الإرث الخفي‏

(١) السير فيليام

كان في إحدى ليالي ديسمبر الباردة رجل ملتف برداء طويل، يمشي على رصيف سانت بول بالقرب من القلعة غير مبالٍ بالبرد وبما كان يهطل عليه من المطر، وكان يقف من حين إلى حين ينظر إلى النهر السائر بالرياح الشديدة، ويحدِّث نفسه بكلام متقطع غير مفهوم.

وما زال يمشي إلى أن بلغ إلى منزل بالقرب من فندق لمبرت ذي الستة أقسام بعضها فوق بعض، فوقف عنده ونظر إلى نافذة القسم الأعلى، فرأى عليها مصباحًا موضوعًا بشكل يدل على أنه إشارة متفق عليها، فنظر إليه هنيهة وقال: ذلك يدل على أن كولار في منزله ينتظرني.

ثم أدنى إصبعيه من فمه وصفَّر، فانطفأ المصباح للحال، وبعد عشر دقائق أُجِيب بصفير مثله، فدنا من الباب، وما وقف هنيهة حتى سمع وقع أقدام ضعيفة، ثم تلاها صفيرٌ آخَر فأسرع إلى لقاء القادم، وقال له سائلًا: كولار؟

قال كولار: نعم.

– يسرني أنك أمين على الملتقى.

– ليس ما يعيقني عن خدمتك، وأرجوك أن تخفض صوتك، وأن لا تدعوني باسمي، فإني إذا عُدْتُ إلى ذلك فلا أخرج منه.

– إنك مصيب، ولكن الشارع مقفر وليس هنا مَن يسمعنا.

– لا ضرر من الحذر، وأرى أن الأوفق أن نذهب إلى شاطئ النهر فنتحدَّث هناك باللغة الإنكليزية، فإذا اتَّفَق مرور أحدٍ فهو لا يفهم ما نقوله.

– ليكن.

ثم مشى الاثنان إلى جهة النهر، وهما غير مكترثين بالمطر، فقال كولار: متى عُدْتَ من لندرا؟

– في الساعة الثامنة من هذه الليلة، وأنت ترى أني لم أضع الوقت، فقُلْ ما فعلتَ أنت في مدة غيابي؟

– جمعت عصابة على غاية الموافقة، وإنْ يكن الباريسيون لا يعدلون الإنكليز في مهنتنا، ولكني فعلتُ ما قدرت عليه، وإننا نقدر أن ندرِّبهم في مدة وجيزة، وستراهم وتفحصهم.

– متى؟

– الآن إذا أردْتَ.

– هل اتفقت معهم على الملتقى؟

– نعم، وإذا أمرتَ سِرْتُ بك إلى مكان بحيث تراهم واحدًا فواحدًا، ولا يراك منهم أحد.

– حسنًا فَلْنذهب.

– أَلَا تريد أن نتفق قبل الشروع في العمل؟

– لنتفق.

– تعلم يا مولاي أني بلغت الخمسين من عمري، فصار يجب عليَّ أن أهتم بأيامي الأخيرة.

– هذا عدل، فأَظْهِرْ شرطك.

– إني أطلب ٢٥ ألف فرنك كراتب يُدفَع لي في كل سنة، وعشرة آلاف فرنك تُعطَى لي عند النهاية من كل عمل ينجح على سبيل المكافأة.

– سيكون لك ذلك.

– والآن بقي عليَّ أن أتفق معك على رواتب عصابتي.

– إني عرفت أهليتك فلم أساومك، أما عصابتك فإني لا أعرف منها أحدًا.

– هذا حق.

– إذن فَلْنذهب إليهم، ومتى عرفتُهم وخبرتُهم أتفِقُ معك على تعيين رواتبهم، ولكن قُلْ لي كم عددهم؟

– عشرة، أليس ذلك بكافٍ؟

– يكفي الآن، وسنرى فيما بعدُ.

ثم غادرا ذلك المكان ومشَيَا، فكان كولار يسير أمام السير فيليام إلى أن بلغَا إلى غطة مظلمة في شارع لاتين، فسارا فيها إلى أن وصلا إلى بيت قديم متداعٍ إلى السقوط.

ولم يكن ينبعث منه نور، مما يدل على أنه غير مأهول، فأخذ كولار مفتاحًا من جيبه وفتح به باب المنزل، فدخل مع السير فيليام ثم أقفل الباب وراءهما، وأشعل شمعة فأدخل السير فيليام إلى غرفة وقال له: هذا هو المكان الذي تستطيع أن ترى منه رجالي دون أن يَرَوْكَ، من هذا الثقب الموجود في الحائط.

فنظر السير فيليام، ورأى غرفةً كبيرةً جميلةَ الأثاث حسنة الظاهر، فسأل: لمَن هذه الغرفة؟

فقال له كولار: هذه لرئيس عصابتي كوكيلات، وهو رجل حسن الصيت، وجميع سكان هذا الشارع يحسبونه متمولًا متنحيًا عن الأشغال، ويغبطونه لسعادته مع امرأته التي اشتهرت عند الجميع بالفضيلة.

– حسنًا، أين كوكيلات الآن؟

– ستراه عن قريب.

ثم وضع إصبعه بفمه وصفَّرَ، ففُتِح الباب ودخل رجل هزيل يناهز الخمسين من العمر، حاد النظر، مقطب الجبين، فانحنى مسلِّمًا، ونظر إلى كولار مستفهمًا.

فقال له كولار: إن هذا هو الرئيس.

وقال للسير فيليام: هذا هو كوكيلات.

وبعد أن فحصه السير فيليام أشار إلى كولار أن يصرفه.

فقال له كولار: إني ضربت موعدًا لرفاقك في الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وقد حان الوقت، فاذهب إلى لقائهم، أما أنا فسأبقى هنا مع حضرة الرئيس لقضاء بعض المهام.

فانحنى كوكيلات وانصرف.

أما السير فيليام فإنه جلس مع كولار أمام الثقب، وأقام ينتظر وفود العصابة، ولم يطل مكثهما حتى طرق الباب، وأخذ رجال العصابة يتوافدون تباعًا، وكولار يصف كل واحد منهم بين مقامِر ومزوِّر وخاطف ومخادع ومفتح أقفال ومسجل وضخم الجثة فتَّاك، وغيرهم من أبناء الشر والوزر إلى أن أتم عددهم، وبلغ إلى التسعة، وبعد أن استعرض السير فيليام هذه العصابة قاله له كولار: أتريد أن يروك؟

– كلا.

– لماذا؟ ألستَ راضيًا عنهم؟

– ليس ذلك، ولكني أحب أن لا يراني أحد منهم، وأن لا تصلهم أوامري إلا بواستطك، وسنبحث غدًا في شئونهم، ونجد لكل واحد منهم عملًا يوافق مهنته، والآن إني ذاهب وسأراك غدًا في نفس المكان الذي رأيتك فيه هذه الليلة وبنفس الساعة.

ثم ودَّعَه وخرج.

فدخل كولار لمقابلة رجاله، أما السير فيليام فإنه ترك هذا المنزل، واجتاز العطفة المظلمة إلى أن بلغ إلى الشارع، وفيما هو يمشي على مهل وهو مشتَّت الفكر ساهي البال، إذ سمع صوت سائق مركبة يقول له احذر، فصعد السير فيليام مسرعًا إلى الرصيف ونظر إلى داخل المركبة، فاختلجت أعضاؤه وصاح بصوت يتهدَّج من الغضب قائلًا: «أرمان!» أما المركبة فكانت تسير سيرًا حثيثًا، فلم يسمع ذاك الذي دعاه أرمان نداءه، ولم يتمكَّن من الانتباه إليه.

فوقف السير فيليام برهة ينظر إلى المركبة وهو يكاد يلتهب من الغيظ، إلى أن توارت عن عينيه فقال: ها قد التقينا أخيرًا أيها الأخ الذي يسعى إلى الفضيلة، ويعدو بمثل هذه السرعة إلى مساعدة التعساء، اذهب وأنفق من الذي اختلسته مني، ولكن اعلم أني قد عُدْتُ إلى باريس ظمآن إلى الذهب والانتقام.

وفي اليوم الثاني ذهب السير فيليام لمقابلة كولار، فصفَّر له كما فعل بالأمس، فنزل إليه وسار به السير فيليام إلى ضفة النهر، وقال له: استعِدَّ فإن لدينا اثني عشر مليونًا.

(٢) كيرمور

مضى يومان على مقابلة السير فيليام لكولار، الذي خدمه في لندرا خدمات ذكرها له بالشكر، وجعله يثق به ثقةً لا مزيد عليها، حصل لهما فيهما ما سيقف عليه القراء في حينه، وقد حدث أن مركبة يدل ظاهِرُها أنها من مركبات الأمراء وصلت في ساعة متأخرة من الليل إلى قصر شاهق جميل الزخرف، غريب الإتقان، فلم تكد تبلغ إلى ساحة ذلك القصر حتى فُتِحت أبوابه، وكان مكتوبًا عليها بأحرف ذهبية كبيرة: قصر الكونت كركاز.

فدخلت المركبة، وفي ذلك الحين ظهر على السلم رجل كهل بيده مصباح أقبل مسرعًا إلى لقاء الكونت، فلما وصل إليه قال له: لقد ابتدأت أن أقلق عليك، فإنك لم تتأخر عن الرجوع إلى المنزل مثل تأخُّرِك في هذه الليلة.

فأجابه أرمان، وقد كان هو بعينه: لا بأس في ذلك يا بستيان، فقد قضَتْ عليَّ بعض المهمات الخيرية أن أتأخر إلى الآن.

ثم توكَّأ على ذراعه وصعدا سويةً إلى المنزل، فسار به بستيان إلى غرفته وقال له: إنك ستنام فيما أظن؟

– كلا يا بستيان، فإني مضطر إلى كتابة بعض رسائل، ولا أؤجِّل إلى الغد ما أقدر أن أفعله اليوم.

فأجابه بستيان بلهجة أبوية: ولكنكَ ساعٍ إلى حتفك بقدمك؛ فإن كثرة السهر والتعب تضنيك.

– إن الله كريم عادل يحفظ لي قواي؛ لأني أبذلها في خدمته.

وعند ذلك قرع باب الغرفة قرعًا خفيفًا، ثم دخل رجل يقوده أحد خدم القصر، فوقف أمام أرمان وقال: هل أنا بحضرة الكونت دي كركاز؟

– نعم.

فانحنى أمامه، وأخرج من جيبه رسالةً مختومةً فقدَّمها له.

وأخذ أرمان الرسالة وفضَّها، ونظر إلى التوقيع فلم يجد غير كلمة «كريمور»، وقرأ ما يأتي:

سيدي …

إنك رجل ذائع الصيت كثير البر، وقد كرست ثروتك الطائلة في سبيل الخير والإحسان، وإن الذي يكاتبك هو رجل ثقل عليه ذنبه، وقد دنت ساعته الأخيرة، ويجب أن يراك لبعض الشئون، وإن الطبيب يقول إنه لم يَعُدْ لي من الحياة غير ساعات قليلة، فأسرِعْ إليَّ فإني سأعهد اليك بمهمة خيرية لا يقوى على القيام بها سواك.

كريمور

فنظر أرمان إلى الرسول وتأمَّلَه، ثم قال له: ما اسمك؟

– كولار.

– قُلْ مَن أعطاك هذه الرسالة؟

فتصنَّع كولار هيئة البله، وقال: إني أسكن في منزل كريمور، وهو الذي أعطاني هذه الرسالة كي أوصلها إليك.

– أين يسكن ذلك الرجل الذي أرسلك؟

– في شارع سانت لويس.

وكان الصباح قد كاد يطلع، فلم يبالِ أرمان بذلك، ولا بتحذير بستيان، بل أمر بأن تُهيَّأ المركبة، ولم يمضِ على ذلك نصف ساعة حتى بلغ منزل كريمور، وكان كولار يسير بصحبته فنزل من المركبة، وسار بأمان في فناء المنزل إلى أن وصلا إلى غرفة المريض، ورأى فيها رجلًا هزيل الجسم، نحيل الأعضاء، أصفر الوجه، مضطجعًا في سريره يتقلب عليه من الآلام، فحيَّا أرمان بيده وأشار عليه بالجلوس، ثم أمر كولار بالانصراف.

ولما خلا لهما المكان قال المريض: إن مظاهري لا تدل على أني وشيك الموت، ولكن ذلك لا ريب فيه، وقد أكَّدَه لي الطبيب.

– لا تخف أقوال الأطباء، فإنهم يخطئون.

فتنهَّدَ المريض وقال: إنك مصيب، ولكن طبيبي لا يغلط ولا يخطئ، وقد أكَّدَ أنه سينقطع لي عِرْق بعد ست ساعات يكون به انتهاء حياتي، وليس لأجل ذلك دعوتك، بل لأكلفك بقضاء مهمة لا أئتمن عليها سواك، فأرجو أن تصغي إليَّ. ثم تأوَّه وقال: إني أُدعَى البارون كيرماروت وليس لي وريث بعد موتي في عُرْف الناس والشرع، ولكن قلبي يحدِّثني أن لي ولدًا يرثني من بعدي، ولا أعلم إذا كان ذكرًا أو أنثى.

وقد تقدَّم لي القول أن ليس لي قريب في هذا العالم، فإذا متُّ فليس مَن يبكيني، وترجع ثروتي الطائلة إلى دار الأحكام لفَقْد الوارث.

أما ثروتي فهي عظيمة تكاد لا تُحصَى، ومصدرها غريب أيضًا كغرابة ما ألقاه من العذاب الذي جازاني به الله عقابًا عن ذنب هائل اقترفته في صباي.

ذلك أني كنت في سنة ١٨٢٤ قائدًا في الجيش، ولم يكن لي مستقبل غير سيفي، وكانت حرب الإسبان قد ابتدأت، فكانت فرقة الجيش الذي أنا فيه معسكرة في برسلون، وكنتُ أنا في باريس بالرخصة، فسرت منها مع اثنين من الضباط للانضمام إلى الجيش، وقد كان سفرنا على الجياد، فكنَّا نبيت في كل قرية نصل إليها عند ظلام الليل.

وإن الليل فاجأنا على بعد مرحلة من تولوز، فلم نجد سوى فندق صغير لجئنا إلى المبيت فيه بحكم الاضطرار.

ولم يكن بهذا الفندق من المسافرين سوى امرأتين قَدِمتا من بيريناس وفي تلك الليلة، وكانت إحداهما كهلة عجوزًا، والثانية في عنفوان الشباب رشيقة القوام وضاحة الجبين غزالة العينين صبوحة الوجه، وقد قَدِمت مع أمها التي وصف لها الأطباء التجوُّل، فاضطررنا إلى مشاركتهما في الحديث لما اضطررنا إليه من مشاركتهما في العشاء.

ولم تتهيَّبَا منَّا، وكان لهما مزيد الثقة بنا بالنظر لملابسنا العسكرية، ولم يكن في الفندق غير غرفتين فناما بهما، أما نحن فبتنا في الفناء، وقد اتخذنا من القش اليابس رزمًا جعلناها وسائد.

وكنَّا في ربيع الشباب وطيش الصبا، وليس فينا مَن يزيد عمره على العشرين، فأثَّرَتْ بنا المدام وهاجنا ما رأيناه من جمال الصبية، فاقترح أحدنا أن نقترع عليها، فقبلنا ذلك الاقتراع ضاحكين، واقترعنا فأصابتني القرعة دون رفاقي.

ولم يكن في الفندق ممَّن يُخشَى غير صاحبه، فرشوناه كي يتغاضى عنَّا، ودخلت إلى غرفة الصبية من النافذة، أما أمها فكانت تعول وتصيح، ولكن صياحها كان يسير في الهواء ولا يسمعه أحد.

وعندما طلع الصباح ذهبتُ برفاقي، وقد غادرَتْ بالفندق تلك الفتاةَ مدنَّسة تعض البنان من الأسف، وتدعو عليَّ الله في خلوتها، ولم أعلم منها سوى أنها كانت تُدعَى تريزا، وقد رأيتُ في جيبي بعد فرقها نوطًا ذهبيًّا كانت تعلقه في رقبتها، ولا أعلم إلى الآن كيف وصل إلى جيبي، ولعل السبب في وصوله إليَّ أنه انقطع عند دفاعها، فسقط في جيبي اتفاقًا.

ثم ذهبت ورفاقي إلى برسلونا لننضم إلى الجيش، وفي أول معركة قُتِل رفيقاي، فأعددت ذلك عقابًا لما وإنذارًا لي، وكان صوت سري يقول لي: إن الله لم يعاقبك في المعارك إلا ليبلوك بعقاب أعظم.

ثم توالت الأيام ودرجت الليالي، فنسيت ذنبي إلى أن وصلت إلى الثروة، وها أنا مُظهِر لك كيف وصلت إليَّ.

ذهبتُ يومًا إلى مدريد فنزلت ببيت رجل يهودي كان يتاجر بالجلد، وقد كان أصل هذا اليهودي فرنسيًّا هاجر وطنه سنة ١٧٨٩.

وعندما جعلت سكني في منزله كان مريضًا، فاتفق بعد وصولي إليه بيومين أن اشتدت عليه وطأة المرض إلى أن بلغت حدًّا خُشِي عليه فيه الموت، ولم يكن يعوله في مرضه غير خادم واحد، فدعا بي إليه يومًا عند منتصف الليل، وقد أعياه الداء وبرحت به الآلام.

فهرعْتُ إليه، وجعلت أُعِينه وأعزيه على مصابه، وهو ينظر إليَّ نظرةَ الباهت، إلى أن سألني: ما اسمك؟

– كيرمور دي كيرماروت.

فرجع إليه صوابه عند ذكر اسمي، وخرج بلهجة الفرح والاستغراب يقول: أنت تُدعَى كيرماروت؟

– نعم.

فرفع يديه إلى السماء، ثم شكر الله وقال: أَعْطِني أدوات الكتابة.

فأحضرتُ له ما طلب، فكتب بيد ترتجف:

إني أعترف أن كيرمور دي كيرماروت هو وريثي الوحيد دون سواه.

ثم أمضى هذه الوصية وبعد عشر دقائق أسلم الروح.

وقد وجدتُ بعد موته رسالةً بين أوراقه تبيِّن السبب في إعطائي ثروته؛ ذلك أن جدي البارون كيرماروت كان قد أودع في زمن المهاجرة ٢٠٠ ألف فرنك عند هذا اليهودي، ثم توفي ولم يعلم أين كانت وفاته، وسافر اليهودي إلى إسبانيا فتاجر بمال جدي المودع عنده، وكثرت أرباحه، واتسعت ثروته بفضل ذلك، فرده إليَّ اثني عشر مليونًا، وكنتُ في الثلاثين من عمري عندما وصلَتْ إليَّ تلك الثروة الواسعة، فلم تدفعني عوامل الثبات إلى التنعُّم بها، بل عادت إليَّ تذكارات تلك الليلة الهائلة، وأصبح تمثال تريزا ممثلًا نصب عيني، فأخذت أطوف البلاد باحثًا عنها، فلم أَلْقَ إلا الخيبة، ولم أظفر بغير الفشل، وقد أدَّتْ بي خاتمة المطاف إلى باريس، فاشتريت هذا المنزل الذي أنا فيه فأصابني الله بداء عضال لم تنجح فيه حيلة الأطباء، وسيُقضَى عليَّ بعد ساعات معدودة.

واليوم عرفت نهاية أجلي من الطبيب على ما أخبرتك، فتمثلت لعيني تلك الابنة المسكينة التي دنستها بنزقي، وحدَّثتني نفسي أنها لا تزال بقيد الحياة، وقد علمت أنك رجل كثير الخير والإحسان، وأن لديك عمَّالًا وأعوانًا يشاركونك في البحث عن التعساء ومساعدة أولي البأساء ومجازاة الأشقياء، فقلتُ في نفسي إنك الوحيد الذي يجدها ويسلِّمها تلك الثروةَ.

فقال أرمان: إني أشكرك لثقتك بي، ولكني أخاف ما يمكن أن يكون اتَّفَقَ من موت تلك الابنة، وربما لم يكن لكَ منها ولد، فإن مناجاة الضمير قد تخطئ أحيانًا.

– إذا كانت الابنة قد ماتت ولم يكن لي منها ولد، فإن ثروتي تكون لكَ تنفقها في سُبُل الخير فتكون كفارةً عن ذنبي، وأنا أعلم بأنك رجل كثير المال، ولكن ثروتي هي طائلة فإذا أنفقتها على المصابين مع ما تنفقه من مالك خفَّفتَ من بلوى التعساء وأعانتك على بلوغ أمانيك، والآن فإني أرى على وجهك علائم الانذهال وأراك تشير بالرفض، فبالله لا تُضِع الوقت في الجدال، وانظر إلى الساعة فلم يَعُدْ لي من الحياة في هذا العالم غير ساعات معدودة، فانظر الآن إلى هذا الصندوق الذي هو بقربك، وهذا مفتاحه معلَّق بعنقي، تأخذه بعد موتي وتفتح الصندوق فتجد فيه وصيتين مختلفتين، إحداهما تُثبِت أنك أنت وريثي، والثانية تُثبِت أن تريزا هي الوارثة أو ولدها إذا كان لها ولد، ثم إنك تجد في طي هذه الوصية الأخيرة ذلك النوط الذهبي الذي وقع من عنقها في جيبي في تلك الليلة الهائلة، فإذا فتحْتَه تجد فيه خصلةً من الشعر وصورة امرأة هي صورة أمها لا ريب، فعسى أن تُعِينك على وجودها، وليس لديَّ غير هذا الدليل.

ثم سكت هنيهة وقد أعياه التعب، إلى أن عاد إليه شيء من قواه، فاستحلف أرمان على قبول الوصية، وقال وقد سمع قرعًا على الباب: هو ذا الكاهن الذي دعوته قد حضر، فأَدْخِله إليَّ فإني أريد أن أعترف وأستعد لملاقاة الديَّان.

ففتح أرمان الباب للكاهن، وخرج من الغرفة عندما شرع بالاعتراف، ولم يمضِ على ذلك ساعتان حتى صدق نبأ الطبيب ومات البارون، فدعا أرمان رجال الشرع في الحال، وختم على جميع موجودات المنزل، فلم يأخذ منها غير الوصيتين، وذهب الجميع ولم يَبْقَ في المنزل غير كولار الذي جعل ينظر إلى تلك الجثة التي لم تزل حارة، ويقول ضاحكًا: أيها الأبله، إنك لو علمتَ السبب لدخولي في خدمتك لما أطقت أن تنظر إليَّ، والآن فطِبْ نفسًا فإن أرمان دي كركاز رجل صافي السريرة طاهر القلب، وسيعرف السير فيليام كيف يجد الابنة وكيف يغنم تلك الملايين.

(٣) سريز وباكارا

بعد هذه الحادثة بخمسة عشر يومًا كان في الطبقة الخامسة من أحد المنازل الحقيرة ابنة تشتغل في غرفتها بغيرة ونشاط، وأمامها على منضدة جميع الأدوات اللازمة لعمل الزهور الصناعية.

وكان يظهر من ملامح وجهها أن لها من العمر ست عشرة سنة، وهي ممشوقة القامة بيضاء كالزنبق سوداء الشعر، وقد سُمِّيَتْ بسريز، أي الكرز لحُمْرة شفتيها.

وكانت تشتغل وتغني، وأشعة شمس الصباح الذهبية قد ملأت غرفتها الصغيرة التي كان معلَّقًا في جدارها قفصٌ فيه عصفور من نوع الكناري كان يشاركها في الغناء من حين إلى حين.

فعندما كادت تصل في جمع طاقة الزهر إلى آخِرها، ولم يَبْقَ لها إلا أن تحيطها بالورق، ألقتها من يديها على المنضدة، ثم تنهَّدَتْ وقالت: إني سأتمِّم هذه الطاقة بعد عشر دقائق، فأسير بها إلى المعمل وبطريقي أراه.

إن يوم الأحد قد قَرُبَ، وسأكون فيه من أسعد النساء؛ فإن ليون سيصحبني مع أمه إلى المنتزه في بلفيل. قالت هذا وتبسمت بعد أن تنهَّدَتْ قليلًا، ثم عادت إلى شغلها وهي تحدِّث نفسها فتقول: إن ليون سيسافر إلى بلده فيبيع أرضًا له فيها، وسيرقيه سيده فيجعله رئيس المعمل بعد شهرين حيث يتزوَّج بي في ذلك الحين، ولكني أرى ذينك الشهرين بمثابة جيلين، وما أصعب الانتظار على المحبين.

وفيما هي تناجي نفسها بمثل هذه الأحاديث إذ سمعت صوت غناء على السلم، تبيَّنَتْ منه صوت أختها فقالت: هذه هي باكارا التي لا أعلم السبب في كثرة زياراتها لي في هذه الأيام بعد أن كان يمر العام ولا أراها!

ثم فُتِح الباب ودخلت منه باكارا.

وكلُّ مَن رأى هاتين الصبيتين يعلم للحال أنهما أختان؛ لكثرة ما بينهما من المشابهة، ولم يكن الفرق بينهما سوى أن سريز في السادسة عشرة من عمرها، عفيفة فاضلة ترتزق من شغل يدها وتقنع باليسير من العيش، وأن باكارا في الثانية والعشرين من العمر، وقد هربت منذ ست سنوات من منزل أبيها مع عاشق لها كان وافر الثروة، فعاشت عيشة بذخ وإسراف، ثم تخلف لها عاشقها عن ثروة عظيمة فاستبدلته بسواه، ونهجت سُبُلَ بنات الهوى. أما أبوها، فإنه مات من الحزن لما لبسه من عار ابنته، فاكتفت برضى أمها عنها التي ذهبت إليها وعاشت معها في قصرها الشاهق، تاركةً ابنتها الثانية التي سرى إلى عروقها دم أبيها الفاضل، فلم تتبع أمها وأختها في سبيل الغواية، وعاشت بعيدة منفردة عنهما عيشة طاهرة تقية، ترتزق من شغلها وتقنع بالقليل.

وكانت لا تزور أمها ولا أختها على الإطلاق، ولا تدع لهما مجالًا لزيارتهما لها؛ ولذلك استغربت عندما رأت أختها داخلةً عليها لما رأته من تردُّدها في زيارتها منذ خمسة عشر يومًا، وعلمت أن في ذلك سرًّا شاقها استطلاعه.

فجلست باكارا بالقرب من النافذة، ودار بينهما الحديث، فقالت باكارا: أَلَا تزالين يا سريز تحبين ليون؟

– وما يمنعني عن حبه، وهو رجل طاهر القلب حسن الأخلاق.

– لا أنكر ذلك، ولكنه عامل بسيط، فإذا تزوَّج بك تعيشان عيشةً فقيرةً طولَ العمر، وتكونان تعيسان.

– وأنا لا أرى رأيكِ في ذلك؛ فعندي أن الزوجين إذا توافَقَا وكانا متحابين لا يكونان تعيسَيْن، وفوق ذلك فإن صاحب المعمل سيعيِّن ليون رئيسًا عليه، وهو سيبيع أرضًا له في وطنه، فمتى تم ذلك فهو ينشئ لي محلًّا لبيع الزهور فنصبح من أسعد الناس، ولا يقتضي هذا المشروع من النفقات أكثر من أربعة آلاف فرنك، وهذا المال ميسور لديه.

فتبسمت باكارا ابتسام احتقار، وقالت: أنت تعلمين لو سألْتِني أضعافَ هذه القيمة لما تأخَّرْتُ دقيقةً عن مددك.

– أشكر فضلك، وأعتذر عن عدم قبولي هبتك؛ فإن الابنة الشريفة لا تأخذ المال إلا من أبيها أو زوجها.

– ولكني أختك.

– لو كان لك زوج، أو لو كنتِ على غير ما أنت عليه لَقبلتُ.

فعضت باكارا شفتيها من الغيظ، وقالت: وما يضرك لو أخذتِ مني هذا المال على أن تردِّيه إليَّ متى تيسَّرَ لك؟

– اعذريني، فإني لا أحب أن أستدين.

ثم عادت إلى شغلها، فكانت تشتغل وتحادث أختها التي جلست بالقرب من النافذة، وقد أسندت رأسها بيدها متظاهرة بعدم الاهتمام، ولكنها بالحقيقة لم تجلس إلى النافذة إلا لتتمكن من النظر إلى نافذة المنزل المجاور التي رأتها مقفَلة، فقالت بتمرمر: إنه ليس في البيت.

أما سريز فإنها كانت تراقبها خفية، وقد سمعت ما قالته، فقالت لها: أَلَا تصدقينني يا أختي في القول، فإنك منذ زمن قريب جعلت تأتين إليَّ في كل يوم بعد أن كنتِ منقطعة تمام الانقطاع، فما السبب في ذلك؟

فارتعشت باكارا، وأجابت أختها بصوت متكلَّف، فقالت: إني أزورك كل يوم لأني أحبك، وفراغي يسمح لي بزيارتك.

– ألم يكن لك ذلك الفراغ سابقًا، أم لم يكن لي حب في قلبك من قبلُ؟

فأفحمت باكارا عن الجواب، ولم تجد بدًّا من الإباحة فقالت: إني مصابة بداء عضال يقال له الحب، أقول ذلك لأن جميع الباريسيين يعلمون أن باكارا هي بغير قلب تهزأ من الحب والمحبين في كل حين. نعم، أحب وقد سرَتْ إليَّ هذه العلة من هذه النافذة؛ ذلك أني كنتُ عندك منذ شهر فنظرَتْ عيناي شابًّا برز كالقمر من نافذة هذا المنزل المجاور، فنفذت سهام عينه إلى فؤادي، وسمعت بأذنيَّ رنين السهم في قلبي الذي لم يعرف الغرام من قبلُ، فصادف ذلك الحب قلبًا خاليًا فتمكَّن.

فضحكت سريز وقالت: إني أعلم مَن تعنين بحبك، فهو جارنا فرديناند روسي.

فتنهَّدَتْ باكارا وقالت: نعم، هو بعينه، وإني أحبه أكثر مما تحبين أنت ليون، وقد رأيته ثلاث مرات من هذه النافذة فلم يعرني انتباهًا، ولم يتدانَ إلى النظر إليَّ، أنا التي ينطرح على قدميها أصحاب الملايين.

وأنا لا أحضر إلى هنا إلا لأراه، وأنت ترينني كيف أنتفض عند ذكره انتفاض العصفور بلَّلَه القطر، وهو غير عالم بحال قلبي، وبما يكابده من الصبابة، وأخشى إذا طال بي الأمر أن أكتب إليه أو أذهب إلى منزله، فأركع أمامه وأقول: فرناند أَلَا تعلم أني أحبك؟

ثم مسحت الدمع عن خديها وهو يتساقط كاللؤلؤ، وقالت: أليس من العار على المرأة أن تستسلم لرجل لا تعرف اسمه ولا شيئًا من أمره، وتألف السهاد في حبه، فإذا نامت لا تحلم إلا به، ولا يتملل لعينيها سوى خياله؟

نظرت إليها سريز نظرة العجب، وقد أنكرت صدور مثل هذه العواطف عن أختها.

– أنت تحبين إلى هذا الحد؟

– نعم، وإني أكاد أجن بهواه، وها أنا منذ ساعة عندك ونظري لا يحول عن النافذة، وقلبي شديد الخفوق، أليس هو بمنزله الآن؟

– إنه يرجع إلى منزله في الساعة الثانية.

– حدِّثيني عنه يا سريز، وقولي لي مَن هو هذا الرجل؟ وماذا يشتغل؟ وكيف تعرفينه؟

– عرَّفَني به ليون.

– كيف ذلك؟

– إنه اشترى أثاث منزله هذا من المعمل الذي يعمل فيه ليون، وهو الذي فرشه، وقد عرف ليون في عُسْر مالي فساعده، والتحمت بينهما عُرَى الصداقة، ثم عرَّفني به، وأكثر الأحيان يسلم عليَّ من نافذته.

– إذن هو أعزب؟

– نعم.

– أَلَا ترين أحدًا يزوره؟

– كلا.

– إذن فسيحبني كما أحبه.

وفيما هي تقول ذلك إذ فُتِحت النافذة وأطلَّ منها فرناند، فاختبأت باكارا خلف أختها، وقالت لها: هذا هو.

فجعلت سريز تحرِّك روافد نافذتها حتى استلفتت أنظار فرناند، فسلَّمَ عليها، ثم أظهر انذهاله لما رأى أختها وراءها، وأنها تشبهها مشابهةً تامة، فقالت له سريز: هذه هي أختي.

فانحنى فرناند مسلِّمًا عليها، أما باكارا فإنها انحنت على أذن أختها وتوسَّلَتْ إليها أن تدعوه.

وقد أثَّر توسُّلها على فؤاد سريز بما أنساها موقفها وخطورة هذا السلوك، فأشارت إلى فرناند ودعته إلى الحضور إليها، فشكرها واعتذر عن عدم تمكُّنِه من قبول هذه الدعوة؛ لاضطراره إلى الذهاب إلى مكتبه، ثم سلَّم مودِّعًا وأغلق النافذة.

فقالت باكارا: إنه سيذهب ولا ريب إلى زيارة امرأة، ولكني سأعلم أين يذهب، وسأكون شديدةَ الغيرة من هذه المرأة، كثيرةَ الحنق عليها.

– وبأي حق تغارين؟ فإن فرناند لا هو زوجك ولا محب لك.

– سيصير أحد الاثنين.

– أتتزوجين به؟

فهزَّتْ باكارا كتفيها وسكتت، فقالت سريز: أذكر أن ليون قال لي إن فرناند عازم على أن يتزوج.

– فرناند يتزوج؟

– نعم، وماذا يمنعه؟

– يمنعه أني لا أريد أن يتزوج.

– وبأي حق؟

فضربت باكارا رجلها في الأرض من الغيظ، وقالت: أيوجد في الحب حقوق؟ إني أحبه، وهذا هو حقي الوحيد.

– ولكن إذا كان هو لا يحبك؟

– سيحبني، فإن أصحاب الملايين تنطرح على قدمي، وتتفانى في حبي، أيصعب عليَّ وأنا باكارا أن أُحَبَّ من رجل فقير.

وكانت سريز قد فرغت من جمع طاقتها، فأخذتها وخرجت بها مع أختها كي توصلها إلى معمل الزهور، فقالت لها باكارا: أتريدين أن أوصلك بمركبتي إلى المعمل.

فامتنعت وقالت: لا يليق بعاملة زهور مثلي تشتغل كل ساعات النهار لكسب فرنكين أن تركب في مركبة تجرها الجياد المطهمة، دعيني أذهب على الأقدام، واذهبي كما تشائين.

ثم ودَّعَتْها سريز وذهبت.

أما باكارا فإنها صعدت إلى المركبة، وأمرت السائق أن يقف، وما زالت بها إلى أن خرج فرناند، فقالت للسائق: اتبع هذا الرجل إلى حيث يذهب.

(٤) فرناند

كان فرناند في الخامسة والعشرين من سِنِيه، حسن الطلعة عالي القامة وافر الأدب، وقد رُبِّيَ يتيمًا عند عمٍّ له، وتخرَّج في إحدى المدارس العالية، فاستُخْدِمَ عندما بلغ العشرين من عمره في وزارة الخارجية براتب قليل، ثم أخذ راتبه يزيد شيئًا فشيئًا إلى أن فاق جميع أقرانه.

وكان كثير الشغف بفن الروايات، وقد علق آماله المستقبلة على هذا الفن؛ لشدة الإقبال في هذه البلاد التي لم تنشط من عقالها، ولم تبلغ ما بلغته من المدنية إلا بهذا الفن الجميل، فكان يصرف معظم فراغه بين المحابر والأقلام.

وكان شديد المطامع، من ذلك أنه عشق ابنة رئيسه في الوزارة، واسمها هرمين، وهو يعلم أن دون زواجه بها المصاعب الجمة، لفرط غناء أبيها ولشدة بخله، ولكنه كان كثير الأمل لتبادل الحب بينهما.

وكان والد هرمين قد دعاه إلى الطعام في ذلك اليوم الذي خرجت باكارا في إثره، وكان كثيرًا ما يدعوه ليساعده في تأليف كتاب عزم على نشره باسمه، والاستعانة بفرناند عليه؛ لِمَا كان يعلمه من حبه لابنته، والتذرع إلى مرضاته بجميع الوسائل.

ذهب فرناند يقطع الأرض نهبًا، وقلبه يخفق خفوق الأجنحة من الشوق إلى هرمين؛ إذ لم يرها منذ ثلاثة أيام.

وكانت باكارا تسير في إثره إلى أن وصل إلى منزل رئيسه فولج إليه، وأمرت باكارا السائق أن يقف بعيدًا عن الباب، ثم نزلت من المركبة فأسدلت برقعها ودخلت إلى نفس المنزل الذي دخله فرناند.

فأعطت البوابَ قطعةً من الذهب، ثم دَنَتْ إليه مبتسمةً، وقالت: أليس لك لسان؟

– كلي ألسنة ناطقة بشكرك.

– إذن قل لي فإنك ستنال خيرًا من خدمتي، مَن هو هذا الشاب الذي دخل الآن؟

– هو مستخَدَم في الوزارة، وهذا هو منزل رئيسه.

– ما اسم رئيسه؟

– المسيو دي بيرابو.

– هل هو متزوج؟

– نعم.

– هل امرأته صبية؟

– كلا، فإنها تناهز الخمسين.

– أليس له ابنة؟

– نعم، وهي على غاية من الجمال.

عضَّتْ باركارا على شفتيها، وقالت: ما اسمها؟

– هرمين، وأظن أنهما متحابان.

– ما دعاك لهذا الظن؟

– ذلك لا ريب فيه عندي؛ لكثرة تردُّده على هذا المنزل، فإنه يجيء أربع مرات في الأسبوع.

– في أية ساعة يغادر هذا المنزل اعتياديًّا؟

– في الساعة العاشرة مساءً.

شكرته باكارا وأعطته دينارًا ثانيًا على سبيل الجزاء، ثم خرجت إلى المركبة التي كانت في انتظارها.

وبينما كانت باركارا تسأل عن فرناند، كان هو يصعد السلم لا يداخله ريب بها، ولا يعلم أمرًا من غرامها به، حتى بلغ المنزل في الطبقة الثالثة وطرق الباب.

أما بيرابو هذا فإنه كان في أول عمره فقيرًا معدمًا، وقد جاء باريس منذ ثلاثين سنة، فتوفَّق للدخول في خدمة الوزارة، ثم ترقَّى بجده ونشاطه وتزلُّفه من أولياء الأمور إلى أن عُيِّنَ رئيسًا لإحدى دوائرها.

ولقد لقي عند قدومه امرأة تُدعَى تريزا لها ثروة وجمال، وكانت تلك المرأة قد ارتكبت هفوةً لم تستطع إصلاحها، أو أنها خُدِعت، وكان لها ابنة صرفت إليها معظم حنوها، فتقرَّب منها بيرابو طمعًا في ثروتها، وعلم أن ابنتها غير شرعية فتغاضى عن ذلك، ووعد تلك المرأة أن يكون لها أبًا لابنتها، فقبلته بعلًا بملء السرور، ومن ذلك الحين أصبحت ابنتها هرمين معروفةً باسمه.

وَلْنَعُدْ إلى فرناند فنقول إنه عندما طرق الباب فتحت له هرمين، ولم تكد تراه حتى تلوَّنَ خدها بصبغة الورد، فحيَّاها تحية المحب الوَلِه، ثم دخل معها إلى غرفة البيانو، فجلست تعزف عليه ألحانًا كانت تهيج كوامن غرامهما، وتحرِّك عوامل قلبيهما، ثم شُغِلا عن حديث الألحان بأحاديث الغرام إلى أن شفيا غلهما، فقال لها فرناند: يسرني أن أخبرك عن قبول روايتي في ملعب سانت مارتين، وقد وعدني مديرها أنه سيمثلها في هذا الشتاء، وأنا أرجو أن ينالني من ذلك ربح عظيم، فعند ذلك أجسر في محادثة أبيك في شأن زواجنا.

فقالت هرمين بصوت منخفض: إني كنتُ أتحدث مع أمي أمس في هذا الشأن.

فاضطراب فرناند وقال: بماذا أجابَتْ؟

أجابت هرمين قائلةً: إن أمي راضية عن حبنا، ولا تمانع في زواجنا؛ لما تعلمه من كرم أخلاقك، وحسن مستقبلك، ولكنها تخشى معارضة أبي.

فأحنى فرناند رأسه بحزن وكآبة وقال: إني اختبرت أباك، وأنا أعلم أنه سيرفض طلبي بالنظر لفقري، وهو يعلم أن لا رجاء لي إلا من مستقبلي الروائي.

فقاطعَتْه هرمين وقالت له: إصغِ إليَّ، إن أمي سألتني بالأمس إذا كنتُ على ثقةٍ من حبكَ.

– آه يا هرمين، أعندكِ ريب في ذلك؟

– حاشاي أن أشك بصدق ودادك، ولكني أريد أن أقول إن أمي لها نفوذ على أبي، وهي تحبني حبًّا شديدًا، وحيث إنها وثقت من صدق حبك لي بعد أن ثبت لها ذلك، فهي تبذل جهدها في إقناعه.

– ومتى يكون ذلك؟

– في هذا المساء.

وعندها دخلت أمها فعانقت هرمين بحنُوٍّ، ثم نظرت إلى فرناند وقالت له: أحقيقي يا فرناند أنك تحبها؟

فلم يُجِبْها فرناند بحرف، ولكنه ركع أمامها ونظر إلى هرمين نظرةً تكلَّمَتْ عن فؤاده بأفصح لسان.

فارتعشت تريزا، وقد أيقنت من صدق حبه، ثم أنهضته ووضعت يده بيد ابنتها وهي تقول: إني لا أعترض في هناء ابنتي، وأنت يا فرناند إنك ستدخل مع هرمين إلى غرفة الشغل بعد العشاء، وتَدَعني في خلوة مع أبيها.

ثم تركت العاشقين يتناغيان ويتناجيان، وانصرفت إلى إدارة شئونها البيتية، فلم يمر بهما أحلى من تلك الخلوة، ولم يشعرا بأطيب من تلك الساعة، إلى أن أيقظهما من تلك الأحلام السعيدة دخول المسيو بيرابو، فلم ينظرا إليه حتى أيقنا أنه مصاب بحادثة أضاعت حواسه؛ لأنه كان شديد الاضطراب.

(٥) كينيون

بينما كانت باركارا تقفو أثر فرناند كانت سريز تسير بطاقة الزهر إلى المعمل، وهي تذهب من شارع إلى آخَر فتهيج النفوس وتفتن العقول، وقد دارت بها العيون كالنطاق، وما من أحد كان يراها إلا ويدهش من محاسنها، ويسكر بجمالها العجيب فيقرظه بما يحضره من رقيق الكلام ورائق المعاني، ولكن أذنها لم تكن تصغي لمثل هذه الأحاديث، وقلبها لم يكن يحفل بمثل هذا المديح؛ لما كان يشغلها من أماني نفسها وحبها لخطيبها ليون، فكانت تمشي بوقار واحتشام لا تسمع حديث الأفواه ولا تفهم لغة العيون، إلى أن وصلت إلى المعمل فأودعت فيه الطاقة، ثم قبضت أجرتها، وأخذت شغلًا جديدًا، وبدلًا من أن تعود إلى منزلها ذهبت في شارع شابون حيث يشتغل خطيبها، وهي تقول: كم أكون سعيدةً إذا اتفق لي أن أراه؟

أما ليون رولاند، فإنه كان شابًّا يبلغ الثلاثين من العمر، أشقر الشعر، ضخم الجثة، قوي الأعصاب، ولم يكن جميل الوجه، غير أنه كان صافي السريرة طاهر القلب حسن النية، عاملًا نشيطًا شريف الأخلاق، وقد اتفق أنه حين مرور سريز كان واقفًا بباب الحانوت الذي يشتغل فيه.

ولما رآها مارَّةً أسرع إليها وسلَّم عليها، ونفسه تكاد تطير شعاعًا من بهجة لقائها، ثم شكرها لمرورها بهذا الشارع، فقالت وقد صبغ الخجل وجنتَيْها: إني لم أمر من هنا إلا على أمل أن أراك.

– قد صدق ظنك، ولو لم تمري من هنا الآن لكنتُ قصدتك في هذا المساء؛ لأنه يجب أن أحادثك في شأن مهم.

فارتاعت سريز وقالت: لقد شغلت بالي، بأي الشئون تريد محادثتي؟

– لا تخافي، فليس ما يحمل على الكدر، وأول ما أبدأ به هو أني عزمت أن أذهب غدًا مع أمي إلى بلفيل، وسأكون من أسعد الناس حظًّا إذا قبلتِ دعوتنا وذهبتِ معنا.

– أراضية أمك بذلك؟

– ذلك لا ريب فيه؛ لأنها تعلم أنك ستصيرين امرأتي بعد حين.

فأَرْخَتْ سريز نظرها من الحياء، وجعلت تنكت الأرض بمظلتها، ثم نظرت إليه وقالت: أهذا المهم الذي تريد أن تحادثني فيه؟

– كلا، فإن هذه الحكاية قد جعلتها مقدمة لحديثي؛ لما أجد بها من السرور، وأية ساعة أشهى إليَّ من أن أكون وإياك في منتزه واحد. أما الذي أريد أن أقوله لك، فهو أنك تعلمين ما وعدني به صاحب المعمل من أنه سيجعلني رئيسًا عليه بعد شهرين.

فتنهدت سريز وقالت: نعم.

– والآن فإنه غيَّرَ أفكاره.

– ماذا أرجعه عن ترئيسك؟

– كلا، فإني عُيِّنْتُ اليوم.

– كيف ذلك؟

– ذلك أن الرئيس الذي خلفته في منصبه قد انتهى إليه إرث من قريب له توفي منذ يومين، فاضطر إلى السفر والتنحي عن الأشغال، ولكونه من مواطني فقد رجوته أن ينوب عني في بيع أرضي التي كان في نيتي أن أسافر لبيعها.

– إذن قد رجعت عن السفر أيضًا؟

– نعم، وبعد ثمانية أيام يصل إليَّ ثمن تلك الأرض، وبعد ذلك بخمسة عشر يومًا نقدر أن نتزوج.

فظهرت على ملامح سريز علائم السرور، وعبق خداها بحمرة الخجل، ثم قالت: إن هذا الأجل قريب جدًّا.

– وأنا أراه شديدَ البُعْدِ أيتها الحبيبة.

ثم ضغط بيديه على يدها، ونظر إليها نظرة توسُّل واستعطاف باحَتْ بمكنونات فؤاده، واستوقفت بعض المارة.

فودَّعته بلطف وحنُوٍّ، وأفلتت منه وهي تقول: إلى الغد وسنرى.

ولم يزل واقفًا يشيعها إلى أن توارت عن عينيه في شارع سانت مارتين.

