن أقصَّ عليكم حديثًا محزنًا مؤثرًا.

– أتقص أحاديث الحزن في مثل هذا المقام؟

– ولكنه حديث غرام.

– إذا كان حديثك عن الحب فلا بأس، فإن حديث الغرام شائق كيف كان.

– ولكنه محزن يا سيدتي، وإني أخشى أن لا يقع منكن موقع القبول، أو يكون له عليكن تأثير.

فصرخ الجميع قائلين: لا بأس، قُلْ.

فاسترعاهم السمع وقال: أنا صاحب هذه السيرة التي سأقصها عليكم، وقد جَرَتْ تلك الحادثة لي منذ سنين عندما كنتُ في ربيع شبابي ونضارة عمري، ذلك أن من الشبان مَن يعشق كثيرًا من النساء فيتصبى الواحدةَ حتى تحسبه أسيرَ غرامها، ويهيم بالثانية حتى تخاله قتيل هواها، يحن إلى هذه فتظنه وقع في شَرَك حبها، ويتشوق إلى تلك فلا تشك أن الوجد قد ملك قياده وصيَّره لها عبدًا، أما أنا فإني لم أحب إلا امرأة واحدة حبًّا طاهرًا مقدَّسًا، وكانت أول مرة دخل فيها الحب إلى قلبي لم أكن أحبها حبًّا، بل أعبدها عبادة.

وكانت معرفتي بها أني رأيتها في إحدى الليالي المظلمة راكعةً على عتبة باب الكنيسة تبكي وتستغفر الله عما جَنَتْه باستسلامها إلى شاب عشقته فخانها، وهربت إذ تبيَّنَ لها أنه مجرم لص سفَّاك.

فارتجف أندريا عند سماعه هذا الكلام، أما الشاب فلم ينتبه إليه بل اندفع في حديثه فقال: وقد أراد ذلك السفاك أن يسلبني إياها بعدما بحث وعلم أنها عندي، فدخل إلى منزلها دخول السارق، وبينما هو يحاول أن يفر بها وهي تصيح وتستغيث، إذ دخلتُ أنا وهي مغمًى عليها بين يديه.

فتطاعَنَّا بالخناجر، ولا أذكر شيئًا مما كان بيننا، ولا كم دامت تلك المعركة الهائلة، بل أذكر أنه طعنني بخنجره طعنةً سقطْتُ على إثرها لا أعي، ولم أستيقظ إلا بعد ساعتين فوجدتُ نفسي غريقًا في بحر من الدماء، وذلك السفَّاك قد هرب بمَن أحب.

قال هذا ونظر إلى أندريا، فرآه أصفرَ الوجه، والعرق ينصبُّ من جبينه، فعاد إلى حديثه فقال: ولبثت ثلاثة أشهر أقاسي عذاب النزع، وأنا بين الموت والحياة، ولكني كنتُ في عنفوان الشباب فتغلَّبَتْ قوى الشبيبة على تلك الحمى التي كِدْتُ أصل بها إلى الموت، وشفيتُ من مرضي، فقمت أطوف البلاد باحثًا عمَّن عشقتها نفسي وعن خاطفها، ذلك اللص الذي كاد ينزع حياتي بنزعها مني.

وما زلت أطوف حتى التقيت بها في منزل حقير بقرية من قرى إيطاليا وحيدة شريدة، وقد غدر بها وتركها بغير مستقبل وبغير مال، فماتت وا أسفاه بين يدي، وهي تبتهل إلى الله، وتسأل لقاتلها الغفران.

ثم أجال نظره بين الحضور الذين كانوا محدقين به كأن على رءوسهم الطير، وقد ذهب الضحك من أفواههم وتقطبت وجوههم، فقال: والآن، فإن هذا الرجل، بل هذا اللص، بل هذا السفاك، قد لقيته هذه الليلة منذ ساعة، وآنَ لي أن أنتقم لتلك المرأة التعيسة ولنفسي. نعم، لقيتُ هذا الخائن فهو هنا بينكم.

ثم أشار بيده إلى أندريا وقال: وهذا هو.

وبينما أندريا يثب عن كرسيه إذ أماط الشاب اللثام عن وجهه، فصرخ جميع الحضور: هذا أرمان النقاش.

أما أرمان فإنه لم يبالِ بانذهالهم، بل نظر إلى أندريا، وقال بصوت يتهدج من الغضب: أندريا هل عرفتني؟

وفيما جميع الحضور منزعجون يتوقعون عراكًا هائلًا بين الاثنين، إذ فُتِح الباب وولج منه رجل كهل بملابس سوداء، فتقدَّمَ إلى أندريا دون أن ينظر نظرةً إلى الحضور، وقال له: سيدي الفيكونت، إنك تعلم اشتداد وطأة المرض على أبيك الكونت فيليبون، وهو الآن على فراش الموت يريد أن ينظرك النظرة الأخيرة؛ لينال تعزيةً لم تنلها سيدتي والدَتُكَ.

فاغتنم أندريا هذه الفرصة للتخلص من موقفه الحَرِج، ونهض فودَّعَ الحاضرين بالإشارة فمشى.

أما ذلك الشيخ الذي جاء يخبره عن نزاع أبيه، فإنه مشى في إثره، وفيما هو يجيل نظره في الحاضرين إذ لاحت منه التفاتة إلى أرمان، فرجع إلى الوراء منذهلًا وقال: إلهي! ماذا أرى؟ إن هذه حقيقة رسم الكولونيل أرمان دي كركاز!

•••

أما الكونت فيليبون والد أندريا، فقد كان منذ ساعة مضطجعًا على فراش الآلام، وبالقرب منه خادم كهل قوي الأعصاب يهيِّئ له دواء.

فكان الكونت يقول لذلك الكهل: إني سأموت يا بستيان، ولم يَعُدْ لي بالحياة أقل مطمع، فهل شفيتَ غلَّكَ من الانتقام؟ إنك بدلًا من أن تقودني إلى المشنقة، وكان ذلك ميسورًا لكَ ولم يزل بوسعك، آثَرْتَ أن تكون دائمًا بقربي لأذكر بمرآك سابق أيامي، فكنتَ تجلُّني بلسانك وتحتقرني بقلبك، وتدعوني بمولاك وأنا لا أشعر بعذاب أشد هولًا من هذه الكلمة. أَلَم يرتوِ غلُّكَ إلى الآن؟ ألَمْ يَحِنْ لكَ يا بستيان أن تعفو عن ذنبي الذي عُوقِبْتُ فيه على الأرض، وسأُجزَى عنه في السماء؟

فقال بستيان: كلا يا مولاي، إن صوت ذلك الكولونيل لا يزال يصيح بك: «أيها التعيس، لماذا تزوجْتَ بامرأتي؟»

– ماذا تريد مني أيضًا؟ فإنك تراني أموت وليس بقربي أحد، حتى ولا ولدي.

– أريد أن أنتقم لتلك المرأة الفاضلة التي ماتت دون أن تتزود من وداع ولدها. أريد أن تموت أيضًا كما ماتت دون أن تنظر ولدك.

فاجتهد فيليبون أن ينهض من فراشه وهو يقول: ولدي … أريد أن أرى ولدي.

ولكن الضعف كان يمنعه، فلم يستطع حراكًا.

فأجابه بستيان: إن ولدك متبع أثرك، وهو مثلك فاسد الأخلاق بذيء الطباع، يرتكب كلَّ منكر ومحرم، ولكنه ولدك، ويسرك فيما أظن أن تنظر إليه النظرة الأخيرة قبل الموت.

فانهالت دموع الحنان من عينَيْ فيليبون، وقال: ولدي … دَعْني أنظر ولدي.

– إنك لن تراه أبدًا، فهو غائب عن القصر، ولا أحد يعلم أين هو سواي، فلا تطمع بمرآه.

– بستيان، أليس بقلبك رحمة؟

– لا تذكر الرحمة، أو قُلْ أين كان قلبك عندما قتلْتَ الكولونيل وابنه وامرأته؟

فتنهَّدَ فيليبون تنهُّدَ مجرم أُجبِر على الإقرار، وقال: نعم، إني قتلتُ أرمان دي كركاز بالرصاص، وقتلتُ امرأته التي صارت امرأتي من بعده بالحزن وسوء المعاملة، أما ابنه …

– أتنكر أيها الخائن أنك ألقيته عن سطح المنزل إلى البحر؟

– لا أنكر، ولكنه لم يَمُتْ.

– كيف ذلك؟ ألَمْ يَمُتْ؟

– كلا، فقد أنقذه الصيَّادون وذهبوا به إلى إنكلترا، وبعد أن ترعرع ذهب إلى إيطاليا، ومنهما عاد إلى فرنسا، وقد عرفتُ ذلك منذ ثمانية أيام.

– أين هو الآن، وكيف عرفتَ ذلك؟

فانقطع صوت فيليبون وقد بلغَتْ روحه التراقي، فدنا منه بستيان، وقال بصوت الآمِر: قُلْ كيف عرفتَ ذلك، وأين هو؟

– عندما خرجتُ المرة الأخيرة أتنزَّه، لقيت وأنا في المركبة، شابًّا يبلغ الثلاثين من العمر يمشي على مهل، وكانت المركبة تسير بي سيرًا بطيئًا، فتبيَّنْتُ وجه ذلك الشاب، فرأيته يشبه أرمان دي كركاز شبهًا تامًّا ضاع له رشدي، فتبعته وبحثت عنه، فعلمت أنه نقَّاش، لا يعلم من أمر مولده سوى أن الصيادين أنقذوه من الأمواج، وأنه كان يُدعَى أرمان.