وفيما هي تمشي سمعت صوتًا يناديها باسمها، فالتفتت ورأت شابًّا بالقرب منها رفع قبعته وحيَّاها باحتشام، فدَنَتْ منه وسلَّمَتْ عليه.

وكان هذا الرجل من أصدقاء خطيبها يُدعَى كينيون، وهو شاب في الثلاثين من عمره هزيل الجسم قبيح المنظر، ولكنه كان رقيق الحاسة، لطيف الشعور، طيب النفس.

وكان سيء البخت نكد الطالع، وقد عرف ذلك من دهره فأدار له ظهر المِجَنِّ، ولم يعبأ بصروفه، وكان على الدوام باسم الثغر، طلق الوجه، شديد المزاح، كثير الميل إلى خدمة معارفه، وعلى الجملة لم يكن له في باريس بغيض.

فلما رأى سريز استوقفها، وبعد السلام سألها عن وجهتها فقالت: إني ذاهبة إلى أم ليون لأخبرها بأننا سنذهب غدًا إلى منتزه بلفيل، فهل لكَ أن تكون معنا؟

– ذلك ما أتوق إليه، لا سيما وأني أجد فرصة مناسبة لتأنيب ليون.

– على أي شيء تريد أن تؤنبه؟

– على صداقة عقدها من عهد قريب مع رجل لا يستأهل المودة، ويجب أن يحذر منه.

– مَن هو هذا الرجل؟

– هو رجل صناعته عمل الأقفال يُدعَى روسينيول، وهو فاسد الأخلاق، قبيح السيرة، بذيء السمعة، وقد ساءني التحام الصداقة بينهما، وبلوغها إلى حدٍّ أصبحا فيه لا يفترقان، فرأيت أن من واجباتي أن أردع ليون عن معاشرته، وأن أُظهِر له ما لم يعلمه من فساد أخلاقه، وبعد ذلك فله الخيار بالميل إليه أو بالبعد عنه.

– عجبًا! إني لا أعرف هذا الرجل، وأنت تقول إنه من أصدقاء ليون.

– نعم، وإن السبب في ذلك هو الصداقة بينهما حديثة العهد، وقلبي يحدِّثني أنها ستكون سيئة العاقبة، وما استوقفتُكِ إلا لما أرجوه من مشاركتك إياي بنصيحته على تجنُّب معاشرته وتحذيره منه، فاجتهدي أن تردعيه، وأنا سأبذل مجهودي، ثم ودَّعها وذهب في شأنه، فواصلت سريز سيرها إلى منزل أم خطيبها، وفي الوقت نفسه كان يسير في الشارع رجل كهل يناهز الخمسين، قصير القامة، نحيل الجسم، مجعَّد الجبين، فاتر العينين، وكان لابسًا ثوبًا أزرق، وعلى سترته زر أحمر يشير إلى أنه متقلِّد وسام جوقة الشرف.

ولم يكن هذا الرجل سوى بيرابو والد هرمين، فإنه كان عائدًا إلى منزله ليوافي فرناند الذي كان قد دعاه إلى الطعام — كما تقدَّم البيان — وقد اتفق أنه تقابَلَ وجهًا لوجه مع سريز، فلم يكد يراها حتى اختلجت أعضاؤه واضطرب فؤاده، فوقف في البدء ينظر إليها بتدلُّهٍ، وقد اندلع لسانه، وجحظت عيناه، ثم رأى أنها لم تلتفت إليه، ولم تعره جانب الانتباه، فسار في إثرها يقفوها.

ولم يكن ذلك أول ما اتفق لهذا الكهل؛ فإنه كان ينفق أكثر ساعات فراغه متجوِّلًا في الشوارع يتعقب الحسان من بنات الهوى، فلم يكن يخيب منه أمل، ولا تضيع له أمنية؛ ليساره وكثرة إنفاقه، مما زاد من جرأته، ولكنه ساء فاله بسريز، ولقي منها ما غير معهوده، وألجمه ما رآه بها من الاحتشام بالتهجم عليها بالحديث، فاندفع يمشي في إثرها بأقدام مضطربة، وقد أعاد جمالها إلى قلبه دم الشباب.

ولم تعلم سريز أنها متبوعة حتى بلغت إلى شارع مقفر ورأته وراءها، فأسرعت في مشيها فاقتدى بها، فهلع قلبها وضاعفت سرعة سيرها حتى وصلت إلى منزل أم خطيبها، فدخلت وقد عاد سكونها، وأقامت عندها مدة طويلة تزيد على الساعتين.

ثم خرجت من عندها، وعندما وصلت إلى الشارع رأته واقفًا على الرصيف، وعلى وجهه ملامح السأم من الانتظار، فلم تجد حيلةً في الرجوع، ولا بدًّا من مواصلة السير، فمشت ولم تَسِرْ بضع خطوات حتى أدركها واستوقفها وهو يقول: سيدتي …

فالتفتت إليه سريز وقالت له بلطف: لستُ يا سيدي من اللواتي تعهدهن، ولم تسبق لي عادة أن أحادث في الشوارع مَن يتبع خطاي، فخير لك أن تمضي في شأنك.

ثم تركته وهو لا يدري بماذا يجيب، ومضت فجعل يتبعها على مسافة بعيدة بحيث يراها ولا تراه، فلم تزل تسير حتى وصلت إلى منزلها فدخلت مسرعة، والتفتت وراءها فلم تره فاطمأنت، وصعدت السلم وهي تغني.

أما بيرابو فإنه رآها دخلت، ولكنه لم يعلم إذا كان المنزل منزلها، فلبث زمنًا طويلًا ينتظر إلى أن أعياه الانتظار، فذهب إلى البوَّاب وأعطاه ذهبًا كما فعلت باكارا في سؤالها عن فرناند، ثم سأله عن سريز فقال له البوَّاب: اسمح لي يا سيدي أن أقول لك إنك تنفق وقتك ومالك عبثًا؛ فإن هذه الفتاة شريفة.

– ولكني كثير الأموال.

– لا يجديك مالك نفعًا، ولو أنفقتَ منه الملايين؛ لأنها ابنة طاهرة، وفوق ذلك فإنها مخطوبة، ولو كان لك شأن مع أختها لكنتُ أحادِثك بعكس ما تسمع.

– مَن هي أختها؟

– هي ابنة بغي كثيرة الجمال، لها قصر شاهق ومركبات.

– وما اسمها؟

– باكارا.

– أين منزلها؟

– بشارع مونسي.

– حسنًا. وتركه وانصرف، وهو مشتَّت الفكر مضطرب البال، وقد أصيب بذلك الداء العضال الذي ليس له دواء، وهو حب الشيوخ، فأحبَّ سريز حبًّا ليس فوقه حب، ومضى وهو ينظم في أفكاره الجهنمية طرق غوايتها إلى أن وصل إلى منزله، وهو على ما وصفناه من القلق والاضطراب.

(٦) بيرابو

فعندما رأته امرأته وابنته صاحتا صيحة انذهال وقلق، وقالت له امرأته: بالله قُلْ ماذا أصابك؟ وماذا اعتراك فإن هيئتك تحمل على الخوف؟

قال بيرابو وهو يرتعش: لستُ في شيء مما تتوهمين، وليس بي ما يحمل على الرعب.

– إذن فما علة هذا الارتعاش؟

– بينما كنتُ مارًّا في الشارع، وإذا بمركبة قد جمحت جيادها كادت تصدمني لو لم تحل بيننا المقادير، وقد نجوت والحمد لله من هذا الخطر، فهلم بنا إلى الطعام. ثم قدَّمَ ذراعه إلى هرمين، وذهبوا جميعهم إلى المائدة.

أما فرناند فإنه لم يعبأ بهذا العذر الملفق، وأيقن أن السبب في اضطراب رئيسه هو غير ما قال، فأوجس خيفة من هذا الانقلاب، وعلم أن امرأته لا تستطيع أن تحادثه في شأنه وهو على مثل هذه الحال، ولكنه لم يلبث أن تغيَّر ظنُّه باستحالة رئيسه من الانقباض إلى الهشاشة، مما يدل على أنه اهتدى إلى طريقة تمكِّنه من غواية سريز.

وعندما فرغوا من الطعام دخل فرناند إلى قاعة الكتابة، ثم تبعته هرمين بإشارة أمها، ولما خلا المكان ببيرابو وامرأته قالت له: أتسمح لي أن أحادثك بشأن هامٍّ؟

– وما عسى أن يكون هذا المهم؟

– إني أريد أن أحادثك بشأن ابنتي التي بلغت التاسعة عشر من عمرها، أي إنها بلغت سن الزواج.

– تريدين أن تزوِّجي ابنتك؟ ولماذا؟

– لأننا لا ندوم لها.

– ليكن، ولكن يجب أن نجد لها زوجًا.

– إن الزوج موجود.

– هل هو غني؟

– كلا، ولكن مستقبله حسن.

فهَزَّ بيرابو كتفه وقال: ولكن هذا لا يكفي.

– إنما هرمين تحبه بقدر ما يحبها.

– ما اسمه؟

– إنك تعرفه وتقدره، فهو فرناند.

فوثب بيرابو عن كرسيه وقال بتعجب واحتقار: أزوِّج ابنتي من رجل لا مستقبل له ولا مال، ولا يزيد راتبه على الألفي فرنك. إنك لا ريب قد جننتِ؛ فإن مثل هذه الآراء لا تصدر عن العقلاء، وإذا كنتِ ظننتِ أني أصادق على هذا الزواج، فإن نفسك قد خدعتك فلا تحلمي به، فإنه لا يكون ولن يكون ما زلتُ في قيد الحياة.

ثم جعل يمشي في أرض الغرفة ذهابًا وإيابًا بخطوة غير موزونة، وهو يعثر بما تصادفه قدماه، ولا ينتبه كمَن به جنَّة أو ضرب من اللمم، أما امرأته فكانت جالسة بالقرب من المستوقد، فلما سمعت ما كان من جوابه أخذت تشهق وتنتحب كالأطفال، ورآها والدمع يتساقط من عينيها فقال: إنك تبكين لكوني رفضت أن أزوِّج ابنتك من رجل لا مال له، في حين كان يجب عليك أن تشكريني لغيرتي على ابنتك التي هي ليست بابنتي، بل ابنة الصدفة، بل ابنة الزيغ والغي.

فوقع هذا الكلام على تريزا وقوع الصاعقة، ولم تكد تسمعه حتى وقفت وقد التهبت عيناها من الغيظ، وقالت: إنك تهينني، وإنك من أسفل الرجال.

فعلم بيرابو أنه قد أفرط في الإساءة إليها، وحاول إصلاح ما فسد، فقال لها بلطف: تلك بادرة بدرت مني، ولكنك أنت دفعتيني إلى هذا الحد.

فقالت له تريزا: إنكَ تعلم أني كنتُ منذ عشرين سنة ابنة نقية طاهرة، ولم أكن قطُّ بغيًّا، وأني كنتُ في إحدى الليالي المشئومة في فندق على مرحلة من تولوز مع أمي التي وصف لها الأطباء التجول، فاغتصبني فيه أحد الجنود الأشرار وعلقت منه بهرمين، وقد اعترفتُ لكَ اعترافًا جليًّا في كل ذلك عندما طلبتَ أن تتزوج بي طمعًا بمالي، وقدَّمْتُ لكَ ابنتي النقية فأخذتها بين ذراعيك وقلت لي: «طيبي نفسًا، فسأكون أباها.»

– وماذا رأيتِ بأقوالي؟ ألم أفي بوعدي إلى الآن بشأن هرمين؟ أعندك شك بأني أبوها؟ أيعلم أحد من الناس حقيقة السر؟

– كلا، ولكن هذه الابنة التي وعدتها أن تحبها كما تحب ولدك تسائل نفسها في كل حين: كيف يكون الرجل أبي، وكيف يعاملني بقسوة ونفور بخلاف ما يعامل به أختي؟

– ذلك لأني أفضل عليها أختها، وهي ابنتي، وهذا طبيعي معقول إنما …

فأوقفته عن الكلام بنظرة ازدراء، وقالت: إنها كما كانت تستغرب نفورك منها كانت تعجب أيضًا عندما تراني باكية العين، وتعلم أنك أنت السبب في هذه الدموع التي كنتُ أذرفها في خلوتي ولا يعلم بها غير الله.

فضرب الأرض برجليه من الغضب، وقال: إنك تتهمينني بما أنا بريء منه، فإني لم أسئ إليك، ولم أغتصب أموالك، فإنك إذا كنتِ أعطيتني مالًا فقد استعضت عنه باسمي الشريف الذي ستر زَلَّتَكِ، ودفع عنك عار الغواية، فليس لك عليَّ شيء بعد أن غسلت باقترانك بي ذلك العار.

– إنك منخدع بما يوسوس لك ضميرك؛ لأنه يوجد شيء تفضله الأم على راحتها وهنائها ونفسها وشرفها، وهو هناء ولدها، ولقد رأيتَ مني امرأة صبورًا طائعة منخفضة الرأس لا تخالف لكَ أمرًا، ولا تعصي لك إرادة، وتسأل لك العفو من الله عندما تسيء إليها، ولكن هذه الإساءة كانت للأم، أَمَا وقد أردْتَ أن تسيء إلى ولدها، فإن هذا الرأس المنخفض سيرتفع، وهذه النفس الفاترة ستنشط وتدفع عن ولدها كل مكروه … إن هرمين تحب فرناند وهو رجل حسن الأخلاق شريف النفس بعيد منال الهمة، وأنت الذي تصفه بهذه الصفات، فما لك الآن تناقض نفسك؟ وما الذي يمنعك عن الرضى بهذا الزواج؟

– يمنعني فقره المدقع.

– إنك عندما تزوَّجْتَ بي لم تكن أيسر منه مالًا، ولا أوسع حالًا.

فقال وقد احتدم غيظًا: إني عندما تزوَّجْتُ بك على هذا الحال، كان لك ولد لا تعلمين ولا يعلم الناس أباه، والآن ما لنا ولهذا الجدال، أتريدين أن أصادق على هذا الزواج؟ قولي فإن ذلك منوط بك.

فمسحت تريزا دموعها، وقد عزمت على أن تقاومه إلى النهاية فقالت: قُلْ ماذا تريد أن أفعل؟

فجلس أمامها وقال: اسمعي ماذا يجب أن تفعليه، إذا كنتِ تطلبين هذا القران، إنه يحق لك حسب اتفاقنا أن تهبي ربع ثروتك البالغة مائة ألف فرنك إلى ابنتك هرمين، وأن تدعي الباقي لي أو لأولادي، فإذا كنتِ تتركين حقك من هذا المال إلى ابنتنا الشرعية رضيت بزواج هرمين …

فقاطعته تريزا وقالت: كلا، فإني لا أؤثر أحدًا من أولادي على الآخَر، وما ميزت الأمهات على البنين.

فأجابها ببرود: إذا فَلْنَدَعْ هذا الحديث، فإني اعترفت عند قراننا أن هرمين هي ابنتي الشرعية، ولا حقَّ للابنة أن تتزوج بغير رضى أبيها إلا متى بلغت سن الرشد، وهي الآن دون هذا السن وأنا لا أصادق على قرانها.

– ليكن ما تريد، أما نحن فسننتظر، ويسوءني أنك ستضطرني إلى أن أبوح لابنتي بكل شيء من أمر ماضي حياتي، وأن أذوب أمامها من الخجل.

وفيما هي تقول ذلك فُتِح الباب، ودخلت هرمين فطوقت عنق أمها بذراعيها وهي تقول: أماه، إنك من أشرف النساء، ولم ترتكبي إثمًا تخجلين به أمام ابنتك، وإني أسألك المعذرة فقد سمعت كل حديثكما، وعلمت نبلك وقداسة قلبك.

ثم تركتها ونظرت إلى بيرابو، وقالت: إن أمي لا تريد أن تجردني من حقي من مالها، ولكن يحق لي أن أرفض هذ الحق، ولذلك أَقْبَلُ بما اقترحْتَه عليها. ثم انحنت أمامه بتهكُّم، ومشت إلى الباب ونادت: فرناند، فرناند.

ولما أتي أخذته بيده وقالت له أمام بيرابو: أَلَا تقبل بي امرأةً لكَ يا فرناند بغير مال؟

(٧) كولار

في اليوم الثاني من اتباع باكارا لفرناند، أي يوم الأحد صباحًا، كان كولار الذي عرفناه بزعيم عصابة السير فيليام يسير سيرًا سريعًا في شارع أنتين إلى أن بلغ إلى شارع النصر، فمال منه إلى بستان كبير، قائم في وسطه قصر شاهق بناه أحد الأغنياء الإنكليز، فأقام فيه زمنًا ثم سافر وترك فيه خادمًا له، وقد سمح له أن يؤجِّره وينتفع بريعه.

وكان قد استأجره السير فيليام حين رجوعه إلى باريز من لوندره، ولا بد لنا أن نذكر شيئًا من سابق حاله في هذه المدينة التي أقام فيها زمنًا طويلًا على سعة من العيش وخصب من الحياة، نقول: إنه كان معروفًا في لوندره أنه من الأشراف ذوي الثروة الواسعة، وهو في الحقيقة رئيس عصابة من اللصوص، وكان يسمي نفسه البارون فيليام، وقد حلق شاربيه كي لا يُعرَف، فكان يدخل إلى أحسن البيوت، وله عشرة من أشراف العائلات، وقد جمع كثيرًا من المال من مهنته اللصوصية، أنفق معظمه على البذخ والإسراف، ثم غادر البلاد الإنكليزية بغتةً، ولم يعلم أحد من معارفه علة هذا الرحيل الفجائي؛ فكثرت الأقاويل، وتواترت الظنون، وأشيع عند الأكثرين أنه كان متلبسًا بلقب البارون، وأنه كان لصًّا سافلًا، وأنه كان تلياني الأصل وإنْ كان يحسن الكلام باللغة الإنكليزية كأبنائها، فعندما عاد إلى باريس أطلق شعر شاربيه، وصبغ شعره بصبغة سوداء، وقد تغيَّرت ملامحه بعض التغيير، فساعدته تلك الصبغة على الخفاء.

وكان عندما وصل كولار إلى منزله واقفًا أمام مرآة في غرفة النوم يصلح صبغة شعره، وهو يقول: إني منذ أشهر في باريس، وأشغالي سائرة على محور النجاح الأكيد، فإذا دامت الأبالسة على الصدق في خدمتي، فإن ملايين كرماروت ستكون لي وحدي.

تبًّا لك يا أرمان دي كركاز من بله يحب البشر، وينفق أمواله على المساكين، طِبْ نفسًا فإنك سترد تلك الملايين المؤتمن عليها إلى السير فيليام الذي عرف كيف يغيِّر ملامحه، فلا تستطيع أن تعرف أنه أخوك العزيز أندريا الذي اختلست أمواله بحجة أن أباه سرق أموال أبيك.

أما كولار فإنه شديد الذكاء، وهو وإنْ كان لم يخدمني في لوندرا خدمات جليلة، فإنه كان غريبًا فيها، أما الآن فهو في موطنه، ويعرف خفايا باريس كما يعرف خفايا منزله، فلا شك أن هذه العصابة التي ألَّفها سيكون لي منها خير فائدة، وقد ظهر من أعمالها إلى الآن ما يبشِّر بالنجاح الأكيد.

وفيما هو يناجي نفسه بمثل هذه الأحاديث إذ فُتِح الباب ودخل كولار، فحيَّاه ثم جلس على الكرسي بالقرب منه، ودار بينهما الحديث الآتي:

قال كولار: إني أتيت لأخبرك عن أمور مهمة توفَّقْتُ للوقوف عليها بواسطة رجالي الذين يشتغلون بالدقة والنظام.

– أتظن ذلك؟

– هذا لا ريب فيه، ودليلي عليه أننا أصبحنا على اليقين من أن مدام بيرابو هي ذات تريزا التي نبحث عنها.

– أصحيح ما تقول؟

– نعم، وإن ابنتها هرمين هي ابنة كرماروت صاحب الملايين، وليست بابنة بيرابو كما هو المتعارف عند الناس.

– أرى من هنا يجب أن تبتدئ الرواية؛ فإن بيرابو شديد البخل، وإذا وعدناه بمليون فهو لا يرفض أن يزوِّج ابنته، ثم نظر إلى المرآة مبتسمًا وقال: أما ابنته فلا إخالها ترفض مَن كان مثلي زوجًا لها.

– إنما للصبية عشيق، وسيتزوج بها بعد خمسة عشر يومًا كما علمت.

فاصفرَّ وجه أندريا اصفرار اليأس، وقال: هذا محال.

– إن ما أخبرتك به هو الحقيقة بعينها، وإن خطيب هرمين هو موظَّف في الوزارة الخارجية.

– هل هو غني؟

– ليس له دراهم، ولكنه محبوب.

– ما اسمه؟

– فرناند روشي.

– أين منزله؟

– في شارع باريس.

فأخذ أندريا دفترًا صغيرًا، وكتب فيه بضعة سطور بالحرف المصري القديم، ثم سكن اضطرابه فقال: وما عندك وراء هذه الأخبار؟

– قبل كل شيء أحب أن أخبرك عن صداقة عقَدْتُها حديثًا مع رجل نجار.

– لماذا؟

– لهيام قلبي بفتاة شغفت لبي، وأخذت بمجامع قلبي.

– أنحن الآن بمعرض الغرام يا كولار؟ أتسمح حالتنا الحاضرة أن نعشق ونهيم؟

– قر بالًا يا سيدي، فإن ذلك لا يشغلني فترة عن واجب خدمتك.

– حسنًا، ولكن أية صلة بين هيامك بتلك الفتاة وبين مصادقتك لذلك النجار.

– أصغِ إليَّ يا سيدي، إني لقيت حديثًا فتاةً جميلةَ الوجه، طاهرة القلب، عفيفة النفس، فهامت بها روحي وحنَّ إليها قلبي، وبحثت عنها فعلمت أنها مخطوبة، ومن المقرر أن مَن يحاصر قومًا يجتهد عند شبوب الحرب أن تُدمَّر قلاع أعدائه، ويقطع كل مدد عنهم كي يجبرهم على التسليم؛ ولذلك عقدت تلك الصداقة مع هذا النجار الذي هو خطيبها، ولا أريد بذلك إلا فساد أخلاقه طمعًا بأن تنفر عنه خطيبته سريز، أما هذا الشاب فإنه يُدعَى ليون رولاند، وله صداقة مع فرناند روشي خطيب هرمين.

فأظهر أندريا علائم الرضى، وقال: تمِّمْ حديثك، فقد بزغ لي منه نور من الأمل.

فقال كولار: وقد ذهبتُ أمس لزيارة ليون في محل شغله، فبينما أنا عنده إذ جاءه فرناند وأخبر صديقه والفرح ملء فؤاده بجميع ما كان من خطيبته وأمها وأبيها، وأنه سيتزوج بعد خمسة عشر يومًا، وكيف أن بيرابو رفض أولًا أن يزوِّج ابنته من فرناند حرصًا على المهر، إلى أن تنازلت هرمين عن ذاك المال.

فاصفرَّ وجه أندريا وقال: إننا في أحرج المواقف وأشدها، ولا أصعب من نزع الهوى من قلب فتاة تحب.

– أصغِ إليَّ، فلم أنتهِ بعدُ من تقريري، واعلم أن لسريز أختًا بغيًّا وافرة المال، وقد تهتكت في حب فرناند ولم تجد صبرًا عنه.

فبرقت عينا أندريا بأشعة الأمل، وقال: هل هي جميلة؟

– إنها كثيرة الجمال والدلال.

– هل هي عاقلة؟

– هي رجيحة العقل شديدة الذكاء.

– إذن فهي تكفل لي غواية فرناند، وإقلاعه على حب هرمين، وسنرى في شأنها.

فقال كولار: يوجد أيضًا شيء آخَر لم أُطْلِعك عليه، وهو أن والد هرمين مفتون بسريز، وقد تبعها أمس، ووقف بالقرب من منزلها طويلًا، ثم عاد في المساء، وسهر طول الليل متجولًا تحت نوافذ غرفتها. فهل أنت راضٍ عن هذه الإفادات.

فلم يجبه أندريا بشيء عن سؤاله، وأخذ يفتكر بتلك السلسلة التي جمعت تريزا وهرمين وأمها وخطيبها ورولاند، وبعد أن أمعن الفكرة طويلًا نظر إلى كولار وقال: أتعرف منزل باكارا؟

– نعم، فهو في شارع موتسي.

– حسنًا، فإن هذه الفتاة ستخدمني، وأنتَ فهل تحب سريز حبًّا شديدًا؟

– لا أعلم، ولكني رأيتها في عنفوان الشباب كثيرة الجمال، فتقت إلى أن أتخدها خليلةً لي، فأنا أحبها ولا أحبها.

– ولكن إذا احتجنا إليها؟

فنظر إليه نظرة انذهال وحيرة، وقال: لم أفهم ما أردتَ! وكيف تحتاج إليها؟

– لننصب منها فخًّا لبيرابو، ويجب قبل شيء أن نتخلص من خطيبها ليون، فإنه يثقل علينا.

– إن هذا رأي جليل، وسأشرع في إنفاذه هذه الليلة في بلفيل.

– إذن لا يسوءك ذلك؟

– كلا، ولا سيما أننا مضطرون إلى إجرائه، وفوق ذلك لا داعي إلى الغيرة من الكهول.

فنادى أندريا خادمه، وأمره أن يهيئ المركبة، ثم قال لكولار: يجب أن تجد لي من اليوم إلى ثلاثة أيام منزلًا للأجرة في الشانزليزه مع إصطبل للخيل، والآن اذهب لقضاء هذه المهمة ولا تغفل عن أمر ليون.

فذهب كولار، أما أندريا فإنه ركب المركبة وسارت به إلى منزل باكارا، وكانت باكارا لا تزال في غرفة النوم، وقد لسعتها عقرب الغيرة من هرمين وألفت السهاد، ولم تَذُقْ طعم الكرى، ولم تكن تعرف الحب قبل أن رأت فرناند، فكانت تهزأ بالهوى وتعبث بعشاقها، وهي بغير قلب يحن وبغير نفس ترحم، لا يهمها سوى جمع المال واحتقار الرجال وتركهم يقتتلون لأجلها، وهي ضاحكة لاهية، ومحبها يكتئب وينتحب حتى نفذت إليها سهام الهوى، وعرفت أن لها قلبًا كقلوب البشر، وأحالها الحب من الحيوانية إلى الإنسانية، وجعلت تعض يديها من الغيرة، وهي تردد بصوت منخفض اسم فرناند.

وكانت قد اضطجعت على فراشها من الساعة العاشرة، وهي ترجو أن تطعم النوم، وتعلِّل نفسها بخيال مَن تحب، ولم يغمض لها جفن، وما زالت تتقلب على مثل الغضى إلى أن طرق الباب ودخلت خادمتها تخبرها بزيارة أندريا وبيدها رقعته.

فقالت لها: لا أريد أن أقابل أحدًا، فأخبري كلَّ مَن يزورني أني لستُ في المنزل.

وخرجت الخادمة، ثم رجعت بعد هنيهة، وقالت لها: سيدتي، إن هذا الرجل يلح في طلب مقابلتك، وهو واسع الثروة كما يظهر.

وأخذت باكارا رقعة أندريا وقرأت فيها: «السير فيليام … بارون»، ثم ألقتها على منضدة أمامها وقالت: إني لا أعرف هذا الإنكليزي.

وخرجت الخادمة ثم عادت أيضًا وقالت: سيدتي، إن هذا الرجل يقول إنه قادم لمخابرتك في شأن مهم.

– ليس لي أشغال مهمة. اذهبي واصرفيه.

– لقد كلفني أن أذكر لك اسم رجل يقول إنه يهمك شأنه.

– قلتُ لك اذهبي، فإني لا أريد أن أعرف أمرًا.

– ولكن هذا لا يمنعني أن أذكر لك اسم الرجل الذي كلَّفَني أن أذكره أمامك.

– لقد تجاوزتِ الحد في عصياني، فأنا أطردك من خدمتي منذ الآن، ولا تعودي إلى هذا المنزل.

أما الخادمة فلم تكترث بما سمعت، وكانت قبضت من أندريا ما جعلها تعصي هذا العصيان. قالت لها ببرود: إن السير فيليام كلَّفَني أن أقول لك إنه آتٍ ليخابرك بشأن فرناند روشي.

ولم تكد باكارا تسمع اسم فرناند حتى وثبت من فراشها وقالت: هو آتٍ ليخابرني بشأن فرناند، قولي له إني هنا وإني مستعدة لقبوله، اذهبي وأدخليه في الحال إلى قاعة الانتظار. ثم اختنق صوتها وجعلت تختلج وتضطرب اضطراب الريشة في مهب الريح.

(٨) البارون

ولبست ملابسها بسرعة، ثم دعت خادمتها فاني وأمرتها أن تُدخِله، فذهبت وعادت بأندريا الذي لم يقع نظره عليها حتى قدرها، وعرف من رياش منزلها منزلتَها من سلامة الذوق، ونظر إلى عينيها فعلم شدة سلطانها على القلوب، فقال في نفسه: هذه هي المرأة التي أحتاج إليها، وسأجعل منزلها قفصًا لفرناند، فلا يخرج منه قبل أن أقضي أوطاري.

وتأمَّلَتْ هي أيضًا بدورها أندريا، فاستدلت من توقُّد عينيه ومن ابتسامه السحري ومن جبهته الواسعة أنه شديد الذكاء، فقالت في نفسها: إنه إذا كان عدوًّا لي فقد لقي مني كفؤًا، وإذا كان صديقًا فسأنتصر ولا ريب؛ لأنه سيكون لي أقوى نصير.

وبعد أن سلَّم عليها أشارت إليه أن يجلس، وصرفت فاني، فجعل أندريا ينظر إليها بغير تأثُّر ولا اختلاج كمَن جاء يحدثها بأشغال مهمة، ولا يعبأ بما وهبتها الطبيعة من الجمال، ثم قال: إني أُدعَى يا سيدتي السير فيليام، وقد أتيت لأعرض عليك خطة.

– قُلْ ما تريد، ولكن احذر أن تحدِّثني بأحاديث الغرام، فإذا كان هذا مرادك، فإني أسألك تأجيله إلى يوم آخَر، لما أنا مصابة به من ألم الرأس.

– أعلم ذلك، فإن ألم الرأس مسبَّب عن قلة النوم، وإن الخيبة في الحب تعدو إلى الأرق.

– ماذا تعني بالحب والخيبة فيه؟

فأجابها بسكينة: عجبًا! كنت أظن أنك مفتونة بفرناند روشي، وأنك تحبينه حبًّا يوشك أن يكون عبادة.

فارتعشت باكارا، ولكنها تجلَّدَتْ فقالت: إني لا أحب أحدًا أيها الميلورد.

– أنا دون الميلورد يا سيدتي، فإني بارون، ويسرني جدًّا أني خُدِعت.

– نعم أيها البارون، فقد خدعوك.

– ذلك لحسن الحظ.

– ماذا تريد بذلك؟

– أريد أنه لو صحَّ أنك تحبينه وثبت ما أعلمه من ذلك، لَكنتِ الآن بمنتهى التعاسة.

فاصفرَّ وجهها وقالت له بعظمة: لماذا أكون تعيسة؟

– لأنه يسوء المرأة أن يفر الرجل الذي تحبه من قبضتها.

فهاجت عواطف الكبرياء من باكارا وقالت: إن المرأة التي تكون مثلي تجفو الرجال، وليس الرجال الذين يجفونها.

– إن الرجل لا يترك امرأة وافرة الجمال مثلك إلا عندما يريد أن يتزوج. فرناند سيتزوج.

فوقع هذا الإنذار عليها وقوع الصاعقة، فصاحت صيحة يأسٍ، وسقط رأسها على الكرسي من الكآبة.

– ها قد اعترفتِ أخيرًا أنكِ تحبينه.

– نعم، لم يَعُدْ من مجال للكتمان، فإني أحبه حبًّا مبرحًا لم يَعُدْ لي فيه حيلة إلى الصبر، ولا جرم فهو أول سهم غرام نفذ إلى قلبي. نعم أحبه، وهو لا يتزوج وسأمنعه عن الزواج، ولو أفضى بي الأمر إلى قتل مزاحمتي عليه بيدي.

ثم تأوَّهَتْ، وبدأت تنتحب انتحاب الأطفال.

فقال لها: سكِّنِي روعك يا سيدتي، فإني ما أتيت إلا لمساعدتك وإنقاذك مما أنت فيه.

– كيف تساعدني؟

– انظري إليَّ وتأملي بي، أَلَا ترين من ملاحمي رجلًا يقدر أن يفيدك إذا رضيتِ بي حليفًا؟

– أنت تكون حليفي؟

– أي شيء يمنعني؟

– أنت تخدمني؟

– كل شيء ممكن.

– ولكن ما الذي يدعوك إلى خدمتي؟ ولأية غاية تريد أن تحالفني؟

– من المؤكد أن لي بذلك مأربًا، ولولا ذلك …

وقبل أن يتم حديثة فُتِح الباب ودخلت فاني وأعطت سيدتها رقعة زيارة، أخذتها باكارا وقرأت فيها هذا العنوان:
بيرابو
رئيس قلم التحرير في وزارة الخارجية

ثم ألقتها بجزع إلى أعلى المنضدة وقالت: إني لا أعرف هذا الرجل، فقولي له إني لست في المنزل.

فاضطرب أندريا عندما قرأ الرقعة وقال لها: يجب أن تقابليه.

ثم نظر إلى فاني وقال لها: أدخليه إلى قاعة الانتظار.

فعلمت فاني أن أندريا أصبح الآمِر في المنزل، فامتثلت لأمره وانصرفت.

أما أندريا فإنه عاد إلى باكارا وقال لها: أَلَا تعلمين أن هذا الرجل هو والد هرمين؟

فاختلج فؤادها وقالت: قد ذكرتُ الآن، إن هرمين هي خطيبة فرناند.

– نعم، ولذلك يجب أن تقابليه.

– ماذا يريد مني، وما الذي يدفعه إلى زيارتي؟

– إنه أتى ليتفق معك على أمر شائن، فاصغي إليه واحذري من أن تغضبيه ولا تُنهِي معه أمرًا، بل عديه ولا ضرر من الوعود، وقولي له كي يعود إليك في الغد، وأنا سأختبئ وراء هذا الستار، فأنظر إليه من حين إلى حين.

ثم دعا فاني وأمرها أن تُدخِل بيرابو، وذهب واختبأ وراء الستار.

دخل بيرابو وسلَّم بغاية الاحتشام والاتضاع، وردَّتْ تحيته بعظمة وكبرياء، ثم أشارت إليه بالجلوس، فجلس وقال: أتأذن لي سيدتي أن أحادثها بما أتيت لأجله؟

– قُلْ.

– إنكِ قد علمتِ ولا ريب من رقعة الزيارة مَن أنا؟

فأشارت برأسها إشارة إيجاب.

– إني واسع الثروة، وذو منصب عالٍ في الحكومة.

فقالت بصوت الهازئ: إني أهنئك بهذا المنصب.

– إني أقدر أن أقدِّم للمرأة تقدمات كثيرة، وأن أفيدها فوائد جمة لخطورة منصبي.

فظهرت علائم الحزن على محيا باكارا وتبسمت تبسم احتقار، فأزيح الستار للحال، وظهر منه وجه أندريا، فأشار إليها بما معناه «أنسيت ما أوصيتك به، وهل تريدين أن يتزوج فرناند؟» فغيَّرت ملامحها وظهرت بمظاهر البشاشة والأنس بما تشجع له بيرابو فقال: سيدتي إن لك أختًا حسناء.

– إنك آتٍ لتحدثني بشأن أختي التي علقت بحبها كما يظهر.

– نعم، إني أحبها حبًّا مبرحًا ليس بعده حب.

– أراك تضيع وقتك عبثًا في حبها، فإنها طاهرة الأخلاق حسنة السيرة.

– ولأجل ذلك أتيت إليك.

ونظرت باكارا إلى الستار ورأت أندريا مطلًّا من ورائه، كأنه يقول الزمي السكينة واحذري من إغضابه، فعادت إلى بيرابو وقالت: لا علاقة لي بشئون أختي، وقد قلتُ لكَ إنها حسنة السيرة.

– ومع ذلك إذا أردتِ فربما يتيسر لك أن …

فخطر على بال باكارا أن تبادله أختها بفرناند، وللحال عبق وجهها بحمرة الخجل، ثم استحال ذلك الاحمرار إلى الغضب، وحاولت طرد ذلك الفاسق، فظهر أندريا من خلال الستار وقال لها: إنك إذا طردته فإن فرناند يتزوج بعد ثمانية أيام.

فهدأ روعها وسكن هياجها وقالت: إن أختي بلهاء حمقاء، ولو اتبعَتْ نصائحي لكانتْ الآن على ما أنا عليه من النعيم، ولكني أعود فأقول لك إنها مُطلَقة التصرف، وليس لي علاقة في شئونها.

– وأنا أتوسل إليك أن تمدي لي يد المساعدة، فهل تريدين أن تتوسطي في هذا الشأن؟

فتوقفت عن الجواب ونظرت إلى أندريا، فرأته يشير إليها برأسه قائلًا: قولي نعم.

فأرخت عينيها إلى الأرض من الخجل وقالت: ربما.

– سأتقيد بفضلك إلى الأبد، ولا أجحد نعمتك مدى الدهر، فبالله ألا ما استبدلت الشك باليقين واستعضت عن ربما بنعم.

فنظرت إلى أندريا ورأته يشير إليها بأن تعده، فقالت: دعني أتأمل بذلك مليًّا.

– أيطول زمن الافتكار؟

ونهضت عن كرسيها وهي تقول: عُدْ إليَّ غدًا وسنرى.

فأخذ بيرابو قبعته وودعها وهو يقول: إذن تسمحين لي أن أزورك وسترينها ولا ريب.

– سأراها. عُدْ إليَّ في الغد.

فخرج بيرابو وقلبه يخفق خفوق قلب عاشق في أوائل الشباب، ولم يكد يغادر الغرفة حتى خرج أندريا من وراء الستار، فقالت له باكارا: ما هذه الخيانة التي لا تطاق؟! … أأبيع أختي وأزجها بيدي إلى هاوية الغي والفساد؟! لا، لا. إن ذلك لا يكون ولو هلكت غرامًا. نعم، إن لي قلبًا قدَّ من الصخر إزاء عشاقي، ولكن ذلك القلب يستحيل إلى رقة الهواء وصفاء الماء بإزاء عائلتي التي خرجت عن خطتها بتلك الغواية. ذلك الأب المسكين! كلا إن ذلك لا يكون ولن يكون.

فقال أندريا: اعلمي أنه لا أحد يستطيع حل عقدة الزواج بين فرناند وهرمين غير بيرابو، وأنك ترتكبين أشد الخطأ بمخالفته.

ثم اندفع يحادثها وقد طال الحديث بينهما ساعتين، فلم يُعلَم شيء مما كان بينهما، غير أنه لما خرج أندريا كان مرتفع الرأس وعليه ملامح النصر، فشيَّعته باكارا ورأسها مطرق إلى الأرض والدموع تجول في عينيها. أما سريز الطاهرة النقية فقد كانت مجال بحثهما، وقد عزمت باكارا على تضحيتها ذهابًا مع تيار حبها الفاسد.

(٩) حنة

بزغت أنوار شمس الأحد المنتظر بفارغ الصبر من سريز، فنهضت من فراشها، ورتَّبَتْ غرفتها الصغيرة، وأخذت تشتغل في تزيين ثوبها الجديد إلى أن قربت ساعة الظهيرة فلبسته، وعزمت على الذهاب إلى منزل خطيبها الذي كان ينتظرها مع أمه للذهاب إلى بلفيل على ما قدَّمْنَاه.

وفيما هي تحاول الذهاب فُتِح باب غرفتها ودخلت فتاة قابلتها سريز بمنتهى الاحتفاء والإكرام.

أما هذه الفتاة فقد كانت جارة لسريز، وهي من ذوات النسب والأدب، عاشت في عهد أبيها الكولونيل بالدر عيشة سعة وهناء، إلى أن أحنى عليها الدهر بوفاة أبيها وغادرها يتيمة فريدة، ليس لها مَن يعتني بشئونها غير حاضتنها جرتريدة.

ولم يترك لها أبوها من المال إلا قدرًا يسيرًا يكاد لا يقوم بأودها، ولا ينطبق على اسمه الشريف المنزه عن كل وصمة وشين، فكانت تعيش من ربا ذلك المال على غاية من الاقتصاد، وقد أقلعت عن معاشرة أترابها من ذوات اليسار كي لا يطَّلِعْنَ على ما استحالت إليه حالها من العوز، فتركت قصر أبيها الشاهق واستعاضت عنه بغرفتين صغيرتين بالقرب من غرفة سريز، فألَّفَ بينهما الجوار، وجمعت بينهما صلة الأدب والعفاف، غير أن سريز كانت تعرف حقيقة نسبها وسابق حياتها، فكانت تجلها وتحترمها غاية الاحترام.

وكان اسمها حنة، ولها من العمر ثماني عشرة سنة، وهي على غاية من الجمال تدل ملامحها على أنها من أصل كريم، وهي بيضاء اللون شقراء الشعر ممتلئة الجسم رشيقة القوام، وكل ما بها يدل على جمال نادر المثال.

فلما فرغا من أحاديث السلام قالت لها حنة: إني آتية إليك أيتها الصديقة أسألك قضاء مهمة، راجيةً أن يكون لي منها خير وفائدة، ومأمولي أن تجيبيني إلى رجائي.

– أنتِ يا سيدتي ترجينني بعد ما ثبت لكِ من إجلالي لقدرك واحترامي لمقامك. إني لك بجملتي فمُرِي بما تشائين.

فاحمرَّ وجه حنة وشكرتها، ثم قالت: إن حاضنتي جرتريدة قد شاخت وأضعف بصرها توالي الأيام، وقد خدمتني منذ وُلِدتُ، وما زالت تدأب ساعية في كل ما يئول إلى راحتي، إلى أن أوهى عزمها الكبر، فوجب عليَّ السعي في راحتها؛ إذ هي عندي بمثابة الأم الحاضنة، ولأجل ذلك يقتضي أن يكون لي مال.

– عندي مئتا فرنك وضعتها في بنك الاقتصاد، فإذا شئتِ إني أذهب الآن وأحضرها لك.

– أشكر فضلك، فإني لا أحب كسب المال من هذا السبيل، بل أريد أن أشتغل.

– أنتِ يا سيدتي تشتغلين وأنت فتاة شريفة النسب؟!

– إن الشغل هو الشرف الثاني، ولعله الشرف الحقيقي، فلماذا يخجل منه الأشراف؟ أصغي إليَّ فإني تعلمت في المدرسة الخياطة والتطريز، وقد مهرت فيهما كثيرًا، وإذا كنتِ تحبينني ذهبتِ بي لأحد المعامل لأتفق معه على الشغل فيه أو في منزلي.

– أنتِ تذهبين إلى المعمل سيدتي؟! كلا، إن ذلك لا يوافِق مَن كان في مقامك، وعندي رأي حسن.

– ما هو؟

– هو أني أعرف مخزنًا للتطريز بالقرب من معمل الزهور الذي أشتغل فيه، وإن رئيسة هذا المخزن صديقة لي، فسأحضر لكِ شغلًا منه في كل أسبوع وعندما تنتهين منه أرجعه، فأوفِّر بذلك عليك مشقة الذهاب والإياب، ولا ينالني من ذلك أقل عناء؛ لأن هذا المخزن بجوار مخزن الزهور، وأنا مضطرة إلى الذهاب كل أسبوع.

فعانقتها وهي تقول: ما أشد كرمك! وما أطيب قلبك!

– إذن إنك تقبلين؟

– نعم أيتها الحبيبة، إني أقبل اقتراحك مع الشكر. والآن دعيني أسأل عنك إني منذ أسبوع لم أَرَكِ.

– أنا بخير وعافية، وليس لي ما أخبرك عنه سوى أن ليون قد رقي إلى رئيس، وأظن أنه بعد خمسة عشر يومًا سيتم بيننا عقد القران.

– أهنئك أيتها الحبيبة، وأدعو لك بتمام السعادة؛ لأنك أهل لكل هناء، وقد سررتِني جدًّا بهذا النبأ، حتى إني لا أملك عيني عن البكاء.

– إن هنائي لا يتم ولا يكمل إلا إذا أجبتِني إلى ما سأرجوك به، فإني منذ يومين أتردد في التماس هذا الطلب منك.

– قولي أيتها الصديقة ما تشائين، فلا أخالف لكِ إرادةً، وإني أتوق إلى خدمتك، ولا سيما بعد أن بدا لي منك ما بدا من كرم الأخلاق.

– عفوًا يا سيدتي، فإن ما أحب أن ألتمسه منك هو أني سأذهب اليوم مع ليون وأمه في بلفيل، وما أشد ما يكون سرورنا إذا كنتِ معنا. أقول هذا وأنا التمس العفو عن هذا الطلب؛ لأني لم أتجرأ عليه إلا لما لي عليك من الدالَّة.

– سأذهب معك بطيب خاطر، وسيكون لي من الأنس بينكم أوفر نصيب.

– إذن تنتظرينا في البيت حيث نمر بك جميعنا في الساعة الرابعة.

فأجابتها بالقبول، ولبثت عندها هنيهة، ثم ودَّعتها وانصرفت.

فأفعم قلب سريز الصغير سرورًا بما لقته من مؤانسة حنة، وخرجت من منزلها إلى منزل ليون وهي تغني كما يغرد العصفور على الأشجار أغاريد الصباح.

فأقامت حينًا مع أم ليون، ثم جاء ليون وبرفقته كينيون الذي استوقف سريز على الطريق وحذَّرها من معاشرة كولار لخطيبها، فأخبرته سريز عن قبول حنة بالذهاب معهم، فسُرَّ بذلك وقال: وأنا أيضًا قد دعوت صديقًا لي حسن العشرة مزاحًا اسمه كولار، فسيكون يومنا من أبهج الأيام.

فامتعض وجه سريز وكينيون لذكر هذا الرجل، وبينما ليون يطنب في مديح صديقه طرق الباب ودخل كولار، فسلَّم على الجميع، ثم دنا من ليون وقال: ما أتيت أيها الصديق إلا لأعتذر إليك عن عدم تمكُّني من الذهاب إلى الدعوة التي دعوتني إليها، فإن أبي قد قَدِم منذ ساعة من قريته وقد أصيب بمرض عضال، فاضطررت إلى ملازمته، واغتنمت فرصة رقاده للقدوم إليك في طلب الاعتذار.

ثم ودَّعهم وخرج من المنزل، فركب مركبة سارت به إلى قهوة تُدعَى بقهوة مصر، فنزل ولقي فيها رجلين كانا في انتظاره، فأمرهم بتغيير ملابسهم، ثم غيَّر هو أيضًا زيَّه وركبوا جميعًا في المركبة، وأمر السائق أن يسير بهم إلى بلفيل.

أما ليون وأمه وسريز فإنهم ذهبوا إلى منزل حنة، فوجدوها تنتظرهم ولا شيء يعيقها عن الذهاب وذهبوا جميعًا إلى بلفيل.

(١٠) فاتح الأقفال

بينما كان ليون وأمه والصبيتان ينزلون من المركبة ليسيروا إلى فندق بلفيل، كان ثلاثة رجال مختبئين وراء الفندق يراقبونهم، وهم كولار واثنان من عصابته؛ أحدهما يُدعَى نيكولو، والآخَر فاتح الأقفال، فقال لهما كولار مشيرًا إلى ليون: انظرا هذا الرجل الذي يدخل الفندق مع هؤلاء النساء، وتأمَّلَاه جيدًا، فهو نفس الرجل الذي أتينا لأجله.

فقال نيكولو: حسنًا لقد عرفناه.

وقال فاتح الأقفال: وأنا لم أنسَ حرفًا مما علمتنيه.

فقال كولار: أعِدْ عليَّ ما علمتك لأعلم إذا كنتَ ذاكرًا.

– إني أدخل مع نيكولو ونجلس في القاعة التي يجلسون بها، ثم أتظاهر كأني رأيتُ هذا الرجل فأصبح منذهلًا، ثم أركض إليه وأسلِّم عليه وهو سيدهش ولا ريب لأنه لا يعرفني من قبلُ، فأقول عجبًا أتُنكِر صداقتي أمام السيدات، ألستَ ليون رولاند عاشق باولينا، وإن لك منها ولدين، فيغضب عند ذلك ويحاول الإنكار، فأقول ما بالك تتظاهر بنسيان هذه الفتاة، وقد قلت لك إن باولينا هي الشقراء التي تسكن في شارع التمل، فيشتمني ويكذبني، فألكمه ويفتح باب الخصام، وعلى نيكولو البقية.

قال كولار: حسنًا، واجتهد أن تنجح. وأنت يا نيكولو احذر من الفشل، واجتهد أن تقتله بضربة واحدة، والآن لقد آنَ أوان العمل، وادخلا إلى الفندق، أما أنا فإني أنتظركما في الشارع، وسأهيِّئ لكم سُبُل الفرار إذا دعت الحاجة.

ثم تركهما ومضى، ودخلا إلى الفندق وهما غير مرتابين بشيء، ولكنهما لو انتبها لكانا رأَيَا رجلًا متخفِّيًا مثلهما، كان واقفًا وراء صخر فسمع كل ما دار بينهما وبين كولار، وعندما دخلا في الفندق دخل معهما.

وكان هذا الرجل طويل القامة قوي الأعصاب، بين الثلاثين والخامسة والثلاثين من عمره، وهو بالرغم من تستره بملابس الفَعَلَة كان يُستدَل من يديه على أنه من الأعيان، وأنه لم يلبس هذه الثياب إلا بغية التخفي.

وقد كان شاهد كولار ورفيقيه فارتاب بهم، ولذلك كمن لهم وراء الصخر، وسمع حديثهم دون أن يروه، وعندما دخلا إلى الفندق سار بإثرهما وهو يقول: ستعلمان أيها اللصان على مَن تدور الدوائر، وكيف أن عيون أرمان دي كركاز لا تغفل عن مراقبة الأشرار.

وقد علم القرَّاء ولا ريب أن هذا الشاب لم يكن سوى أرمان دي كركاز الذي كان يتستر كل يوم بأزياء مختلفة، ويطوف جميع أنحاء باريس ليسد عوز المحتاجين، ويكشف ظلامة المظلومين، فتبع ذينك اللصين إلى أن دخلا إلى الفندق.

أما ليون، فإنه دخل إلى قاعة الفندق، ولم يكن جاء إليها أحدٌ بعدُ، وجلس حول منضدة مستديرة، وجلست حنة على يمين أمه وسريز على يسارها بجواره، ولم تمضِ هنيهة حتى دخل نيكولو وفاتح الأقفال، وجلسا حول منضدة بالقرب منهم، فاستاء ليون لما رآه من ملابسهما وخجل أمام حنة.

ثم دخل بعد ذلك أرمان وجلس حول منضدة تجاه ليون وبالقرب من اللصين، فطلب ما يشربه، وجعل يتأملهما بإمعان بما أراب نيكولو، فقال لرفيقه: ما شأن هذا الرجل؟ وما أتى ليعمل هنا؟

– يظهر أنه قوي الأعصاب شديد القوى.

– لِمَ ينظر إليَّ شزرًا كأني عدو له؟

– لينظر كما يشاء، فإن العيون لا تُخلَق إلا للنظر.

وعند ذلك التفت إلى ليون الذي كان يحدق بأرمان فتكلَّف الانذهال، وقال: أهذا أنت أيها الصديق؟

فانذعر ليون وقال: أتكلمني أنا؟

– عجبًا ألَمْ تعرفني؟

– أظن أنك غلطان.

– وأنا لا أظن ذلك، ألست ليون؟

– نعم.

– ليون رولاند؟

– نعم، ولكني لا أعرفك.

فأجابه بوقاحة وهزء: أظن أنك لا تتجاهل عن معرفة صديقك القديم إلا لوجود نساء معك.

– إنك تهين أمي.

فلم يكترث باعتراضه وأتم كلامه فقال: أنسيت خليلتك باولينا التي …

فلم يدعه أرمان يتم حديثه ونهض عن كرسيه، فضغط على عنقه بيدٍ من الفولاذ وهو يقول: خَسِئتَ أيها النذل، فلن تنال مآربك.

فصرخ بصوت مختنق: إليَّ يا نيكولو.

أما نيكولو فإنه للحال أخذ مُدْيَة من المنضدة، وانقض على أرمان يحاول طعنه بها.

وأخذ أرمان من جيبه مسدسًا وصوَّبَه إلى وجه نيكولو، وهو ضاغط باليد الثانية على عنق فاتح الأقفال.

وإشهار السلاح الناري على الشجاع القلب الأَبِيِّ النفس يكاد لا يكون له تأثير، وإذا أُشهِر على لص جبان دنيء الطبع منحط النفس، فهو يرتجف أمامه ويهلع له قلبه من الخوف، وهكذا فإن سلاح أرمان قد أفزع اللص إلى أن انذعر منه، ورجع حتى لصق بالحائط.

فقال له أرمان وكان لم يزل قابضًا على عنق فاتح الأقفال: ألقِ هذه المدية من يدك، واحذر من أن يبدو منك ما يريبني بك، وإلا قتلتك في الحال شر قتلة.

فامتثل نيكولو لهذا الأمر الذي نزل عليه نزول الصاعقة، فقال أرمان لليون: اعلم أن لك عدوًّا ألدَّ، بعث إليك بهذين اللصين ليقتلاك، ولم يأتيا إلى هذا الفندق إلا لهذه الغاية.

ثم قصَّ عليه جميع ما سمعه وعلمه من مباحثتهما مع كولار، وعاد إلى اللصين فقال: إذا كنتما تؤثران الحياة اخرجا من هذا المكان.

فلم يجدَا بدًّا من الامتثال وذهبَا وهما يتوعدان.

ولما خرجا وسكن النساء، ولا سيما حنة التي كان ينظر إليها أرمان بإمعان، جاء ليون فشكره شكرًا جزيلًا، ثم دعاه إلى تناول الغذاء معهم، فحاول أن يرفض وهو يتردد عن القبول، إلى أن صادف نظره نظر حنة، فكانت كأنها تقول له: «حبذا لو بقيت معنا لنفيك حقك من الشكر.» فقبل الدعوة وجلس بينهم.

أما اللصان فإنهما انطلقا والخيبة رائدهما إلى أن لقيا كولار فأخبراه بما كان، فغضب عليهما أشد الغضب لجبنهما، ثم سألهما عن اسم ذلك الرجل الذي رد كيدهما، فلم يعرفاه، قال: إذن أنا أعرف اسمه، اجلسا معي وراء هذه النافذة إلى أن يمر.

وقد طال انتظارهما ساعتين حتى سئموا، ثم سمعوا وقع أقدام، فأطل فاتح الأقفال من النافذة ورجع منذعرًا وهو يقول: هذا هو.

ونظر كولار فرأى أرمان وقد تأبَّطَتْ حنة ذراعه، ووراءهما ليون وأمه وسريز، فصاح صيحة انذهال وقال: هذا أرمان!

(١١) ليلة الرقص

لم يكد كولار يتيقَّن أن الذي أحبط مساعيه هو أرمان، ولم يكد يراه حتى ترك رفيقَيْه، وهرول مسرعًا إلى الشارع فركب مركبة، وأمر السائق أن يسوق الجياد خببًا إلى سانت لازار نمرة ٧٥، أي إلى بيت أندريا، فسارت به الجياد تنهب الأرض حتى بلغت المنزل بنصف ساعة، فوقفت ونزل كولار ورأى أندريا في مركبته مستعدًّا للسير، فأوقفه للحال وقال له: يجب أن ترجع إلى المنزل.

فقال له أندريا: ماذا حدث؟ وما الذي يضطرني إلى الرجوع؟

– سأخبرك متى اختلينا.

ورأى أندريا من ملامح كولار ما يدل على الاهتمام.

فامتثل ودخلا إلى المنزل، ولما خلا بهما المكان قال أندريا: أخبرني الآن ما الذي طرأ؟

– حدث ما ذهب بأمانينا أدراج الرياح.

– عن أي أمنية تعني؟

– عن الإرث فإن أرمان يقتفي أثرنا.

فاصفرَّ وجه أندريا من الغضب، وضرب على المنضدة بيده وهو يقول: إذن فهو يريد أن يموت.

ثم هدأت سورة غضبه، فحدَّثَه كولار بجميع ما كان في بلفيل، ثم قال له بعدما انتهى من سرد تلك الحادثة: إنك تعلم أن ليون وخطيبته يعرفان فرناند، وهما الآن يعرفان أرمان، وأقل كلمة تحدث منهما بشأن تريزا ولو على سبيل الاتفاق، تمكِّنه من الوقوف على صاحب الإرث وتحبط جميع مساعينا، أَلَا تعلم أن فرناند أخبر ليون عما دار بين تريزا وزوجها من الحديث يوم كلمته بشأن زواج ابنتها هرمين بفرناند، وكيف أن هرمين علمت أنها لم تكن ابنة بيرابو، أيبعد أن يخبر ليون أرمان عن ذلك كما أخبرني، وأن يعلم أن هرمين ابنة كرماروت كما علمنا نحن؟

فأجابه أندريا ببرود: وأنا من رأيك.

– أهكذا تجيبني، وأنا أكاد أجن خوفًا من الفشل؟

فأجابه وهو يبتسم تبسُّمَ احتقارٍ: كنتُ أظنك أشد ذكاء مما أراك.

– ولماذا؟

– لأنك فقدت حواسك عند أول حادثة، فما يكون من أمرك لو أُصِبْتَ بأمر جلل؟ فاعلم الآن أن مثل أرمان الوصي على هذا الإرث مثل الراعي، ومثل الإرث مثل القطيع، ومثلنا مثل الذئاب، فنحن نحاول افتراس هذا القطيع، وهو يحاول الدفاع عنه، فالقتال بيننا متوقَّع في كل حين. وقد قلتَ لي إن أرمان له معرفة بليون؟

– نعم.

– ولكن أرمان لم يتعرَّف بعدُ بفرناند؟

– هذا ممكن.

– إذن يجب أن نمنع واسطة التعارف بينهما.

– كيف ذلك؟

– ذلك أمر هين، ولا ينقضي هذا اليوم حتى أجد طريقة موافقة.

– ولكن إذا أجهزنا على ليون، فإن سريز تخبر أرمان.

– سنجد طريقة لسريز أيضًا.

– سريز؟ أيخطر على بالك قتل سريز أيضًا؟

– كلا، ولكننا سنرجو المسيو بيرابو أن يحتفظ بها.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك إذا بقيت على حبِّ الفتاة فسنرى.

– ولكن فرناند … فإن أكثر أصحاب ليون يعلمون علاقته معه، وله مقام جليل عندهم لاستخدامه في الوزارة، فإذا فُقِد أَلَا يسأل أصحاب فرناند عنه؟

– ربما، ولكن طِبْ نفسًا، فسينال فرناند حظه من الشَّرَك مساء غد، والآن أجبني هل استأجرت لي منزلًا في الشانزليزه؟

– نعم، وهو منزل وفق مرادك.

– حسنًا، فسأراه صباحًا لأني مضطر في هذه الليلة أن أذهب إلى حفلة راقصة في الوزارة الخارجية، حيث أتعرف بوالد هرمين.

– إذن ستراه في هذه الليلة؟

– نعم، سأراه مع امرأته وابنته، والآن فإني ذاهب لأرى باكارا، فارجع إلى هنا في الليل، وانتظرني إلى أن أعود مهما تأخَّرْتُ.

ثم افترقا، فذهب كولار بشأنه وأندريا إلى باكارا، فلما وصل إلى منزلهما ورأته فاني أسرعت إلى سيدتها وقالت: سيدتي هو ذا الإنكليزي قد عاد، أتسمحين له بالحضور مرتين في يوم واحد؟ فقالت لها باكارا بقسوة وجفاء: ليس هذا من شئونك، فاذهبي وأَدْخِلي إليَّ السير فيليام في الحال. وبعد هنيهة دخل أندريا فجلس بالقرب منها، وقال لنتحدث الآن.

– بماذا؟

– أصغي إليَّ، إنك كنتِ صباحًا شاحبة اللون مضطربة، والآن فإنك على عكس ما كنتِ عليه، والسبب في ذلك أنك كنتِ في الصباح تحبين فرناند حب يأس، وأنت قانطة من قربه، والآن فإنك تحبينه حب رجاء، وتأملين أنه يحبك ويكون بقربك بعد حين.

– ربما.

– والآن تنتظرين غدًا زيارة بيرابو.

– ذلك لا ريب فيه، فهل امتنع عن الحضور؟

– كلا، ولكني أتيتك بخير علاج ينزع به من قلب هرمين حب فرناند.

فبرقت أسرة عينيها من السرور، وقالت: أصحيح ما تقول؟

– نعم، وسيكون فرناند بعد يومين منطرحًا على قدميك.

فطار فؤادها من الفرح وقالت: قُلْ ماذا تريد أن أضحي لأحظى بهذا النعيم.

– لا أريد سوى أن تجلسي على هذه المنضدة، وتكتبي ما أمليه عليك. فامتثلت باكارا وأملى عليها أندريا ما يأتي:

حبيبي فرناند

هي ذي أربعة أيام لم أَرَك بها، وأنا أحسبها أربعة أجيال، أقول أربعة أجيال يا حياة دمي ويا ملاكي المعبود؛ لأنك تعلم أن حبيبتك باكارا لا تعيش إلا لأجلك كما أنك لم تعش إلا لأجلها أيها الناكث العهد، قبل أن تلهو عنها بشأنك الجديد كما تقول. ولا جرم، فهذه طباع الرجال الذين يحبوننا حبًّا يكاد يكون عبادة، ثم يصادفون ابنة ذات حشمة كما يقولون تتبسم بابتسام البلهاء، ولها من المهر مائتا ألف فرنك، فيميلون إلى الزواج بها رغبة في مهرها دونها.

وأظن أنك عندما ترتكب هذه الهفوة، وتبلغ الغاية من هذه السياسة الخرقاء، سياسة المطامع السافلة، ستجد واسطة لتقدمني إلى امرأتك، فإن البارون يريد أن يتزوج بي، فسأكون أنا امرأة محتشمة أيضًا، وأقسم لك بكل ما هو عزيز لديَّ أني سأحضر عرسك من غير بد؛ لأنه لا أحب إليَّ من أن أراك بالملابس الرسمية متأبِّطًا ذراع امرأتك المحتشمة.

إنك لم تتزوج بعدُ أيها القاسي، وأراك تهملني قليلًا، وإنك أقسمت لي أنك لن تحب سواي في هذا العالم، فهذه هي أيمانك! وماذا يمنعك من أن تزور في كل يوم حبيبتك باكارا التي ستحافظ على حبك إلى آخِر نسمة من حياتها؟

إني أكاد أجن من غيرتي، فاعلم أنك إذا لم تزرني في هذه الليلة فسيكون بيني وبين خطيبتك ما تكرهه.

يدي في يديك، وشفتاي على شفتيك.

باكارا

فلما انتهت من كتابة الرسالة، نظرت إلى أندريا كأنها تسأله عن الغاية من هذه الرسالة؟

فقال لها وهو يبتسم: ألَمْ تفهمي إلى الآن المراد من هذه الكتابة؟

– كلا، وقد ابتدأت أن أرى نفسي ألعوبة بين يديك تديرها كيف تشاء.

– ستفهمين كل شيء، فاكتبي الآن العنوان هكذا:
إلى المسيو فرناند روشي
في شارع ماريس
فكتبت. قال: اكتبي أيضًا على هذه الرسالة هذه الحاشية:

إن خادمتي فاني ستحمل إليك هذا الكتاب، فاحذر من أن تغازلها، فإنني وإنْ أكن على ثقة من مداعبتك لها كما أكَّدوا لي، فلا أريد أن أصدق أنك تتدانى إلى حب خادمة غرفتي … آه من الرجال!

فعندما انتهت قال لها أندريا: والآن أيتها العزيزة إنك لا تفهمين المراد من هذا الكتاب إلا غدًا، أي عندما يقع في يد هرمين.

– آه، لقد فهمت كل شيء الآن، ولكن مَن الذي يوصله إليها؟

– أبوها بيرابو.

– هو بعينه؟

– أتريدين إذن أن نبيع سريز لهذا الكهل بغير ثمن؟

– هذا أكيد.

– إن فرناند سيتناول الطعام غدًا عند رئيسه، وبعد انصرافه يجدون هذا الكتاب على منضدة، أو على بساط الغرفة، فيفتحونه ويقرءونه وهو كافٍ لنزع حب فرناند من قلب هرمين إلى الأبد.

– هذا لا ريب فيه، ولكن أتظن أن بيرابو يقبل بهذه الخيانة؟

– يقبل بكل شيء لأنه يحب سريز، والآن اسمحي لي أن أذهب إلى منزلي؛ لأنني أريد أن أستعد للحفلة الراقصة التي كما أخبرتك سأتعرف فيها ببيرابو.

– إذن، فهو لا يحضر في هذا المساء؟

– كلا، ولكنه سيأتي غدًا من غير بد.

– وعندما يأتي، فماذا ينبغي أن أعمل؟

– تُطلِعيه على الرسالة.

– وبعد ذلك؟

– تقولين له إنك تحبين فرناند، وإنه إذا سمح بزواجه بابنته فهو لا يرى سريز على الإطلاق، ثم تعطينه الرسالة وتقولين له أن يجتهد في أن تطَّلِع عليها هرمين، وأن تكتب لخطيبها بعد ذلك سطرين بخطها يشيران إلى انحلال عقد الخطبة بينهما، وتعديه أنه متى أتم ذاك تجمعيه بسريز.

– أتظن أنه يقبل؟

– لا أظن بل أؤكد، وسترين غدًا يكون. ثم ودَّعها وانصرف.

وبعد ساعتين ذهب إلى حفلة الرقص، فعرَّفه الوزير بجميع مَن وجد في تلك الحفلة من الأعيان، وعرفه الجميع باسم السير فيليام، وكثر التحدُّث بشأنه، وقيل إنه راغب في الزواج، فجعلت الأمهات تتهافت وتتنافس في إكرامه، ثم عرَّفه أحد العاملين في الوزارة بالمسيو بيرابو، وتعرَّف بواسطته بهرمين، فرقص معها مرتين، وبذل قصارى جهده في مرضاتها حتى أُعجِبَتْ بجماله وأدبه وحُسْن عشرته، وعند منتصف الليل ترك الحفلة وذهب إلى منزله وهو يقول: إنها جميلة، فإذا وُفِّقْتُ إلى الحصول عليها وعلى ملايينها أكون من أسعد البشر.

(١٢) الرسالة

إن بيرابو كان رجلًا شحيحًا مفرطًا في محبة الذات، وقد أثَّر عليه كثيرًا احتقار امرأته له، وما رآه من كرم هرمين يوم رفضت حقها من المهر بمنتهى العظمة والجلال، غير أن حبه للمال أنساه كل ما لقيه من الإهانة، فصادق على زواج هرمين بفرناند، وجعل من ذاك الحين يبالغ في إكرام فرناند، ويزيد من ملاطفته ومؤانسته.

وفي اليوم الثاني من اتفاقه مع باكارا، وأخذه منها تلك الرسالة التي أملاها أندريا، ذهب إلى الوزارة حسب عادته، ودعا فرناند، فلما أتى قال له: إنني أحب أن أُطلِعك على مسألة سرية سأكشفها لك، ولكني قبل أن أنسى أقول لك: إن امرأتي وهرمين تنتظرانك اليوم للغذاء.

فاختلج فؤاد فرناند من الفرح، وظهرت على محياه علائم السرور.

فقال بيرابو: وإنهما بعد الغذاء يذهبان لحضور تمثيل رواية جديدة دُعِيتا إليها، وحبذا لو أقمت مقامي ونبتَ عني بمرافقتهما.

– إنني رهين أمرك، ولا أحب إليَّ من الرضوخ والامتثال لإرادتك.

– أشكر فضلك، والآن فأصغِ إلي، فإنني مُطلِعك على كل أمري، ومعترف لك بما يحسبه البعض ذنبًا من أشد الذنوب. نعم أيها الصديق، وربما كان ذاك ذنبًا، فإن مَن تجعَّدَ جبينه وغارت وجنتاه وجحظت مقلتاه فقد فات حد الصبا، ولكن إذا شاب رأسي فإن قلبي لم يشب، وأنا الآن عاشق مفتون.

ولم يطق فرناند أن يملك نفسه، وقال له بدهشة واستغراب: أنت يا سيدي تعشق؟

– نعم، فلا تقطع عليَّ الكلام، إنني أحب كما يحب الفتى وهو في العشرين من عمره، وأرجو أن لا تخونني في سري.

– معاذ الله يا سيدي أن أخونك في سرك، فقُلْ ما تريد.

– لقد بدأت بإقراري، فوجب عليَّ أن أبلغ به إلى النهاية. أقول إن التي أحبها فتاة في مقتبل شبابها لم تَرَ عيناي أجمل منها صورةً ولا أبهج منظرًا، ولقد بلغت من الجمال ما يفوق حد الوصف، فكأنها خُلِقت كما اشتهتُ، ولذلك فُتِنتُ بها، ولو تراها رؤيتي لهِمْتَ بها نفس هيامي.

فتبسَّمَ فرناند تبسُّم ازدراء، وقال: ليسمح سيدي أن أسأله إذا كان هذا الحب بل هذا الهيام متبادَلًا.

لا أعلم شيئًا من ذاك، غير أن مَن بلغ سن الكهولة يغض الطرف ويتسامح في هذه الشئون، والذي أعلمه أنني أحب هذه الفتاة حبًّا يضيع صوابي ويعيقني عن واجباتي، فإن رئيسنا سيُحيِي في هذا المساء ليلة أُنْس، ولا أجد بدًّا من الذهاب بنفسي أو إرسال مَن ينوب عني، وقد علمت الآن أنني أؤثر الملتقى بتلك الفتاة على جميع الحفلات، وعلى قضاء كل ما يدعونه بالواجبات.

– إذن فسأذهب من قِبَلك، وأعتذر عنك.

– حسنًا، ولكني لا أحب أن تعلم امرأتي وابنتي شيئًا من ذلك، بل أود أن تعلما أنني ذهبت إلى تلك الحفلة.

– ماذا تريد أن أفعل؟

– أريد أن ترافقهما إلى التمثيل، وبعدها ترافقهما معتذرًا أن أحد أصدقائك عازم على السفر في الغد، وأنك ذاهب مع زمرة من الأصدقاء إلى إحياء ليلة وداعٍ عنده، ثم تذهب إلى منزلك فتلبس ملابسك الرسمية، وتعود منه إلى منزل الرئيس فتنوب عني في حضور هذه الحفلة.

فأجابه فرناند بالقبول وهو شديد الأسف لاضطراره إلى البعد عن هرمين في هذه الليلة، ثم غادره وذهب إلى هرمين، فقابلته بمنتهى البشاشة والحنان، وذهبوا جميعًا إلى قاعة التمثيل، وعادوا منها في الساعة الخامسة، واستأذن فرناند منهما على الشكل الذي اتَّفَق مع حميه، ومضى إلى منزله.

أما بيرابو فإنه عاد إلى المنزل في الساعة السادسة، وبعد أن تناولوا الطعم دخلوا جميعًا إلى قاعة البيانو، وجلست هرمين تعزف على تلك الآلة أشجى الأنغام، وجلس بيرابو بالقرب منها وهو يتكلَّف عدم المبالاة، أما تريزا فإنها صرفت اهتمامها إلى إصلاح نار المستوقد، وفيما هي تنحني لأخذ الملقط، عثرت برسالة مفتوحة فأخذتها دون أن تنظر إليها وأعطتها لزوجها وهي تقول: إن هذه الرسالة لكَ ولا ريب. فأخذها بيرابو وقرأ بصوت عالٍ هذا العنوان: «إلى المسيو فرناند روشي» ثم قال: إن هذه الرسالة لفرناند وليست لي، وقد سقطت منه دون أن ينتبه إليها.

أما هرمين، فإنها لم تكد تسمع اسم فرناند حتى تركت البيانو، وتقدَّمَتْ من بيرابو يدفعها الشوق إلى الاطِّلَاع على هذه الرسالة.

وقال بيرابو وهو يتكلف السذاجة: إن هذا العنوان غريب في بابه، ويظهر أنه مكتوب بيد امرأة، بدليل هذه العبارة المكتوبة بعد العنوان، وهي «بواسطة خادمة غرفتي». فارتعشت هرمين واحمرت وجنتاها، ثم استحال ذلك الاحمرار إلى اصفرار، وجعلت تختلج، وقد حدَّثَها قلبها بمصاب جلل.

أما بيرابو فإنه تظاهَرَ أنه يقرأ الرسالة بغير اهتمام كمَن يريد أن يقف عرضًا على علائق صهره، ولكنه ما لبث أن قرأ سطرين منها حتى صاح صيحة انذهال وإنكار، وقرب من النور ليتم قراءة الرسالة بجلاء.

وعندما فرغ من تلاوتها تكلَّف الانفعال، ودنا من امرأته التي كانت واقفة تراقب ملامح زوجها وترتعش من الخوف، فقال لها: هذه الرسالة من باكارا المومس البغي الشهيرة، مرسلة إلى الذي أردتِ أن تصاهريه، فأهنِّئك بهذا الصهر الفاضل، وأرجو أن تقرأي هذه الرسالة كما قرأتها.

فأخذت تلك الأم المسكينة تقرأ هذه الرسالة التي خطتها يد الزور والباطل، والتي أُهِينت فيها ابنتها أقبح إهانة، ولم تبلغ إلى آخِرها حتى صرخت صراخ اليأس وأُغمِي عليها، وأسرع زوجها إلى مساعدتها، وأخذ يصيح ويدعو الخدم، ويكثر من الجلبة والاهتمام ليَدَع وقتًا لهرمين كي تطَّلِع هي أيضًا على الرسالة.

أما هرمين فإنها أخذت الرسالة وقرأتها إلى آخِرها بغاية السكينة والهدوء، وبعد أن أتمت تلاوتها جعلت تنظر إلى أمها وإلى بيرابو نظرةَ يأسٍ وهي لا تنبس ببنت شفة ولا تذرف دمعة، إلى أن أفاقت أمها من إغمائها، فعانقتها عناقًا طويلًا والدموع تنهل من عينيها كالمطر، ثم نظرت هرمين إلى بيرابو وقالت له بصوت متهدج كمَن يجهش للبكاء: إنك سترجو ولا ريب المسيو فرناند أن ينسى ارتباطنا السابق.

فأجابها بيرابو وهو يتصنع الغضب: إذا جسر هذا التعس على الرجوع إلى هنا تلقَّى ما هو أهل له.

– سكِّنْ جأشك يا أبي، فإن المسيو روشي لن يكون بعلًا لي.

ثم مشت بعظمة إلى المنضة وكتبت ما يأتي:

سيدي

لقد طرأت حادثة لا أجد حاجة إلى ذِكْرها ألجأتني إلى العدول عن اتفاقنا السابق، وإنني سأدخل الدير بأقرب حين، فأرجو أن تنقطع عن زيارتنا فإنها ستكون بغير فائدة.

وبعد أن وقَّعَتْ على هذه الرسالة، أعطتها لبيرابو فقرأها وقال: لقد أحسنت، وأنا سأرسلها إليه في حينه. ثم قال في نفسه وقد كاد يطير من الفرح: بشراي، فإن سريز هي لي. وبعد ذلك خرج من المنزل والرسالة في جيبه، فركب مركبة وقال للسائق: أسرع بي إلى شارع مونستي — أي منزل باكارا.

(١٣) فاني

بينما كان بيرابو قادمًا إلى منزل باكارا، كانت باكارا مختلية مع أندريا في غرفة صغيرة كانت تعدها لمقابلة أصدقائها المخلصين، وهي فيها بمأمن من أن تسمع حديثها فاني، التي كان من عادتها أن تسمع كل محادثات سيدتها بوقوفها على أبواب الغرفة التي تقابل فيها زوَّارها.

وكانت باكارا ساعتئذٍ مضطربة الفكر صفراء الوجه، والدمع يترقرق في عينيها. أما أندريا فكان هادئًا ساكنًا، يبسم من حين إلى حين ابتسام الهزء والسخرية، وقد دار بينهما الحديث الآتي:

قالت باكارا: أيبلغ بي الحب إلى هذا الحد من الدناءة، فأبيع أختي بيع السلع؟

– لا يغرب عنك أيتها العزيزة أن الإنسان في هذا العالم لا يربح شيئًا دون أن يخسر ما يقابل ذاك الربح، وأن بيرابو سيفرق بين ابنته وبين فرناند لأجلك، أليس من العدالة أن يناله ما نالك من الفائدة؟

– ولكنها أختي التي سأضحيها.

– إنك لا تضحينها، بل تعملين لسعادتها ونعيمها.

– إنها نقية طاهرة لا ترغب في معيشة البغي والفساد، فهي تريد أن تتزوج.

– لا بأس، فإنها ستكون بعد حين من الزمان من أسعد النساء، وسيكون لها قصور وخيول ومركبات كما لك الآن، أليس ذاك خيرًا لها من أن تشتغل الليل والنهار لسد عوزها، وأن تتزوج برجل عامل قذر الملابس، خشن اليدين، يسومها الخسف والعذاب وهوان العيش؟ ثم إنها بعد أن تقيم زمنًا يسيرًا مع بيرابو ريثما يتم مأربك من فرناند تنفصل عنه، وتعاشر شابًّا غنيًّا ذا ثروة واسعة ينفق عليها بكرم وسخاء، فلا يمضي عليها العام حتى تغدو في أحسن حال. والآن فإن الساعة بلغت الثامنة والنصف، وإن بيرابو يكون ولا ريب قد تمَّم حيلته، فاثبتي الآن في عزمك، وإلا فإني أذهب إلى هرمين وألقي الحجب بينك وبين فرناند، فلا ترينه إلى الأبد.

فأحنت باكارا رأسها ولم تُجِبْ بكلمة.

قال لها: قومي إلى المنضدة، واكتبي ما أمليه عليك.

فامتثلت وكتبت بإملائه ما يأتي:

يا أختي العزيزة

إنني في أشد موقف الخطر، فإذا لم تسرعي إليَّ فأنا هالكة لا محالة، ولا تسمح لي الحال بأن أذهب اليك ولا أن أقصَّ عليك ما أنا فيه وما أنا عليه من الاضطرار إلى نصرتك، ولكني أُعلِمك فقط أن تأخرك عن الحضور ينتج عنه خطر على مستقبلي وعلى حياتي؛ فأسرعي أيتها الأخت العزيزة بالذهاب حين اطِّلَاعك على الرسالة إلى شارع الحية نمرة ١٩، واسألي عن مدام كوكليت، وقولي لها إنك آتية من قِبَلي، وحينئذٍ تعلمين ما الذي يجب أن تفعليه لإنقاذ أختك.

باكارا

ولما انتهت من كتابة الرسالة سقط القلم من يديها، وجرى الدمع في عينيها وهي تقول: مسكينة أختي.

وفيما أندريا يلاطفها ويسكن من شجنها، إذ قرع جرس الباب الخارجي فقال: هذا هو بيرابو.

فنهضت باكارا لتذهب إلى غرفة الاستقبال العمومية، فقال لها أندريا: إذا كان القادم بيرابو اعلمي منه أولًا ما حدث، ثم ارجعي إليَّ قبل أن تعديه بشيء.

فمسحت عن خديها آثار الدموع، وأصلحت شعرها، ثم دخلت إلى الغرفة، وأمرت فاني بإدخال الزائر، فدخل وكان بيرابو.

وقد دخل إليها وعليه ملامح الفوز، وحيَّاها ببشاشة واحتشام، ثم أعطاها الرسالة التي كتبتها هرمين إلى فرناند، وقرأتها بسرور لا يُوصَف، وعندما انتهت إلى آخِرها قالت بصوت منخفض: إنه لن يتزوَّج وقد قُضِي الأمر على وفق مرادي.

أما بيرابو فإنه انتظرها إلى أن فرغت من القراءة، فقال: والآن يا سيدتي، أَلَا تجرين شيئًا لأجلي؟

ولم تجبه بشيء بل قالت له: اصبر وانتظرني قليلًا إلى أن أعود إليك.

ثم تركته ومضت إلى أندريا وأخبرته بما كان بينهما، وأعطته الرسالة، فتلاها مرارًا وهو يقول: قد تمَّ الأمر على أكثر ما كنَّا نرجو، وهو فوق المأمول.

ثم نظر إلى باكارا وقال لها: والآن أيتها العزيزة، اذهبي إلى بيرابو وقولي له أن يذهب في الساعة العاشرة إلى شارع الحية نمرة ١٩، وأن يسأل هناك عن مدام كوكليت، وأن يعتمد عليها بالحرص على سريز.

– أهذا كل ما تريده؟

– نعم، وحذِّريه أيضًا من أن يبوح بأمرٍ لفرناند إذا سأله عن السبب في قطع العلائق وعن رسالة هرمين، وعندما يذهب ارجعي إليَّ لأُطلِعك على ما يجب أن نصنعه بهذه الرسالة، واعلمي أنك إذا صبرت وعقلت، فإن فرناند يكون عندك ولا يخرج إلا بأمرك.

فخرجت باكارا والفرح ملء فؤادها، أما أندريا فإنه نادى فاني وقال لها: اركبي في مركبة سيدتك وخذي هذه الرسالة إلى أختها سريز، وإذا سألتك عنها لا تجيبي بشيء، بل قولي إنها في أشد حالات القلق، وخذي هذه الدنانير واستعيني بها على حالك.

وبعد ذلك ذهب أندريا من منزل باكارا، وأمر السائق أن يسير به إلى شارع الحية نمرة ١٩.

(١٤) بيرابو

أما فاني فإنها ركبت مركبة سيدتها، وسارت بها إلى سريز، وكانت سريز قد قضت عدة ساعات من النهار في منزل صديقتها حنة، وأحبَّتْ أن تستعيض عما أضاعته من الوقت في النهار بالشغل في الليل، ولما دخلت فاني رأتها منكبة على شغلها تعمل بمزيد الرغبة والاجتهاد.

وانذهلت عندما رأت فاني قادمةً إليها في مثل هذه الساعة، ولكنها لم تلبث أن قرأت رسالة أختها حتى استحال انذهالها إلى حزن عميق وقلق عظيم، وقالت: باللهِ قولي ما أصاب أختي؟

– لا أعلم، ولكنها كانت شديدة الاضطراب عندما سلَّمَتْني هذه الرسالة، حتى إني خشيت عليها من الجنون.

ونهضت سريز ولبست ثيابها بمنتهى السرعة، وقالت لفاني: أسرعي إليها وأخبريها عن ذهابي.

ثم خرجت من المنزل، وذهبت إلى أقرب محل تجتمع فيه المركبات، واستأجرت واحدة منها، وقد أنِفَتْ من الركوب في مركبة أختها، وقالت للسائق: أسرع بي إلى شارع الحية نمرة ١٩.

وكان قلبها يخفق وهي موجسة أشد الخوف على أختها، إلى أن بلغت بها المركبة إلى ذلك المنزل، فطرقت الباب بيد ترتجف ففتح لها، ولما دخلت رأت الظلام سائدًا ولم تجد أحدًا، فقالت بصوت مرتفع: أَلَا يوجد بوَّاب في هذا المنزل؟

وأطلَّتْ امرأة عجوز من أعلى السلم، وبيدها مصباح فقالت: مَن هذا؟

– إني أتيت لأرى مدام كوكليت، فهل هي هنا؟

– نعم أنا هي، اصعدي.

وصعدت سريز وقد اشتدت مخاوفها؛ لخشونة صوت تلك العجوز، ولما رأته من قذارة ذلك المكان، حتى وصلت إليها فقالت: سيدتي، إني أتيت من قِبَل أختي باكارا.

واستحال عنف العجوز إلى الرقة والحنان، وقالت لها: اتبعيني.

ثم فتحت بابًا كان مقفلًا، ودخلت منه في رواق طويل مظلم، حتى انتهت منه إلى غرفة ضيقة ليس بها من الأثاث غير مقعد قديم وكرسي طويل ومنضدة عليها قنديل من النحاس، وكل ما فيه كان يحمل على الريبة، ودخلت إليها، وقالت لسريز بصوت تكلَّفَتْ فيه جهد اللطف: ادخلي أيتها الحبيبة.

وامتثلت سريز، وجعلت تراوح نظرها بين تلك الغرفة، ووجه تلك العجوز، وهي تستغرب كيف أن أختها التي تعيش بمنتهى البذخ والسعة يكون لها علاقة واتصال بمثل هذ المرأة وفي مثل هذا المنزل.

وقالت لها العجوز: إنك آتية من قِبَل باكارا؟

– نعم، إنها أختي.

– حسنًا، اجلسي.

– سيدتي إن أختي قد كتبتْ لي أنه يجب أن أجيء إليك، وأني أنا وحدي القادرة على إنقاذها مما هي فيه.

– هذا لا ريب فيه، اجلسي قليلًا ريثما يأتي الذي سيحدِّثك بشأنها، فقد آنَ له أن يحضر.

ثم وضعت المصباح الذي بيدها على المستوقد، وخرجت قبل أن تدع وقتًا لسريز أن تسألها وأوصدت الباب.

وجلست سريز وهي عرضة للانذهال، وكانت تنظر إلى تلك الغرفة، وتتصور تلك العجوز، وتتذكر رسالة باكارا، وتتأمل بذلك السكون السائد في هذه الغرفة التي لم يكن يُسمَع بها غير دقات الساعة وخفقان قلبها، وكادت تجن من الخوف، ولم يطل انتظارها إلى الساعة العاشرة حتى سمعت حركة من ورائها، والتفتت فرأت بابًا من الورق لم تكن نظرته قبلُ قد فُتِح ودخل منه رجل وأوصد الباب من ورائه، ثم دنا ومد إحدى يديه إليها للسلام بمنتهى البشاشة، ورفع بالثانية قبعته التي ظهر من تحتها تجعُّد جبينه، ولم تزدها هذه البشاشة غير قلق، ورجعت خطوة إلى الوراء، وهي تقول: أأنت هو الرجل الذي أنتظره؟

– نعم.

ثم أخذ بيدها وقال لها: تفضلي بالجلوس لنتحدث.

وسحبت يدها من يده، ولبثت واقفة وقالت: إن أختي باكارا …

– نعم، وهي بارعة في الجمال تكاد تضاهيك في محاسنها.

– وقد كتبت لي …

– إني عالم بكل شيء.

– إنها في حالة خطرة …

– خطر شديد.

– وإنه يجب عليَّ أن …

– نعم، إنها تثق بك جدًّا، وتتكل عليك، فهلمَّ واجلسي بالقرب مني لنتحدث في هذا الشأن. هل تخافين مني؟

– لا.

وكانت لا تفهم شيئًا من حديث بيرابو، وكانت شديدة البعد لسلامة نيتها عن أن تسيء الظن بمثل هذا الشيخ، وأن تعلم حقيقة نياته، وامتثلت لإشارته، وجلست على مقعد بالقرب منه، فقالت له بصوت شجي يلين الجماد: أتوسل إليك أن تنقذ أختي.

– هذا لا ريب فيه، وهو غاية ما أسعى إليه، ولكن لنتحدث أولًا بشأنك.

ثم أخذ يدها وحاول تقبيلها.

ورجعت إلى الوراء، وجعلت تنظر إليه بريبة وانذهال.

واقترب منها جيدًا، وقال لها: تفرَّسِي بي جيدًا، ألَمْ تعرفيني؟

فتذكَّرَتْه سريز للحال، وقالت: نعم، أذكر يوم تبعتني إلى منزلي.

ثم نهضت مسرعة وحاولت أن تهرب، ولكنها افتكرت بأختها وقالت في نفسها: إن هذا الرجل لم يتبعني في ذلك الحين إلا لمحادثتي في شأن أختي. فخفَّ ما عندها ولبثت ساكنة لا تبدي حراكًا.

فقال لها بيرابو: يخال لي أني تراءيت لك بمظاهر القسوة، ولا أظن السبب في ذلك إلا تجاوزي سن العشرين، ولكني أوكد لك أنك ستكونين راضيةً عني، وسأتصرف معك بشرف ونزاهة، أصغي إليَّ، إني كثير الوجاهة والمال، وستلقين عندي جميع ما تتوقين إليه من السعادة والنعيم، وإني …

ولم تدعه سريز يتم حديثه، وقد علمت كل شيء حتى خيانة أختها الهائلة، فركضت إلى الباب تريد الفرار، ولكنه كان موصدًا. أما بيرابو فإنه تبعها وحاول أن يضمها إليه، فأفلتت منه وصرخت تستغيث وتقول: إليَّ أدركوني …

ولم يجبها غير قهقهة بيرابو الذي بعد أن فرغ من ضحكه أعاد الكرة عليها، وأخذها بين يديه وضمها إلى صدره، فهَبَّتْ لديها قوة من السماء مما أثار فيها من الغضب، وإن الحدة تضاعف القوى، ودفعته دفعة عظيمة فانطرح على الأرض، وأسرعت إلى المنضدة، وتسلحت بالمصباح النحاسي الذي كان عليها. أما بيرابو فإنه بعد أن نهض من سقطته ورآها وبيدها ذلك المصباح تزيد حنقًا، أحجم عنها، ثم ثارت به عوامل الغرام، وذكر أنه ليس في المكان غير مدام كوكليت التي أعطاها مبلغًا وافرًا من المال، فوعدته بالسكوت والتغاضي عنها، فهجم عليها وهي تصيح وتستغيث.

وفيما هو ماسك بها وهي تدافع عن نفسها بشهامة ويأس، إذ فُتِحَ الباب فجأةً وولج منه رجل، فبدَّلَتْ صراخ اليأس بصيحة الفرح، وقد علمت أن العناية بعثت إليها بمَن ينقذها من هذا الوحش الضاري، ولكن بيرابو لم يتبيَّن وجه هذا الرجل حتى جمد الدم في عروقه، وتمتم قائلًا: السير فيليام!

وكان هذا الرجل هو نفس السير فيليام أي أندريا، فدخل وبيده مسدس أشهره على بيرابو الذي أحنى رأسه عندما عرفه، وهو يكاد يذوب من الخجل، فمشى إليه بعظمة واحتقار، ثم رجع إلى سريز وقال: لا تخشي أيتها الفتاة، ولا بأس عليك، إن الله أرسل إليك مَن يصون طهارتك، وينقذك من أيدي الأشرار.

ثم رجع خطوة إلى الباب ونادى قائلًا: كولار.

ودخل كولار في الحال من الباب الذي دخلت منه سريز، فعرفته أنه صديق خطيبها، فركضت إليه واحتمت به كما يحتمي الطفل بأمه في مواقف الخوف.

فقال له أندريا: إني أعهد إليك بإرجاع هذه الفتاة إلى منزلها، وإذا أُصِيبت بمكروه أنت المسئول عنها.

وتكلَّف كولار الانذهال، وقال: إنها بالحقيقة السيدة سريز كما أخبروني.

وقد اكتفى بما ذكره، ولم يوضِّح شيئًا من مقاله، وأخذ بيدها فخرجا من ذلك المنزل وهي واثقة به مزيد الثقة، وداعية للسير فيليام.

(١٥) الميثاق

بعد أن ذهبت سريز مع كولار بقي أندريا مع بيرابو في الغرفة نفسها، وقد لبثا هنيهة ينظر كل منهما إلى الآخَر نظرة الأعداء في ساحة القتال، إلى أن ذهب أندريا وأوصد الباب، وعاد إلى بيرابو فقال: يخال لي يا سيدي أنك المسيو بيرابو رئيس قلم في وزارة الخارجية، وأنك والد السيدة هرمين التي تشرَّفْتُ بالرقص معها ليلة أمس، وإني أراك اليوم في منزل مشتبه تحاول اغتصاب فتاة شريفة وتلقي بنفسك إلى …

فقاطعه بيرابو وقال: ماذا يعنيك؟

– أنا لا يعنيني ذلك أبدًا، ولكن يجب أن تعلم أن هذه الفتاة في السابعة عشرة من عمرها، وأنك قد حاولت اغتصابها قهرًا وغلابًا، وهذا الذنب من أكبر الجرائم وما وراءه غير السجن. أفهمت الآن؟

وأصغى إليه بيرابو وهو ينظر بملء الخوف إلى المسدس في يده، فأتم أندريا حديثه وقال: ولكي تصل إلى هذه النتيجة، أي لكي تبدِّلَ ثيابك التي تدل على منصبك العالي بثياب المجرمين، وتستعيض عن تلك النياشين التي تعلِّقها على صدرك بقيد يوضع في رجلك، ويستحيل اسمك الذي هو رئيس قلم في وزارة الخارجية إلى اسم مجرم مغتصب، لا ينبغي إلا شاهدان يشهدان أمام القاضي على جرمك الفظيع.

– إذن أنت تريد هلاكي؟

– إن أمر هذه الفتاة يهمني، وسأشهد مع كولار على ما رأيناه.

فجثا بيرابو على ركبتيه وقال: رحماك إن كلمة منك تزجني إلى أعماق السجون.

وكان هذا الشيخ وقحًا مع الأدنى متذلِّلًا للأعلى، قويًّا مع الضعيف جبانًا مع القادر، فجعل يتوسل إلى أندريا وهو يبكي بكاء الأطفال، فأنهضه أندريا وقال: كفاك الآن توسُّلًا، واجلس أمامي لنتحدث.