فقال بستيان وقد طار فؤاده شعاعًا لهذا الخبر: أيها التعيس، إذا أحَبَبْتَ أن ترى ابنك، وأن لا يدنس اسمك بما عندي من البراهين، فأَرْجِعْ تلك الثروة التي تتمتع بها إلى ذلك الشاب، واكتب بيدك أنك سرقتها منه، وأنا أجده.

– لا حاجه إلى ذلك؛ إذ لا يحقُّ لي أن أَرِثَ أرمان دي كركاز إذا كان ابنه حيًّا، فما عليه إلا أن يُظهِر حقيقةَ مولده، فيُرجِع إليه الشرعُ ذلك المالَ.

– ذلك لا ريب فيه، ولكن كيف يتسنَّى له أن يُثبِت كونه ابن كركاز؟

فأشار فيليبون بيده إلى صندوق أمامه، وقال: إني لما رأيتني على فراش الموت تذكَّرْتُ سابق أيامي، فندمت على ما فرط مني، وكتبت تاريخ ذنوبي مضيفًا إليه جميعَ الأوراق التي تُثبِت نسب أرمان؛ ليكون هذا الإقرار كفارةً عن ذنبي.

فأخذ بستيان الصندوق، وأعطاه لفيليبون ففتحه بيد ترتجف، وأخذ منه ملفًّا من الورق فأعطاه لبستيان.

أما بستيان، فإنه أخذه والفرح ملء فؤاده، وقال: طِبْ نفسًا فسأجد الولد، والآن فإني أسامحك عما أذنبت به إليَّ، وسترى ولدك.

ثم تركه وانصرف فركب في مركبة، وقال للسائق: أسرع إلى فندق بيكال. (وهو المنزل الذي كانت فيه حفلة الرقص.)

وبقي فيليبون وحده يقاسي ألم النزاع وهو يلتهب شوقًا لرؤية ولده، فلم يمر على انتظاره ساعة حتى فُتِح الباب ودخل أندريا وهو بالملابس التي وصفناها، وكأنما الله اراد أن ينهي حياة هذا المجرم بالعذاب، فإنه لم يَكَدْ يرى ابنه بملابس الرقص حتى أدار وجهه إلى جهة الحائط، فتأوَّه وأسلم الروح قبل أن يتمكَّن ابنه من الوصول إليه.

فأخذ أندريا يده فلقيها باردة، فوضع يده على قلبه فوجده بغير حراك، فابتسم وقال: ها قد مات أخيرًا، وصارت لي وحدي تلك الأموال.

ولم يكد يتم عبارته حتى فُتِح الباب ودخل منه اثنان، أحدهما بستيان والآخَر أرمان، فنظر إليه بستيان شذرًا، وقال: إن هذه الأموال ليستَ لك، بل لكَ السجن الذي ينتظره أولاد مثل أبيك أيها التعس، فاعلم الآن أيها الفيكونت، أن أباك قد قتَلَ زوج أمك الأول، ثم رمى بأخيك الأكبر إلى البحر وهذا هو أمامك. أما أبوك، فقد ندم وهو على فراش الموت على ما اقترفه من الذنوب، فأَرْجَعَ الأموال المسلوبة إلى صاحبها، وأما أنت فلسْتَ الآن في منزلك، بل في منزل أرمان دي كركاز؛ فاخرج من هنا.

فنظر أندريا نظر الباهت المنذهل إلى أرمان، فأخذه أرمان ومشى به إلى شرفة تطل إلى الطريق فقال: انظر إلى باريس التي أردْتَ أن تستخدم ثروتك بها لإغراء النساء وإضلال الرجال، أما أنا وقد رجعَتْ إليَّ تلك الثروة، فسأنفقها لخير الأعمال، فاخرج الآن من هنا فإني سأجتهد أن أنسى كوننا ابنَيْ أمٍّ واحدة، كي لا أذكر إلا ذنوبك وتلك المرأة التي قتلتها، فاذهب من هذه المدينة واحذر أن أراك.

فمشى أندريا، وقد شعر بالغلبة، إلى أن بلغ الباب، فالتفت إلى أخيه وقال: إن الأيام بيننا، فإذا أردتَ أن تكون مثال الفضيلةِ، فسأكون رسول جهنم على الأرض، وستكون باريس معترك القتال.

ثم خرج وهو يضحك ضحك اليأس، ويتهدَّد السماء بقبضتيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