فقال بيرابو وقد استحالت ملامحه من اليأس إلى الأمل: أتعفو عني؟

– كلا، ولكني سأجتهد أن أتفق معك، وإن لم أكن قاضيًا قادرًا على سجنك، ولكن لي الآن سلطان عليك وعلى حريتك وشرفك ومنصبك، وسأرى إذا كنتُ أستطيع أن أحصل على مطلوبي بهذا السلطان.

فظن بيرابو أن أندريا طامع بالمال فقال له: أتريد مالًا؟ نعم، إني لست بغني، ولكن قُلْ كم تريد؟

فهزَّ أندريا كتفيه مبتسمًا وقال: إني أريد أكثر مما تظن.

– إذن أنت تريد خرابي؟

– ليهدأ روعك فلست بحاجة إلى مالك، وأصغِ إليَّ.

فتنهَّدَ تنهُّد الراحة، ونظر إلى أندريا نظرة إجلال، فقال أندريا: إن لك ابنة وقد رقصت معها ليلة أمس.

– نعم.

– وقد عقدت خطبتها إلى فرناند روشي.

– هذا أكيد.

– إنك أخطأت في ذلك، فإن ابنتك قد أعجبتني، ويسرني أن تكون زوجةً لي، والآن أصغِ إليَّ. إن هرمين ليست بابنتك الشرعية، أليس هذا أكيدًا؟

– نعم.

– إنها ابنة رجل لا يعلم اسمه سواي، وقد مات تاركًا ١٢ مليونًا، ولا يعلم سواي أيضًا بوصيته، وقد أوصى بها أن يبحث عن تلك المرأة، فإذا كان لها ولد منه تُعطَى له جميع هذه الملايين، أفهمت الآن؟

فأدرك بيرابو جلية الأمر، وجعلا ينظران إلى بعضهما كلصين دهم أحدهما الآخَر، ثم اضطرا إلى الاتفاق بعد أن كان كلٌّ منهما يريد قتل الآخَر.

فقال أندريا: إنني إذا تزوَّجْتُ بابنتك فستكون هذه الملايين لها، وسيكون لك منها نصيب، وإذا أبيتَ فإني أكتم اسم أبيها فتخسر هذه الثروة الواسعة.

فقال بيرابو وقد هاجت به أطماعه: ستتزوجها من غير بد.

– إذن أصغِ إليَّ الآن، إنك رجل أهل لكل جريمة، كثير الشهوات ولكنك ضعيف العقل، فلا تستطيع أن تخوض في مضمار المآثم بغير مرشد، أما أنا فسأكون ذلك القائد، وستكون آلةً بيدي أديرها كيف أشاء.

– قبلت، وسأكون لك أطوع من العبيد.

ثم اختليا، ولم يعلم أحد ما دار بينهما، غير أنه لما خرج بيرابو كان قد وقَّعَ على شروط تقرر في بعضها موت فرناند.

(١٦) أمين الصندوق

في اليوم الثاني من تلك الحادثة جاء بيرابو في الساعة العاشرة حسب عادته، وكان قد اطمأنت نفسه لوعود أندريا، لا سيما بما يتعلق بسريز، فمما قال له: طِبْ نفسًا يا عماه، فإن اليوم الذي تزف إليَّ ابنتك تجد على باب منزلك مركبة فيها كيس ملآن من الذهب، وبقربه سريز، فتذهب بها إلى خير بقعة خارج باريس، وتقضي معها شهر العسل.

وكان أندريا ضاغطًا على بيرابو بثلاثة أمور: أولها خوفه من تهمة الاغتصاب وهو شر الذنوب، ثم حبه لسريز وما يجد بها من الهيام المبرح، ثم طمعه بملايين ذلك الإرث الخفي. فلما دخل إلى غرفته في الوزارة على ما قلناه دخل إليه فرناند، ولم يكن قد وصلت إليه تلك الرسالة الهائلة، فكان باسِمَ الثغر طلق المحيا، شأن السعداء في الحب، فحيَّا رئيسه وقال: إني آتٍ لأخبرك عن حفلة الأمس.

– عسى ألَّا تكون قد ضجرت، فهل حدَّثُوك عني بشيء؟

– نعم، وقد تملحت لك عذرًا لعدم حضورك.

– حسنًا فعلت، والآن أيها الصديق إنك قد أصبحت من أشد خلصائي، فلا أجد بدًّا من أن أُطلِعك على جميع سري فأصغِ إليَّ. إن هذه الفتاة قد ملكت قيادي، واسترقت فؤادي، وأنا الآن مضطر إلى الذهاب إليها، فأرجوك أن تنتقل إلى غرفتي وتنوب عني في قضاء الأشغال، ثم أعود بعد ساعة، وسأترك لك مفاتيح الصندوق، فإذا جاء أحد ليقبض شيئًا فادفع له من هذا الصندوق.

وكان يوجد في هذا الصندوق اعتياديًّا ألف جنيه بين ذهب وأوراق مالية، واسمه صندوق المساعدات السرية.

وكانت تلك الغرفة التي فيها بيرابو قاعة واسعة، وعلى الباب الخارجي خادمان لنقل أوامره إلى سائر المأمورين، فقال بيرابو لفرناند: اذهب الآن واقفل غرفتك وعُدْ إليَّ.

فامتثل فرناند.

أما بيرابو فإنه فتح الصندوق بمنتهى الخفة، وأخرج منه محفظة خضراء وأخفاها في جيبه، ثم أقفل الصندوق وعاد إلى مجلسه، ولما دخل فرناند أعطاه المفاتيح، وخرج بعد أن أوصى المأمورين أن يعتمدوا على صهره فيما يعرض لهم من الأشغال أثناء غيابه، ثم ركب مركبته وأمر السائق أن يسير مسرعًا إلى سانت لازار.

ولم يَطُلْ مكوث فرناند في غرفة حميه حتى دخل إليه أحد الخادمين فقال له: إن على الباب رجلًا يحمل إليك رسالة.

فأمره بإدخاله فدخل.

وكان هذا الرجل كولار، والرسالة هي الكتاب الذي كتبته هرمين.

فوصل منها إلى أبيها ومنه إلى أندريا الذي عهد إلى كولار بإيصاله، ففضَّ فرناند الرسالة ولم يكد يأتي في تلاوتها على آخِرها حتى امتقع لون وجهه، وأحس أن الأرض أعقبت عليه، وكان كولار قد قال له: إن امرأتين إحداهما كهلة والثانية صبية قد كلَّفَتَاه بإيصال هذه الرسالة. فعلم أنهما تريزا وهرمين، ثم قرأ الرسالة مرة ثانية، فأضاعت رشده ونسي موقفه، فخرج من تلك الغرفة مهرولًا بغير قبعة وبغير رداء، وهو يرجو أن يراهما على الطريق، ولم يكن معه غير مفاتيح الصندوق.

مضى على ذلك ساعة ولم يَعُدْ فرناند، وقد عاد بيرابو ولم يجده، فتكلَّفَ الانذهال ودعا بالخادم فقال له: أين فرناند؟

إنه ذهب بعدما ذهبت.

– عجبًا! أيذهب قبل أن أعود؟

– أظن أنه في غرفته؛ لأن قبعته لا تزال هنا.

وجعل بيرابو يبحث عنه في جميع الغرف، ثم عاد إلى أشغاله وهو يتظاهر بالتعجب والقلق، وفيما هو جالس إذ دخل عليه رجل وبيده صك يريد قبض قيمته، فقال له بيرابو: إن مفاتيح الصندوق ليست معي، فانتظر قليلًا.

فلبث ذلك الرجل منتظرًا حتى أعياه الانتظار، فتلبس بيرابو بالغضب، ودعا الخادم وقال له: اصعد إلى الطبقة العليا وابحث عنه، ولا بد أن يكون فيها؛ لأن قبعته ورداءه لا يزالان هنا.

فذهب الخادم ثم عاد وقال: إن فرناند خرج من الوزارة.

– أيخرج من غير قبعة إن هذا مستحيل.

– إن الحارس قد أكَّدَ لي خروجه، وقد قال إنه شاهده يركض في الطريق من جهة الباستيل.

واصفرَّ وجه بيرابو، وأخذ يردِّد في ذاته: هذا محال، إن فرناند شريف.

– لقد غاب عني أن أخبرك أنه قدم إليه رجل على إثر خروجك برسالة، ولمَّا قرأها ذهب.

فتنهَّدَ بيرابو تنهُّد ارتياح، وقال: لا شك أنه ورد إليه نبأ مكدر اضطره إلى الذهاب، وإني أؤثر أن يكون ذلك على أن يكون ما تسرعت في تصوره.

ثم قال للخادم: اذهب إلى أمين الصندوق العمومي، وقُلْ له أن يأتي إليَّ.

فذهب الخادم وعاد مع أمين الصندوق، فقال له بيرابو: إني نسيت مفاتيحي فأعطني مفاتيحك.

وأخذها منه ثم أسرع إلى الصندوق ففتحه، وللحال رجع إلى الوراء منذعرًا واصفرَّ وجهه ووقف ساكتًا قلقًا لا يبدي حراكًا.

فقال له أمين الصندوق: ماذا أصابك؟

وسكت بيرابو هنيهة ثم قال: ألَمْ نضبط بالأمس حساب الصندوق سوية؟

– نعم، وأذكر فيه اثنين وثلاثين ألف فرنك، منها أوراق مالية قيمتها ثلاثون ألفًا كانت موضوعة في طي محفظة خضراء.

فقال بيرابو بصوت مختنق: إن تلك المحفظة قد سُرِقت، وقد سلَّمْتُ مفاتيح الصندوق منذ ساعة إلى فرناند روشي، لثقتي به، ولاضطراري إلى الخروج.

ثم غطى وجهه بيديه كمَن يريد أن يُظهِر خجله لعزمه على تزويج ابنته برجل لص.

ولم يمضِ على ذلك مدة وجيزة حتى شاع أمر فرناند عند جميع عمَّال الوزارة، وكان الجميع يتلقَّون هذا النبأ بالارتياب؛ لإجماعهم على احترام فرناند ولثقتهم من أمانته، ولكن كل ما مرَّ به من الحوادث كاستيلائه على مفاتيح الصندوق، وخروجه من الوزارة راكضًا يدل على وقوع التهمة عليه، ولا سيما تركه قبعته ليوهم أن خروجه مؤقَّت فلا يلتفت أحد إليه، ولا يبحث عنه قبل أن يتمكن من الفرار، وكانوا يعلمون أنه لم يكن ذا يسار، فتوهَّمُوا أنه طمع بما اؤتمن عليه من المال، ثم مرت الساعات ولم يَعُدْ فثبت الجرم وقُضِي على هذا البريء.

(١٧) الشرطة

بينما كانت هذه الحوادث تجري في الوزارة كان فرناند التعيس يعدو في شارع سانت لويز حتى وصل إلى منزل بيرابو، فصعد إليه وطرق الباب ففتحت له الخادمة، ولما عرفته اعترضت سبيله ولم تدعه يدخل، فقالت له: إن المسيو بيرابو قد ذهب.

– إني أريد أن أرى السيدات.

– إنهن خرجن أيضًا.

– إذن أنتظرهن.

وأبعد الخادمة محاولًا الدخول، فاعترضت أيضًا في سبيله وقالت: إن انتظارك لا يجديك نفعًا، فإنهن غادرن باريس، ولا يرجعن إليها قبل ثلاثة أيام.

فارتعش فرناند وقال: هذا محال.

– ولكن هي الحقيقة أَظْهَرْتُها لك حسبما بُلِّغْتُها.

ورجع فرناند وهو يتعثر في مشيته كالشارب الثمل، ومشى في الأسواق مشية المجانين، وهو لا يعلم أين يسير، وقد أخذ منه اليأس بعدما تيقَّنَ من سفر هرمين، وتغلَّب على عواطفه حتى أضاع رشده، ثم اشتدت عليه تلك الأزمة، فسقط على قارعة الطريق مغميًّا عليه، وتسارع إليه الناس للاعتناء به، وفيما هم يهتمون بإنهاضه إذ مرت بهم مركبة فوقفت للحال ونزلت منها فتاة عليها مظاهر الغنى، واخترقت الجماهير حتى وصلت إلى فرناند وأحنت عليه إحناء الأم على ولدها، ثم وضعت يدها على قلبه، ومُذْ أحست بحركة فيه صاحت صيحة فرح وهي تقول: حبيبي فرناند.

فابتعد عنها جميع الناس، وكلهم واثق أن انصرافه لم يكن إلا عن يأس في الحب، أما تلك الفتاة وكانت باكارا فإنها أمرت السائق أن ينقل فرناند إلى المركبة، ثم صعدت في إثره خببًا إلى منزلها.

ولم يفق فرناند إلا بعد أن وصل إلى منزل باكارا، فظن نفسه رأى حلمًا، ونظر حوله باندهاش فوجد نفسه في سرير بملابس النوم في تلك الغرفة الحريرية التي كانت باكارا تستقبل بها أندريا، ولم يكن قد بقي من النهار إلا بقية نور ضعيف تنير تلك الغرفة البديعة الرياش، فغالط نفسه وعاوده الظن أنه يحلم، فأطبق عينيه كأنه يريد أن يستتم ذلك الحلم، ولكنه لما عاد وفتحهما وجد شخصَ امرأةٍ منحنية عليه كما تنحني الأم على طفلها، ثم أخذت يده وقالت له بصوت حنون رنَّ في أعماق قلبه: أنت محموم.

فأجابها وهو في حالة الذهول: أين أنا؟

فأجابته باكارا وصوتها يتهدج: أنت في منزل صديقة.

ثم دنت من الموقد وأضاءت شمعتين كانتا عليه، فتأملها فرناند مليًّا، وصاح مندهشًا وهو يظن أنه في حضرة ملاك لا في حضرة إنسان.

– إن الطبيب يأمرك بالراحة، فلا ينبغي أن تتكلم ولا تتحرك؛ لأن مرضك شديد حتى إنك سقطت في الشارع مغميًّا عليك، ولو لم أكن حاضرةً …

فقاطعها وقال: أكنتِ حاضرةً؟

فقالت وقد ورد الخجل وجنتيها: كنتُ مارة من هناك اتفاقًا، فعرفتك وحملتك في مركبتي.

– عجبًا! أتعرفينني!

– نعم، أَوَلَا تعرفني أنت؟

فقال وهو يمر يده على جبينه: أجل، أذكر أني رأيتك.

فقالت وقد أطرقت بنظرها إلى الأرض: أنا أخت سريز.

– أجل، ولقد تذكرت الآن، ويُخَيَّل لي أني رأيتك عندها في النافذة.

– هو ذاك، ولكن سنتحدث في هذا الشأن مليًّا غدًا أو بعده، أما الآن إنك في حاجة إلى الراحة، ولا ينبغي أن تتكلم فاهدأ وكُنْ عاقلًا.

ثم انحنت عليه كما تنحني الأخت على أخيها وقبَّلَتْه في جبينه قبلةً رجَفَ لها فؤاده واضطربت أعضاؤه، وكاد يعاوده الظن أنه في حلم لا في حقيقة، ثم شعر بأنفاسها تهب في وجهه وقلبها يخفق في صدرها فوق صدره، وخُيِّلَ له أنه قد سمع كلمة خرجت من شفتيها الورديتين همسًا، كما يهمهم نسيم الماء، تلك الكلمة التي ما وقعت في قلب رجل إلا اهتزت لها كل عروقه، والتي لا شبيه لها إلا رنة العود في قلب الحزين، أو صوت المطرب في أذن النشوان، ولا يقولها أحد بمثل تلك اللهجة والحنان إلا أفواه النساء، وهذه الكلمة هي «أحبك»، وهي كلمة تختلج لها كل نفس، فكيف إذا كانت نفس ابن عشرين.

•••

ولما طلع الصباح ومرت نسائمه الباردة على جبهة العليل، ففتح عينيه ووجد باكارا واقفةً تجاهه وقد ضمت رأسه بين يديها، وألقت عليه نظرات غرامها وانعطافها، وهي تكرِّر له هذه العبارة على اتفاق إمعان واختلاف روي «أحبك وأهواك».

وفيما هي كذلك وقد أخذها الحب وأطلقت عقدةَ لسانها أيدي الصبابة والهوى، طرق أذنها صوت جلبة ووقع أقدام كثيرة تدنو من بابها، فوثبت إلى السرير مسرعة، وارتدت أول ثوب وقع تحت يديها، ودنت من الباب فسمعت صوتًا من ورائه يقول: افتحوا باسم الحكومة.

فعلمت أنهم رجال الشرطة على بابها، وداخَلَها الرعب والخوف منهم، مع علمها بأنها لم تجنِ في حياتها ذنبًا يستوجب دخول حاكم في أمرها، إلا إذا كان ذنب الغرام الذي لا حكومة فيه، ولكنها تجلَّدَتْ وفتحت الباب، وإذا بكبير الشرطة قد دخل عليها ووراءه اثنان من رجاله، وحيَّاها بأدب ولطف، واعتذر عن دخوله في مثل تلك الساعة وقال: لا تخافي يا سيدتي، فإنما أنا أطلب رجلًا يُدعَى فرناند روشي، فهل هو عندك؟

فأجابه فرناند من سريره: هو أنا يا سيدي فماذا تريد؟

– أأنت فرناند روشي الموظَّف في وزارة الخارجية؟

– أجل.

– إذن البس ثيابك واتبعني، فأنا آتٍ في طلبك بأمر من المدعي العام.

فاصفرَّ وجه الفتى لهذه العبارة، وقال: يا رب ماذا تراني صنعت؟

فأجابه الشرطى بعنف: لا أعلم، فالبس ثيابك واتبعني.

فنهض فرناند راجفًا مذهولًا وهو لا يدري أنه ارتكب ذنبًا، وارتدى ملابسه وهو يضطرب حتى إذا أتمها نظر الشرطي إلى تابعيه وقال لهما: اقبضا على هذا الرجل.

وكان فرناند قد تمالك وتشدَّد، فقال: ما بالكم تقبضون عليَّ؟ وأي ذنب جنيت؟

فقال له الشرطي: إن رئيسك ائتمنك بالأمس على مفاتيح صندوقه، فاختلست منه محفظة تحتوي على ثلاثين ألف فرنك.

فصاح فرناند صياح الإنكار والدهش وقال: أنا أسرق، أنا أرتكب جريمة الاختلاس! إن هذا زور واختلاق. ثم وهت قواه وسقط بين أيدي الشرطة وهو قريب من الإغماء، فأخذوه بالرغم عنه.

أما باكارا فكانت واقفة منذهلة من شدة ما ترى، حتى إذا خرج الشرطة بأسيرهم وثبت من مكانها وثبته منكرة، وقد استنارت عيناها بفكر خطر في خاطرها، وتجلَّتْ لها حقيقة المكيدة على وجهها، وهمت أن تجري في إثر الجماعة وتنزع حبيبها من أيديهم، وتقول لهم: قفوا ليس هو الفاعل بل السير فيليام، ولكن خانتها قواها واحتبس لسانها، وسقطت على الأرض مغشيًّا عليها.

وعند ذلك فُتِح باب غرفتها ودخل منه أندريا، فنظر إليها بسكون وهدوء، وهو يتبسم تبسم الأبالسة، وقال في نفسه: لقد حسبت لك هذا الحساب، وقد حذرت لنفسي ما أمكن. ثم قرع جرسًا أمامه، فدخلت فاني ومعها رجل قصير بلباس الأطباء، وهو أحد رجال العصابة الذين جلبهم كولار لخدمة هذا المحتال، فقال أندريا: ضعي سيدتك في سريرها، وانضحي وجهها بالماء حتى تفيق، وأنت تعرفين الدور الذي عليك. ثم التفت إلى الرجل وقال: أما أنت فستكون بصفة الطبيب على حسب ما اتفقنا. ثم تركهما وانصرف.

ولما فتحت عينيها بدأت باسم فرناند تكرِّر لفظه، حتى إذا رجع رشدها نظرت إلى فاني، وقالت: أين أنا؟ وماذا جرى؟ ثم نظرت فرأت الطبيب المتصنع جالسًا على كرسي بجانبها، فصاحت مذعورة: مَن هذا الرجل؟

– هو الطبيب يا سيدتي.

– عجبًا! إذن أنا مريضة؟

– نعم، ومريضة جدًّا.

وعند ذلك نهض الطبيب وجسَّ نبضها، وقال: هذا هو اليوم الثامن من أيام الحمَّى.

فصاحت مستنكرة: اليوم يوم الثامن؟!

فقال الطبيب وهو ينظر إلى الخادمة: إن الحمى قد خفت، ولكني أخشى أن لا يكون الهذيان قد زال، أو أن يكون مصيره إلى الجنون.

فصرخت باكارا وقد استوت جالسة: أمجنونة أنا؟ ويلاه ماذا جرى؟ وأين فرناند؟

فالتفت الطبيب إلى الخادمة وقال: انظري، فقد عاودها الجنون!

فقالت باكارا: لكني لستُ مجنونة. ثم أمسكت الخادمة وأدنتها منها، وقالت لها: انظري إليَّ يا فاني وأصدقيني الخبر، أمريضة أنا؟

– نعم يا سيدتي، ومن ثمانية أيام.

– ذلك مستحيل، فقد كنتُ الآن سليمة، وكان الشرطي هنا.

– لم يأتِ إلى هنا على الإطلاق.

– عجبًا! وفرناند كان بجانبي.

– إن فرناند لم يأتِ إلى منزلك قطُّ، وأنا لا أعرفه إلا بالسماع عندما تذكرين اسمه وكنتِ مريضةً.

فبهتت باكارا وقالت: أمجنونة أنا حقيقة، أم أنا في حلم؟

– بل كانت الحمى شديدة عليك ثمانية أيام.

– ذلك مستحيل وألف مستحيل. ثم عادت تحدِّث نفسها وتقول: إنني لستُ بمجنونة ولا حالمة، بل أنا مخدوعة مغرورة، وأخذْتُ فرناند أمس عن الطريق مغشيًّا عليه، وجئتُ به في مركبتي، واستدعيت له طبيبًا ولكن غير هذا الطبيب.

فقاطعها الطبيب المتصنع وقال للخادمة: إن هذا النوع من الجنون يُسمَّى اختلال الشعور، ولا يمكن شفاؤه إلا باستعمال الحمام البارد كل ساعتين.

وكأن تلك العبارة كانت ضربة قاضية على باكارا، فغطَّتْ وجهها بيدها وأخذت تبكي، حتى إذا سكن روعها وخفَّف الدمع تأثرها عادت إلى صوابها، وعاودتها الحقيقة التي خفيت عنها، وقالت: كل هذا من أعمال فيليام. ثم جعلت تنقل نظرها بين الخادمة والطبيب عساها تستشف منهما ما يدلها على الحقيقة، فلم يظهر على وجههما شيء، فنهضت من سريرها مسرعة ووقفت تجاه مرآتها، وقالت: عجبًا! ليس في هيئتي ما يدل على ما يقولون، وليس هذا الوجه وجه مريضة، بل أراني على أتم عافية. ثم نظرت نظرةً ثانيةً إلى فاني، فلم يؤثر عليها ذلك النظر الحاد شيئًا، بل ثبتت على تمثيل دورها، وقالت لها: عودي يا سيدتي إلى فراشك، ذاك خير لك.

فقالت باكارا: إنكِ توهمتِ أن هذا الإنكليزي وافر الثروة، وأنه سيكون لك من هباته ما يغنيك عن الخدمة، ولكنك جريت شوطًا بعيدًا، واقتحمت أمرًا مستحيلًا، فلستُ من الذين يعبثون بهم إلى هذا الحد.

ثم ذهبت مسرعة إلى منضدة، وأخذت خنجرًا كان عليها، وقالت لذلك الطبيب المتصنع: إذا جرأت على الدنو مني فأنت ميت لا محالة.

فاختلجت فاني واضطربت رجلاها من الخوف، أما الطبيب المتصنع فإنه لم يكترث بهذا الإنذار، ونظر نظرة خفية إلى فاني أعادت إليها ما فقدته من الجسارة، فقالت لبكارا: أتريد سيدتي أن أساعدها على لبس ثيابها؟

– نعم اتبعيني. ثم سارت أمامها وهي تقول في نفسها لا أراني مجنونة، بل أراني أعقل مما كنتُ، ولا يزال فرناند ممثلًا أمام عيني، وأنا أذكر أمر الشرطة، وكيف ساقوه إلى السجن بدعوى اختلاس، بقي أن فاني تخدعني، ولا ريب في أن كل ذلك من صُنْع فيليام. وفيما هي تلبس ثيابها نظرت إلى فاني فرأتها تمسح عينيها كأنها تبكي لما ألمَّ بسيدتها، فقالت في نفسها: إن هذه الخادمة تمثِّل دورَها على ما ينبغي من الإتقان، وقد بقي لديَّ برهان واحد أقدر أن أميط به الحجاب عن هذه الخديعة؛ إني أذكر أنه كان بعنق فرناند نوط ذهبي فيه خصلة من شعر حبيبته، وإنني قد قطعت سلسلة هذا النوط بأسناني لفرط ما ألم بي من الغيرة، وخبَّأته تحت فراش السرير، فإذا كان باقيًا في مكانه فقد كشفت سر هذه الخائنة، وإلا فإن ما ادعته من حلمي وجنوني حقيقة لا ريب فيها. وللحال تركتها وذهبت إلى غرفتها، فمدت يدها وهي تختلج إلى المكان الذي خبَّأت فيه النوط، فعثرت به وأخذته والفرح ملء فؤادها، حتى إذا سكنت عوامل سرورها عادت إليها حكمتها، وأيقنت من مكيدة أندريا فقالت: سأنتقم سريعًا، وسأذهب بتلك البلهاء إلى رئيس البوليس لتثبت عنده جنوني، وسيرى السير فيليام أنني أشد منه دهاءً.

ثم رجعت إلى فاني فأتمت لبسها وقالت لها: إن الهواء بليلٌ في هذا النهار والجو صافٍ، وقد أيقنتُ من صدق مقالكِ؛ فإني أشعر بضعف وفتور فلا أجد بأسًا من النزهة واستنشاق الهواء النقي في مثل هذا اليوم. لم يبقَ لديَّ ريب بأني كنتُ أحلم، فإن حب فرناند قد تمكَّنَ مني بحيث أضاع رشدي، ولعل ذلك الحلم والجنون مسبَّبَان عن الحمى.

فقالت لها الخادمة: لا شك في ذلك، فإنك كنتِ لا تفترين عن ذكر اسمه الليل والنهار في مدة هذه الحمى، وتتحدثين عند انتباهك بأحاديث تثبت جنونك، وقد زالت الآن والحمد لله تلك الأعراض، فعليك الوقاية، وعندي أنه خير لك لو لبثت في منزلك إلى أن تتماثلي ويبعد عنك كل خطر.

– كلا، فإنني مصمِّمة على الذهاب فأسرعي واتبعيني؛ لأني لا أحب أن أسير وحدي. ثم مشت أمامها فتبعتها وهي تتظاهر بالقلق الشديد إلى أن خرجت من المنزل، فوجدت مركبتها بانتظارها فصعدت إليها، ثم تظاهرت أنها نسيت منديلها، فأرسلت فاني كي تعود به، واغتنمت فرصة غيابها وقالت للسائق: بأي يوم نحن من الأسبوع؟

– يوم الخميس.

– ألَمْ تذهب بي بالأمس إلى شارع سانت لويس؟

– نعم.

– أتشهد بذلك لدى رئيس البوليس؟

– نعم.

– الآن، فاصبر إلى أن تعود فاني، فسِرْ بنا إليه، ولا تدعها تعلم بشيء من ذلك.

وقد أيقنت باكارا أن أندريا يسير على خطة مبهمة ضدها وضد فرناند، ولكنها لم تعلم شيئًا من سر الخطة وغايتها، فعزمت على أن تُطلِع رئيس البوليس على الأمر بالتفصيل توصُّلًا إلى كشف سر هذه الخيانة، وقد كان لها معرفة به بواسطة عشيقها القديم.

فلما عادت فاني سارت بهما المركبة حتى بلغت إلى منعطف يؤدي إلى شارع مونتمارتر، فعرجت عليه وسارت به، فانتبهت باكارا، ورأت أن السائق يسير في غير الطريق التي أمرته أن يسير بها، ففتحت نافذة المركبة واستوقفت السائق، وفيما هي تؤنبه إذ فُتِح باب المركبة بغتةً، وصعد إليها ذلك الطبيب المتصنع الذي رأته في منزلها، ثم أغلق الباب وجلس بقربها؛ فصاحت صيحة رعب، أما هو فلم يبالِ بصياحها، وقال لها ببرود هازئًا: إنك تخاطرين بحياتك بخروجك من منزلك، فإنك معتلة، ويجب عليَّ أن أمنعك عن كل ما يعود عليك بالأذى شأن كل طبيب صادق مع مرضاه. وبينما هو يحادثها كانت المركبة تسير في شارع مونتمارتر.

فأيقنت باكارا أن سائق مركبتها قد باع نفسه مثل فاني لفيليام، وقالت للطبيب: أين تذهب بي؟

أنزل الطبيب المتصنع جميع ستارات المركبة وقال لها: ذاهب بك إلى مونتمارتر، فاحذري من أن تفتحي الستائر ولا تستغيثي، فإن الهواء والغضب يضران بك، وقد فكَّ أثناء حديثه أزرار صدرته وأخرج من تحتها خنجرًا، فجرَّدَه من غمده وقال: إن هذا أنجع دواء لتسكين الهياج، ولك بعد ذلك الخيار.

فأحست باكارا أنها مغلوبة، وأن حياتها في خطر إذا استغاثت، فعادت إلى سكونها وقالت: لقد ثبت لديَّ الآن أني مجنونة، فسِرْ بي حيث شئتَ فلا أعصي أمرًا، ولكن قل لي أين تذهب بي.

– لقد قلت لك إننا ذاهبون إلى شارع مونتمارتر.

– ولكن إلى أين؟

فأجابها بمنتهى البرود، إلى مستشفى المجانين.

(١٨) المركبة الصفراء

لقد تركنا كولار ذاهبًا بسريز إلى حيث أمره السير فيليام، فكان يقول لها: لا تجزعي أيتها السيدة واطمئني، فإني سأصحبك وأدافع عنك.

أما سريز فإنها لم توجس منه خيفة؛ لعلمها أنه صديق خطيبها، ولإنقاذه إياها من أيدي بيرابو، فكانت تسير إلى جنبه مطمئنة حتى وصلا إلى الشارع، وكان هناك مركبة صفراء كانت تنتظر كولار، فتقدَّم منها وطلب إلى سريز أن تصعد إليها، فعادت المخاوف إلى سريز، وخشيت من أن تعرض بنفسها لخطر جديد، فقالت له: لماذا لا نذهب على الأقدام؟

– إن منزلك بعيد.

– إنني قادرة على المسير.

– أما أنا فإني أتعب، ولا أستطيع أن أحتمل مثل هذه المشاق.

– دعني إذن أسير وحدي.

– إنني أخاف أن يقفو أثرك ولا تجدين مَن يحميك. ولم يجد خيرًا من هذه الحجة لإرهابها، فأطاعته وصعدت إلى المركبة، فصعد في إثرها وأمر السائق بالمسير.

وكان اضطراب سريز شديدًا، ولم تنتبه إلى سرعة سير المركبة حتى بلغت بها إلى جسر السين، ورأت أنها قد عرجت إلى جهة الشمال في طريق الإينفاليد، فقالت برعب وقلق: إن السائق قد ضلَّ، ولا أدري إلى أين يذهب بنا.

– أنا أعلم.

– ولكنه قد سار في غير الطريق التي يجب أن يسير بها.

– كل السبل تؤدي إلى الجهة المقصودة.

فقالت سريز، وقد تضعضعت من هذا الجواب: دعني أنزل، فإني لا أريد أن أذهب في هذا الطريق.

ثم حاولت أن تفتح باب المركبة فوجدته محكم الإيصاد، فنظرت إلى الشارع فألفته خاليًا مقفرًا، فجعلت تستغيث بصوت مختلج لم يجبه غير الصدى.

أما كولار فإنه أشعل غليونه، وقال لها: لا تزعجي نفسك بصراخ لا يجديك، فليس هنا مَن يسمعك، وإذا أصغيت إليَّ تعلمين أني لا أريد بك شرًّا.

– قُلْ ما تشاء، إني مصغية إليك.

– إني صديق ليون.

فعادت الطمأنينة إلى فؤادها عند ذكر اسم خطيبها، وقالت: إذن فلماذا لا تذهب بي إلى منزلي؟

– لأن ذلك ليس بوسعي؛ لأن ليون بخطر شديد، وإذا عدت إلى منزلك تعرضينه للموت.

فارتاعت سريز وقالت بملء الرعب: ليون يموت؟

– نعم، إذا رجعت إلى منزلك.

– ولكن ما هذا الخطر الذي يتهدده، كيف أن بعدي عنه ينقذه؟

– هذا سر لا أستطيع أن أبوح به؛ لأنه سر سواي، ولكني أقول لك أنت إذا لم تطيعيني طاعة لا حدَّ لها فإن خطيبك يموت قبل الغد.

وجعلت سريز تختلج اختلاج ريشة بمهب الريح، وأخذ صوتها يتهدج.

– إني أطيعك ولا أخالف لك أمرًا، ولكن بالله أَلَا ما أنقذت خطيبي.

– الآن سررتني وسكنت مني روعي، فإني أشفق على ليون نفس إشفاقك عليه، فالبثي الآن بقربي وكفِّي البكاء، فلم يَعُدْ من خطر عليه، ولا تسأليني شيئًا بعد ذلك؟

– رحماك، واسمح لي أن أسألك سؤالًا واحدًا.

– تكلمي.

– وصلتني منذ ساعتين رسالة من أختي.

– أعلم ذلك واسمها باكارا.

– وقد كتبت لي بها أن حياتها في خطر، وأني وحدي القادرة على إنقاذها، فإذا لم أسرع إلى مساعدتها في شارع الحية، فهي تموت.

فتصنَّع كولار الغضب، وقال: إن أختك قد بلغت منتهى الخيانة، فإنها قد نصبت لك شركًا مذمومًا لتلقيك في أيدي بيرابو، وليست على شيء من الأخطار.

فاسترسلت سريز في البكاء، وهي تقول: أيمكن أن تخون الأخت أختها؟

– نعم، وحبذا لو استطعْتُ أن أبوح لك بهذا السر، ولكني في ذلك أعرض حياتي وحياة ليون للموت، وربما كان لك حظنا من الموت.

– بالله إذا كان في موتي إنقاذ ليون فاقتلني.

فأخذ كولار يدها بين يديه، وضغط عليها بتودد وحنان وهو يقول: لا تخشي أمرًا، فإنني عندما يتاح لي أن أبوح بهذا السر تقفين على الحقيقة، وتعلمين أني خير صديق. ثم انقطع الحديث بينهما، وزادت المركبة في سرعة المسير، حتى إذا بلغت إلى سنت جرمين خارج البلدة عاد الرعب إلى سريز، فقالت: أتسير بي إلى محل بعيد؟

– كلا، سنصل إلى وجهتنا بعد ساعة.

– إلى أين نحن ذاهبون؟

– لا أقدر أن أقول، ويجب عليَّ الآن أن أعصب عينيك!

فصرخت سريز صراخ الرعب، فقال: تذكَّرِي سابق وعدك لي من إنك تطيعينني، وأن حياة ليون متوقفة على امتثالك. ثم أخذ منديلًا من جيبه فعصب عينيها دون أن تبدي أقل اعتراض، وقال لها: لا تبحثي أبدًا عن المحل الذي تذهبين إليه، فإن ذاك مما يضر بنا. فسكتت سريز وهي بمنتهي الانذهال تخال نفسها في حلم، فلم تنبس بكلمة، ولم تُبْدِ إشارة، حتى وقفت المركبة، فقال لها: قد وصلنا فهات يدك لأساعدك على النزول. ثم فتح باب المركبة ونزل وإياها.

وكانت المركبة قد وقفت في سهل متسع أمام حائط طويل، ففتح كولار بمفتاح كان في جيبه، وقاد سريز وهي معصوبة العينين، فمشت معه عرضة للاضطراب والخوف، وقد سمعت وقع أقدام وهي تسير مع كولار، ثم سمعته يقول: «هو ذا العصفور.» وسمعت صوتًا خشنًا أجابه: «لقد أعددت القفص.» ثم شعرت أن كولار قد ترك يدها، فمدتها حالًا إلى العصابة وأزاحتها عن عينيها، ثم تطلعت بنظر قلق، وكان شفق الصباح قد بدأ يتوقد، فرأت نفسها في حديقة واسعة الأرجاء محاطة بسور طويل، وفي وسط هذه الحديقة منزل صغير، فحوَّلَتْ نظرها إلى الجهات الأربع فلم تجد أقل أثر للمساكن، ثم نظرت بعد ذلك إلى الذي سمعته يخاطب كولار، فرأت امرأة عجوزًا تناهز الستين قد جعَّدَتْ وجهها الأيامُ، وهي بمنتهي القبح؛ فرجعت سريز إلى الوراء منذعرة وقد أخذ منها الرعب. فدنت منها تلك العجوز، وكان اسمها مدام فيبار، فأخذت بيدها وتوددت إليها تودُّدًا عظيمًا لم يكن إلا ليزيد من خوفها ورعبها، فصرخت مستغيثة بكولار الذي بعد عنها، وتظاهر أنه لم يسمع نداءها، فكانت تناديه وهو يمشي مسرعًا، وقد قبضت عليها العجوز بيد من حديد، فلم يمكنها الإفلات واللحاق به، حتى وصل إلى الباب الذي دخل منه فخرج وأقفله وراءه.

فأخذت العجوز تسكن جأشها، وتطيب قلبها، وهي تسير بها حتى وصلت إلى المنزل، فأدخلتها إلى غرفة بها مستوقد، وقالت: اجلسي هنا وتدفَّئِي، فإن البرد شديد، وثوبك مبتل من المطر، وسأحضر لك شيئًا من الشراب يعينك على الدفء.

فأَبَتْ سريز وقالت بجزع ويأس: كلا، لا أريد أن أبقى هنا، أريد أن أعود إلى باريس.

– إن المسافة شاسعة، وإنك ستؤذين قدميك الجميلتين.

– كلا، فإن لي مقدرة وقوة على الرجوع، وإذا تعبت في الطريق أستريح.

فتنهدت مدام فيبار، وقد تكلَّفَتْ هيئة الرفق والإشفاق.

قالت سريز: نعم، إن لي قوة على المسير، وليس ما يتعبني في سبيل ذهابي إلى ليون.

– مَن هو ليون؟ أهو عشيقك؟

– أَلَا تعرفين ليون؟

– كلا!

فداخَلَ سريز الريب، وقالت: إذا كنتِ لا تعرفين ليون، فإنك لا تعرفين شيئًا من سر هذه الحادثة!

– وماذا تريدين أن أعرف؟

– كيف؟ ألَمْ يخبرك كولار أنه أتى بي إلى هنا؛ لأن حياة ليون خطيبي بخطر؟ فضحكت مدام فيبار وقالت: كولار قال لك ذلك؟

– نعم.

– وهل صدقته؟

فارتاعت سريز وقالت: أليس ذلك بصحيح؟

فعادت مدام فيبار إلى ضحكها وقالت: حقًّا، إن كولار من أعظم المضحكين، كما أن هذا الحديث من أطرب المضحكات.

فجثت سريز على قدميها وتوسَّلَتْ إلى تلك العجوز وهي تبكي وتقول: بالله إلا ما قلتِ لي أين أنا وما يريدون مني؟

– ذلك هين سهل، فإن أحد الأغنياء العظام رآك فأحبك وأنت تعلمين البقية.

– ليس ذلك بصحيح.

ثم ذكرت بيرابو فقالت: بل هي الحقيقة بعينها، فإن رجلًا وحشي الأخلاق حاول … ولكن رجلًا شابًّا قد أنقذني منه وسلَّمَني إلى كولار ليوصلني إلى منزلي.

فضحكت ضحكًا شديدًا ثم قالت: هذا هو الفتى الذي أخبرتك عنه، وأنت الآن في منزله. فصاحت سريز صيحة يأس.

(١٩) المستنطق

ندع الآن سريز، لنعود إلى فرناند الذي تركناه خارج غرفة باكارا، فنقول: إنه كان يسير بينهم وهو يخال أنه يحلم، إلى أن وصلوا به إلى الحديقة، ورأى الخدم تنظر إليه بغرابة واندهاش، فأيقن أنه في يقظة، ثم افتكر بما يتهمونه به، وأن لا يد له بهذه الخيانة، فثار الدم في عروقه وحاول أن يتخلص من الشرطة، ولكنهم كانوا ثلاثة أشداء فأحاطوا به وتغلَّبُوا عليه، وكان يقاومهم كلما لاحت له فرصة، واشتدت عليه الذكرى فقال له رئيسهم: إنك فرد ونحن ثلاثة، فدفاعك لا يفيدك شيئًا ولكنه يثبت جريمتك، وما يؤثر عليك أن تُحاكَم وأنت بريء كما تقول؟ فإذا صحَّ ذاك وهو ما أتمناه لكَ، فإن المحكمة لا تلبث أن تطلق سراحك، ولا ينالك شيء من الإهانة.

فقنع فرناند مكرهًا، وسار معهم بغير دفاع حتى وصلوا إلى السجن فأدخلوه إليه، فلبث فيه ساعة وهو منهوك القوى فاقد الرشد، وكان يؤثر الموت على أن يُتَّهَم بسرقة، وهو مشهور عند الجميع بالنزاهة والعفاف، فكان يذكر باكارا، ثم الجنود، فالتهمة، فالسجن، فكتاب هرمين، وواحدة من هذه المصائب تكفي لأن تهيج أعظم الناس رشدًا؛ فيزبد كما تزبد الجمال، ثم ينكس برأسه إلى الأرض متأملًا بما أحاط به من الكوارث، ويرى أن كل ما مر به من الحوادث يثبت تلك الجريمة الهائلة، فيتهدد السماء بقبضته، ثم يجد أن كل ذلك لا يفيده، ولا يجد بابًا لتبرئة ساحته فتصغر نفسه، ويسترسل إلى الدموع، ويبكي بكاء الأطفال، وكان يعود بعد ذلك إلى الافتكار بهرمين، وكيف بعثت إليه بتلك الرسالة، وهو لم يجنِ ذنبًا يستحق هذه الإهانة، فينسى موقفه وما هو متهم به إلى أن يفيق من غفلة تصوراته، ويرى نفسه منفردًا في ذاك الحبس الضيق حبس المجرمين، فيفقد صوابه ويعود إلى ما كان عليه.

وكان يقول: إن مفاتيح الصندوق معي، وقد تركت الوزارة حاسر الرأس، وأنا أعدو في الشوارع كالمجانين، وبدلًا من أن أعود وأُرجِع المفاتيح إلى رئيسي بقيت معي إلى أن فتَّشُوني، وقد وجدوني عند مومسة كثيرة المطامع، فهل بقي ريب بأني اختلست هذه النقود لأنفقها في سبيل مرضاتها؟ ولكني لم أسرق شيئًا والمفاتيح كانت معي، فكيف سُرِق هذا المال؟ بل كيف وُجِدْتُ عند تلك المرأة؟ وإذا صح أن المال قد سُرِق فمَن السارق؟ ومَن أتهم وأنا المسئول؟ ومَن يدافع عني وليس لي غير بيرابو الذي أصبح خصمي؟ إلهي أنت خلقتني بشرًا وهذا فوق طاقة البشر. وفيما هو على ذلك دخل عليه شرطي، وذهب به إلى الاستنطاق، فاستنطق على ما يأتي:

قال المستنطق: أنت هو الذي يُدعَى فرناند روشي؟

– نعم.

– إنك متهم بجرم هائل، وكل ما لدينا من الأدلة يثبت جرمك، فإن رئيسك قد اضطر في الساعة العاشرة من صباح أمس إلى الخروج، فنقلك إلى غرفته، وَأْتَمَنَكَ على مفاتيح الصندوق، الذي تحقَّق بعد إثبات أمين الصندوق العام أنه كان يحتوي على ثلاثة آلاف فرنك ذهبًا، وثلاثين ألفًا قراطيس مالية.

– لم يكن لي علم بهذا لأني لم أفتح الصندوق.

– ولكن مفاتيحه كانت معك؟

– نعم.

– وقد وجدوها في جيبك عند تفتيشك؟

فأشار فرناند إشارة إيجاب.

– وإن رجلًا قد قدم إليك قبل خروجك، ولم نعلم عنه شيئًا إلى الآن، فمَن هو هذا الرجل؟

– لا أعرفه، فإني لم أره سوى مرة واحدة.

– احذر من أن تضلني بإنكارك، وقُلْ، أَلَمْ يكن هذا الرجل شريكك في الجرم؟

فأجاب فرناند بصوت خرجت فيه الحقيقة من أعماق قلبه: أقسم لك أنه لا يمكن أن يكون لي شريك لأني بريء.

– ولكن مَن هو هذا الرجل، وماذا يبتغي منك؟

– قد أحضر لي رسالة.

– ممَّن؟

فاختلج فرناند وأرخى نظره إلى الأرض، ثم قال: ذلك ما لا أقدر أن أبوح به؛ لأن الرسالة قد وردت إليَّ من امرأة شريفة لا يليق بي أن أصرِّح بذكرها في هذا الموقف.

– إني كنتُ أتوقَّع منك مثل هذا الجواب الذي تحاول فيه الدفاع عما أنت متهم به، ولكن المسيو بيرابو قد أوقفني على الحقيقة، فإنك كنتَ مزمعًا على أن تقترن بابنته، أليس كذلك؟

فتوسَّلَ إليه فرناند أن لا يذكر هذا الشأن، فقال المستنطق: وقد علمت أن لك خليلة!

فقال فرناند بكراهة ونفور: لا صحة لما يقال.

فلم يحفل المستنطق بجوابه واستمر في الحديث، فقال: وإن هذه الخليلة تُدعَى باكارا، وهي كثيرة الدلال شديدة التلهف إلى المال، فلا يبعد أنك لأجل مرضاتها ولشغفك بها قد …

فقاطعه فرناند بحدة وقال: إني لم أعرف هذه الفتاة قبل أمس.

فقال المستنطق بلهجة الناصح: اعلم أن الإقرار في مثل هذه الشئون أولى من الإنكار الذي لا فائدة منه سوى تعظيم ذنبك.

فأجاب فرناند بلهجة جعلت المستنطق يثق ببراءته بالرغم عمَّا لديه من البراهين: أقسم لك يا سيدي إني بريء.

– هذا ما أتمناه لك، ولكن كيف تنطبق سرقة هذا المال وخروجك من الوزارة على ما كنتَ عليه من الاضطراب، واحتجابك، والقبض عليك في منزل تلك المومسة؛ على براءتك؟

فرفع فرناند عينيه إلى السماء، وقال: إن الله عظيم عادل، فهو يكشف سر هذه الخيانة، وإني أقسم بجلاله إني بريء.

– سيذهب بك الآن جنديان إلى منزلك ومنزل خليلتك ويفتشان؛ فإذا لم يجدَا بهما المحفظة نرى في شأن تبرئة ساحتك.

فصاح فرناند والفرح ملء فؤاده: هلموا إلى حيث تريدون، فإني بريء.

فدعا المستنطق جنديين وقال لفرناند بلطف ودعة: سِرْ معهما، وعسى أن تبرِّئ ساحتك، وتنجو من هذا العار.

فذهبوا جميعًا حتى وصلوا إلى منزل باكارا، ثم ركبوا مركبة وذهبوا إلى شارع مونسي.

وكانت باكارا قد خرجت من المنزل مع فاني كما تقدَّمَ، ولم يكن في المنزل غير الخدم، فبدءوا بتفتيش الغرف حتى بلغوا إلى الغرفة التي كان نائمًا فيها فرناند، وبعد أن فتشوا في خزائنها ولم يعثروا على شيء، نظر أحدهم فرأى رداء رجل معلَّق، فقال: هو ذا رداء رجل، وعسى أن يكون رداء المتهم، فَلْنفتِّش فيه.

وكان هذا الرداء لفرناند، وذلك أنه عندما سقط مغميًّا عليه في الطريق كان مرتديًا به، ولم يفطن إليه عندما أخذته الجنود، فبقي عند باكارا، ولما رأى الجنديين يشيران إليه قال: هذا الرداء لي.

وجلس على كرسي وعليه لوائح عدم المبالاة، أما الجندي فإنه أخذه وقال: إنه ثقيل، وأظن أن المحفظة في جيبه.

ثم مدَّ يده إليها، فأخرج منها تلك المحفظة الخضراء بنفسها فارغة من المال، فقال لفرناند: لا أظنك تقوى بعد ذلك على الإنكار.

أما فرناند فلم يُجِبْه بحرف، ولكنه صاح صيحة يأس وسقط مغميًّا عليه، فانتصر أندريا بما كاده للبريء، وأصبحت تبرئته ضربًا من المحال.

(٢٠) البحث عن تريزا

بينما كان أندريا يدير بحذقه هذه الحادثة، وقد زجَّ بفرناند بالسجن بتهمة الاختلاس، وحبس باكارا في المستشفى بعلة الجنون، وحجر على سريز في منزل مدام فيبار، ففرَّقهم عن بعضهم، وأبعد كلَّ مَن يحتمل أن يوقف أرمان دي كركاز على آثار تريزا وابنتها، وكان أرمان يسعى بملء الغيرة والنشاط لإيجاد تلك المرأة وولدها، ليدفع إليهما ملايين البارون كرماروت المؤتمَن عليها.

وكان يستعين على ذلك ببستيان وببوليس سري، ولم يكن إلى الحين الذي رأيناه فيه يقفو أثر الرجلين في بلفيل قد وقف على شيء من أثر تريزا، فوصل إلى تلك القرية في حينه، ومنع ذلك الاعتداء عن ليون رولاند، ولا يزال يذكر القارئ أنه كان قَبِلَ دعوة ليون، فلما عزموا على الرحيل قدَّمَ ذراعه إلى حنة، وسار الجميع إلى منزل سريز.

ومن غرائب القلب في سرعة تأثره وتقلبه أنه لا تكاد تسري إليه النظرة أحيانًا حتى تفعل فيه لأول وهلة فعل سواها بعد طول الممارسة والتكرار، كأنما هي بين الحب والكره وقع السعادة والشقاء، فإن كليهما يملأ القلب عند وقوعه، وكثيرًا ما تختلف نظرتان فتكونان بدء الحب الأكيد أو البغض الشديد عند أول مقابلة منهما في الغراء، وهما زهرة ورد يتهاداها القلبان من طريق العيون في الحب وفي الكره، سهمان مسمومان تتراشق بهما القلوب عن قسي الجفون، وهو سر من أسرار الطبيعة لا يعرفه إلا مَن يعرف سر الوداد والبغضاء، ولعله تشابه القلبين أو تباينهما جملة حتى يمتزجا أو يتنافرا في لحظة عين كما يمتزج النور بالنور، ويتنافر الضياء بالظلام، ولقد كان من هذا القبيل نظرة أرمان إلى حنة؛ فإنه لم يكد يقع نظره عليها حتى شعر أن جمالها يملأ فؤاده، كما يملأ النور العين عند انفتاحها، وأنها ارتسمت على جوارحه كما يرتسم أثر الختم عند الطباعة، وأنه قد أصبح لها وهو يعلم أنها أصبحت له بدافع الأمل الذي يرجوه فيها، واعتقاده أن من القلب إلى القلب دليلًا، وما أدري هل استحسان النظرة هو الذي ينشئ هذا الأمل والاعتقاد، أم هما يُنشِئان تلك النظرة، ويكونان رائد القلب إلى العيون:

والذي حارت البرية فيه
داء قلب بنظرة العينين

وإن الذي زاد أرمان ميلًا إلى حنة وحنوًّا عليها، ما استشفه في ظاهر هيئتها من ذلة الانكسار وآثار الشقاء والحزن، وهي آثار قد تفعل في القلب الشريف أحيانًا ما لا تفعله طلائع الحسن والازدهاء. فلما وصل القوم إلى منزل سريز، دخلت إلى منزلها ودخل معها ليون وأمه، أما حنة فإنها اعتذرت وسألت أرمان أن يوصلها إلى منزلها، فسار وإياها وقال: إلى أين تريدين أن أوصلك؟

– إلى شارع مسلي.

وفيما هما يمشيان قال: أتعرفين سريز حق المعرفة؟

– نعم أعرفها أيام كان أبوها حيًّا، وكنا جيران.

– عجبًا! فإني أرى من تباين حالتيكما …

فقاطعته الفتاة وقالت: صدقت يا سيدي، ولكن المصائب والشقاء تناسب بين القلبين في الألفة أكثر مما يناسب بينهما المقام.

ثم تنهَّدَتْ تنهُّدًا طويلًا رقَّ له قلب أرمان وقال لها: أتراك يتيمة؟

– نعم، فإن أمي قد ماتت من بضعة أشهر، وأبي راح قتيلًا في ساحة الحرب.

وعند ذلك وصلا إلى منزل الفتاة فودَّعها، وقبَّل يدها باحترام، وعاد إلى منزله مفكِّرًا مهمومًا وهو يقول: أتراني لا أزال فتيًّا، أم لا يزال في قلبي وتر لم تنقر عليه أصابع الغرام؟

ولما كان الصباح دعا إليه بستيان فقال له: البس ثوبك العسكري، واذهب في الحال إلى شارع مسلي نمرة ١١، واجتهد أن ترى فيه منزلًا معدًّا للأجرة، وإذا لم تجد فادفع للبوَّاب قدر ما يشاء ليخلي لك أحد المنازل المأهولة، فإن ذلك لا يصعب عليه، وبعد أن تجد ذلك المنزل تنقل إليه الأثاث ثم تذهب إليه فتقطن فيه باسم باستيان، أما هذا المنزل نمرة ١١ فإن ابنة تُدعَى حنة ساكنة فيه، ويهمني أمرها جدًّا، وأول ما تشرع به عندما يتيسر لك أن تكون بجوارها هو أن تفحص عنها، فقد علمت أنها ابنة رجل كريم النسب، وقد أحنى عليها الدهر بوفاة أبيها وفقد ثروتها، ثم تجتهد أن ترتبط معها بالعلائق الوثيقة، فإن ما بلغته من العمر يدفع عنك كل ريبة. فاذهب الآن وعُدْ إليَّ سريعًا في كل حال لأعلم ماذا فعلت.

وبعد أن ذهب بستيان قام أرمان إلى مكتبته فأخذ منها دفترًا ضخمًا، وكتب فيه بالخط المصري هذين الاسمين «ليون رولاند في شارع البوربون، وسريز في شارع التامبل»، ثم كتب تحتهما هذه المذكرة: «يجب البحث عن الغاية التي دفعت نيقولا وفاتح الأقفال إلى الاعتداء على ليون وخطيبته.» وبعد أن فرغ من الكتابة أخذ يقلِّب صفحات الدفتر، ثم غلبت عليه الهواجس فغرق في تأملات عميقة.

وما زال على أتم الذهول حتى قرع الباب ودخل بستيان فقال: إن تلك الابنة التي أرسلتني لأبحث عنها تسكن في الطبقة الرابعة من المنزل، وقد توفقت لإيجاد منزل مقابل له فاستأجرته بستمائة فرنك، وبعد ذلك ذهبت إلى البوَّاب واستطلعت منه كُنْه أمر الصبية، فقال لي: إنها تُدعَى حنة بالدر وإنها حسنة التربية، أما أجرة منزلها فهي ثلاثمائة فرنك، وهي عائشة مع خادمة لها طاعنة في السن شديدة الطوع لها، وهي حسنة السيرة جدًّا لا تزور ولا تزار، وقد أخبرني البواب أنه شاهد منذ يومين نورًا في غرفتها بعد منتصف الليل، ففحص عن ذلك فعلم أنها تشتغل أشغالًا يدوية، ولم يكن يراها تشتغل قبل هذا العهد.

وقد كانت من قبلُ تسكن منزلًا كبيرًا في شارع شابون إلى أن ماتت أمها، ولم يَبْقَ لديها من المال ما يتيح لها أن تعيش في بذخها السابق، فتركت ذلك المنزل الأنيق، واستبدلته بهذا المنزل الحقير بغية الاقتصاد، ويظهر أنها اضطرت لفقرها أن تعيش من أشغال يدها، وهي حسنة الصيت وافرة الأدب، وجميع معارفها من الأعيان.

وبينما كان بستيان يقص أخبار حنة كان قلب أرمان يختلج بعاطفة سرية، وقد طفح سرورًا بما سمع.

ثم قال بستيان: وقد علمت أيضًا من البوَّاب أنه كان عندها في منزلها القديم بيانو، وعندما استبدلت منزلها لم تنقله إليه، مما يدل على أنها اضطرت لفقرها إلى بيعه.

فقال أرمان: إذن اذهب واشتري بيانو قديم الطراز، وأنا أعلم أنك لا تعرف أن تعزف على هذه الآلة، ولكني أرغب إليك أن تشتريها وتنقلها لمنزلك، ثم تدَّعِي أن منزلك ضيق، وأن هذه الآلة لا يمكنك أن تبيعها؛ لأنها كانت لابنتك وهي آخِر تذكار بقي لك منها، فترجو السيدة أن تسمح لك بأن تودعها عندها.

فامتثل بستيان ومضى لينفذ أمر سيده. أما أرمان فإنه وضع رأسه بين يديه، وانتقل إلى عالم التصور والخيال، فصوَّرَتْ له أوهامه تذكار تلك الفتاة مرتا، التي طالما أحبها وطالما حاول إنقاذها من أندريا الخائن، فلم يقدر على ذلك.

وكان هذا الخيال الذي هو خيال حبِّه الماضي المشئوم، قد تجلَّى لديه بكمال صورته كأنه يغالب غرامه الجديد، ولكنه لم يمكنه أن يقوى عليه؛ لأن ذلك الحب القديم لم يَبْقَ منه إلا أثر صغير، وقد محت باقيه تقلباتُ الأيام في ذلك القلب الذي ملأته ظلمة الأحزان، حتى لم يَعُدْ يغيِّر فيه الأمل إلا نورًا ضعيفًا يحلي من وراءه صورة المحبوبة الجديدة، وتنبت من تحت أكداره زهرة الحب الجديد كما تنبت الوردة تحت الشوك، وكما يخضر غصن الآس بين المقابر، وإنما كان ذلك لأن القلب لا يزال يحب ما دام حيًّا، وكل حب قديم يحدث فيه لا يكون إلا رمادًا تلوح من تحته نيران الحب الكامن؛ ولذلك لم يكد خيال مرتا يمتثل لعينيه إلا نظر من ورائه تلك البسمة الحلوة على شفتي حنة، كأنها اليقظة تمحو الأحلام، والنور يبدِّد غياهب الظلام، والذي كان يساعده على زوال تلك الصورة الماضية هو ما كان يتصور معها من تذكار أندريا عدوه، الذي طالما طبع على فؤاده من ذكرى المصائب ما لا يكاد يمحوه كرور الأيام، ثم قال في نفسه: كيف يكون حظي لو أحببت هذه الفتاة، ثم ظهر بيننا خيال أندريا الجهنمي وعرف بحبنا، وكاد لنا كيدًا كما فعل في أمي وأمه وحبيبتي وحبيبته؟

(٢١) بستيان

وكانت حنة قد أصيبت بنفس ما أصيب به أرمان من الحب، وهي وإنْ تكن قد رأته بملابس الفَعَلَة غير أنها أيقنت لمَّا رأته من حسن أدبه وكرم أخلاقه أنه بلباس التخفي، وأنه يستر تحت تلك الملابس نفسًا طاهرة، وأدبًا وافرًا، ومنزلة عالية بين أرباب المقامات، ولم تكن تعرف الحب من قبلُ، فصرفت معظم ليلتها بالتصورات المقلقة، ونهضت في الصباح باكرًا، وهي على ما كانت عليه من الاضطراب، فاستسلمت إلى التأملات ولم يوقظها من تلك الغفلة غير صوت بستيان الذي كان منهمكًا حينئذٍ في نقل أثاثه وهو يتباحث مع البواب بصوت مرتفع في شأن البيانو، وأين يجب أن يضعه، فأشار عليه البواب أن يودعه في منزل السيدة حنة، وكان على اتفاق مع بستيان في ذلك الشأن، بحيث إنه كان يتكلم بصوت مرتفع بلغ إلى مسمع حنة، فاختلج له فؤادها اختلاجًا شديدًا.

وكان بعد ذلك أن بستيان دخل إلى حنة، فتعرَّف بها واستأذنها بوضع البيانو عندها، حسبما أوعز إليه أرمان، ولما رتب منزله ولم يَعُدْ لديه ما يشغله فيه أقفله وخرج منه، فاستأجر مركبة، وأمر السائق بالذهاب إلى شارع سنت كاترين، وفيما تسير به المركبة حانت منه التفاتة، فرأى مركبة قادمة من جهة الباستيل وهي تسابق في مسيرها الهواء، وكان يقود هذه المركبة شاب عليه ملامح الأشراف، وبالقرب منه خادم كان جالسًا وراءه مكتوف اليدين، فحدَّق بستيان نظره في ذلك الشاب، ولم يكد ينتبه إليه حتى صاح منذعرًا: يا إلهي! إن هذا أندريا وقد صبغ شعره بالسواد.

ثم نظر إلى السائق وقال: إنك إذا تمكَّنْتَ من أن تسير في إثر هذه المركبة بحيث لا تحتجب عنك، فإني أجازيك خير الجزاء.

فضرب السائق الجواد بالسوط، فانطلق يعدو كالسهم، وما زال يسير في إثر المركبة حتى وقفت أمام قصر جميل بهيج المنظر، فنزل الشاب منها، ودخل إلى القصر مسرعًا. أما بستيان فإنه أوقف المركبة على بُعْد قليل، وتقدَّم إلى مركبة الشاب فوقف أمام الجواد، وجعل يكلف أن يفحصه وقد أعجب به، ثم نظر إلى الخادم وقال له: أيبيع سيدك هذا الجواد؟

– لا أعلم، وإذا شئتَ فاسأله عن ذلك.

– مَن هو سيدك؟

– إنه إنكليزي يُدعَى السير فيليام.

– وأين منزله؟

– هو الذي تراه أمامك.

– أهو الذي كان يسوق المركبة بنفسه وكنتَ وراءه.

– نعم.

فتركه بستيان ودخل إلى ذلك القصر، فأوصله أحد الخدم إلى غرفة أندريا، واستأذن له بالدخول فدخل.

وكان أندريا قد غادر باريس منذ ثلاثة أعوام، فتغيَّرَتْ هيأته بعض التغيير، ولكنها لم تكن تخفى على بستيان الذي ربَّاه منذ نشأته. فلما رآه اندهش وظهرت منه إشارة الانذهال بالرغم منه، فلم يحفل بها أندريا، فقال بستيان: إني رأيت ذلك الجواد الكريم الذي كنتَ تسوقه، وقد أعجبت به غاية الإعجاب.

فأجاب أندريا بلهجة إنكليزية: إنه من خير الجياد، وقد أعطيت فيه ستة آلاف فرنك فأبيت بيعه.

– أَلَا تزال إلى الآن تأبى هذا الثمن؟

– نعم.

وعند ذلك نهض أندريا فذهب إلى منضدة وأخذ سيكارة، فقدَّمَها إلى بستيان الذي رأى به عرجًا، فصاح وقد نسي موقفه قائلًا: هذا هو بعينه.

وكان ذلك أن أندريا قد كبا به الجواد مرة في حداثته، فكُسِرت رجله وبقي فيها هذا العرج، فلما رآه بستيان يعرج لم يَعُدْ عنده شك به.

أما أندريا فإنه سمعه يقول: «هذا هو بعينه.» التفت إليه وقال بغاية الهدوء: أتعرفني يا سيدي، إني لم أَرَكَ قبل الآن؟

– لقد قيل لي إنك تُدعَى السير فيليام، وهذه أول مرة أرى فيها إنكليزيًّا ذا شعر أسود.

– لستُ إنكليزيًّا بل أنا أيرلندي.

فقال بستيان ببرود: أظن أنك وُلِدتُ في فرنسا.

– إنك غلطان يا سيدي فيما ظننتَ.

– لا أراني غلطانًا، بل إنك مولود في فرنسا بقصر كارلوفان.

ثم وقف وقال: وإن أباك يُدعَى فيليبون.

– أعود وأقول لك إنك مخطئ.

– وأنا أقول لك أيضًا إن أباك الكونت فيليبون، قد تزوَّج بأرملة الكولونيل أرمان دي كركاز، وإن له منها ولدًا وهو أخوك.

– ليس لي أخوة ولم أولد بفرنسا، وليس أبي الكونت فيليبون، بل أنا وحيد، وُلِدْتُ في أيرلندا، وأُدعَى السير فيليام.

– إن أخاك يُدعَى الكونت أرمان دي كركاز، كما أنك تُدعَى الفيكونت أندريا.

فأجابه أندريا ببرود أدهش بستيان قائلًا: إنك مخطئ، فإني لم أسمَّ بهذا الاسم.

– أصغِ إليَّ أيها الفيكونت، إن أخاك قد بحث عنك طويلًا في جميع الأنحاء، وهو قد غفر لك وعفا عنك، وعزم على أن يقاسمك ثروته، فإن قلبه الشريف لا يعرف الحقد، ولا سيما وأنتما ابنا أم واحدة، فهو يود أن تعيشا في منزل واحد، وقد تيسَّرَ لي بعد ما بذلت من العناء في التفتيش عنك أن أجدك، فلماذا تحاول الاحتجاب عني.

فأجابه أندريا بغاية الهدوء والسكينة: إني أقسم لك إنك مخطئ، وإني لا أعرف الكونت دي كركاز، ولا اسمي الفيكونت أندريا، ولم أتشرف برؤياك قبل الآن.

أما بستيان فإنه رأى مسعاه قد أخفق، وقد بذل ما لديه من الوسائل، فإنه استعمل في بادئ الأمر الحيلة، ثم ذكر له ثروة أرمان الواسعة، وأن أخاه يبحث عنه في كل مكان ليشاطره هذه الثروة، آملًا أن تثور به المطامع، فيخلع ثوب الخفاء ويعترف باسمه الحقيقي، فذهبت جميع آماله أدراج الرياح.

وكان بستيان على كهولته شديد الأعصاب متينَ القُوَى، فلما رأى إخفاقه ثار به الغضب، فتقدَّمَ من أندريا، وقبض عليه بيدين من الفولاذ، وهو يقول: أيها الفيكونت، إنك لا تستطيع أن تخدعني طويلًا، وستعرف الآن أنكَ لستَ بالسير فيليام؟

فتصنَّعَ أندريا الانذهال، وأجابه باللهجة الإنكليزية المعهودة قائلًا: أَلَا تريد أن تدعني وشأني، فقد ابتدأت أن أحسبك مجنونًا؟

– لتعلمن أيها الفيكونت أني أشد منك ساعدًا، وأني قادر على خنقك ببضع ثوانٍ، فاحذر من أن تستغيث إذ لا يُجدِيك الصراخ نفعًا.

– إذن تريد قتلي؟

– كلا، بل إني أريد أن أجرِّدك من ثيابك، وأكشف عن صدرك لأتبين فيه علامة أعهدها من قبلُ، فإني رأيتك عاريًا مرارًا كثيرة في حداثتك، وكنتُ أرى تحت ثديك الأيمن شامة سوداء.

– إن بصدري كثيرًا من تلك الشامات، وستحقِّق ما أرتك عيناك من الأوهام.

ثم أفلت منه ونزع ثوبه ومزَّق قميصه، فظهر من تحته صدر كثير الشعر ملآن من تلك الشامات السوداء التي تسميها النساء حبات الجمال، فارتاع بستيان مما رآه، ورجع إلى الوراء، وقد علا وجهه الاصفرار، وهو يقول: ليس هو إياه ولكن الشبه شديد.

وكان السير فيليام هو ذات أندريا، ولكن لم يَدُرْ بخلد ذلك الكهل الطيب السريرة أنه صبغ شعره بلون السواد، وأخفى كل أثر يعرف فيه.

ووقف الاثنان بعد ذلك ينظر كلٌّ منهما إلى الآخَر إلى أن افتتح أندريا الحديث، فقال: إن كل ما ظهر لي منك يدل على الجنون، فأنت دخلت إليَّ وأنا لا أعرفك، ودعوتني باسم رجل لم أسمع بذكره في حياتي، وعندما أظهرت لك خطأك بلطف وأدب هجمت عليَّ هجوم الكواسر، فأنا أعتبر أنك أهنتني.

فأجاب بستيان بصوت المتوسل، وقد شعر بما ارتكب من الخطأ: أسألك أن تتعطف بالإصغاء إليَّ دقيقةً واحدةً. فاعلم الآن أن أندريا الذي دعوته بالفيكونت أندريا والذي يُشبِهك شبهًا غريبًا، هو رجل شرير وأهل لكل الذنوب، وإن له أخًا يُدعَى الكونت أرمان دي كركاز له من النبل ومكارم الأخلاق بقدر ما لذلك الخائن من الدناءة والشؤم والإقدام على كل منكر. أما ذلك الخائن، فهو شديد الحقد على أخيه الذي رد إليه الشرع ثروةً واسعةً كان سلبها أبوه من أبيه؛ إذ هو أحق منه بها، وقد سافر منذ ثلاث سنوات من باريس على إثر ذلك وهو يجد ولا ريب وراء وسائل الانتقام؛ لأنه على ما أَبَنْتُ لك أهل لكل شر، وإني أحب الكونت دي كركاز كما يحب الأب ابنه، وهو يحب فتاة طاهرة الأخلاق، فإذا علم بأمرها ذلك الخائن، فهو لا يعدم وسيلة لغوايتها؛ لأنه هو شديد المكر كثير طرق الغواية. وقد علمتَ الآن أن الذي دفعني إلى التصرف معك، على ما أنكرته عليَّ، لم يكن إلا ذلك الشبه الغريب، ومع ذلك أعتذر إليك وأسألك الصفح عما كان.

فلبث أندريا هنيهة يفتكر ثم قال له ببرود: إن ذلك الحديث الذي قصصته عليَّ جليلَ الفائدة، ولكنه لا يرضيني تمام الرضى، ولا أجد سبيلًا للعفو عما أسأت إليَّ به؛ لذلك أسألك أيضًا أن تخبرني عن اسمك وعن محل سكنك، فإني لم أقتنع بسلامة قصدك.

فأجابه بستيان، وقد وقع عليه هذا الكلام وقوع الصواعق: إني أُدعَى بستيان.

فأجابه أندريا باحتقار: بستيان ماذا؟

– بستيان فقط؛ فإني نشأت في باريس، ووُلِدْتُ بها دون أن أعرف اسم أبي، ولكن نابوليون العظيم قلَّدَني وسامًا في معركة واغرام، وسمَّاني قائدًا في فرقة الحرس.

فقال أندريا: لا بأس في ذلك، فإن بيني وبينك شيئًا من التكافؤ، وقد قلتُ لك إني لم يسعني قبول عذرك، فأنا أسألك ترضيةً عما فرط منك.

– ليكن ما تريد، فقد علمت اسمي، وإني أقيم في شارع سنت كاترين في منزل الكونت أرمان دي كركاز.

– حسنًا، وسأبعث لك بشهودي بعد غد؛ لأني مقيَّد اليوم وفي الغد.

– إنك تجدني طوع أمرك عندما تشاء.

ثم أخذ من جيبه رقعة زيارة فوضعها على المستوقد وحيَّا أندريا وذهب، فشيَّعه إلى خارج الباب.

ولما خلا أندريا بنفسه جعل يضحك ضحك الساخر، وهو يقول بنفسه: إني كنتُ أجهل أن أخي العزيز عاشق، وقد كنت أظن أنه اكتفى بما لقيه من حبه السابق، إلى أن أعلمني بذلك بستيان، فصحَّ ما قيل: «ويأتيك بالأخبار مَنْ لم تُزَوِّد.» أما الآن فإنه ذهب وهو واثق من أني غير أندريا، وإن العدو الخفي أشد هولًا من العدو الظاهر، وسيكون ذلك الأخ العزيز شاهده بلا ريب، فسنتقابل وجهًا لوجه، وسأعلم كيف أقنعه أني أيرلندي الأصل، حتى إذا تزوَّجْتُ بهرمين أطلب منه ملايين كرماروت فيدفعها لي بغير صعوبة.

وفيما هو في هذه التأملات إذ وردَتْ عليه رسالة من كولار ففضَّها، وقرأ بها ما يأتي:

إن الفتاة التي يحبها أرمان دي كركاز تُدعَى حنة دي بالدر، وهي بارعة في الجمال ومنزلها في شارع مسلي.

فسُرَّ بهذا النبأ وقال: سأجتهد بعد أن أقتل بستيان بأن أتخذها خليلةً لي.

أما بستيان فإنه خرج من منزل أندريا أصفر الوجه شديد الاضطراب، وذهب إلى أرمان فقصَّ عليه جميع ما كان بينه وبين السير فيليام، فارتاع لذكر أندريا إلى أن تيقَّنَ أن السير فيليام شبيهٌ له وليس هو بعينه، فاطمأن ولم يَعُدْ يشغله سوى منع هذه المبارزة بإحدى الوسائل لخوفه على بستيان. وبعد أن فرغ بستيان من حكايته قصَّ عليه ما كان بينه وبين حنة، فسُرَّ لنجاحه وقال له: اذهب إلى منزلك الجديد واختلق عذرًا يمكنك من زيارة حنة، ولا تخرج من عندها إلا حينما تسمع قرعًا على باب منزلك، وأكون أنا القارع، فتخرج وتشيعك هي بالطبع إلى الباب حيث أكون أنا هناك.

– قد فهمت.

وذهب للحال لينفذ ما عُهِد إليه، ولم يكد يخرج بستيان من الباب حتى دخل خادم المنزل، وفي يده رسالة، ففضَّهَا أرمان وقرأ هذه السطور:

إنه في شهر أكتوبر عام ١٨٠٠، أي في غضون الحرب الإسبانية، ذهبت فتاة صبية تُدعَى تريزا مع أمها إلى قرية بجوار فونتنبلو، فأقامتا فيها فصْلَي الشتاء والربيع، وعندما رجعتا كانت الفتاة حبلى، ولا يُعلَم هل كانت أرملة أم أنها ارتكبت خطأ، وقد ولدت في آخِر الربيع ابنة دعتها هرمين، ثم أقامت عامًا كاملًا في مارلوت، وسافرت في آخِر أكتوبر إلى باريس، فأشيع في مارلوت أنها ذهبت لتتزوج، ويؤكدون أنها تزوَّجَتْ برجل مستخدَم في الوزارة.

هذا هو مفاد الرسالة التي لم يهتم بها أرمان كثيرًا؛ لكثرة ما كان يرد عليه من أمثالها في كل يوم، ولكنه أخذ دفترَ مذكراته، وكتب فيه بالخط المصري:

يجب البحث إذا كان يوجد رجل في وزارة الخارجية قد تزوَّج في آخِر شهر أكتوبر من سنة ١٨٠٠ بابنة تُدعَى تريزا، وإذا كان لها ابنة تُدعَى هرمين.

ثم أرجع الدفتر إلى مكانه، وذهب إلى منزل بستيان الذي كان ساعتئذٍ عند حنة، فقرع الباب، وجاء الأمر طبقًا لما تصوَّرَه، فإن بستيان عندما سمع القرع استأذن من حنة، فخرجت تشيعه إلى الباب الخارجي حيث كان أرمان ينتظر وقلبه شديد الخفوق.

فلم تكد تراه حتى عرفته فاصفرَّ وجهها، واختلج فؤادها، ولكنها تجلَّدَتْ وانحنت مسلِّمةً عليه بابتسام، ثم دخلت إلى غرفتها وأغلقت الباب. أما أرمان فلم يخفَ عليه اضطرابها، فكان سروره لا يوصف.

(٢٢) الرسالة

مرَّ على ذلك يومان، وقد جرى من الحوادث ما عرفه القراء؛ كأَسْرِ سريز في منزل مدام فيبار خارج باريس، وسجْنِ فرناند لاتهامه بالسرقة، وحبسِ باكارا في مستشفي المجانين، واتفاق أندريا مع بيرابو على الزواج بهرمين. فبينما كان أندريا جالسًا في منزله في اليوم الثاني من اتفاقه على المبارزة مع بستيان، وهو قد نال جميع ما يبتغيه من إبعاد جميع مَن يخشى أن يعترضوا في سبيل مساعيه، بحيث لم يَبْقَ عليه سوى إقناع هرمين على الزواج به ليفوز بتلك الملايين، إذ دخل عليه بيرابو، ودار بينهما الحديث الآتي:

فقال بيرابو: إني أتيت لأخبرك عن سفر هرمين وأمها.

– إلى أين سافرتا؟

– إلى بريطانيا، فإن لنا فيها بعض الأنسباء، ولا إخال أن فرناند يستطيع الوصول إليها.

فأجابه أندريا ضاحكًا: يقتضي له للوصول إليها أن تصادِق الحكومة على سفره.

– ذلك مستحيل فإن جرمه قد ثبت، وسيُحكَم عليه بأقرب حين.

– أَلَا توافقني يا عماه على رأيي، وهو أن الحكومة تقدر أن تعثر على المجرم الحقيقي.

فارتعش بيرابو وقال: ذلك لا ريب فيه.

– إذن إن هرمين وأمها قد سافرتا.

– أجل، إن هرمين قد حاولت الانتحار في بادئ الأمر، ثم الآن لانت بعض اللين ورضيت بالسفر.

– إن السفر خير بلسمٍ لجراح الأحزان، وإن العشاق يسافرون باليأس ويرجعون بالنسيان، فلا دواء لمثل هذه الأمراض خير من السفر.

– لا ريب عندي بشعائر هرمين، لا سيما عندما تعلم جريمة فرناند.

– كلا، لم يَحِن الوقت بعدُ لإطلاعها على ذلك؛ حذرًا من أن يؤثر عليها تأثيرًا لا تُحمَد عقباه، وإن النساء غريبات الأطوار، فربما زادتها خيانة مَن تحب تعلُّقًا به. وفي كل حال يجب أولًا أن يصدر حكم المجلس.

– كما تشاء.

– بقي عليَّ أن أسألك إذا كان يمكنك أن تعرفني بأنسبائك في بريطانيا عندما أذهب إليها.

– لقد افتكرت بذلك من قبلُ ورتَّبْتُه على أحسن منوال؛ فإن كبير العائلة شديد الولع بالصيد، محب لكل راغب فيه، ولا أيسر لك من أن تتظاهر بشدة الميل إلى الصيد، فتلتحم بينكما العلائق، وتتصل إلى العائلة فلا يمضي الشهر إلا وأنت صهري.

– وعند ذلك تنعم بسريز وبحظك من الملايين.

– يجب أن أصبر شهرًا كاملًا، إن ذلك لأجل طويل، وإني أكاد أجن من شوقي إليها.

– ذلك منوط بك، فإذا أمكنك أن تزفَّ هرمين إليَّ بعد أسبوع تكون لك سريز، وهذه هي طريقتي واحدة بواحدة جزاء.

– لا أراك مصيبًا في ذلك؛ لأنك تعلم ما ينالني من الفائدة بزواجك هرمين، وأنت وحدك تعرف.

– تريد أن تقول إني وحدي أعرف المُودَعَة عنده تلك الملايين، ولكن أَلَا يتفق لذلك الرجل المُودَعَة عنده أن يعلم اتفاقًا أو بإحدى الطرق اسم الوارث، فإذا أعطيتك سريز الآن، واتفق بعد ذلك حصول هرمين على الإرث، فإنك ترفض لتستأثر دوني بالملايين.

– ولكن أنسيت أني المجرم الحقيقي في مسألة فرناند؟

– لم أنسَ ذلك، ولكن الرابطين أشد من الرابط، ومَن كان مثلك فإنه يتحمَّل كل عارٍ لكسب الدراهم، ولكنه ينفق ذلك الدرهم في سبيل غرامه، ولا أشد من غرام الشيوخ، فإذا أعطيتك سريز فإنك تلبث في خدمتي، ولكنك تخدمني ببطء كشريكك في الجرم، وأنا أريد أن تخدمني بغيرة كعاشق؛ لذلك أعود فأؤكد لك أني في اليوم الذي أتزوج فيه بهرمين تنعم أنت بسريز، وَلْنَدَعِ الآن الخوض في هذا إذ لا فائدة منه، واعلم أني سأذهب بعد بضعة أيام إلى بريطانيا، فعليك أن تستأذن من الوزارة فتذهب قبلي إلى امرأتك وابنتك، واجتهد أن تكتب لي في كل يوم عن هرمين، وأن تمهِّد لي السبيل.

– سأعمل كما أشرت وسأسافر اليوم.

ثم ودَّعه وانصرف، وخرج أندريا بعده، وذهب إلى السفارة الإنكليزية حيث اجتمع بصديقين له فيها، وعرض عليهما ما كان بينه وبين بستيان، وسألهما أن يكونا شاهديه، فقبلوا وخرجوا سوية من السفارة، فرجع أندريا إلى منزله، وذهب الشاهدان إلى منزل الكونت أرمان دي كركاز ليتفقا مع بستيان على شروط المبارزة، فلم يجداه بل وجدا أرمان الذي بذل ما في وسعه لمنع المبارزة، فلم يجد إلى ذلك سبيلًا؛ لما اشتهر به الإنكليز من العناد في مثل هذا الموقف، فاتفقوا على أن المبارزة تكون بالسيف، ويكون الملتقى في الساعة السابعة من الغد في غابة بولونيا، ثم تركاه وذهبا إلى أندريا فأخبراه بما كان، وبعد أن ذهبا وردت إلى أندريا رسالة من كولار هذا نصها:

أكتب إليك الآن من منزل فتاة بجوار منزل حنة قد أغويتها بحيث أصبحت آلة في يدي أديرها كيف أشاء. وقد وثقت الآن أن بستيان لا يبيت هذه الليلة في منزله الجديد، فلا يبقى أحد بجوار حنة، بحيث يخلو لنا الجو، فتدبَّرْ وسأحضر إليك بعد قليل للمداولة في هذا الشأن.

أما حنة فإنها كانت قد اجتمعت مرارًا ببستيان، فعلمت منه نزاهة قصد أرمان وشغفه بها وشدة رغبته بالاقتران بها؛ ما زاد حبها له وحقَّق أمانيها، ثم زارها أرمان فحقَّق بالعيان ما كانت علمته بالخبر، بحيث أصبحت لا تحلم إلا بتلك الأماني الزاهرة، ولا تحدِّث نفسها إلا بحب أرمان وبما ستلاقي معه من الغبطة والسعادة، وكانت قد استوثقت بينهما العلائق، فكان يُكثِر من زيارتها على قدر ما يسمح له المقام.

وقد علم القراء أنه عندما أتى شاهِدَا أندريا كان بستيان في منزله الجديد، فذهب إليه أرمان وتباحث مليًّا بشأن البِرَاز، وكانا يتكلمان بصوت مرتفع بحيث سمعت حنة بعض حديثهما، وعلمت أنه سيحصل مبارزة ولكنها لم تعلم اسم المتبارزين، وكان آخِر ما قال أرمان لبستيان: يجب أن تذهب الآن لترتِّب هذا الأمر المكدر، وأنت تعلم أنها تحبني بقدر ما أحبها، ويسئوني أنني لا أستطيع زيارتها في هذا المساء، حيث علينا أن ننام باكرًا، وأما غدًا فإنك تأتي إليها من قِبَلي وتخطبها رسميًّا بالنيابة عني. ثم انصرفا.

فاختلجت حنة لما سمعت وسقطت على كرسي في حالة تقرب من الإغماء وتقول: رباه! ما عسى أن يكون هذا الأمر المكدر!

ولبثت بعد ذلك ساعتين وهي غارقة في بحار الهواجس والقلق، إلى أن قُرِع الباب، فانتبهت من سبات غفلتها ونظرت إلى حاضنتها جرتريدة داخلة وبيدها رسالة مختومة، فقالت: لقد كلَّفَني رجل لا أعرفه بأن أعطيك هذا الكتاب، ثم دفعته إليها ومضت، وفضَّتْ حنة ختامه وقرأت ما يأتي:

أول ما أبدأ به سؤالك المعذرة عما جسرت عليه من مكاتبتك.

فظنت أن هذا الكتاب قادم إليها من أرمان، فبحثت آخِره لترى التوقيع فرأته غفلًا، فعادت إلى القراءة:

إني أحبك يا سيدتي، وأول مرة نظرتك علمت أن قلبي قد شُغِل بعد ذلك الخلاء بهواكِ، وإن بكِ وحدكِ يناط مستقبل سعادتي.

فوضعت حنة يدها على قلبها وهي تقول: رباه! هذا هو. ثم استمرت في قراءتها:

إني واسع الثروة أيتها الحبيبة، وقد رأيتك ملاكًا طاهرًا، فأعددت لك جنة أعيش فيها على قدميك متى أراد الله تحقيق هذه الأماني، ولا أصح من تسميتها بذلك المنزل الأنيق الذي تحيط به الأشجار، وتكتنفه الرياحين والأزهار، وتئن فيه الأنهار لتغريد الأطيار حيث تناجي بلسان الهوى وتكشف أسرار القلوب؛ لأنك ستقيمين فيه، ومنازل الملائكة هي الجنات.

أيتها الحبيبة، إني لم أجسر أن أبوح لك بغرامي؛ لأني معرَّض لخطر عظيم، فإني سأبارز عدوًّا لي في الساعة السابعة من الصباح.

فما قرأت هذه الفقرة حتى شعرت أن الأرض قد انطبقت عليها، فصاحت صيحة عظيمة، وسقطت على الأرض مغشيًّا عليها.

وعندما أفاقت من إغمائها وجدت نفسها مضطجعة على سريرها، وأمامها حاضنتها جرتريدة وفتاة حسناء عليها ملامح الضنك، وفي عينيها ما يدل على المكر والرياء.

وكانت هذه الفتاة هي التي أغواها كولار، وكتب في منزلها رسالته السابقة إلى أندريا، وقد سمعت صيحة حنة قبل إغمائها وسقوطها واستغاثة جرتريدة، فأتت مدفوعة من كولار الذي كان باقيًا عندها، وعرضت على جرتريدة مساعدتها فقبلتها.

أما حنة فإنها لم تلبث عندما استفاقت أن عادت إلى الافتكار بأرمان، وأنه في خطر عظيم، فعزمت على أن تذهب إلى منزله، وتبذل كل ما تستطيع في سبيل منع هذه المبارزة، ثم رأت خيالًا قد انتصب أمام عينيها وخُيِّلَ لها أنه يقول: «لا يجب على المرأة الشريفة أن تمنع مَن تهواه عن أن يخاطر بحياته للدفاع عن شرفه.» وكان هذا الخيال خيال أبيها، فنهضت من فراشها فركعت أمام صليب معلَّق في الحائط وصلَّتْ، ثم رجعت إلى الفراش فمكثت ريثما تناولت قليلًا من المرق، ولم يمر على ذلك عشر دقائق حتى استرخت عيناها وشعرت بنعاس عظيم لم تستطع مقاومته، وثقل رأسها فانطرحت على الفراش، وكانت جرتريدة جالسة بالقرب منها على كرسي طويل.

وبعد ذلك بساعة فُتِح باب الغرفة، ودخل إليها رجل ومشى إلى فراش حنة وهو يضحك ضحك الساخر ويقول: خليلتي قد أتمت واجباتها على ما يرام، ووضعت في القدر جميع ما أعطيتها من المرقد بحيث أن صوت المدافع لا يقوى على إيقاظ خليلة السير فيليام المستقبلة. وكان هذا الرجل هو كولار.

استيقظت حنة عند الضحى وقد نفدت أشعة الشمس إلى غرفتها، فنظرت إلى ما حولها فلم تَرَ ذلك الصليب الذي كانت تصلي أمامه بالأمس داعية لأرمان، وقد وجدت نفسها نائمة بملابسها على مقعد في غرفة متسعة، يُرَى من نوافذها أنها محاطة بالأشجار المرتفعة.

وقد رأت في وسط تلك الغرفة البديعة الأثاث سريرًا ذا عواميد موشحة بالذهب، وستائر من المخمل، وفيها جميع ما تحتاج إليه العذارى من كل ما يروق للعين ويحلو للنفس، وجميع أدوات الزينة مما يتفاخر به عظماء باريس، وتماثيل ومرائي مرتَّبَة أحسن ترتيب، مما يدل على سلامة ذوق مرتِّبها، وفي الجملة فإن هذه الغرفة كانت محتوية على كل ما تحلم به العذارى.

وقد خُيِّلَ لها أنها في حلم عندما رأت نفسها في غير منزلها، وفي غرفة توافق ذلك الكتاب الذي ورد إليها وهي تظنه من أرمان، فأخذ العرق ينصب من جبينها، وهي تجهد النفس ولا تقدر على حل شيء من هذه الألغاز، فقامت ومشت في أرض الغرفة ضائعة الصواب موجعة القلب، وهي لا تزال تعتقد أنها في حلم، ثم فتحت إحدى النوافذ فهبَّ في وجهها نسيم الصباح البليل، وأطلت منها على روضة غنَّاء كثيرة الأشجار، وسمعت تغريد الأطيار، فتمثلت لها تلك الجنة التي ذُكِرت في كتاب أرمان، ثم أخذت تفحص جميع الأشياء الموجودة في الغرفة المجهولة عندها، فتحققت أنها في يقظة، وأخذ الخوف يداخل قلبها وهي تقول: تُرَى أين أنا؟ وكيف جيء بي إلى هذا المنزل الذي تدل ظواهره على أنه خارج باريس؟ وما لي لا أرى حاضنتي جرتريدة؟ ويلاه! أفي يقظة أنا أم في منام؟ كلا، إن ذاك غريب لا محالة. ولكن نسيم الصباح الذي كان يبرد جبينها الملتهب، وأشعة الشمس التي كانت تتدفق على الحقول الخضراء، وتغريد الطيور التي كانت تتناجى في الشجر وتتناغى فوق رءوس القضب، وحفيف الأشجار وتمايل الغصون التي كانت ترقص لنغمات النسيم؛ كل ذلك كان يُثبِت لها أنها في يقظة. وفيما هي تتأمل في تلك الغرفة، وقع نظرها على رسالة مفتوحة على المستوقد، فأسرعت إليها وأول ما نظرتها رأت أن خطها هو نفس خط رسالة الأمس، فأخذتها إذ أيقنت أنها من أرمان وقرأت ما يأتي:

الساعة التاسعة صباحًا

لقد تبارزت في الساعة السابعة فانتصرت، وأنا سليم لم أُصَبْ بشيء.
فصاحت صيحة فرح وقالت في نفسها: ما يهمني بعد ذلك أن أعرف أين أنا، فإن الذي تحبه نفسي حي. ثم عادت إلى الرسالة تتم تلاوتها فقرأت:

دخلت إلى غرفتك أيتها الحبيبة فرأيتك نائمة فلم أوقظك، بل إني لثمت جبينك الوضاح كما يقبِّل الأخ أخته، ورجعت على الأثر بملء السكون.

أيها الملاك المحبوب، إنني أتصور فرط انذهالك عندما تستيقظين، وتجدين نفسك في مكان لا تعرفينه من قبلُ، وتجهلين كيف وصلتِ إليه، وأية يد قادرة اغتنمت فرصة رقادك ونقلتك إلى هذا القصر، بل إلى هذه الجنة التي لم تشد إلا لأجلك، فاطمئني أيتها الحبيبة إنني لا أحبك حبًّا بل أعبدك عبادة، وإن تلك اليد القادرة لا تستخدم قوتها إلا لخدمتك، فإن تلك اليد هي الحب.

فرجف قلب حنة ونظرت إلى ما حولها نظرة قلق ورعب، وقالت في نفسها: كيف يمكن أن ذلك الرجل الذي سمعته بالأمس يقول لبستيان «إنك ستخطبها لي في الغد رسميًّا» أن يجري على هذا السيل، أتراه يريد أن يتخذني خليلة له، وأنه اغتنم فرصة رقادي. ولم تجسر أن تطلق ظنها إلى ما وراء ذلك وعادت إلى تتمة الرسالة:

أيتها الحبيبة، إني رجل شريف، وأريد أن أبقى أهلًا لحبك الشريف، فإنك تحبينني بقدر ما أحبك، فتجدين نفسك على ما كنتِ من الطهارة، ومع ذاك فإني أسألك الصفح والمعذرة، فقد انتشلتك لأنني لم أستطع الصبر على ما رأيتك فيه من ضيق العيش، وأنفتُ من أن أراك تأوين إلى منزل حقير، وعلمت بأنك لا ترضين بالرحيل معي قبل أن يتم بيننا القران، فالتجأت إلى الحيلة، وأغريت خدم المنزل، ووضعت في طعامك مرقدًا، حتى إذا غفوت بتأثير ذاك المرقد نقلتك إلى مركبة مقفلة سارت بك كل الليل حتى وصلت إلى هذا المكان، ولكني أعود فأقول لك اطمئني؛ لأنك في منزلك، وستكونين امرأتي في أقرب حين.

فوضعت حنة يدها على قلبها، وهي تحاول تسكين خفقانه، ثم عادت إلى الرسالة فقرأت:

واعلمي أيتها الحبيبة، أنه قد يمر على المرء في حياته حوادث غريبة محاطة بالأسرار الخفية، فإني بالأمس كنتُ معرَّضًا لخطر البِرَاز وقد انتصرت فيه بحول الله، وأراني اليوم في خطر شديد أعظم من الأول، أما الأول فقد أنقذني منه ساعدي، وأما الثاني فلا ينقذني منه سواك، فانتبهي إلى ما أطلبه منك.

إن في ذاك سرًّا أيتها الحبيبة لا يتعلق بي وحدي ولا يسوغ لي إفشاؤه، وقد يمر عليك في هذا المكان بضعة أيام لا ترينني فيها، فاطمئني وثقي بي لأنني أحبك. إذا لم تبحثي أبدًا أين أنت، وإذا كنتِ لا تحاولين مغادرة هذا المنزل، وإذا كنتِ لا تسألين الخدم الذين جعلتهم منذ اليوم في خدمتك أقلَّ سؤال، أكون في مأمن من هذا الخطر، وإلا فإن أقل مخالفة تجرينها تقضي عليَّ بالموت، فتدبَّرِي واعملي بما يدعوك إليه واجب الحب.

وسيصلك مني رسالة في كل يوم، ثم لا تقلقي لبُعْدِ جرتريدة عنك، فإنني قد أخذتها معي لأنها تعلم بحبنا، وهذا أيضًا من الأسرار التي لا أستطيع أن أبوح بها لك الآن. فأستودعك الله أيتها الحبيبة على أمل اللقاء القريب.

وكان هذا الكتاب غفلًا كالكتاب السابق، أي بغير توقيع.

(٢٣) المبارزة

لندَعْ حنة الآن تعيد تلاوة هذا الكتاب الغريب، وَلْنعُدْ إلى أرمان وبستيان، فنقول إنهما خرجا من منزل بستيان، وذهبا توًّا إلى منزل أرمان حيث دخلا إلى قاعة السلاح، وامتحن أرمان بستيان بلعب السيف فوجده متين الساعد، ولكن لعبه قديم لا ينطبق على القواعد المقرَّرة في هذا العصر بما جعله في قلق عليه، ثم دخل كلٌّ إلى غرفته وناما باكرًا، وعند الساعة السادسة استيقظ أرمان فأيقظ بستيان، وقال له: هلم بنا الآن؛ إذ يجب علينا أن نصل قبلهم، فإن الفرنسيين لا يتأخرون.

ثم ذهبا إلى غابة بولونيا، فلم يلبثا هنيهة حتى قدم مسير فيليام مع شاهديه، وفيما هم في المركبة نظر إليهم أرمان، فاختلج واضطرب عندما رأى أندريا، وأشار إليه وهو يقول لبستيان: هل أنت واثق من أنه ليس أندريا بعينه؟

– إنني على أتم الثقة كما ثبت لي بعد الامتحان.

ثم وقفت المركبة ونزل أندريا منها مع شاهديه، فتبادلوا التحية، ودار بين أرمان وشاهدَيْ أندريا الحديث الآتي:

قال أرمان: نحن الآن يا سيدي في موقف حرج يتيح لنا المداولة بصراحة وجلاء، فلا يؤخذ كلامنا في غير مأخذه بما يمكن أن يتناول منه مس كرامة أو ظن، لسوء قصد، وإنني أستأذن منكما فألقي عليكما هذا السؤال: أتعرفان السير فيليام من زمن طويل، وهل تعتقدان أنه أيرلندي؟

– إننا نعرفه منذ شهرين، وقد اطَّلَعْنا على أوراقه العائلية، فهي تُثبِت أنه السير فيليام وأنه أيرلندي.

– لم يَعُدْ عندي ريب في ذاك، وإن كان الشبه عظيمًا بينه وبين أخي. والآن فإنني أرى أسباب البِرَاز طفيفة جدًّا بحيث يجب التساهل فيه، لا سيما وأن التباين شديدٌ بين سني المتبارزين.

– ونحن الآن على رأيك؛ لذلك نقترح أن يكف عن المبارزة عند أول جرح، وأن لا يقصد أحدهما قتل الآخَر.

– ليكن ما تريد، وليسرع في القتال.

فخلع المتبارزان سترتيهما وفحص الشهود السيفين، ثم أعطيت الإشارة، فبدأ العراك، وكان بستيان شديد الهياج في القتال خلافًا لأندريا الذي كان يقاتل بأتم السكون، كأنه يريد أن يقلِّد الإنكليز بجميع حركاتهم. أما أرمان فإنه علم لأول وهلة أن بستيان دون خصمه، يفضله بالثبات وقوة الساعد، ولم يمضِ على مبارزتهما خمس دقائق حتى صحَّ ظن أرمان، فإن أندريا دحر بستيان ووضع سيفه بصدره، فعفى عنه، ولم يدع الحسام يصل إلى جسمه، فأوقف أرمان القتال، ولم يَعُدْ لديه أقل ريب بأن السير فيليام هو إيرلندي، بدليل ما رآه من عفوه عن بستيان بعد المقدرة عليه، وهي شهامة لا يعرفها أندريا.

وبعد أن أوقف القتال واعترف بستيان بأنه مغلوب، تقدَّم أندريا وصافحه، ثم أشار إلى الحضور فقال: اسمحوا لي الآن أيها السادة أن أُظهِر لكم السبب الذي حملني على البِرَاز بعد أن قدَّمَ لي خصمي من الاعتذار ما هو كافٍ. ذاك أنني كنتُ يومًا جالسًا في أحد المنتديات مع بعض مواطنيَّ، فدار بيننا حديث عن البِرَاز فأنكره مواطنيَّ وقالوا إن الشرفاء لا يتبارزون، أما أنا فقد اعترضت عليهم، وأثبت وجوب المبارزة، وأخذت أترقب الفرص كي أثبت ما قلته بالفعل، ثم ما كان بيني وبين خصمي، فعزمت على مبارزته تأييدًا لقولي ورفضت قبول ذلك الاعتذار.

وبعد أن قال ذلك تقدَّم من أرمان فقال: يا سيدي الكونت، إني أُشبِه أخًا لك تبحث عنه منذ حين في سائر الأنحاء.

– لا أنكر وجود الشبه بينكم، ولكنكما تختلفان بالشعر فإن شعره أشقر وشعرك أسود.

– ومع ذلك فإنني أريد أن تزورني يومًا، فأُطلِعك على أوراقي التي تُثبِت لك حقيقة نسبي.

فاعتذرا له اعتذارًا حسنًا.

أما أندريا فتكلَّف هيئة ودية وأشار إلى الجميع، فقال: لا ريب أيها السادة أن كلًّا منكم قد أحبَّ امرأة واحدة في حياته على الأقل، أما أنا فإنني أعشق الآن فتاةً ملكت لبي، وقد أسكنتها بين الغابات لشدة غيرتي عليها، ولم أستطع أن أراها مساء أمس لاضطراري إلى الاجتماع بكم في هذا الصباح.

ثم التفت إلى أرمان فقال له: إنني أكون لك من الشاكرين أيها الكونت إذا تفضَّلْتَ وأوسعتَ في مركبتك مكانًا لشاهدَيَّ، كي أستأثر بمركبتي وحدي؛ فإنني غير راجع إلى باريس.

فأحنى أرمان رأسه إشارةً إلى القبول، وصعد أندريا إلى المركبة، وهو يقول: أليست السعادة الحقيقية أن يجتمع العاشق بمَن يحب، وعندي أن مَن يحب خطيبة له يجب عليه أن يخفيها عن جميع العيون.

فافتكر أرمان بحنة، واختلج قلبه، أما أندريا فإنه ضرب الجواد بالسوط وقال لأرمان بصوت الهازئ: إذا احببتَ امرأةً فإني أشير عليك أن تحافِظ عليها كما يجب.

فاصفرَّ وجه أرمان وافتكر ثانية بحنة، فملأ قلبه الخوف.

وسارت مركبة أندريا تعدو به كالبرق الخاطف ساعات طويلة إلى أن بلغت إلى ذاك المنزل الذي جلست فيه حنة وسريز، وهو منزل مدام فيبار، ففتح بابًا سريًّا ودخل منه، فنظر إلى الرمل وإذا عليه أثار أقدام، فتنهَّدَ تنهُّد الفرح، وقال: وقع الطير في الشَّرَك وقد أصبحت حنة لي.

وفيما هو يسير في الروضة، رأى كولار مضطجعًا تحت ظل شجرة على غاية الاطمئنان، فدنا منه وقال: ما وراءك من الأخبار؟

فنهض كولار ووقف أمامه بإكرام واحترام، وقال: إنها لا تزال نائمةً؟

– في أية ساعة تركَتِ المرقد؟

– في الساعة العاشرة.

فنظر أندريا إلى ساعته وقال: الآن ثمانية وهي لا تفيق قبل العاشرة. ثم مشيا سوية ودخلا إلى ذاك المنزل الأنيق، فولجا تلك الغرفة التي تركنا فيها حنة منذهلة مستغربة لوجودها في مثل هذا المكان، وكانت ساعتئذٍ نائمةً، فدنا منها وتفرَّس في وجهها، ثم قال: إني أهنِّئ أخي أرمان لسلامة ذوقه، فهي بالحقيقة على غاية من الجمال. وبعد ذلك سأل كولار عن سريز فقال: إنها لا تزال تبكي وتشكو من معاملة مدام فيبار.

فاغتاظ أندريا من ذلك، وقال له: اذهب وادعُ لي مدام فيبار، وأخبر سريز بأني قادم لزيارتها.

فذهب كولار وجلس أندريا بالقرب من منضدة، فكتب إلى حنة الرسالة التي مرَّ ذِكْرها، ثم نهض ووقف أمام حنة فجعل ينظرها ويقول: إنها بارعة الجمال وهي الآن متأثرة من المرقد فلا تشعر بشيء، ولو كان سواي لكان ينتقم انتقامًا أشد وأقسى، وأنا لا أريد جسم هذه الفتاة بل إني أريد قلبها، فهي قد ابتدأت أن تحب أرمان وستنتهي بأن تحبني، وقد كان يتمثل أرمان لها بالأمس شخص الفضيلة، ولكني سأدعها ترى فيه بعد ذلك المكر والدناءة والخداع، وأنه مخادع وقد انتحل اسمي ليتمكن به من غوايتها، فسأكون أنا أرمان الحقيقي بعينها، ويكون أرمان المنتحل الخائن.

وبعد أن انتهى من تصوراته قرع الجرس، فدخلت الخادمة وكان أعدَّها لخدمة حنة، فأمرها أن تدعو جميع الخدم، ولما أتوا قال لهم: إنني أعطي كلًّا منكم مائة دينار إذا كنتم تُظهِرون أمام هذه السيدة النائمة أنني أنا الكونت أرمان دي كركاز، وإذا كنتم تجعلونها تعتقد بذلك، وإلا فإنني أطردكم جميعًا.

ثم صرفهم وخرج في إثرهم وهو يقول: سينطلي مثل هذا المحال على سريز أيضًا، فإذا لم تقتنع حنة من الخدم، فهي تقتنع ولا ريب من صديقتها سريز!

(٢٤) الوعود

لقد تركنا سريز مغميًّا عليها في منزل مدام فيبار، وبعد أن أفاقت من إغمائها نقلتها إلى غرفة عالية حسنة الأثاث، ثم تركتها ومضت في شأنها بعد أن أقفلت الباب عليها، وكان أول ما بدأت به سريز بعدما رأت نفسها وحيدة بهذه الغرفة، أنها أسرعت إلى الباب وحاولت فتحه والخروج، ولكنها رأته مقفلًا فأخذت تصيح وتستغيث، ولكن لم يجبها غير الصدى، ولما لم تستطع شيئًا أخذت تبكي بكاء الأطفال. وعند الظهر دخلت عليها مدام فيبار بآنية طعام فرفضت أن تأكل، فتركتها وخرجت فأقفلت الباب من المخارج، وفي المساء عادت إليها بالطعام فرفضت أيضًا، فلم تكترث مدام فيبار بذلك، وفعلت نفس ما فعلته عند الظهر، وفي اليوم الثاني تغدت بالقليل من الطعام، وأرادت أن تخرج من الغرفة، فمنعتها العجوز وعاملتها أسوأ المعاملة.

ومضى على سريز في ذلك المجلس ثلاثة أيام حتى نضب الدمع من عينيها، وكادت تجن من اليأس، وفيما هي ذات يوم متَّكِئَة على النافذة فُتِح باب غرفتها ودخل منه السير فيليام، فلما رأته صاحت صيحة رعب شديدة، وركضت منذعرة إلى آخِر الغرفة كمَن تريد الهرب.

أما السير فيليام فكان هادئًا مبتسمًا، وقد تكلَّفَ هيئة اللطف والاحترام، فرفع قبعته وانحنى مسلِّمًا بمنتهى الأدب، وقال: اطمئني يا سيدتي، فإني رجل شريف.

فلبثت بمكانها تنظر إليه نظرة القلق والريبة، وقد ذهب عنها بعض ذلك الرعب، فقال لها بصوت رقيق: أصغي إليَّ يا سيدتي، فإني سأخبرك بما لا تعرفينه.

– أيمكن يا سيدي أن تكون أنت الآمِر بجميع ما كابدْتُه من المتاعب والإهانة؟

فتصنَّع أندريا الغضب وقال: مَن الذي جسر على ذلك؟

– تلك العجوز الشمطاء، التي قالت لي أنهم أَتَوا بي إلى هذا المكان بقصد أن …

فقاطعها أندريا وقال: كل ما قيل لك كذب وزور، وسأنتقم لك.

فقالت سريز وقد تهدَّجَ صوتها وأجهشت بالبكاء: إني أسيرة في هذه الغرفة منذ ثلاثة أيام، ولم أعلم شيئًا عن …

فلم يَدَعْها تتمم وقال: تريدين أن تقولي إنك لم تعلمي شيئًا عن خطيبك ليون رولاند … اطمئني، ولينعم بالك فإن خطيبك يستحق حبك، وسأجعل لك مهرًا يتسع فيه حالكما بحيث تعيشان على أتم السعادة.

فتنهدت سريز تنهُّدَ الفرح، وقالت: لم أكن أصدِّق أبدًا يا سيدي ما كانَتْ تقوله لي هذه العجوز.

– ماذا كانت تقول لك؟

– إنه لم يُؤتَ بي إلى هنا إلا بأمرك … لأنك شاب واسع الثروة، وأنا صبية فقيرة …

– فتظاهر أندريا أنه التهب من الغيظ، وقال: أنا الكونت أرمان دي كركاز، أرتكب مثل هذه الدناءة!

– أنت يا سيدي هو الكونت أرمان دي كركاز؟

– أجل يا ابنتي، وقد عرفت خطيبك ليون بواسطة خادمي بستيان الذي قد رأيته ولا ريب، فهو ذلك الرجل الذي أنقذكم من أخصامكم في فندق بلفيل.

– أجل، أجل، إني أذكر ذلك وقد عرفته.

– إذن فأصغي إليَّ ولا تخشي أبدًا، فإنك حسناء فاضلة وكذلك ليون، فهو أهل لك، وأنا سأكون لك بمثابة أب أو أخ، فإن مدام فيبار قد قالت شيئًا من الحقيقة، وهو أنه قد أُتِيَ بك إلى هنا بأمري، ولكن ما قالته لك من أني أريد غوايتك إفك وبهتان، والذي يجب علينا الآن هو إنقاذ ليون وحنة.

فصرخت سريز بمنتهى الانذهال: حنة!

– نعم، حنة دي بالدر التي أحِبُّها حبًّا مبرحًا، والتي ستكون امرأتي في أقرب حين، فإنها أصيبت أيضًا بنفس ما أُصِبْتِ به أنتِ، وإني أراك شديدة الاضطراب لهذه الحوادث الغريبة التي تمر عليك كألغاز، فأصغي لي أوضِّحها لك، فَلْنبدأ بك أولًا ثم نعود إلى حنة، فأنتما قد أُصِبْتُمَا بمصاب واحد.

إنك تحبين ليون وهو يحبك، وقد كنتما اتفقتما على أن يكون قرانكما بعد خمسة عشر يومًا، وإن لك أختًا شقية بغيًّا باعتك بيع السلع إلى رجل غني قادر على أن يقتحم أشد الأمور، وهذا الرجل هو بيرابو رئيس القلم في الوزارة، وهو الذي أنقذتك منه، واضطررت إلى نقلك هنا كي تكوني بمأمن من كيده ريثما يُدعَى إلى المجلس ويُحاكَم بما جنت يداه، وهو لا يستطيع أن يأتي إليك وأنتِ في هذا المكان، أفهمتِ الآن؟

– فما الذي دعاك أن تعاملنا بمثل هذا الإحسان؟

– إني رجل واسع الثروة، وقد أوقفتها لصنع الخير ودفع كل شر، ولديَّ رجال صادقون أبثُّهم في جميع الأنحاء، فيُطلِعوني على كل شيء، وهم الذين أعلموني بما كان بين أختك وبيرابو من الاتفاق بشأنك، والآن فأصغي إليَّ فإني أكلمك عن حنة.

ثم وضع يده على قلبه، وقال: إني أحبها حبًّا ليس فوقه حب، وقد كانت معرَّضة لخطر يشبه الخطر الذي كنتِ أنتِ معرَّضة له؛ ذلك أن بستيان خادم غرفتي قد انتحل اسمي وتقدَّمَ إليها باسم الكونت أرمان دي كركاز.

فقالت سريز بانذهال: بستيان الذي كان معنا في بلفيل؟

– أجل، هو بعينه وقد توهمتم يومئذٍ أن الصدفة قد بعثت به إليكم لإنقاذكم من ذينك اللصين اللذين لم يكونا إلا رفيقيه، والسبب في ذلك أن بستيان هذا قد رأى حنة، واقتفى أثرها مرارًا، وعلق بها، فاتفق مع شريكَيْه عندما رأى حنة ذاهبة معكم إلى بلفيل، ومثَّلَ هذه الرواية المضحكة التي تعلمينها، بحيث اضطررتم بعدما شاهدتم من شهامته أن تدعوه إلى ذلك العشاء، ثم ذهبتم إلى منزلكم فاغتنم هذه الفرصة لإيصال حنة، التي سرَّها ما رأته فيه من الشهامة إلى منزلها، وإنك لا تعرفين هذا الرجل إلا بالنظر، أما أنا فقد عرفته بالخبر، فهو أهل لكل شيء، فلما رأى ميل حنة إليه انتحل اسمي فتسمَّى بأرمان دي كركاز، وأعطى اسمه لرجل كَهْل استأجر منزلًا باسم بستيان بجوار منزل حنة، فتعرَّفَ هذا الرجل بها، وأخبرها أنه كان له سابق صداقة مع أبيها، فلما وثقت به أخذ يخبرها عن ميل الكونت دي كركاز إليها، ويحدِّثها بشهامته ومكارمه، ثم زارها ذلك الخائن المتلبس باسمي، وأظهر لها ما يؤيد كلام شريكه المنتحل اسمه، فأحبته عندما تأكَّدَ لها أن حبَّه شريف، وأن ما وراءه إلا الاقتران.

فاضطربت سريز وقالت باشمئزاز: ذلك محال! فإن مثل حنة دي بالدر لا يمكن أن تحب خادمًا.

– وإنها كانت تحسبه الكونت أرمان، وهو حسن الظواهر، فخُدِعت به وقد أُطلِعت على هذا السر الغريب اتفاقًا؛ لأن خادمي هذا كان يفتخر أمام رجالي بأن حنة دي بالدر تحبه. وإذا كنت أحبها حبًّا شريفًا طاهرًا، كمَن يحب الفتاة التي سيتزوجها، ورأيت أنها قد تدلَّهَتْ في حب ذلك الخائن الذي كان يتلبس باسمي، فقد أسقيتها مرقدًا، وجئتُ بها في الليل إلى هذا القصر بعد أن كتبتُ لها كتابًا بغير توقيع.

فصرخت سريز بفرح: أهي هنا الآن؟

– أجل وسترينها، فهلمي معي إليها.

ثم أخذ بيدها وخرجا من الغرفة سوية، وفيما هما في طريق الروضة صادف مدام فيبار، فنظر إليها شذرًا وقال لها بقساوة: إن زوجك كان رجلًا صادق الخدمة، وإني أراك على عكس ذلك، فإني عهدت إليك الاعتناء بهذه الفتاة فأوسعتها شتمًا وسبابًا، وعاملتها أسوأ معاملة؛ لذلك أكتفي بطردك.

وفيما هو يقول ذلك أشار إليها بطرف خفي ففهمت مراده، وانصرفت وهي تتكلف هيئة الكدر.

ولما وصلا إلى غرفة حنة قال لسريز: أصغي إليَّ جيدًا، فإن حنة لا تزال نائمة ولا تستيقظ إلا عند الساعة العاشرة، عندما أكون سافرت؛ لأني مضطر إلى التغيُّب ثمانية أيام في قضاء بعض الشئون المهمة، وإنك ستقيمين معها إلى أن أعود بحيث تكونين بمأمن من أختك الخائنة، ومن مطاردة بيرابو اللذين سينالان من العقاب ما يكونان فيه قدوة لسواهما، وإني سأكتب لها كل يوم وستقعين على رسائلي إليها، فلا تُظهِري لها سوى أن الذي يحبها الحب الأكبر هو الكونت أرمان دي كركاز، وليس ذلك الخائن بستيان، وإني أرجو أن يكون لرسائلي تأثير عليها، فتمحو من قلبها حب ذلك السافل.

فنظرت إليه سريز متعجبة وقالت: كيف لا تنسى حبه بعد أن تعلم بدناءته، ولا يقتضي لأن تهواك إلا أن تراك.

– إذن أودعك على أمل اللقاء القريب، فإني مضطر إلى السفر، ولا يوافق أن تراني الآن.

– قُلْ لي بالله متى أرى ليون؟

– لا أقدر أن أفيدك بالتدقيق، ولكن ثقي بي واصبري قليلًا، وإني أقسم لك أنك ستزفين إليه بعد خمسة عشر يومًا.

ثم تركها وقلبها مفعم بالأمل، وانصرف فلقي كولار بانتظاره فقال له: لقد تم كل شيء وفق المراد، فإني لم أسرق امرأة أرمان فقط، بل قد سرقت اسمه ايضًا، والآن فَلْننظر في شأن الملايين؛ إذ قد شفيت نفسي من الانتقام.

– هذه هي النقطة المهمة.

– وأنا من رأيك، والآن فإني مسافر إلى بريطانيا لأقترن بهرمين.

وهكذا، فإن أندريا قد انتصر بجميع أعماله؛ فإنه سجن فرناند، واستولى على حنة وسريز، ووضع باكارا في مستشفى المجانين، بحيث لم يَعُدْ في وسع الكونت أرمان دي كركاز أن يجد الوارث لملايين البارون كرماروت.

(٢٥) قلق ليون

مرَّ يوم على اختطاف سريز، التي كانت تمر كل مساء بالمعمل الذي يشتغل فيها خطيبها، وكان ليون ينتظرها في الباب الخارجي في وقت معين، وقد انتظرها ذلك اليوم حسب العادة، فلم تمر به، فقلق وظن أنها مريضة أو أصيبت بسوء، فصبر بملء الجزع إلى أن أقفل المعمل، وانطلق مسرعًا إلى منزلها، فقرع الباب فلم يُجِبْه أحدٌ، فظنَّ أنها ذهبت إلى الشارع في بعض الشئون، فلبث منتظرًا إلى أن تعود، وقد طال انتظاره حتى عيل صبره، فنزل إلى البوَّاب وسأله عن سريز فقال له: إنها ذهبت أمس مساءً ولم تَعُدْ إلى الآن.

– كيف ذلك وهل ذهبت وحدها؟

– كلا، بل قد ذهبت مع فاني، خادمة باكارا، وأظن أن أمها أو أختها أُصِيبت بمكروه، بدليل ما رأيت على وجهها عند خروجها، من ملامح القلق.

فارتاع ليون لذكر باكارا؛ إذ كان يخشى دائمًا منها، ولم يكد ينتهي كلام البوَّاب حتى تركه وذهب مهرولًا إلى شارع مونسي حيث منزل باكارا، فوجد الأبواب والنوافذ مقفلة، فقرع الباب قرعًا شديدًا فلم يُجِبْه أحد، وكان في زواية الطريق حمَّال وقد اعتاد خدمة المنزل، فلما رأى ليون يقرع الباب ذلك القرع الشديد تقدَّمَ منه وقال له: لا يوجد أحد في المنزل، فإن صاحبته قد سافرت في هذا الصباح.

– ذلك مستحيل، أَلَا تعلم أين ذهبت؟

– كلا.

فاختلج فؤاد ليون وتأكَّدَ له أن باكارا قد اختطفت سريز، فترك ذلك المكان وهو يكاد يجن من اليأس، وذهب إلى أمه آمِلًا أنها تفيده شيئًا عن سريز، فألفاها لا تعلم شيئًا، فذهب إلى صاحب المعمل الذي كان يشتغل فيه وهو يرجو أن ينفعه شيئًا برأي سديد، وكان صاحب هذا المعمل رجلًا عاقلًا محبًّا لليون، فسكَّنَ جأشه وطيَّبَ قلبه، وقال إن خطيبته قد ذهبت ولا ريب مع أختها، ووعده أن يذهب معه غدًا إلى دائرة البوليس فيعرضون الشكوى، فذهب ليون إلى منزله، ونام تلك الليلة على أحر من الجمر، فلم يغمض له جفن، وعندما طلع الصباح ذهب إلى منزل سريز، فقيل له إنها لم تَعُدْ، فتوجَّهَ إلى منزل باكارا فوجد الأبواب مقفلة، فذهب إلى صاحب المعمل وانطلقا سوية إلى دائرة البوليس، فأخبرا الرئيس بما علماه عن اختفاء سريز، فقال لهما: إن البنات التي تُخطَف في باريس يكون اختطافهن في الأغلب الأعم عن طوعهن، ومع ذلك فسأنظر في هذا الشأن، فارجعا إليَّ بعد يومين.

وكان هذان اليومان لدى ليون أشبه بعامين، فخرج من عند الرئيس وقلبه مفعم من اليأس، فارتأى أن يذهب إلى منزل حنة عساه أن يعلم منها ما يوقفه على سر اختطافها. فذهب ولما وصل لم يَرَ غير جرتريدة جالسة في المنزل، وهي تنوح وتبكي البكاء الأليم، فعلم منها أن حنة قد اختُطِفت، وأنها قد تركت رسالةً هذا نصها:

حبيبتي جرتريدة

إنك ستستيقظين فلا تجديني؛ لأني قد سافرت إلى مكان لا أستطيع أن أخبرك عنه، ولأجل ذلك لا أقدر أن أسميه، أما السبب في هذا السفر الفجائي، فهو أني أريد الهرب من الكونت أرمان دي كركاز الذي لا أحبه لألحق بالرجل الذي هامت به روحي، والذي لا أقدر أيضًا أن أسميه، فاطمئني أيتها الحبيبة، وربما نلتقي بعد حين.

فقصَّ عليها ليون خبر اختطاف سريز، وفيما هما يتحادثان سمعا وقع أقدام على السلم، فأطلت جرتريدة بحيث رأت القادم هذا الكونت أرمان دي كركاز، فنظره ليون وقال بمنتهى العجب: هذا الذي رأيناه في بلفيل وأنقذنا من اللصوص.

وكان القادم الكونت أرمان بعينه يصحبه بستيان، فإنه بعدما سمع من أندريا ذلك التحذير على إثر المبارزة، اشتدَّ قلقه على حنة ولم يهدأ له بال، فأسرع مع بستيان إلى زيارتها وهو يقول: إن قلبي يحدثني بمصاب جلل.

وعندما وصل إلى ذلك المنزل وجد جرتريدة تشهق وتنتحب، فعلم بوقوع المصاب، وأعطاه ليون رسالة حنة، فلم يتم قراءتها حتى سقط على المقعد واهي القوى وهو يقول: إن ذلك صُنْع أندريا، وهو الذي رأيناه.

(٢٦) رسالة بيرابو

وَلْنعد الآن إلى بيرابو وهرمين اللذين تركناهما على ما عهده القرَّاء فيهما من التأثُّر من الكتاب الذي كتبته باكارا إلى فرناند.

وقد أفضى اليأس بهرمين إلى أن قالت لأمها على إثر هذه الحادثة: أماه إني أحب أن أدخل الدير، ولا أريد الزواج.

– إنك تدخلين إلى الدير، وتتركينني وحدي؟

وكان صوت تريزا يتهدج من الحنان بما أثَّر تأثيرًا شديدًا بهرمين، فقالت: كلا يا أماه، بل أبقى بقربك ما دمت حية، وما دفعني إلى هذا القول غير اشتداد الأحزان.

ثم أكبت على عنق أمها تعانقها وتبكي البكاء الشديد.

طال هذا البكاء زمنًا طويلًا إلى أن سكن جأش هرمين، فقالت لأمها: إني لا أستطيع أن أمكث ساعةً في باريس، فهل لكِ أن نذهب لزيارة عمتي مدام كرمارك.

فقبلت أمها هذا الاقتراح بفرح لا يُوصَف؛ لأنها كانت ترجو أن يخفِّف السفر أحزانها، فأجابتها بالقبول.

وعند منتصف الليل عاد بيرابو إلى المنزل، فأخبرته امرأته باقتراح هرمين بوجوب السفر الذي يمهد للعشَّاق سُبُل السلوان، فصادَقَ هو أيضًا على هذا الطلب، ليس حبًّا بشفاء هرمين بل لرغبته أن يكون حرًّا في غيابهما عن باريس فيمرح كما يشاء. وهكذا فإنهما عند الصباح سافرتا إلى بريطانيا، ولما وصلتا إليها قابلتهما مدام كرمارك بمزيد التودد والاحتفاء.

وكانت مدام كرمارك امرأة عجوزًا عائشة مع زوجها في قصر واسع تكتنفه الأشجار وتحيط به الغابات والحقول، وكان مولعًا بالصيد بحيث كانت تقضي جميع ساعات نهارها بعزلة، فلا ترى أمامها غير الخدم؛ لذلك أَنِست بلقائهما وتعزَّتْ برؤياهما مما كانت تلقاه من ضجر الوحدة والانفراد.

وبعد يومين من ذلك استأذن بيرابو من الوزارة لاحقًا بهما، حسبما كان الاتفاق بينه وبين أندريا، وكانت جودة الهواء وما كانت تلقاه هرمين في تلك البرية من جمال الطبيعة قد لطف أحزانها، فلم تسكب دمعة بل كانت تبتسم بعض الأحيان إذا سمعت نكتة مضحكة، وربما كان ذلك منها من قبيل التصنُّع إرضاءً لأمها التي كانت تذوب لهفًا على ما أصابها، والتي كانت تخشى عليها في كل حين أن يفعل الحزن في جسمها النحيف ما تفعل ريح الشتاء بأوراق الشجر.

ولم تكن هي ولا أمها تنتظران بيرابو، فاندهشتا جدًّا لرؤياه. أما هو فإنه عانقهما عند وصوله بغاية الحنان، وأظهر لهما من التودُّد ما لم تكونا تعهدانه فيه، وفي يوم وصوله أخذ بيد امرأته بعد أن قاما عن المائدة، وخلا بها فقال: أصغي إليَّ فإني لا أجهل أنك تسيئين بي الظنون، وليس لكِ بي ثقة المرأة بزوجها، ولكني أتيت لأباحثك في شأن هرمين التي أحبها كما تحبينها أنت … إني كنتُ أعلم من قبلُ فسادَ أخلاق فرناند الذي رمانا بهذه النكبة؛ ولذلك كنتُ أرفض مصاهرته، ولم أقبل به زوجًا لهرمين إلا لما رأيته من رغبتك، وحذرًا من أن أسوءك بهذا الرفض، فإن هذا الرجل التعس لم يرتكب فقط ما تعلمينه من خيانة لهرمين، بل إنه قد ارتكب ذنبًا من أعظم الذنوب. أتعلمين ما كان مراده من زواج هرمين؟ إنه لم يتزوج بها إلا لينفق مهرها على خليلته التي أوصلت به إلى هذا الشقاء.

وكانت والدة هرمين لا تزال تحب فرناند، فقالت لزوجها: بالله كفى، ولا تحكم على هذا الشاب بمثل هذه القسوة.

– إنك لا تعرفين شيئًا بعدُ.

فقالت وهي تضطرب: وما عسى أن يكون قد طرأ أيضًا؟

– إن فرناند في السجن.

ثم قصَّ عليها جميع ما حصل لفرناند من اتهامه بالسرقة، ومن القبض عليه في منزل باكارا، ووجود الدراهم المسروقة عندها، ولما انتهى من هذه الحكاية قال: وستنشره الصحف بعد صدور الحكم، ولأجل هذا قد حضرت اليوم كي أُطلِعك على هذا النبأ؛ فإني أخشى أن تقف هرمين على جرم خطيبها بإحدى الصحف فتصاب بما لا ينجع فيه دواء، والآن لم يَبْقَ علينا سوى أن نطرد هذه الأفكار من مخلية هرمين، فإن المسمار يدفع المسمار، والحب الجديد يدفع الحب القديم.

فقالت تريزا والدموع تنهل من عينيها لما سمعته عن فرناند: ماذا تعني بالذي قلته؟

– أتذكرين حفلة الرقص الأخيرة التي حضرناها في وزارة الخارجية؟

– نعم، وماذا تريد بهذا السؤال؟

– أتذكرين أيضًا الشاب الإنكليزي الذي عرَّفَكِ به سفير إنكلترا، والذي رقص مع هرمين؟

– نعم، إني أذكره وإنه يُدعَى السير فيليام.

– نعم هو ذاك. فاعلمي الآن أن هذا الشاب شريف الحسب حسن الأدب وافر الثروة، وقد علق بحب هرمين حين رآها في تلك الحفلة، وقد زارني مرتين بعد السفر كما …

فقاطعته تريزا وقالت: إن هرمين متى أحَبَّتْ رجلًا فلا تحب سواه.

– ولكنها متى علمت أن ذلك الذي تحبه قد خدعها وخانها بدناءة، ثم متى علمت أنه لص، فلا يبقى في قلبها أثر من حبه. فإذا رأت شابًّا شريفًا جميلًا، قد اجتمعت جميع الصفات الحسنة فيه يحبها، فلا يبعد أن تبادله هذا.

– إنك قلتَ إن هذا الشاب يحب هرمين.

– إنه يحبها كثيرًا.

– كيف يمكن أن يحبها، وهو لم يجتمع بها إلا مرة واحدة؟

– إن روميو أحب جولييت وهو لم ينظرها إلا نظرة واحدة.

– شهد الله أني إذا لقيت رجلًا يقدر أن يردَّ إلى ابنتي قلبها المسلوب أنطرح على قدميه، وأقول له: «رحماك أنقذ ابنتي مما هي فيه.»

– وإن ذلك الرجل هو السير فيليام.

– إذن يجب أن نعود إلى باريس.

– لا حاجة إلى ذلك، بل هو يأتي إلى هنا، وإني سأكون من أسعد البشر إذا يسَّرَ الله هذا الزواج، فإن الرجل عريق النسب وثروته تُقدَّر بالملايين، ولا أقرب من أن تحبه هرمين متى حصلت بينهما العشرة؛ لما هو عليه من الذكاء، وطيب الحديث، ووفرة الآداب، وما شاكل من كل ما تتوق إليه نفوس الأديبات.

وما زال بها حتى أقنعها، واتفقا على اتخاذ الوسائل اللازمة لتحببه إلى هرمين، ثم افترقا فدخل بيرابو إلى مخدعه، وكتب إلى أندريا ما يأتي:

أيها الصهر العزيز

لم أَزَلْ بامرأتي حتى أقنعتها، وأصبحَتْ آلةً بيدنا نديرها كيف نشاء، ولم يَبْقَ عليك سوى أن تسرع بالحضور، وأن تكتب لي قبل سفرك.

وقد وصلت هذه الرسالة إلى أندريا بعد خروجه من عند سريز، فخلا بكولار وقال له: إني مسافر الآن لأهتم بالملايين، وسأدعك أمام عدو هائل يجب أن تخافه.

– ألعلك تريد به أرمان دي كركاز.

– هو ذاك.

– طِبْ نفسًا فسأراقبه.

– إن فرناند بالسجن، ولا يمكن أن يخرج منه، فيجب أن تحرص الحرص الشديد على سريز وحنة.

– لا تخشى من هذا القبيل.

– بقي علينا عدو أشد هولًا من الجميع، وهو ليون رولاند.

– أتريد أن يموت؟

– هذا ما أرتئيه، أيستطيع نيقولا أن يقتله؟

– لا ريب فيه، ولكن كيف يقتله، وفي أي مكان؟

– إنك لا تزال أبله ضعيف الرأي، أيصعب عليك أن تدعه يذهب خارج باريس بإحدى الطرق؟

– لقد خطر لي فكر، وهو أن ليون يعتقد أني صديق له، وسأذهب به في الليل إلى بوجيفال بدعوى أني علمت أن سريز مختبئة هناك، ويكون نيقولا مترقبًا حضورنا فنقضي عليه.

– هذا فكر حسن، ولكن لا تفعل شيئًا قبل أن أكتب لك.

ثم ألقى إليه بعض أوامره، وودعه وسافر إلى بريطانيا.

(٢٧) جموح المركبة

وكانت قد استحكمت العلائق بين مدام كرمارك وضيوفها، فبينما كانوا يومًا جلوسًا على المائدة، وذلك بعد وصول بيرابو بيومين، دخل مأمور البريد وقدَّم إلى بيرابو رسالةً ففضَّها، وقرأ ما يأتي:

سأسافر بعد ساعة حيث أنتظرك في سنت مالو التي تبعد خمس عشرة مرحلة عن القرية التي أنتم فيها، فأسرع إليَّ عندما تقف على هذه الرسالة لأني بانتظارك.

فنهض بيرابو وقال: لقد جاءني رسول من قِبَل الوزارة، وهو ينتظرني في سانت مالو، فيجب عليَّ أن أسرع في المسير إليه.

ثم انحنى على كتف امرأته وقال لها سرًّا: إني ذاهب لألاقي السير فيليام، وسأعود عند الغروب، فاذهبي مع هرمين لملاقاتي.

فأمرت مدام كرمارك أن تهيئ له المركَبَة، فركب فيها وسار ينهب الأرض نهبًا حتى وصل إلى سنت مالو، وكان أندريا قد سبقه إليها منذ ربع ساعة، فاجتمعا وقال له أندريا: كيف مسير أعمالنا؟

– على أتم النجاح، فإن امرأتي أصبحت تميل إليك أشد الميل؟

– حسنًا، فكيف عزمتَ على أن تعرِّفني بأهل المنزل الذي أنت فيه؟

– إن البارون دي مادي هو صديقك، وهو ابن أخت مدام كرمارك، ومنزله بجوار منزلها، وستدخل القرية عندما يحن الظلام فتسأله الضيافة، وعليَّ تتميم الأمر. أما الآن فإن طريقنا إلى المنزل وعرة المسالك.

– أعرف ذلك.

وبالحقيقة فإن أندريا يعرف تلك الطرق أتمَّ المعرفة؛ لأنه كان يسكن على عهد أبيه فيليبون في قصر كارلوفان، كما يعلمه القراء، وهذا القصر واقع في البراري نفسها.

– عجبًا! كيف تعرف هذه الطرق؟

– إني أعرفها أكثر منك.

– إذن تذهب إلى مغارة الذهب، وتجلس على تلك القمة العالية المشرفة على الأوقيانوس، حتى إذا مرت امرأتي وابنتها تجدانك جالسًا في ذلك الخلاء مستغرقًا في تأملاتك المحزنة.

– حسنًا، ولكن لديَّ طريقة أفضل، ذلك أني أنقذك على مرآها من خطر عظيم.

– تنقذني أنا؟

– نعم، فأصغي إليَّ.

ثم اتفق وإياه على ما سيقف عليه القراء في حينه.

وافترقا، فذهب بيرابو على مركبته لملاقاة امرأته وابنته، وذهب أندريا على جواده من طريق آخَر إلى القمة الكائنة أمام مغارة الذهب.

ولم يكن أشد خطرًا من تلك الطريق التي سار فيها بيرابو على المركبة، فإنها كانت ضيقة لا يزيد عرضها على ثلاثة أمتار، وهي شديدة الارتفاع يحيط بها من الجهة اليمنى وديان عميقة كثيرة الصخور، ومن الجهة اليسرى البحر الأوقيانوس، وهي كثيرة الشعاب بحيث إن أشد الخطر فيها كان على المركبات التي إذا جمحت بها الجياد تسقط بها إما إلى ما وراء البحر، وإما إلى الوديان، ومع ذلك فقد كان المنتزهَ العامَّ لأهالي تلك القرى؛ لكثرة ما يكتنفها من جمال الطبيعة، ولا سيما في شهر نيسان، التي تساق هذه الحادثة في غضونه.

وبينما كانت هرمين وأمها سائرين الهوينا في تلك الطريق لملاقاة بيرابو، إذ رأتا جوادًا كريمًا يرعى الكلأ، فدنتا منه فأبصرتا عليه سرجًا مزركشًا بالخيوط الذهبية على غاية من الدقة في الصناعة، مما يدل على أن صاحبه من أولي اليسار، ثم حومتا بنظرهما لتبحثا عن صاحب هذا الجواد، فرأتا على قمة عالية رجلًا فاخر اللباس جالسًا على صخر مرتفع، وهو واضع رأسه بين يديه ينظر إلى الأرض نظرًا ساهيًا وهو غارق في بحار تصوراته، فاختلج فؤاد الأم وقالت في نفسها: لا ريب بأن هذا الفارس هو السير فيليام.

أما هرمين فإنها أنكرت وجود هذا الشاب على مثل هذه الحالة من العزلة التي تدل على منتهى الكآبة، فقالت لأمها: تُرَى ما شأن هذا الرجل، وما علة انفراده في مثل هذا المكان؟

– ربما كان مصوِّرًا يمثل جمال هذه المناظر، فيرتزق منها.

– ذلك محال؛ فإن مصوِّرًا يرتزق من عمل يديه لا يكون له مثل هذا الجواد، وفوق ذلك إني لا أرى أمامه معدات التصوير.

– إذن فهو سائح، وقد استوقفته هذه المناظر البهجة.

– لا هذا ولا ذاك يا أماه، بل هو رجل منكود، وقد التجأ إلى هذه البراري لترويح النفس، وللتأمل بعظمة الله.

فارتعشت أمها في البدء ثم اختلج فؤادها بعاطفة سرور وأمل؛ لأنها رأت أن هرمين قد نسيت مصابها، فاشتغلت عنه بمصاب الغير وقالت في نفسها: إذا كان هذا هو السير فيليام فإن مقابلة واحدة تكون كافية في مثل هذا المكان، ولا شيء يؤلف بين القلوب مثل الأحزان.

وقد عزمت أن تجعله أمام ابنتها مثالًا للفضيلة كي يروق بعينيها.

وكانت الشمس قد ابتدأت تصفر مؤذنة بالمغيب وهي تلقي بأشعتها الباردة على ذلك العباب، فترقص أشعتها الذهبية على أمواجه الزاخرة، وتدبج الحقول الخضراء بأبهج الألوان. فنهض ذلك الشاب واتَّشَحَ برداء طويل، ثم ذهب إلى جواده فامتطاه، وسار به إلى جهة سان مالو، ولم تستطع هرمين أن تتبين وجهه، ولكنها قدرت أن تعلم أنه في شرخ الشباب، وظهر لها من مشيته وسهيانه أنه منقبض الصدر شديد الحزن، وما زالت تشيعه بالنظر إلى أن غاب في أعماق الوادي.

وكانت قد اتفقت مع أمها لملاقاة بيرابو، فأوجست خيفة لطول غيابه إلى أن رأت عن بُعْدٍ نقطةً سوداء كانت تدنو منها وتتسع حتى تمثلت بهيئة مركبة، فعلمت أنها مركبة أبيها. ثم سمعتا صوت استغاثة من تلك المركبة، عقبه صوت بارود ارتَّجَ له الوادي، فنظرتا فإذا بالمركبة قد وقفت فأيقنتا أنها في خطر، وكانتا واثقتين من أنها تحمل بيرابو، فجعلتا تركضان إلى أن بلغتا إليها، فإذا بالجواد قد سقط ميتًا، وبيرابو خارج المركبة يصافح السير فيليام ويشكره الشكر الجزيل، ولما رآهما تقدَّمَ منهما وقال: إني مديون لهذا النبيل بالحياة؛ فإن جواد المركبة قد جمح، ولو لم يطلق عليه الرصاص لكانت سقطت المركبة بي إلى الوادي.

وبينما كان بيرابو يقص على تريزا وهرمين ما كان من الجواد، كان أندريا مطرقًا بنظره إلى الأرض، إلى أن انتهى من حديثه، فرفع عينيه ونظر إلى هرمين، وصاح صيحة كآبة وانذهال، ثم انحنى عليها مسلمًا، ووثب مسرعًا إلى جواده، فسار به يقطع الأرض نهبًا.

فأخذوا ينظرون إلى بعضهم، وكلهم يقول: مَن هذا الرجل الغريب الأطوار؟

ثم قال بيرابو: يخال لي أني نظرت هذا الشاب قبل الآن.

قالت تريز: وأنا كذلك، ولكني لا أذكر أين.

قالت هرمين: وأنا أيضًا نظرته قبل ذلك، وقد عرفته فهو السير فيليام الذي عرَّفَنَا به سفير إنكلترا في حفلة الرقص التي أحيتها الوزارة الخارجية، وأذكر أني رقصت معه أيضًا.

فقال بيرابو: إذن ما الذي دعاه إلى هذا السلوك الغريب، ولماذا غادرنا بهذه السرعة؟

فقالت هرمين، وقد أثَّر عليها ما رأت عليه من الكآبة: إنه عندما نظر إلينا تنهَّدَ تنهُّدًا طويلًا عميقًا، ثم صاح صيحة أسف، وقد كان قبلُ جالسًا على هذا الصخر، ساهي الطرف مشتَّت البال لا يعبأ بجمال هذه البراري، ولا يكترث بتلك الأمواج التي قد ذهَّبَتْها أشعة الشمس، مما يدل على أنه بلغ أقصى درجات الكآبة.

فقال بيرابو: ذاك يدل على أنه عاشق منكود.

فتنهَّدَتْ هرمين وقالت: مسكين هذا الشاب.

وحول بيرابو الحديث إلى غيره، وقال: إن الجواد قد قُتِل، فكيف نرجع إلى المنزل.

– إننا نذهب على الأقدام، فإني أعرف طريقًا قريبة.

ثم تأبَّطَتْ ذراع أمها، ومشت معها مشيًا سريعًا كأنها تريد أن تدرك الشاب الذي حمل فؤادها على الشفقة عليه، ولا سيما بعدما رأته نظر إليها فاصفرَّ وجهه وتنهَّدَ، وكانت تبحر بنظرها في جميع الجهات آملةً أن ترى ذاك المنكود الذي ماثلها في اليأس، ورأت أنه يكابد من الأشجان نفس ما تكابد.

أما أندريا، فإنه ما زال يسير إلى أن وصل إلى منزل كرمارك، وقد كان قد جنَّ الظلام فأوقف جواده أمام الباب وقال لأحد الخدم: قُلْ لسيد هذا المنزل إن غريبًا تائهًا يسأله الضيافة.

فهرول الخادم مسرعًا إلى مدام كرمارك، ووصف لها هيئة أندريا وملابسه، ثم قال لها: إنه تائه يسأل الضيافة.

– أسرع بإدخاله، فإن هذا المنزل مُعَدٌّ للضيوف منذ تشيد.

فذهب وعاد به، وانحنى أمامها مسلمًا، وقال: أسألك يا سيدتي الصفح والمعذرة، فإني تهت في هذه البرية، وقد أظلم الليل فلم أعلم أين أنا.

فأشارت إليه بالجلوس وقالت: إن قصري مُعَدٌّ منذ أعوام لقبول الغرباء والتائهين، ولكل مَن يلتجئ إليه.

فقبَّلَ يدها باحترام، ثم عاد فقال: إنني ذاهب يا سيدتي إلى قرية مانوار لزيارة صديقٍ يُدعَى البارون دي مادي، وقد ضللت الطريق.

فظهرت على وجهها علائم البشاشة، وقالت: أنت صديق البارون دي مادي؟ إنه ابن أختي وأنت الآن في منزلك.

– لم أكن أعلم ذلك من قبلُ، وإنني أشكرك في كل حال، وأرجو أن تسمحي أن أتسمى لديك، فإني أيرلندي الأصل وأُدعَى السير فيليام.

فانحنت بدورها.

فقال أندريا بلهجة محزنة: إنني أضرب الأرض وأطوف الليل والنهار جائلًا دون غاية ومن غير قصد.

– عجبًا! كيف تجول من غير قصد؟

– وا أسفاه! نعم يا سيدتي، إنني أخترق الهضاب والبطاح وأجوب الفلوات، وأتجول في البلاد كقانط لا يقبل العزاء، أو كمجرم يفر من القضاة وما أنا مجرم، بل أنا قانط لأني محب غير محبوب ولا يمكن أن أحب، وقد كنت منذ ساعتين تائهًا في هذه البراري ليس لي وجهة غير منزل صديقي البارون، وأنا أظنني بعيدًا عمَّنْ أحَبَّتْها نفسي وهامت بها روحي، ولكني عدت فوجدت تلك الضالة المنشودة، فلم تكن رؤياها إلا ليهيج مكامن أشجاني.

– كيف رأيت التي تحبها في هذه القرية؟

– نعم، وعندما رأيتها هربت منها، فلكزت بطن الجواد وأنا لا أعلم أين أسير ولا أصغي لصوت قلبي المنكود، فسار بي الجواد يسابق الرياح إلى أن جنَّ الظلام، وسلك سواء السبيل، ثم وقف ذلك الجواد الكريم أمام هذا المنزل الكريم، فدلَّنِي بأنه أعقل مني، وأنا لا أعلم إذا كنتُ بعيدًا عن قرية صديقي البارون أو قريبًا منها، فالتجأت إلى هذا المنزل إلى أن أهتدي إلى وجهتي، وأنا أسألك صفحًا وألتمس منك عفوًا.

– كفى يا سيدي لا تعتذر، فإنني أشكر العناية التي أضلتك الطريق، وأرسلت إليَّ هذا الضيف النبيل.

فانحنى أندريا وقبَّلَ يدها ثانية باحترام، ثم دار بينهما الحديث الآتي:

قالت: أَلَا تبالغ في حديث غرامك؟

– كلا يا سيدتي، فإن حبي لا أصفه إذ لستُ أنصفه، ولا أعده إذ لستُ أحده، وليس هو حب بل هو جنون بل هو داء قاتل لا يعمل فيه دواء ولا تنفذ فيه حيل الأطباء.

– ولكن أَلَا يمكن لتلك المرأة أن تحبك؟

– ليس لي ذرة من الأمل.

– إذن هي من غير قلب.

– إنها من أشد الناس شعورًا، وأعظمهن تأثيرًا، وقد اجتمعت بها كل الصفات التي تجعل المرأة تعبد عبادة لا تحب حبًّا.

فتبسمت تبسمًا خفيفًا، ثم قالت: أهي متزوجة؟

– كلا، فهي عذراء.

– إذن أنت متزوج؟

– كلا يا سيدتي، فإني لا أزال عازبًا، ولي من العمر ثمانية وعشرون عامًا، ومن المال ما يُقدَّر بالملايين.

– وما يمنعك عن الاقتران بها؟

فأجابها بصوت نفذ إلى أعماق قلبها: إنها تحب سواي.

– إن حديثك بمنتهى الغرابة، فإني منذ أربعين عامًا في هذه القرية، وليس بها الآن من العذارى غير فتاتين؛ إحداهما السيدة ب. والثانية السيدة ر. ولا بد أن تكون إحداهما التي صادفتها بهذه الضواحي.

– كلا يا سيدتي، فإني لا أعرف هاتين الصبيتين.

– إذن أين لقيتها، وهل كانت في مركبة أم كانت تسير على قدميها؟

– كانت تمشي.

– أكانت وحدها؟

– كلا، بل كانت مع أمها تسيران في طريق سانت مالو.

– إلهي ماذا أسمع، أليست تُدعَى بهرمين؟

فوضع يده على قلبه وتنهَّدَ طويلًا، ثم قال: أواه! نعم هي بعينها.

– إنها نسيبة لي، وهي ابنة بيرابو رئيس قلم في الوزارة الخارجية.

فتنهَّدَ ثانية وقال: نعم.

– إني أعجب يا سيدي كيف أن مثل هرمين تبلغ من فساد الذوق إلى أن لا تحب مثلك، وترغب عنك بسواك.

– إنها تحب شابًّا لا يستحق حبها، فهو غير أهل لها.

– كيف ذلك؟ ومَن هو هذا الشاب؟ إنني أريد أن أدقِّق البحثَ في هذا الشأن، وهي آتية فسنرى.

فصاح أندريا صيحة اندهاش وقال: أهي آتية إلى هنا؟

– لا ريب في ذلك، فإننا ننتظرها للعشاء.

فنهض مسرعًا وقال: أستودعك الله يا سيدتي، فإني لا أطيق النظر إليها، وليس بوسعي أن أقف أمامها.

ثم خرج مسرعًا بغير أن يدع لها مجالًا لمنعه.

وبعد أن مثَّلَ هذه الرواية المضحكة، وسار إلى منزل صديقه البارون دي مادي، ووصل بيرابو وهرمين وأمها إلى المنزل، فوجدا مدام كرمارك على غير ما عهدوها من البشاشة، فسألوها عمَّا أصابها فقالت: إني أعجب لأطوار الإنكليز، فإنهم كثيرو الشواذ في معاملاتهم.

فإجابها بيرابو: عن أي إنكليزي تعنين؟

– ألَمْ تصادفوه في مسيركم؟

– مَن ذاك؟

– السير فيليام.

فقال بمزيد الاندهاش: كيف رأيته، وأنا أبحث عنه في كل مكان؛ لأني مديون له بحياتي؟

– كيف ذلك؟!

فقصَّ بيرابو حديث المركبة وجموح الجواد.

قالت: كل ذلك يدل على أنه من نبلاء القوم، وقد جاء إلى هنا منذ حين بحجة أنه تائه عن الطريق، ثم ذهب لأنه لم … وكادت تُظهِر السبب في رحيله، ثم رأت أن ذلك لا يوافق قصه أمام هرمين، فأرادت إبعادها بحيلةٍ فقالت لها: أرجوك أن تذهبي إلى المطبخ وتحثي الطاهي على تهييء الطعام. فذهبت هرمين، ولما خلا بهم المكان قالت مدام كرمارك: أتعلمان أن السير فيليام عاشق مفتون. فأشار بيرابو برأسه إشارة إيجاب، قالت: أتعلم ذلك؟

– نعم، إنه قد توله بحب هرمين، وقد خطبها من شهر.

– أرفضْتَ طلبه؟

– لم أرفضه إلا لأن هرمين كانت مخطوبة، وهي على أهبة الزواج.

ثم قصَّ عليها حديث فرناند روشي، وكيف ارتكب ذلك الإثم الذي زُجَّ بسببه في السجن، وهتك حرمته بما دعا إلى حل هذا العقد بينهما.

فارتاعت مدام كرمارك وقالت: عجبًا! كيف أن هرمين تحب مثل هذا السافل؟

فأجابتها تريزا: إنها تحبه حبًّا ليس فوقه حب.

– يجب نزع هذا الحب من قلبها، فهو يشينها، ويجب أن تحب السير فيليام من غير بد، فهو من نبلاء القوم، شريف الحسب، وافر الأدب، واسع الثروة، حسن السمعة، ولا أجد لها عذرًا في رفض حبه، فيجب أن نتفق جميعًا على إقناعها إذا لازمت الإصرار على هذا الغي، وسأشرع بتمهيد هذا السبيل منذ الآن؛ إذ ينبغي قبل كل شيء أن يحصل التعارف بينهما. ثم دعت بخادمها وقالت له: أعطني أدوات الكتابة. فأتاها بها، فكتبت إلى البارون ما يأتي:

يا ابن أختي العزيز

إنه قد زارني منذ خمسة أيام نسيبي بيرابو مع امرأته وابنته التي لها ولع بالصيد وشغف بركوب الخيل، وأنا أعلم أن عندك السير فيليام، فإذا رأيت أن تحضره معك في الغد فنذهب سوية إلى الصيد، وأكون لك من الشاكرين.

وأعطت الكتاب إلى خادمها وقالت له: سِرْ إلى ابن أختي، وارجع إليَّ حالًا بالجواب.

•••

بينما كان السير فيليام مُجِدًّا في الاستيلاء على قلب هرمين، كان أرمان يبحث مع ليون وبستيان عن حنة وسريز، وقد فرَّق رجاله الخفيين في جميع أنحاء باريس، فلم يقفوا لهما على أثر. وكان أرمان شديد الحزن لبُعْد حنة، وكان يبكي لفرقها البكاء المر، وفي اليوم الرابع من اختطافها كان جالسًا في منزله وهو مشتَّت البال ضائع الرشد، فدخل عليه ليون رولاند الذي أصابه من فقد سريز نفس ما أصاب أرمان، وقال له: يظهر يا سيدي الكونت أن الشقاء قد أحاط بجميع معارفي، وإن لي صديقًا طاهر الأخلاق أحبه كأخٍ وقد رزئ بمصاب.

– مَن هو هذا الصديق؟ وما أصابه؟

فأعطاه ليون رسالة مفتوحة، وقال له: اقرأ يا سيدي الكونت.

فقرأ أرمان ما يأتي:

صديقي العزيز ليون

إنك الرجل الوحيد الذي أقدر أن أكتب إليه، وأسأله مساعدة وعزاء، فإني كنتُ يومَ آخِر عهدي بلقاك من أسعد البشر؛ لقرب اقتراني بمَن أحب، وكنتُ محترَمًا في عيون الناس، أما اليوم أيها الصديق فإني مطرود من خدمتي، متَّهَم بالاختلاس، منطرح في أعماق السجن، ولا أعلم أين يقذفون بي بعد الحكم عليَّ. فتعال أيها الصديق لأراك المرة الأخيرة، فإن الشقاء سيقتلني، وأظنني أموت قبل صدور الحكم، محبك.

فرناند روشي

فلما أتم أرمان قراءة الرسالة سأل ليون عن فرناند، فقال له: إنه مستخدَم في الوزارة الخارجية، وإنه في السجن منذ أربعة أيام.

– بأي ذنب قد سُجِن؟

– لا أعلم، ولكني أقسم أن فرناند لا يمكن أن يجترم ذنبًا يُعاقَب عليه بالسجن والطرد.

– أين منزله؟

– هو ذلك المنزل المقابل لمنزل سريز.

– أكان له معرفة بحنة؟

– ربما، فإنه كان يراها كثيرًا مع سريز.

– إن كان ذلك فهو من الغرابة بمكان؛ فإن أربعة أشخاص متعارفين قد احتجبوا تقريبًا في وقت واحد، مما يدل على أن يدًا واحدة قد وضعت هذه الحوادث، ولكن لماذا ولأية غاية؟ ومَن هو الفاعل؟ إن ذلك من الأسرار المغلقة التي يصعب حل رموزها، فَلْنذهب إلى فرناند عسى أن نقف منه على شيء.

ثم ذهب الاثنان إلى السجن، واستأذنا بزيارة فرناند فأُذِنَ لهما، فلما شاهده أرمان حنَّ إليه قلبه، وهاجت به عواطف الشفقة؛ لما رأى على ملامحه من اليأس والانفعال، فقال له: إنك لم ترني قبل ذلك ولا تعرفني، ولكن سأهتم بشأنك وآخُذ بناصرك لأسباب لا يمكن التصريح بها الآن، ولأني أعتقد ببراءتك، غير أني أحب أن أعرف بالتدقيق بما يتهمونك وكيف أنت هنا.

فقال فرناند: إنهم يتهمونني باختلاس ثلاثين ألف فرنك من صندوق الوزارة الذي كانت مفاتيحه معي. ثم قصَّ عليه حكايته من حين ائتمنه بيرابو على المفاتيح، وكيف أعطاه كولار الرسالة من هرمين، إلى أن قُبِضَ عليه بمنزل باكارا.

ولما انتهى من حكايته نظر أرمان إلى ليون وقال: لم يَبْقَ لديَّ ريب بأن اتهام هذا الشاب بالاختلاس، واختطاف حنة وسريز صُنْع يد واحدة، وقد صار يجب أن أرى باكارا.

فقال ليون: وا أسفاه! هي أيضًا قد احتجبت، ولا يعلم أحد بمكانها.

فقال فرناند: وإن الأغرب من ذلك وجود المحفظة في جيب سترتي التي كانت معلَّقَة في منزل باكارا، وأنا لم أمسها على الإطلاق.

فقال أرمان: ثِقْ أيها الشاب أن الحقيقة ستتضح عن قريب، وإنه يهمني حل هذا اللغز أكثر ما يهمك، فأخبرني الآن عن خطيبتك هرمين أهي جميلة؟ فأجابه فرناند ببساطة: لا أعلم، ولكنني أحبها.

– هل هي غنية؟

– كلا، وفوق ذلك فإن بيرابو لم يسمح بقراني بها إلا على شرط أن تُجرَّد من مهرها الذي يصل إليها من أمها، وأن بيرابو ليس بأبيها.

– هل تزوَّجَتْ أمها مرتين؟

– كلا، ولكنها قد ارتكبت هفوةً في صباها، وإن والد هرمين غير معروف.

فتذكَّرَ أرمان تلك الرسالة التي أتته من قبلُ، وكان بها أن امرأةً تُدعَى تريزا قد ارتكبت هفوةً في مارلوت، فولدت بنتًا ثم تزوَّجَتْ برجل مستخدَم في الوزارة في باريس، فقال في نفسه: أَلَا يمكن أن تكون هي تلك المرأة التي بحثت عنها منذ حين؟ وقد علم من فرناند أن والدة هرمين تُدعَى تريزا، فتأكَّدَ لديه أنها ابنة البارون كرماروت صاحب الملايين المؤتمن عليها، وقال في نفسه: إن هذه الحادثة ستكشف لي جميع هذه الأسرار.

ثم ودَّعَ فرناند وقد وعده بأن يزوره في اليوم الثاني، ولم يذكر شيئًا من أمر ذلك الإرث الخفي الذي ستحصل عليه هرمين، وذهب مع ليون إلى منزله، فأخذ ذلك النوط الذي أعطاه إياه البارون كرماروت وهو على فراش الموت؛ ليكون كعلامةٍ يعرف بها صاحبةَ الإرث على ما تقدَّم في موضعه من سياق هذا الحديث كما يذكر القراء.

وقد عزم على أن يذهب إلى منزل بيرابو فيتحقق الأمر، ثم عدل عن ذلك بغية التأني، وقال لليون: لا ريب عندي ببراءة فرناند، وأن الرجل الذي رماه بهذه التهمة يريد أن يتزوج بهرمين، ولكن إذا صحَّ ذلك ألَمْ يقدر ذلك الرجل أن يفسخ بينهما عقد الخطبة بغير هذه الواسطة، وبعدُ فكيف أن فرناند بعد أن أُغمِي عليه في الطريق وُجِد في منزل باكارا التي هي أخت سريز، وكيف أن باكارا وسريز وحنة قد احتجبن تقريبًا في يوم واحد؛ إن ذلك يدل على أن فاعل هذه الفعلة لم يدفعه إليها الغرام وحده، بل له بذلك مآرب أخرى، وربما كانت مآربه عظيمة، فإذا صحَّ أن مدام بيرابو هي التي أبحث عنها من زمن طويل، فستكون ثروة ابنتها ١٢ مليونًا قد ائتمنني عليها البارون كرماروت، ولا أحد غيري يعلم هذا السر، أيمكن لذلك الذي ألقى التهمة على فرناند بقصد إبعاده عن هرمين أن يكون عارفًا بهذا السر، وكيف يتاح له معرفة ذلك، وهَبْ أنه عرف بذلك الإرث الخفي، وأن هرمين هي الوارثة، فما السبب في اختطاف سريز وأختها وحنة.

فقال ليون: أظن أن باكارا هي التي فعلَتْ كل ذلك، فإنها مشغوفة بفرناند.

– ذلك لا يمكن أن يكون، فإنها إذا كانت تحبه فهي لا تريد له ضررًا، وما أظنها إلا آلة قد أدارتها يد قوية، ولا أحد سوى باكارا يقدر أن يفيدنا عن ذلك المجرم، فيجب أن أرها من غير بد مهما تجشمت من المشاق.

ثم أطرق مليًّا، فطرأت على باله حنة، وتذكَّرَ ابتسام السير فيليام السخري، فطار فؤاده شعاعًا وقال: كل ذلك من صنع أندريا.

وللحال دعا بستيان وقال له: أَلَا تزال واثقًا أن السير فيليام هو غير أندريا؟

– لا ريب عندي في ذلك، فقد امتحنته بغاية التدقيق.

– ولكن قلبي يحدِّثني بأنه هو بعينه، لا بأس من أن تنظره مرةً ثانية، فإنك مديون له بزيارة، فاذهب الآنَ إليه على الفور، واجعل حديثك معه على غاية التودد، واجتهد أن تدعه يُكثِر من الحديث، فقد رابتني لهجته التي يستشف منها المدقِّق أنها فرنسية محضة.

فذهب بستيان، ثم عاد بعد قليل، وقال: إنه غادر باريس، وقد قال لي خادمه إنه ذهب إلى أيرلندا، وسيعود إليها بعد خمسة عشر يومًا.

فارتاع أرمان وخشي أن يكون هذا الذي اختطف حنة، وسار بها إلى تلك البلاد.

وكان قد أرسل ليون إلى منزل بيرابو فعاد أيضًا مسرعًا، وقال: إن مدام بيرابو قد سافرت مع ابنتها إلى بريطانيا من يوم قُبِض على فرناند.

فضرب على جبهته بيده، وقال: أُقسِمُ أن كل ذلك من صنع أندريا.

وفيما هو يتمايل إذ دخل خادم غرفته وقال له: يا مولاي، إن امرأةً على الباب تقول إنك تعرفها وهي تطلب أن تراك.

– لتدخل.

فلما دخلت ورآها صاح صيحة انذهال وقال: هذه باكارا.

•••

ولكي نُظهِر كيف أن باكارا قد جاءت إلى منزل أرمان وهي لا تعرفه، ينبغي أن نعود إلى حيث تركناها مع الطبيب المتصنع تسير في المركبة إلى مونمارتر فنقول: يذكر القراء أنها كانت جالسةً في المركبة بين خادمتها فاني وبين ذلك الطبيب المتصنع، وأنها عندما حاولت أن تستغيث أشهر عليها الخنجر فارتاعت وسكنت، ثم إنها بعد حين همَّتْ أن تثب من المركبة فأمسكها بيديه، وقال لها: اختاري بين أن تكوني في مستشفى المجانين أو أن تكوني في السجن مع المجرمين.

فأجفلت باكارا وقالت: أنا أُزَجُّ في السجن! وأي جرم ارتكبت؟!

– إنك ارتكبت جرم السرقة، فإن لك شركة في سرقة المحفظة المحتوية على ثلاثين ألف فرنك التي سرقها عشيقك فرناند من الوزارة، وقد قُبِض عليه في منزلك.

– إذن فهو بالحقيقة سارق!

– لا أعلم إذا كان هو الذي سرق المحفظة، أو إذا كان أحد أعدائه قد وضعها في جيبه، ولكن الذي أعلمه أن الشرطة قد ألقوا القبض عليه في منزلك حيث وجدوا المحفظة في جيبه بما كان فيها من المال.

– أَوُجِدَ المال عندي؟

– نعم، في غرفتك الذاتية.

فانطرحت داخل المركبة واهية القوى وهي تقول: إلهي ماذا أسمع؟

وعند ذلك وقفت المركبة، ففُتِح بابها ودخل أندريا، وقال لفاني: اصعدي أنتِ واجلسي بجانب السائق، ودعيني أجلس مكانك.

فامتثلت، أما باكارا فإنها نظرت ابتسامَ أندريا السخري، فقالت: لقد عرفتُ من قبلُ أن ذلك من صنعك.

– هذا مما يثبت لي رجحان عقلك، فلا تضيعي مني تلك الثقة فيك، واعلمي أني لا أريد بك ضررًا، وربما اتخذتك خليلة بعد حين، فإنك وافرة اللطف بارعة الجمال، ولكني أسعى وراء أمر خطير، وإن حريتك تعرقل مساعيَّ، وربما كانت عقبة في سبيلي، فاضطررت إلى أسرك مُكرَهًا بضعة أيام من قبيل الحذر والاحتياط، وستُرَدُّ إليك حريتك بعد ذلك، وتعوضين أضعاف ما خسرته.

– أنا لم أُسِئ إليك قطُّ، فلماذا تريد أن تسيء إليَّ؟

– ألَمْ تفهمي بعدُ أني شديد الشغف بك، وقد اضطررت إلى أن أحجبك عن العيون حذرًا عليك.

– مما تحذر عليَّ، فإني لم أسرق المحفظة.

– ولكن السارق وُجِد عندك، والمحفظة وُجِدت في غرفتك.

– يا للخيانة! إنه بريء.

– ربما، ولكن من صالحي أن يكون هو المجرم.

– أنا لا أرضى بذلك، وسأُظهِر مكرك وخيانتك أمام الشرع.

– كيف تقدرين أن تثبتي براءته، وقد وجدته الشرطة في منزلك، وفي جيبه المحفظة والمال، فكأنك بذلك تقودين نفسك بيدك إلى السجن، وتثبتين أنك شريكته في الجريمة، ومع ذلك فإني أخيِّرك بين السجن وبين مستشفى المجانين، وعندي أنه خير لك أن تلزمي السكون؛ فلا مردَّ لما قُضِي به عليك، ولا يمر بك ثمانية أيام حتى تنفرج عندك الأزمة، وتعودي إلى منزلك فلا يحنق عليك البارون.

– أنا كتبتُ له أن ذلك زور وبهتان.

– ومع ذلك فقد ورد اليوم إلى البارون رسالة بخطك، ويظهر أن كاتبها قد أجاد تقليد الخط حتى لم يدع للبارون أقل شك فيها.

فصاحت باكارا صيحة منكرة، وعلمت أنها أصبحت في قبضة هذا الرجل يفعل بها ما يشاء.

وعند ذاك وقفت المركبة على باب المستشفى، فقال لها: لقد تمَّ الاتفاق بيننا على أن تكوني هادئة، وذلك خير لك على ما أبنته.

– ولكن ماذا يجري بفرناند أيحكمون عليه؟

– لا تخافي، فإن فرناند متهم بسرقة، وهذا ما يدعو هرمين إلى ترك حبه والاقتران بي!

– ومتى اقترنَتْ بك فماذا يكون؟

– يكون أنني أبرِّئ فرناند من تهمته.

فصاحت باكارا صيحة الفرح، وقالت: بالله كيف ذلك؟

– هو سري، فاسمحي لي بكتمانه.

– وهم يطلقون سراح فرناند؟

– نعم، ويقترن بكِ!

فتنهدت الفتاة وأحنت رأسها كمَن يستسلم للقضاء، وقالت: افعل ما تريد!

وعندها نزل السائق، وقرع باب المستشفى، وأدخل المركبة إلى ساحته، فنزل أندريا وأقفل الباب على باكارا والطبيب، وذهب إلى رئيس المستشفى فقال: إنني أريد أن أستودعكم فتاة مجنونة تُدعَى أليس هوتية، وهي معشوقتي، وأنا أريد أن أتولى النفقة عليها، أما جنونها فقد أصابها على إثر حادثة جرت لها مع مومسة شهيرة تُدعَى باكارا غارت هذه الفتاة منها على عشيقها حتى اختلَّ عقلها، وأصبحت تزعم أنها هي نفس باكارا.

قال الرئيس: لا بأس، فسنجتهد في علاجها.

فدفع له أندريا أجرة شهر مقدمًا، وانثنى إلى المركبة فأخرج منها باكارا، وقال لها: لقد أصبح اسمك الآن أليس، وإنك مجنونة غيرة من باكارا حتى صرت تعتقدين أنك هي بعينها، وهذا كل جنونك، أفهمتِ؟

– إنكَ شيطان مريد!

– لا بأس، ولكن افتكري بإنقاذ حبيبك.

ثم خاطبها بصوت عالٍ فقال كمَن يملق مجنونًا: تعالي يا حبيبتي أليس لتنظري هذا المنزل الذي اشتريته لك حديثًا.

ثم تأبَّط ذراعها وسار بها حتى أدخلها إلى الغرفة المعدَّة لها، فتركها هناك بحجة أنه يرى الحديقة، وخرج فاستدعى طبيب المستشفى، وقصَّ عليه حكاية جنونها المزعوم، وأنه قد أصابها منذ ثلاثة أيام، ورأى الطبيب فاني تتبع سيدتها فقال: مَن هذه الفتاة؟

– هي خادمة أليس، أفلا يمكن أن تُبقِيها معها تسهيلًا لخدمتها؟

– لا بأس في ذاك، فهو يفيد العليلة.

فعاد أندريا إلى باكارا فوجدها جالسة حزينة، فعزَّاها بلطف وقال: لا تجزعي، فإن حبسك لا يطول، فقد أبقيت معك خادمتك فاني.

– بل أبقَيْتَها جاسوسةً عليَّ.

– أنا ذاهب وسأراك غدًا.

ثم ودَّعها وانصرف، ودخل الطبيب على إثره وهو يقول: اعذريني يا سيدتي إذ دخلت بلا استئذان.

فتقدمت إليه باكارا، وقالت: قد عرفت مَن أنت يا سيدي، فإنك طبيب هذا المكان!

فانذهل الطبيب لرقتها وسكونها، وعادت فقالت: إنني أعلم أيضًا أين أنا، وأعلم أنك قادم لتفحصني.

فزاد انذهال الطبيب من هذا الثبات الذي يدل على العقل.

وعادت باكارا وقالت: لا تحسب أني أرتكب الحماقة التي يرتكبها كلُّ داخل إلى هذا المكان، ويكون أول كلامه لك غير مجنون.

فابتسم الطبيب بسمة الريب، وأدركت معنى ابتسامه فقالت له: أنا أبرهن لك على ذلك.

فجلس الطبيب إلى جانبها، وأخذ يدها وقال: إن داءك غير عضال، وعلاج أيام قليلة يكفي لشفائه.

فنظرت إليه نظرة هادئة، وقالت: أتسمح لي أن أكلمك، وتصغي إلى آخِر ما أقوله؟

– تكلَّمِي يا سيدتي.

– أَلَا يحصل أحيانًا أن يأتوك بأناس عقلاء أصحاء يزعمون أنهم مجانين رغبةً في إخفائهم عن أعين الناس.

فاضطرب الطبيب وقال: ذلك ممكن، فهل أنت من أولئك المظلومين.

فأخذت يده بلطف وهزت رأسها، واستوت جالسة شأن كل امرأة تعوَّدَتِ الدلال واستهواء القلوب، وقالت: اسمع لأقص عليك حكايةً غريبةً ندر أن تسمع بمثلها في هذه الأيام. فعاد الطبيب ظنُّه أنها مجنونة، ولكنه صبر إلى النهاية وأصغى، فقصَّتْ عليه حكايتها بالتفصيل من يوم أحَبَّتْ فرناند إلى يوم إلقاء القبض عليه بتدقيق وبيان غريب، وقالت: إنها مستعدة لتأييد أقوالها بشهادة كل الذين عرضوا لها في هذه الحكاية، ثم دلَّتِ الطبيب على منزلها في شارع مونسي، وسألته أن يذهب إليه ويجتمع فيه بأمها فتتجلى له الحقيقة.

فأثَّرَ كلامها على الطبيب وقال لها: إني ذاهب الآن إلى منزلك، فأفحص الأمر بنفسي، فإذا صحَّ الأمر كما تقولين فإني أكون لك محاميًا لا طبيبًا، وسأعود إليك في المساء، ثم تركها وانصرف.

جلست باكارا في غرفتها تنتظر الأجل المضروب على أحر من الجمر.

وكان أندريا قد قدَّرَ ذلك من قبلُ؛ فاتفق مع مومس كثيرة الدهاء وأقامها بمنزل باكارا، وقد علَّمَها ما تقول، فلما جاء الطبيب حكَتْ له قصة باكارا كما رواها له أندريا، فلم يَعُدْ لديه ريب بجنونها، وعاد إلى المستشفى وهو آسف عليها.

ولما رأته باكارا داخلًا عليها صاحت صيحة فرح، واستهلت حديثها معه بالشكر له والثناء عليه، ثم قالت: إنك قد رأيت أمي ولا ريب، وثبت لك الآن أني غير مجنونة، فجُلُّ ما ألتمسه منك الآن أن تسير معي إلى دائرة البوليس، فتوضِّح مكر السير فيليام، وتنقذ ذلك التعيس البريء من عذاب السجن. وعند ذلك دخلت فاني فنظرت إلى الطبيب نظرة استفهامٍ أجابها على سؤالها بابتسامة حزينة تدل على الشفقة، ثم قال: لقد بدأت بها أعراض الجنون، ويجب أن تستحمَّ بالماء البارد.

فصاحت باكارا صيحة منكرة، وقد سمعت ورأت كل شيء، فقالت: إذن أنا مجنونة حقيقة.

فأجابها الدكتور: لا بأس يا سيدتي، فإن داءك غير عضال، وستنقهين منه بزمن يسير إذا لزمت السكون.

– ألَمْ تذهب إلى منزلي، ألم تَرَ أمي وخدمي فيه؟

– ذهبت يا سيدتي، ورأيتُ فيه باكارا.

ففطنت حينئذٍ لحيلة أندريا، واسترسلت إلى اليأس فهاجت هياج المجانين، ثم هدأت ثورتها، وعاد إليها سكونها، فوضعت رأسها بين يديها، وجعلت تبكي بكاءً مرًّا، وفيما هي على ذلك إذ سمعت الدكتور يقول لفاني: لقد التمستُ من رئيس المستشفى أن يسمح لكِ بالبقاء ليلًا بقرب سيدتك، فأبى عليَّ ذلك، ولكنه سمح أن تزوريها في النهار، وأن تبقي بقُرْبها إلى الساعة العاشرة مساءً فقط. فلم تنبس ببنت شفة، وجعلت تفكِّر بما سمعته من الدكتور عند خروج فاني من المستشفى في كل يوم.

ثم ذهب الدكتور، فبقيت باكارا في غرفتها مع فاني، فنظرت إليها باكارا وقالت: إنك تمثلين روايةً مضحكةً، ولكنها ستكون مفجعةً، وتنالين جزاءَ ما جنته يداكِ.

– ستتأكد سيدتي بعد حين أنني من أشد الناس تعلُّقًا بها، ستُظهِر لها الأيام حقيقةَ ما أقول.

ولما دنت الساعة العاشرة عزمت فاني على الذهاب، فقالت لسيدتها: إنني ذاهبة، وسأعود في صباح الغد، فهل تريدين أن أحضر لك شيئًا معي؟

– نعم، أحضري لي علبة الشغل التي في غرفتي.

– أستودعك الله يا سيدتي إلى الغد.

– إلى الغد. ثم قالت بصوت منخفض، وقد التهبت عيناها بشرر الانتقام: إلى الغد أيتها الخائنة، وسترين كيف يكون جزاء الخائنين.

ولبثت طوال الليل تهيئ في فكرها سبيل الفرار، ولما طلع الصباح عادت إليها فاني بعلبة الشغل، وكان فيها لفافة كبيرة من الخيوط القطنية الثخينة، وكانت قد طلبت العلبة لأجل هذه الخيوط فأخذتها منها، وتظاهرت كل النهار بالبشاشة بما سرَّ الحكيم، ودعاه أن يضاعف لها أوقات الاستحمام، وعند الساعة الثامنة قالت لفاني: إنني أحب أن أنام، فأغلقي نوافذ الغرفة، ورتبي لي السرير. وبينما كانت تغلق النوافذ نظرت إليها باكارا، ثم نظرت إلى نفسها بالمرآة كأنها تريد أن توازن بين القوتين، وأخذت خنجرًا كانت قد خبَّأَتْه في صدرها، ثم هجمت على فاني هجوم الأسد على فريسته، ووضعت يديها في طوقها حذرًا من أن تستغيث، ثم ألقتها على الأرض، فركعت على صدرها، وأشهرت عليها الخنجر وهي تقول: إذا استغَثْتِ أو فُهْتِ بكلمةٍ فإنك ميتة لا محالة.

– عفوًا سيدتي ومرحمة!

فاستعرت مقلتا باكارا من الغضب حتى خُيِّلَ لفاني أن ساعتها الأخيرة قد دنت، وقالت: إنك تقولين إني مجنونة، والجميع هنا يعتقدون بجنوني، فإذا قتلتُكِ لا أُعاقَب بقتلكِ؛ إذ ليس على المجانين حرج. ثم أدنت الخنجر من صدرها وقالت: احذري من أن تفوهي بكلمة وإلا قتلتك بغير إشفاق، واعلمي أنني أريد الخروج من هذا المكان، ولا أحد سواك يستطيع مساعدتي على ذاك.

– كيف أستطيع إخراجك فإن الأبواب مقفلة؟

– إنهم يفتحونها لأجلك؛ لأنك تخرجين كل يوم الساعة العاشرة.

– ولكنهم لا يدعونكِ تخرجين معي.

– أعرف هذا، ولكنك ستبقين وأخرج مكانك، فاعلمي الآن أنني أشد منك ساعدًا، وأنني مسلَّحة بهذا الخنجر، وأنني إذا قتلتك فلا حرج عليَّ؛ لأنهم يحسبونني مجنونة، فاختاري إذن بين الامتثال وبين الموت.

– مُرِي بما تشائين.

– انهضي واخلعي ثيابك في الحال.

فامتثلت فاني وخلعت ما عليها من الثياب.

– أعطني الآن علبة شغلي. فأحضرتها لها وهي تكاد تجن من الخوف، فأخذت باكارا لفافة الخيوط وأمرتها أن تضم بعضها إلى بعض وتجدل حبلًا رفيعًا، فامتثلت، ولما انتهت أخذت باكارا الحبل، وقالت لها: أديري يديك إلى الوراء. ففعلت، وربطتهما باكارا بذلك الحبل رباطًا وثيقًا، ثم ربطت رجليها، وبعد ذلك خلعت ثيابها، فلبست ثياب فاني وقالت لها: قولي لي كيف تخرجين من هذا المكان، وإياكِ أن تكذبي بحرف واحد، فإنني أعود إليك فأميتك شر ميتة، واذكري أنني مجنونة.

– يوجد في آخِر الرواق بابان؛ أحدهما إلى جهة اليسار، وهو الباب الذي يخرج منه المجانين إلى الحديقة، والآخَر إلى جهة اليمين فتخرجين من ذاك الباب إلى رواق آخَر طويل حيث تجدين في آخِر ذاك الرواق بابًا كبيرًا، وهو باب المستشفى العام.

– أَمَا كان يسألك البوَّابُ شيئًا؟

– لم أخرج غير مرة واحدة، وقد سألني مَن أنا، فقلت له أنا خادمة السيدة التي دخلت إلى المستشفى بالأمس، ثم فتح لي الباب فذهبت.

– ألَمْ يتبيَّنْ وجهك؟

– كلا، فإنه فتح لي الباب وهو يقرأ في جريدة، وفوق ذاك فإن النور ضعيف.

وخرجت باكارا بعد أن أقفلت الباب، واستوثقت من صدق فاني، وذهبت في الطريق التي أشارت إليها حتى وصلَتْ إلى آخِر الرواق، فوجدتِ البواب منهمكًا في القراءة، فسألته أن يفتح الباب وهي تقلِّد صوت فاني، ففتح دون أن ينظر إليها، فخرجت وهى تظن أنها تحلم ولم تصدِّق أنها تمكَّنَتْ من الفرار، فجعلت تركض في الشارع المقفر وهي تلتفت إلى الوراء من حين إلى حين شأن الهارب الخائف، ثم وقفت في عطفة الشارع تفتكر أين تذهب، فإنها خشيت من الرجوع إلى منزلها حذرًا من أندريا، ولعلمها أنه رشا جميع خدم المنزل بحيث أصبحوا جميعًا في قبضة يده، وخطر لها أن تذهب إلى عشيقها البارون؛ لأنه هو وحده القادر على إنقاذها وإنقاذ حبيبها فرناند، لما له من النفوذ والوجاهة، فمشت حتى مرت بها مركبة فركبتها، ودلَّتِ السائق على منزل البارون فسار بها إليه.

وكانت كثيرًا ما تأتي إلى ذاك المنزل فتبيت فيه، وقد عرف جميع الخدم أنها عشيقة البارون سيدهم فكانوا يتملكونها ويكرمونها، ولما دخلت أنكر عليها الخدم لباس الخادمات، وحسبوا أنها تريد مزاحًا، فأمرت أحدهم أن يدفع إلى السائق أجرته وهي غير مكترثة بعجبهم، وسألتهم عن البارون، فقالوا: إنه خرج منذ حين. قالت: أتعلمون أين ذهب؟ قالوا: كلا. قالت: حسنًا سأنتظره. ثم ذهبت إلى غرفته الخصوصية وانطرحت على مقعد فيها.

ولما كانت الساعة السابعة دخل عليها البارون فأيقظها، وكان قد وردَتْ إليه رسالة مزوَّرة عن لسانها تخبره فيها أنها سافرت مع أمها وتغيب بضعة أيام، ولما أفاقت من نومها قال مندهشًا: ألَمْ تسافري بعدُ؟

فضحكت وأخبرته بأمرها، وكيف أنهم خدعوها وأرسلوها مجنونة إلى البيمارستان، وكيف خلصت منه، وكيف أقامت مقامها في منزلها امرأة سواها باسمها، وأنها قادمة إليه ترجو مساعدته وإسعافه، وأن يعطيها مبلغًا من المال تستعين به على أمرها؛ لأنها أُخِذت من منزلها ولا مال معها.

فنقدها البارون ما شاءت، وسألها عن الإسعاف الذي تطلب فقالت: هو أن تكتب لي تذكرتين إلى مدير الشرطة، وقاضي التحقيق؛ لأن لي معهما شأنًا أريد أن يسعفاني فيه، وأن يسمعا ما أنصه عليهما منه، وأن لا يسألها أكثر من ذلك، فأطاعها البارون كما هو دأبه وكتب لها ما سألته، فوضعت الرسالتين في جيبها شاكرةً مسرورة، وكانت قد استبدلت ثياب الخادمة بما كان لها من الثياب في منزل عشيقها البارون، ثم ركبت في الساعة الثامنة من الصباح مركبةً، وانطلقت مسرعة إلى مدير الشرطة.

وكان البارون معروف المقام لدى هؤلاء القوم، فلما قرأ المدير رقعته أمر بإدخال باكارا إليه، وكان يهمه أن يراها لما شاع من وجود فرناند عندها، وأنهم قبضوا عليه بتهمة السرقة فاستقبلها وهو يقول: يسرني أن أراكِ يا سيدتي؛ لأن المحكمة تلح عليَّ من يومين أن أقبض عليك، ولكن يُظهِر قدومك لي بنفسك أنني لا أحتاج إلى هذا الأمر؛ لأنني سأعرف منك شيئًا.

– نعم، وهو شيء مهم. ثم قصت عليه في حديث طويل كل حكايتها مع السير فيليام، وكيف اتهم فرناند افتراءً وزورًا إلى آخِر ما يعرفه القراء مما في علمها من هذا الشأن، وبينما هو منذهل من حديثها وغرابة تلك الخدعة قالت: والآن أتسمح لي أن أقابل فرناند في حبسه؟

– ذلك يحتاج إلى إذن قاضي التحقيق.

فأعطته الفتاة التذكرة التي معها باسم القاضي، وأضاف هو من عنده سطرًا، وأرسلها مع أحد الحجاب، ولم يلبث أن جاءه الجواب بالإذن، فأمر الحاجب أن يوصلها إلى سجن فرناند، وسألها أن ترجع إليه بعد نهاية المقابلة.

وكان قبل دخولها عليه بقليل خرج من عنده ليون والكونت أرمان بعد أن أَطْمَعاه بالخلاص من ورطته، ولما دخلت إلى سجنه وجدته في جانب سريره مهمومًا مفكِّرًا، فدَنَتْ منه وطوَّقَتْه بذراعها، فاندهش من مرآها في بادئ الأمر، حتى تبسَّمَ بالرغم عنه كما يتبسم العاشق لمعشوقه المسيء إليه، وينسى إساءته عند أول وهلة من مرآه، ثم خطر له ما وصل إليه من إساءتها واعتدائها، فدفعها عنه بازدراء وقال: أتتبعيني إلى هنا؟

– رويدًا يا فرناند، إنك تكون ذا حق باحتقاري، ولكني أرجو منك أن تسمع لي ما أقول، وأن تعي برهان براءتك من ذلك كما ألقيه عليك.

– أتقرين الآن بأنني غير مجرم.

– بل أقر أكثر من ذاك، أي بأسماء المجرمين الحقيقيين.

– عجبًا! إلى هذا الحد؟

فتنهَّدَتِ الفتاة وغطت وجهها بيديها، وقالت: ويلاه! إنه لا يصدِّقني، ولا يزال يحسبني شريكتهم في الذنب.

وكان في صوتها رنة حنو وحزن رقَّ لها قلب فرناند، وتلطَّفَ معها وقال: ألَمْ تكوني أنتِ الساعيةَ في هلاكي؟

– عجبًا يا فرناند! أيسعى إنسان في إهلاك مَن يهواه؟

ثم ركعت أمامه وشخصت إليه بعينين مغرورقتين بالدمع، وقالت له بصوت الحزين اللائم: إنه لو كان لي عرش لأعطيتك إياه.

وكان صوتها اللطيف ومنظرها المؤثر قد فعلا في قلب فرناند حتى رقَّ لها وأنهضها وهو يقول: صدقتِ، فإن من المستحيل أن تسعي في إهلاكي ما دمتِ تقولين إنك تحبينني، فتكلَّمِي وأفصحي عمَّا تعلمين.

وأخذت يده برفق، وقالت وهي تنظر إليه نظرةً ملؤها الحنو والغرام: عفوًا يا فرناند إذا تجاسرت وقلت لك إنني أهواك، أنا التي لا أستحق أن تهواني ولستُ إلا فتاة ساقطة، ولكن براءتي من ذنبي إليك تستلزم أن أقر لكَ بهواكَ، وما أنكر عليك أنني لستُ أهلًا لكَ، ولا مستحقة لودادكَ، ولكني أسمع أن الحب الحقيقي يظهر من الأدناس ويُصلِح فاسدَ القلوب، ويكون داعي مغفرة وسماح من عند الله الذي يغفِر كثيرًا لمَن يحب كثيرًا.

– نعم؟ ثم ماذا؟

– إني أنا باكارا المرأة الساقطة لدى الجميع، قد شعرت أنني صرت خيرًا مما كنتُ من يوم علق قلبي بهواك، وصرتُ أحسب أنني أصبحت شريفة يوم دخل إلى قلبي شعاع من الأمل بأنك تهواني، ولكن عفوًا إذا انطلق لساني في شكوى الغرام، فإنما أنا قادمة لأجلك وساعية في خلاصك، فاسمع ما أقول لك. ثم مسحت مدامعها وشددت صوتها، وقالت: إن أول مرة رأيتك فيها يا سيدي كنتُ في النافذة عند أختي، وكنتَ أنت في نافذتك، ولكنك لم تكلمني ولم تنظر إليَّ، وأظن أنك لم تشعر بوجودي أيضًا، ولكن ذلك لم يمنعني عن غرامك عند أول نظرة إليك، وعند أول خفوق من فؤادي، عند تلك النظرة فأحببتك، ولكن لا تَسَلْ كيف، إني بكل ما يمكن للقلب أن يحب، ومن تلك اللحظة أخذ الحب فؤادي وعقلي وكل حياتي بأسرها؛ لأنك تعلم أن امرأةً مثلي مارست أصناف الرجال، ولعبت بقلوب الفتيان، واستهوت نفس العاشقين، لا يدخل الحب قلبها إلا اغتصابًا، ولكنها متى أحبت فهي مجنونة هواها لا تحسب فيه للعواقب حسابًا.

ثم عادت فركعت بين يديه، وهو يبسم لها تبسُّم الظافر على المرأة المفتخر بامتلاك فؤادها، وقال: مسكينة أنت.

– قِفْ. لا تشفق عليَّ؛ لأنني لا أستحق منك شفقة ولا رحمة، بل احتقارًا وكرهًا.

– إذا كان الأمر كذلك، فأنا أسامحك وأعفو عنك.

– اسمع فليس ذاك كل الأمر؛ فلقد مرَّ عليَّ يوم مشئوم أخبرتني فيه أختي أنك عازم على الزواج.

فاضطرب الفتى لهذه العبارة، وقال: هو إذن؟ أنتِ التي كتبت …

فقاطعته وقالت: لا لست وحدي، بل أنا وهو.

– مَن هو؟

– هو الوحش الضاري السير فيليام.

– إنني لا أعرف هذا الرجل.

– ستعرف مَن هو؛ فإنني يوم علمت أنك عازم على الاقتران كنتُ في بيت أختي، وكنتَ أنت في نافذتك فتطارحنا السلام، وخرجتَ أنت وكانت مركبتي لدى الباب فركبتها وانطلقت في إثرك حتى وصلت إلى منزل عروسك، فنزلت أنا وسألت عنها، فقيل إنها تُدعَى هرمين، وأن أباها يُدعَى بيرابو، فعدت إلى منزلي حزينة كئيبة تتنازعني الأفكار من كل جانب، ولكن فكر حرمانك من عروسك لم يكن قد خطر لي بعدُ، فقضيت ليلي مسهدة الجفن على فراشي، واسمك يتردد بين شفتي حتى الصباح، فدخل عليَّ رجل، بل شيطان بصورة إنسان يقال له السير فيليام.

فقال فرناند منذهلًا: ولكني لا أعرف هذا الرجل!

– أما هو فقال لي: إنكِ تحبين فرناند، وأنا أحب ابنة بيرابو.

فارتعش فرناند لهذا الخبر، وعادت باكارا وقالت: وإذا بوالد هرمين تقدَّمَ إليَّ من وراء فيليام، وهو يقول لي إنه مغرم بأختي، ثم دخل فيليام معي في حديث طويل كله دهاء وخداع، لم أذكر منه سوى أنه لعب بعقلي واستولى على فكري، وبعت أختي سريز لوالد خطيبتك على أن يمنعك من زواج ابنته.

وهنا أخذت باكارا في البكاء الشديد، وأخذ فرناند يدها وقال: لا بأس، أنا أسامحك.

– قِفْ لا تسامحني الآن، فإنني لم أقل لكَ كل شيء، أما السير فيليام فإنه بعد أن أتم اتفاقنا على هذه الصفقة الخاسرة، أملى عليَّ رسالة إليك أشكو لكَ فيها غرامي، كأنك عشيقي من زمن مديد، وجعلني أهزأ بالفتاة التي ستصير عروسك، وأذكِّرك بأنك وعدتني بأنك لا تسلوني ولو تزوَّجْتَ.

وقاطعها فرناند وقد أخذ يستنير من الأمر، وقال: أكتبتِ كل هذا؟

– نعم، ودفعت الرسالة إلى بيرابو، وقد احتال فألقاها في أرض بيته يوم كنتَ تأكل عنده، بحيث وجدَتْها هرمين بعد ذهابك وقرأت ما فيها.

فجمد فرناند كأنه أصيب بصاعقة، وأدرك السبب الذي دعا هرمين إلى النفور منه، ولكنه بقي جاهلًا أمر السرقة وتدبيرها، وعادت باكارا إلى حديثها: والآن وقد عزمت على إنقاذك، وأن أتهمَّ هذين الشقيين مكانك.

– ولكن اذكري أن أحدهما والد هرمين.

أحنت رأسها وجرت على خدها دمعتان فطرتهما يد الغيرة من أعماق قلبها، وقالت: نعم. إنكَ تهواها، ولكن ما يهمني ذلك فأنا سأسعى في إنقاذك وتلافي ما بدر من إساءتي إليك، وإذا أصبحتَ سعيدًا بعد ذلك بمَن تهواها خفَّفْتَ عني وِقْرَ العذاب.

وتذكَّرَ فرناند عند ذاك زيارة الكونت أرمان وقوله له يجب أن نبحث عن باكارا، فاضطربت أفكاره، وقال: لقد أتاني رجل الآن، ووعدني بإنقاذي أيضًا، وهو يريد أن يراك، وقد كان معه ليون خطيب أختك، ثم خرجا قبل دخولك بقليل، وهو يُدعَى الكونت أرمان دي كركاز، ومنزله في شارع كاترين، اذهبي إليه وانظري ماذا يريد.

فأخذت باكارا رأس السجين بين يديها وقبَّلَته في جبينه قبلةَ عاشق مفارق، وقالت: لا بد من تبرئتك، ولو آل الأمر إلى اتهام نفسي مكانك، وويل لك يا سير فيليام، وكُنْ على حذر. ثم خرجت بعزة وكبرياء كأن غرامها الصحيح قد جعلها عند نفسها من أطهر النساء، وعادت إلى مدير الشرطة وزادته إيضاحًا في الأمر، ووعدته بأنها لا تخرج من باريس، وأنها مستعدة لإجابة الحكومة عند استدعائها. ثم ذهبت إلى منزل الكونت أرمان فدخلت عليه وهو يقول لليون: لا يمكن أن تنحل هذه الدسيسة إلا إذا قابلنا باكارا.

ولما رآها ليون داخلةً وثَبَ إليها وهو يقول: أين سريز، وماذا فعلتِ بها؟

فاصفرَّتِ الفتاة وقالت: أليست في منزلها؟

– لا، لقد فُقِدَتْ منذ ثلاثة أيام.

– ويل لهم لقد خطفوها!

– ومَن هم!

– السير فيليام وبيرابو.

ولما لفظت اسم فيليام نظر أرمان إلى بستيان، وقال: أرأيت أنني عرفته وهو أندريا بعينه.

ثم سكت ليون، وأخذ بيد باكارا، وقال: تكلمي ولا تخافي، نحن من أصدقائك.

وقصَّتْ عليه القصة التي حكتها لفرناند، فارتجف الكونت من هول ما سمع وقال: قد وضح الأمر الآن، فإن يد أندريا في كل هذه الأمور ولا أقدر عليها منه، وهو قد عرف أن بنت بيرابو هي ابنة كرماروت، وقد اتفق مع بيرابو على هذا الأمر، وكلاهما مشتركان في هذه السرقة التي اتُّهِم بها فرناند.

ثم صرف باكارا وهو يقول والغيظ يحنقه: احذر أيها الأخ العزيز، فقد فُتِحت بيننا حربًا لا هدنة فيها ولا شفقة.

•••

وقد كشف أرمان تقريبًا الحجاب عن هذه المكيدة، وثبت لديه أن بيرابو شريكه فيها، فأخذ يتراوح بين رأيين؛ إما أن يشكوهما إلى الشرع، وإما يحتال لبلوغ مآربه من إنقاذ فرناند وحنة وسريز، أما الرأي الأول فقد خشي أن يفشل فيه؛ إذ ليس لديه من الشهود غير باكارا، وفوق ذلك فإن السير فيليام غائب عن باريس، وإن إشهار جريمة بيرابو يمس بكرامة هرمين، أما الرأي الثاني فهو شديد الخطر غير مضمون النجاح، غير أنه رأى أن يسير، فإذا فشل فيه عاد إلى الأول، وعلى هذا أمر باكارا أن لا تخرج من المنزل، وأوصى ليون أن يأتي إليه في كل يوم، وأن يدخل من باب سري في الحديقة، وأخذ يسعى في التفتيش على حنة وسريز، وأول ما شرع به أنه أحاط برجال المنزل الذي ذهبت إليه سريز في شارع الحية، وهو المنزل الذي دهمها فيه بيرابو، واختطفها منه كولار، فأمر أن يراقبوا جميع مَن يدخلون إليه ومَن يخرجون منه.

أما فاني فإنهم انتبهوا إليها في الصباح وهي في آخِر رمق من الحياة، فحلوا قيودها، وعلموا منها كيف كان هرب باكارا، فأطلقوا سراحها، وذهبت توًّا إلى منزل السير فيليام لتخبره بما جرى، وكان قد سافر، فأخبرت كولار الذي جمد لهذا النبأ كمَن أصيب بالصاعقة، وقال في نفسه: إذا اجتمعت باكارا بليون فقد ضاعت كل آمالنا، وذهبت أمانينا أدراج الرياح. وقد عزم في البدء أن يكتب إلى السير فيليام يستقدمه، ولكنه رأى أن رجوعه يؤخِّر عقد الزواج وكسب الملايين، فعدل عن ذلك وقرَّر الإسراع في قتل ليون، وذهب يبحث عنه في المحل فلم يجده فيه، وأخبره رئيسه بما حلَّ به بعد فقد خطيبته من اليأس، فتركه وانصرف يبحث عنه في جميع الأنحاء حتى لقيه في الساعة الخامسة خارجًا من منزل أمه، فدنا وسلَّمَ عليه، وقال له بصوته الكئيب: كيف أنتَ أيها الصديق؟

– إني أكاد أجن من اليأس.

– إني أعرف كل شيء أيها الصديق، وشهد الله إننا في هذا المصاب سواء، أنت تعلم حبي لك.

فاختلج ليون وقال: أنتَ تعرف كل شيء؟

– نعم، أعرف أيها الصديق أن سريز رحلت عنك.

– قُلْ إنها قد اختُطِفَتْ.

– لا، بل قُلْ إنها قد سافرت، فإن الصبايا يُختَطَفون في بلدة مثل باريس.

أجابه ليون بصوت خشن قائلًا: إن سريز ابنة شريفة.

– لا أنكر ذلك ولكن …

– ولكن ماذا؟

فأجابه بلهجة حزن، ولكني أعرف ما أقول.

فأمسكه ليون بذراعيه وهزَّه بعنف، وهو يقول: أنسيت أنها ستكون عروسي؟

– وإنْ تكن قد اختُطِفَتْ.

– نعم، إني سأنتقم لها، بل سينتقم لها عني الكونت.

ارتعش كولار وقال: عن أي كونت تعني؟

– الكونت أرمان دي كركاز، فقد عرفنا مرتكب هذا الجرم.

– كيف عرفتموه؟ ومَن هو؟

– هو ذاك الإنكليزي المحتال، أريد به السير فيليام.

بذل كولار معظم ما لديه من القوة حتى تمكَّنَ من إخفاء انفعاله، وقال في نفسه، قد غلبنا وذهبت الملايين، ثم رجع إليه سكونه وقال لليون: إني كنتُ قادمًا عندما لقيتك من المعمل الذي تشتغل فيه، أحببت أن أراك كي أحادثك بشأن سريز.

– أتعلم شيئًا عنها؟

– نعم، ولأجل هذا أتيتك، ولكن المقام لا يسمح لي بمثل هذه الأبحاث، فاذهب معي إلى قهوة قريبة أُظهِر لك ما تود معرفته في هذا الشأن. ثم ذهبا وجلسا حول منضدة معتزلة.

فقال كولار: إني صديقك، ولا أحب لك الزلل والخطأ.

– أي زلل وأي خطأ؟

– إني أعلم ما لا تعلمه.

فصرخ به ليون: كفاك ألغازًا، وقُلْ لي ما تعلمه من شأن سريز.

– لا أعلم شيئًا، ولكني رأيتها أمس في بوجيفاك.

قال ليون وقد ظهرت عليه ملامح السرور: إنك رأيتها أمس في بوجيفاك، قُلْ مع مَن كانت؟ وكيف رأيتها؟

– رأيتها في مركبة مقفلة.

فارتاع ليون وجعل العرق ينصب من جبينه، وقال: قُلْ مع مَن رأيتها؟

فظهر من كولار أنه يتردد، فهزَّه ليون وصاح به يقول: إنك ستقتلني بهذا التردد، فبالله إلا ما قلتَ لي مع مَن رأيتها.

– رأيتُها مع شاب أسمر اللون وعليه ملامح الأغنياء.

قال ليون بلهجة الحزين: إن هذا محال. ألَمْ تكن تستغيث؟

فقال كولار: مسكين أنت يا ليون، إنك لا تعرف أخلاق النساء، فإني رأيتها على أتم السكون، بل رأيته يحدِّثها وهي تبتسم له ابتسام الرضى والحب.

فهاج ليون لما سمع وقال: إنك تكذب، وأنت منخدع، فليست سريز التي رأيتها؟

– إنها هي بعينها، فلم أخدع ولا أنا كاذب.

– إلى أين كانت تسير؟

– في طريق الوادي، فلم أعلم بعد ذلك شيئًا لأني لم أتبعها.

فقال بلهجة الانتقام: كولار إنك ستذهب معي إلى بوجيفاك حيث نبحث سوية عن سريز، وسنبيت هناك إذا لم نتوفَّق للقائها إذا الظلام قد أقبل.

فتظاهر كولار أنه يفتكر ثم قال: نعم، سأذهب معك وسنجدها بإذن الله، غير أني لا أستطيع مبارحة باريس قبل ساعة، فانتظرني ريثما أعود. ثم ودَّعه وانصرف، وارتأى ليون بعد ذهابه أن يخبر الكونت أرمان كي لا يفوته شيء من أمر هذه المكيدة، فكتبَ له رسالة أوقفه فيها على ما دار بينه وبين كولار، وكيف أنه سيذهب معه بعد ساعة إلى بوجيفال، ثم ختمها وخرج ليبحث عمَّن يوصلها إليه، ولقي اتفاقًا صديقه المخلص كينيون، وأطلعه على جلية الأمر، وكلَّفَه أن يوصل الرسالة إلى الكونت.

وقال له كينيون: إني ناصح لك أن لا تسير مع هذا الرجل ولا تثق به، فإنه يضمر لك كيدًا وقد حذرتك منه مرارًا.

– إنك مخطئ في رأيك به، فهو لي ولا بد من الذهاب إلى بوجيفال.

– أنت بعد ذلك وشأنك، لقد بذلك لك ما يجب عليَّ من النصح، ولم يَبْقَ عليَّ سوى أن ألتمس منك أمرًا واحدًا.

– ماذا؟

– هو أن لا تخبر صديقك كولار بهذه الرسالة التي سأذهب بها إلى الكونت.

– أعدك بأني لن أحدِّثه بشأنها.

ثم افترقا فرجع ليون إلى القهوة وذهب كينيون إلى منزل أرمان فأعطاه الرسالة، وأخبره عن سوء ظنه بكولار وأنه يكيد لليون.

قال أرمان: إذن هلم معي إلى حيث ليون، وإننا سنسير بأثرهما إلى بوجيفال متنكِّرَيْن. أما كولار فإنه ترك ليون وذهب توًّا إلى نيكولو وأمره أن يسير مع رفيق له إلى بوجيفال، وأوقفه على المكيدة، ثم عاد إلى ليون ووجده بانتظاره، وركب وإياه مركبة وسارَا.

ولم يكن ليون يفكِّر سوى بأمر واحد، وهو أن يجد سريز وينتقم من خاطفها، وكان يهيج هياج المجانين ويتهدد السماء بيده، ثم يعود إلى السكون وتهدأ عاصفة غضبه، ويضع رأسه بين يديه ويفكِّر تفكير الحزن.

وقد رأى ليون أن الليل قد جنَّ، فنظر إلى كولار وقال: إن الظلام قد ادلهمَّ، والأفق مربد بالضباب، فكيف نبحث عنها في الليل الدامس؟ قال كولار: إن الظلام أفضل من النور، وفي مثل هذه الشئون أؤثر أن نصلَ ليلًا فنبيت في فندق بوجيفال، وهو فندق يَقدِم إليه أكثر خدم الأغنياء في تلك الجهات، فربما علمنا منهم ما يدلنا على مكان سريز. وقنع ليون بهذا الجواب، وعاد إلى تأملاته.

وما زالت المركبة تسير حتى وصلت إلى مارلي وأوقفها كولار بإشارة، وقال لليون: إن الطريق إلى الفندق لا تسير فيها مركبات، ولنذهب على الأقدام. ونزل الاثنان ومشيا.

وكان هذا الفندق الذي تكلَّمَ عنه كولار واقعًا على ضفة النهر بالقرب من طاحونة كبيرة تديرها مدام فيبار التي طردها أندريا أمام سريز كما يذكر القراء، ولم يكن معها غير صبي يبلغ الثالثة عشرة من سنه يُدعَى روكامبول، وهو غاية في المكر والدهاء.

فلما وصل ليون وكولار وجدَا العجوز والصبي يلعبان بالنرد، وحيَّاهما كولار تحية صديق، ثم تبادَلَ إشارة خفية، فقال كولار: إننا نريد المبيت الليلة في هذا الفندق، فهل لديك غرفة موافقة لنا؟

– نعم. وأمرت روكامبول أن ينير لهما الغرفة الصفراء.

وصعد الصبي وصعدا بإثره، فأنار لهما الغرفة، وسألاه أن يحضر لهما زجاجة خمر، ولما عاد بها قال كولار لليون: دعني أسأله عساي أن أعلم منه شيئًا.

ثم أشار بعينيه إشارة سرية: أتصدقني في الحديث يا روكامبول؟

– إني لا أكتمك أمرًا يا سيدي كولار، وأنا لا أعرف الكذب، قُلْ ما تشاء.

– ماذا حدث عندكم في هذا الأسبوع؟

– لم يحدث شيء جديد.

– ألم يَجِئْ من باريس إلى هذه الضواحي أحد من الأغنياء؟

– نعم، قد جاء منذ حين شاب قيل إنه إنكليزي واسع الثروة.

فارتعش ليون وقال: هذا السير فيليام الذي طالما حدَّثَتْنا باكارا عن مكره.

قال كولار: أَلَا تعلم أين يسكن هذا الإنكليزي؟

– كلا.

– أهو متزوج أم أعزب؟

– لا أعلم شيئًا من ذلك.

– أتقدر أن تصفه لي؟

– نعم، لقد رأيته مرة، وهو يناهز الثلاثين من العمر، أسمر اللون، خفيف شعر الشاربين.

قال كولار: كفى هذا بعينه.

ثم سمع روكامبول أن العجوز تناديه، فهرول مسرعًا إليها.

وقال لليون: أوعيت كلام الصبي، فإنه لا يعلم شيئًا من أمر سريز كما يظهر.

– إنه يعلم كل شيء، ولكنه لا يريد أن يقول.

ثم سمع كولار وَقْع أقدام على السلم، فأشار إلى ليون أنه يلزم مكانه وفتح الباب وأطل منه ورأى روكامبول ووراءه نيكولو ورفيقه، وتبادل معهما إشارة، وعاد إلى ليون فدار بينهما الحديث الآتي، وهما يشربان الزجاجة، وقال كولار: أتعلم يا ليون أن هذا الفندق كثير الخطر، وقد يقتل فيه المرء مَن يريد قتله ولا يعلم بجريمته أحد؟

فنظر إليه ليون باندهاش، فابتسم كولار ابتسام الأبالسة وقال: نعم، إن القتل في هذا المكان لا يكون إلا خنقًا، وتُلقَى الجثة تحت حجر الطحن، ثم تدفعها المياه، ولا يُعلَم بعد ذلك أكان موت صاحب الجثة قتلًا أم اتفاقًا.

وارتاع ليون وقال: أيوجد هنا قَتَلَة؟

– إذا اقتضى الحال.

فنظر إليه ليون وهو يحسبه سكران، وقال: كيف إذا اقتضى الحال؟

– إذا كان يوجد مَن تثقل عليَّ حياته، فإذا قتلته فإني لا أحسب قتله ذنبًا كبيرًا، وَلْنفرض أنك أنت الذي حياته تثقل عليَّ.

فصاح ليون مستنكرًا: أنا!

– لنفرض أنك أنت كذلك، وأنك صديق رجل يثقل عليَّ أيضًا نظير الكونت أرمان دي كركاز مثلًا، وإني لذلك احتلت عليك، وجئتُ بكَ إلى هذا المكان.

– إنك لتخيفني يا كولار بهذا المزاح.

– لا بأس وَلْنفرض أيضًا … ثم نقر بيده على الحائط وقال: تعالوا يا أصحابي لقد وقع الطير في الشَّرَك. ولم يكد يتم كلامه حتى دخل نيكولو وفاتح الأقفال، فأدرك ليون سرَّ الأمر بما رأى عليهما من هيئة الغدر، ووثب من مكانه، وتناول سكينًا كانت أمامه، وقال لكولار: أتريد أن تقتلني؟

– نعم، لأنك تثقل عليَّ!

فرجع ليون حتى لصق بالحائط ورفع سكينه وقال: تقدَّموا الآن.

فتناول نيكولو زجاجة الخمر الفارغة وضربه في رأسه، فانكسرت وسالت دماؤه وسقط على الأرض صريعًا، وهجم عليه الثلاثة، وتناول كولار منديلًا كبيرًا، ووضعه في عنق ليون الجريح وهمَّ بخنقه، وإذا بدوي رصاص ونور قد سطع، وسقط كولار مصابًا برصاصة في صدره.

وكان مُطلِق الرصاصة الكونت أرمان نفسه، فإنه لما أخبره كينيون بذهاب ليون إلى بوجيفال مع كولار، داخله ريب في أمر هذا الرجل وسار بمركبته في إثرهما كما يعلم القراء، حتى أدركهما على الطريق، وتمكَّنَ من رؤية كولار في المركبة، وتذكَّرَ أنه رآه مرة حين جاء لاستدعائه إلى منزل البارون كرماروت صاحب الملايين، فزادت شبهته فيه، وعلم أنه كان ملازمًا للبارون وقد وقف على سر الملايين، وداخله الريب بأنه هو الذي أطلع أندريا على ذلك السر، فاقتفى أثره حتى رآه صعد مع رفيقه إلى الفندق، ثم رأى صاحبيه القاتلين قد تبعاه، فأخذ كينيون الذي جاء معه وتوارى به وراء نافذة الغرفة التي جرت بها الحادثة، إلى أن جرى الأمر أمامه، ورآهم يهمون بقتل ذاك المسكين، فأطلق تلك الرصاصة من النافذة، كانت السبب في خلاصه، ثم وثب إلى الغرفة والغدارة في يده، وعرفه نيكولو في الحال، فخرج برفيقه مسرعًا، وتركا صاحبهما ميتًا وهربا، فمرَّا على صاحبة الفندق وأخبراها بالأمر، فتظاهرت بأنها أغمي عليها من الخوف.

وصعد روكامبول وهو يصيح: إلى القاتل إلى القاتل.

وبادره كينيون وتهدَّده بالقتل إذا لم يسكت، فسكت مُكرَهًا.

وتقدَّمَ أرمان إلى كولار ورآه لا يزال حيًّا وهو ينظر إليه ويقول: لقد ظفرت عليَّ هذه المرة، ولكن رئيسي سينتقم لي.

– ويحك! أتموت كذا بغير إقرار ولا ندم؟

– هيهات أن تعرف مني شيئًا!

– ولكن بالله أخبرني أين حنة وأين سريز؟

– تريد أن تعرف ذلك، إذن فاعلم أن حنة قد أصبحت معشوقة السير فيليام، وغير هذا لا أقول شيئًا.

ثم أطبق عينيه على إثر هذه الكذبة الشنعاء، ومات والدم يتدفق من فمه، فتقدَّم الكونت إلى الصبي روكامبول، وقال له: أتعرف أنت شيئًا من أمر هؤلاء اللصوص؟

ونظر إليه الغلام نظرة الشجاع الباسل، وقال: نعم، أعرف كل شيء.

فصاح أرمان صيحة الفرح: إذن أخبرني أين حنة وسريز؟

ورفع كينيون سكينه على صدر الولد وقال: تكلَّمْ أو تُقتل.

– لا أقول شيئًا، فاقتلوني إذا شئتم!

وقال الكونت: دَعْه، قد يتكلم.

ثم التفت إلى الصبي وقال له: أتريد أجرتك؟

– نعم، وإلا اقتلوني لأن الحياة بغير مال لا خير فيها!

– كم تريد؟

– عشرة دنانير أولًا.

– فرمى له الكونت كيس دراهمه وقال: خُذْ ولكن تكلم.

– إن كولار قد كذب عليك. إن الفتاة التي تبحث عنها ليست عشيقة السير فيليام، ولم تُرِدْ أن تستسلم له.

– وأين هي؟

– على عشر دقائق من هنا محبوسة في بيت، وأنا أدلك عليه.

– هلم بنا.

وتقدَّمَ الفتى أمامهم، ثم التفت إلى الكونت وقال: أظن أن هذا الخبر يساوي أكثر من عشرة دنانير؟!

– إذا وجدت حقه سأعطيك خمسين.

– إذا كان ذلك فنعم وكرامة.

ثم خرج أمامهم حتى مرَّ بالعجوز، وهي تتظاهر بالإغماء، فدنا منها بحجة أنه يريد إيقاظها وهمس في أذنها أن اهربي في الحال، فإني سأغشهم ولا أدعهم يعلمون شيئًا. ثم مرَّ يقودهم وهو يقول: إن الفتاتين في وسط النهر. وسار بهم على جسر هناك حتى إذا توسَّطَ الماء نظر فرأى كينيون إلى جانبه، فدفعه بكلتا يديه فسقط في النهر، والتفت إلى الكونت وقال: السلام عليك يا كونت، فإنك لا تعرف من أمر حنة شيئًا. ثم وثب وثبة سابح ماهر، وغاب في النهر تحت الظلام قبل أن يفيق الكونت من انذهاله، فعاد أرمان حزينًا إلى الفندق، فوجده خاليًا من صاحبته، فأخذ ليون الجريح، وترك جثة كولار غارقةً بدمائها في تلك الغرفة.

•••

بينما كان أرمان مجدًّا في إنقاذ ليون وهو يجد بالبحث عن حنة وسريز، كان أندريا يعمل على غزو قلب هرمين، وقد تذرَّع إلى ذاك بجميع الوسائل بحيث أصبح جميع مَن يحيط بها من أنصاره، وقد ذهب من منزل مدام كرمارك على ما علمه القرَّاء إلى صديقه البارون مادي، وخفَّ صديقه لاستقباله بغاية التودد، ورأى على وجهه ملامح الحزن، وسأله عن علة هذه الكآبة، فقصَّ عليه حديثَ غرامه بهرمين، وأن لا رجاء له من هذا الحب، وتأثَّر البارون تأثُّرًا شديدًا وقال: طِبْ نفسًا فإنك نبيل في قومك جميل الطلعة كثير المال، فلا تيأس من حب هرمين، وستكون امرأةً لك في وقت قريب؛ فإنها أهل لمثلك وأنت كفء لها، وهي نسيبتي وأنت صديقي، وسأخدمك في هذا الشأن كما أخدم نفسي. فشكره أندريا بلهجة الموجع القلب.

وفيما هما على العشاء وردت على البارون رسالة مدام كرمارك، فسُرَّ بها وقال: قد وجدتُ طريقةً حسنةً لأعرِّفك بهرمين؛ ذلك أني سأدعو أسرتها غدًا إلى الصيد وستكون معنا. ثم قام إلى منضدة وكتب إلى مدام كرمارك رسالة يدعوها بها مع بيرابو وامرأته وابنته إلى الصيد غدًا في وادي سيبرس، ثم بعث بها إليها مع رسولها.

وقد رقد أندريا تلك الليلة وقلبه يطفح بالأمل.

وعاد الرسول إلى مدام كرمارك، ولما اطَّلَعت على الرسالة سُرَّتْ بها غاية السرور وقالت لهرمين: إن البارون دي مادي يدعونا غدًا إلى الصيد، فهل تذهبين؟

قال بيرابو: إننا نذهب من غير بد، فلا أجد أجمل من الصيد في هذه الوديان.

وكانت هرمين قد تعوَّدَتْ ركوب الخيل، ولكنها لم تَرَ في حياتها صيدَ الوحوش البرية، فسُرَّتْ بذلك ووعدت بالذهاب.

وقالت مدام كرمارك: يظهر من هذه الرسالة أن السير فيليام سيكون من المدعوين. واختلج قلب هرمين ولم تُجِبْ بشيء، بل تركتهم وانصرفت إلى غرفتها وهي تفكِّر، وكانت لا تزال تحب فرناند، ولكن حبها له كان حبًّا بغير أمل كما يحبون الأموات، وقد علمت أنه غير أهلٍ لها، فكانت تجتهد أن تنساه، وكان قلبها يحدِّثها بأنه سيكون للسير فيليام شأن في حياتها، وكانت تفكِّر به وترتعش وهي لم تَرَه غير مرتين، وتأمَّلَتْ تلك الليلة وهي تحلم به أحلامًا مزعجة.

ولما طلع الصباح تأهَّبُوا للرحيل، وامتطت فرسًا كريمًا وسارت مع أمها وبيرابو وخادم، وفيما هم على بُعْد مرحلة من الوادي سمعوا صوت النفير وعواء الكلاب، فقال لهم الخادم: أسرعوا واتبعوني، إنهم يحصرون الوحش وقد دنا أجَلُ صيده.

وكانت الساعة العاشرة من الصباح، والشمس تتوقد في قبة الفلك، فترقص أشعتها الذهبية على الغصون، وتقع من خلال الأوراق على الأرض كالدنانير، ولم يكد الخادم يسير أمامهم حتى دفعوا الجياد، وانطلقت بهم مسرعة تخترق تلك السهول، تمرق مروق السهم في الفضاء حتى بلغوا الوادي، وعلا نباح الكلاب، وأول ما رأته هرمين ذلك الوحش البري الذي يطاردونه وهو يزأر زئير السباع وعيناه متقدتان بشرر الغيظ والرعب، وكان يعدو على غير هدى بين الصخور، ثم رأت بعده الكلاب تهاجمه من كل صوب وتسد عليه سبل الفرار، ورأت بعد ذلك على بُعْدٍ يسيرٍ فارسًا راكبًا على فرس سود كالليل يقفز به من فوق الصخور، وسيماء الشجاعة والإقدام تلوح على ذاك الفارس الذي ظهر أنه في عنفوان الشباب، ثم تبيَّنَ لها أن ذاك الفارس هو السير فيليام، فخفق قلبها خفوقًا لا يُوصَف، ثم رأته قد ترجَّلَ عن جواده وتقدَّمَ من الوحش بقلب جسور ثابت، وضرب الكلاب بالسوط ففرَّقَها عنه، ثم هاجم الوحش مهاجمةَ مستبسلٍ يرى الموت سهلًا في رضى مَن يهواها.

ونظرت هرمين إلى ذاك الرجل الذي يخاطر بحياته أمامها في سبيل ضربة تستحسنها، ورأته قد التحم مع الوحش في عراك عنيف حتى لم تَعُدْ تميز بينهما، ثم نظرت فرأته قد طعن الوحش بخنجره طعنة شديدة غرق فيها إلى اليد، وسقط ذلك الحيوان الهائل صريعًا، وأثَّر ذلك المنظر بهرمين تأثيرًا شديدًا حتى سقطت على الأرض مغشيًّا عليها، وتسارعوا إليها ونضحوا وجهها بالماء، فاستفاقت ورجع الجميع إلى القصر، وكلهم ينظر إلى أندريا نظرة العجب والإكرام، وهو يقول في نفسه: لقد استتب لي النصر، وإذا لم أفز بقلبها بأقرب حين، كنتُ أبله لا أستحق هذه الملايين.

•••

وَلْنَعُدِ الآن إلى حنة التي تركناها في تلك الغرفة، وقد استفاقت، وجعلت تقرأ الرسالة التي تحسبها من الكونت أرمان الذي كانت تحبه حبًّا شديدًا، وجعلها تغفر له إساءته في ذلك التصرف الغريب، ولم يدخلها شيء من الريب، بل إنها كانت تشفق عليه وتخشى أن يصاب بمكروه من ذلك الخطر الذي كتَبَ لها عنه، وفيما هي على ذلك فُتِح الباب ودخلت فتاة وقالت: إن سيدي الكونت قد أقامني في خدمتك. وهمَّتْ حنة أن تسألها أين هي وكيف أتت إلى هذا المكان، ثم ذكرت الرسالة التي أوصيت بها أن تجتنب الأسئلة وسكتت، وقالت الفتاة: لقد قدَّرَ سيدي الكونت ما ستلاقيه من الضجر في الاعتزال والوحدة، فأرسل إليك صديقةً تودِّين أن تكون معكِ!

– ومَن هي هذه الصديقة؟ وما اسمها؟

– اسمها سريز.

ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت سريز، وصاحت الفتاتان صيحة فرح وتعانقتا.

وأخذت كلٌّ من الفتاتين تسأل الأخرى عن السبب في وجودهما في هذا المكان، ولكنهما لم تعلما شيئًا، واتفقتا على أن تجتنبا البحث في هذا الشأن عملًا بما أوصاهما، وانصرفتا عن كل ذلك الحديث إلى بثِّ الهوى وشكوى الغرام.

وعند المساء دخل كولار فنظرت إليه حنة نظرةَ قلق، فسكَّنت سريز روعها وقالت إنه خادم الكونت، أما كولار فإنه انحنى أمام حنة وقال لها: إني يا سيدتي آتٍ من قِبَل الكونت بهذه الرسالة. فتَلَتْها حنة وكل فحواها أنه اضطر إلى البعد عنها بضعة أيام لشاغل مهم، وأنه سيعود إليها بأقرب حين ويقترن بها، وأنه سيرسل لها في كل يوم رسالة مع كولار، ويوصيها أن تثق به، وقد حذَّرَها بالختام من الخروج من المنزل غاية التحذير، وبعد أن فرغت من تلاوتها قال لها كولار: إذا أحببت أن تجيبي على هذه الرسالة، فأنا أوصل رسالتك إلى سيدي الكونت. فاحمرَّ وجه حنة، وقالت له: نعم، سأجيبه فانتظرني.

ثم قامت إلى منضدة، وكتبت له رسالة لم تذكر بها شيئًا من غرامها، بل أظهرت له بها شدة استغرابها لسلوكه، وأنها لا تقدر أن تحكم بشيء على هذا السلوك المستغرب قبل أن تراه، ويوضِّح لها سرَّ الأمر، ثم ختمتها بالدعاء له، ورجائه بسرعة العودة، وبعد ذلك أعطتها لكولار، فأخذها وانصرف.

وفي اليوم الثاني لم يَعُدْ كولار ولا وردَتْ رسالة، فقلقت لذلك وانتظرت إلى الغد، ثم مرَّ عليها أربعة أيام، ولم يَعُدْ كولار الذي كان قُتِل كما تقدَّمَ؛ فاشتد قلق الفتاة، وثبت لديها أن حبيبها قد أصيب بذاك الخطر الذي كتب لها عنه.

وفيما سريز تسكِّن روعها وتطيِّب قلبها، دخلت خادمة غرفتها وأعطتها خمس رسائل، ودهشت حنة وطار قلبها من الفرح، ففتحت جميع تلك الرسائل وقرأتها واحدة فواحدة، وكان بالرسالة الأخيرة إشارة إلى قرب مَن تحب، ولم تتمالك نفسها من الفرح، وأكبت على عنق سريز وهي تقول والدمع يجول في عينيها: بشرى، فهو حي لم يَمُتْ. ثم أفاقت من ذلك السرور فسألت الخادمة عمَّنْ أتى بهذه الرسائل.

– روكامبول.

– مَن هو روكامبول؟

– صبي نسيب لكولار.

أما روكامبول، فإنه بعد أن وثب إلى النهر أسرع في السباحة إلى أن بلغ الضفة فاختبأ كل ذلك الليل في إحدى الحانات، وقد قدم إلى مدام فيبار فأخبرها بما صنع مع الكونت إيثارًا لخدمة السير فيليام الذي سيحسن إليه الجزاء متى وقف على هذا الصنيع، فأخبرته بحديث حنة وسريز مع السير فيليام وشدة احتفاظه بهما، فذهب روكامبول عند الصباح إلى الخمارة فنقل جثة كولار إلى القبور، وأزال آثارَ الدماء، ثم أقفل الفندق، وكتب على الباب «أُقفِلَ الفندق لإفلاس صاحبه» ثم سار إلى المنزل الذي فيه حنة، وأخبر جميع الخدم أن كولار سافَرَ في شأن مهم، وأنه أنابه مكانه لحين رجوعه، فأطاع الجميع كما كانوا يطيعون كولار، وبعد يومين أخبرته الخادمة أن حنة شديدة القلق لتأخُّر الرسائل عنها، فأدرك روكامبول أن الرسائل التي كانت تأتي بها إلى حنة، فذهب حالًا إلى باريس وأخذ تلك الرسائل الخمس التي أعطاها للفتاة كما تقدَّمَ.

أما حنة فإنها عندما علمت بقرب قدوم الكونت فرحت فرحًا لا يُوصَف، ونامت تلك الليلة براحةٍ وسكونٍ، وهي تحلم بأمانيها الزاهرة.

ولما طلع الصباح تزيَّنَتْ أحسن زينة زادتها جمالًا على جمالها، وفيما هي تنظر إلى المرآة وتتبسم، دخلت عليها الخادمة وقالت: سيدتي قد جاء الكونت. فصاحت حنة صيحة فرح وقد اضطرب فؤادها اضطرابًا لا يُوصَف، وسقطت على المقعد وهي قريبة من الإغماء.

•••

أما أرمان فإنه بعد أن رأى ما رآه من مكر الصبي، ولم يجد حيلةً لإنقاذ كينيون، عاد إلى الفندق وهو يرجو أن يرى فيه المرأة فتدله على حنة وسريز، فلم يجد غير جثة كولار سابحة بالدماء، ففتَّشَ بالضواحي فلم يعثر على أحد، فعاد واليأس ملء فؤاده إلى باريس، وعند وصوله لقيه بستيان وأعطاه تقريرًا بعث به أحد رجاله السريين وهذا مآله:

إن الرجل المعروف في باريس باسم السير فيليام لم يسافر أبدًا إلى الهافر، بل ذهب إلى بريطانيا إلى صديق له يُدعَى البارون دي مادي.

فلما انتهى من تلاوته تأمَّلَ هنيهة ثم قال لبستيان: لم يَعُدْ لديَّ أقل ريب بأن هذا الرجل هو أندريا بعينه، وانه لم يسافر إلى بريطانيا إلا ليجتمع فيها بهرمين ويغريها على الزواج به، فإذا لم تسرع لإنقاذها فهو يبلغ مآربه؛ لذلك يجب أن تسافر في الحال إلى بريطانيا، فتقف على مجرى الأحوال، وتكتب لي كل يوم عمَّا يكون.

فسافر بستيان، وكان الجميع يعرفونه في تلك الضواحي، فعلم منهم ما كان من أمر الصيد، وكتب إلى الكونت في اليوم الثاني من حضوره ما يأتي:

لم أكد أصل حتى علمت عن أندريا، أو عن السير فيليام إذا أردت، ما تهتم بمعرفته؛ فهو ضيف البارون دي مادي، وقد ذهب أمس إلى الصيد بصحبة البارون وبيرابو وهرمين، فقتل وحشًا هائلًا بطعنة خنجر، وكان ذلك على مرأى من هرمين فأغمي عليها، وهو الآن في منزل مدام كرمارك جالس على المائدة إلى جانب هرمين. ويتحدثون هنا بأن زواجها سيكون وشيكًا.

أما أندريا فإنه قد فاز أتم الفوز، وأَنِسَتْ به هرمين فمالت إليه بعض الميل.

وكان قد علم بوجود بستيان في كرلوفان فلم يعبأ بذلك، ولكنه كان قلق البال لانقطاع أخبار كولار عنه.

وبينما هو عائد ذات ليلة من منزل كرمارك إلى منزل البارون عند منتصف الليل، وهو يسير على جواده في ذلك الممر الضيق الخط، الذي سبق وصفه للقراء، والبدر منير في قبة الفلك يملأ بأشعته ذلك البحر الهائج وتلك الوديان الساكنة، إذ رأى عن بُعْدٍ رجلًا مُقبِلًا إليه يمشي الهوينا، ولما دنا منه انذعر كمَن طلعت عليه أفعى؛ إذ تبيَّن له أنه بستيان ورآه مسلَّحًا وهو أعزل، فتمالك روحه وحيَّاه منذهلًا كأنه يستغرب وجوده في هذا المكان، ثم دار بينهما الحديث الآتي:

فقال بستيان: إني أعجب لما بدا منك من الانذهال لمرآي، مع أنك تعلم أني أتيت من باريس.

– إني أعلم ذلك، ولكني دهشت لوجودك في هذا المكان عند منتصف الليل.

– لأني كنتُ بانتظارك، إن لديَّ ما أقوله لك.

– إني مصغٍ، فقُلْ ما تشاء.

– علمت أنك تسعى للاقتران بهرمين ابنة بيرابو، وأنك لم تأتِ إلى هنا إلا لهذه الغاية.

– ذلك ممكن.

– وقد علمتُ أن هذه الفتاة واسعة الثروة.

– كلا، فإن مهرها لا يتجاوز الخمسين ألف فرنك، وصل إليها من أمها، وهو مهر لا يكاد يُذكَر.

– ربما، ولكنها سترث ثروة طائلة؛ لأن البارون كرماروت قد ترك لها بعد مماته اثني عشر مليونًا كما تعلم.

– إنها ثروة واسعة، ولكني لا أعلم شيئًا من ذلك.

– نعم، وإنك تعلم أيضًا أن الوصي على هذه الأموال هو الكونت أرمان دي كركاز.

فاضطرب أندريا وقال: قلت لي إنك كنتَ بانتظاري، فهل أنت تنتظرني للمباحثة في مثل هذه الشئون؟ وهل في مثل هذا المكان يتباحث الناس؟

– سوف ترى أن هذا المكان يُفضَّل على سواه، فتفضَّلْ بالنزول عن جوادك واجلس معي على هذا الصخر، لأني سأحدثك عن امرأة تعرفها ويهمك شأنها.

– مَن هي هذه المرأة؟

– إنك تعرفها يا سيدي حق المعرفة، وهل نسيتَ أنك حبستها في مستشفى المجانين؟

اصفرَّ وجه أندريا وقال بمنتهى الاضطراب: أخرجَتْ من المستشفى؟

فقال بستيان بصوت الهازئ: أرأيت يا سيدي كيف خانك الجلد؟ نعم، إنها هربت من المستشفى، وأتت إلى الكونت أرمان.

فصاح أندريا صيحة يأس، وعضَّ على شفته من الغيظ حتى كاد يدميها.

فقال له بستيان: أرأيت الآن أن ما أحدثك به شديد الأهمية جدير بالإصغاء؟ فتفضَّلْ إذن بالنزول عن جوادك لنجول في هذا الحديث.

وحاول أندريا الامتناع، فأخذ بستيان غدارة من جيبه وصوَّبَها عليه، وهو يقول: تخيَّرْ بين أن تنزل أو تموت.

وارتاع أندريا ونزل عن الجواد حذر الموت وقد علم أنه مغلوب.

وأسرع بستيان إلى امتطائه وصوَّب الغدارة على أندريا، وقال: إنك إذا حاولت الفرار أقتلك بغير إشفاق، فأصغِ إليَّ الآن. إن باكارا قد أفلتت من ذلك السجن الذي وضعتها فيه، وحدَّثَتِ الكونت أرمان بجميع ما كان من اتفاقكما مع بيرابو، ومن الرسالة التي استكتبتها إياها إلى يوم سرقة المحفظة، واتهام فرناند وهو بريء، والآن وقد ثبت لنا أن الفيكونت أندريا يحاول الاقتران بهرمين، طمعًا بما سترثه من الملايين.

– إذن لا تزال تعتقد أني هو نفس أندريا؟

– نعم، ولم يَعُدْ لك سوى سبيل للنجاة مما أنت فيه؛ ذلك أن تعدل عن الزواج بهرمين، ثم تدلنا على المكان الذي خبَّأت فيه حنة وسريز، وتغادر هذا البلد في الحال، وفي مقابل ذلك فإني مكلَّف من قِبَل أخيك الكونت أرمان، أن أنقدك خمسمائة ألف فرنك وإلا فإني قاتلك لا محالة. وصوَّبَ عليه الغدارة مرة ثانية.

– إذا قتلتني فإنك لا تعرف أمرًا.

– إذن قُلْ أين حنة وسريز؟

فقال أندريا بصوت القانط المغلوب: إنهما في بوجيفال في منزل محاط بروضة واسعة قرب الوادي، وهما في حراسة امرأة تُدعَى مدام فيبار.

– احذر من أن تحاول الهرب فإني أقتلك، وإنك ستبقى في هذا الأسر عندي إلى أن أخبر الكونت بما كان، ويكتب لي أنه وجد الفتاتين، وإن كنتَ كاذبًا فيما تقول فإني أقتلك بغير رحمة، والآن سِرْ أمامي إلى كارلوفان.

فمشى أندريا وهو لا ينبس بكلمة، وبعد أن هدأ روعه نظر يمنة ويسرة ورأى ذلك الممر، وعلى يمينه البحر العجاج وعلى يساره ذلك الوادي العميق، فقال في نفسه: إن عثرة واحدة من الحصان تكفي أن تلقي براكبه إلى هذه الأعماق. وكان معه خنجرًا، ففطن إليه وجعل ينظر إلى الهوة، وكان الجواد شديد القرب منها، فتظاهَرَ أنه عثر وسقط على الأرض، فاستلَّ خنجره بأسرع من لمح البصر، وطعن الجواد في بطنه طعنة شديدة؛ فصاح ذلك الجواد صيحة منكرة، وهوى براكبه إلى الوادي.

فوقف أندريا يشاهد ذلك السقوط ساخرًا وهو يقول: حقًّا إن هذا المكان يُفضَّل على سواه.

ورجع أندريا إلى منزل البارون، وبات تلك الليلة قرير العين، وفي اليوم التالي خلا بهرمين وبثها جواه بلهجة يأس وحزن عميق، فألفاها لا تزال معلَّقَة بفرناند، ولكنه أنس منها إشفاقًا عليه لما مثَّل أمامها من القنوط، فأيقن من الفوز؛ لعلمه بأن الإشفاق هو أقرب الطرق المؤدية إلى الحب، وكان يقول في هذا المعنى: إن درجات الحب تتألف من ثلاث هي: عدم المبالاة، والشفقة، والحب، وإن بين هذه الدرجات مسافات تُعَدُّ بالسنين وبالأيام، وقد يحتاج إلى أعوام للوصول من عدم المبالاة إلى الشفقة، وأما من الشفقة إلى الحب فقد يصل المرء بأيام قلائل، وربما وصل بيوم أو بساعة.

وفي اليوم الثاني بينما كانت مدام كرمارك جالسةً في قاعة الاجتماع مع بيرابو وتريزا وهرمين، دخل الخادم بجرائد باريس، فأخذت واحدةً منها وتصفَّحَتْها، ثم وقع نظرها على أصل عنوانه «سرقة في الوزارة»، فاسترعت سمع الحضور وقرأت بصوت مرتفع ما يأتي:

حدث في الأسبوع الغابر أن أحد عمَّال وزارة الخارجية قد اختلس ثلاثين ألف فرنك.

واضطربت هرمين وتبسَّمَ بيرابو تبسُّم الأسف، واندفعت مدام كرمارك في القراءة فقالت:

وكان ذلك أن رئيس هذا المستخدم اضطر إلى الذهاب، وأعطاه مفاتيح الصندوق، ولما عاد وجده قد اختلس ذلك المال وهرب، وقد قبضت الحكومة عليه بمنزل خليلته وزجته في السجن. أما هذا السارق فإنه يُدعَى فرناند روشي.

فصاحت هرمين صيحة منكرة وسقطت مغميًّا عليها بين يد أمها، وعند ذلك فُتِح الباب ودخل أندريا، فعلم ما حدث لأول نظرة، وأسرع إلى هرمين وأخذ زجاجةً من جيبه ونضح وجهها بما فيها إلى أن أفاقت، وأخذ الجريدة وقرأ ذلك الفصل، ثم ألقاها إلى الأرض وهو يقول: إني أعلم هذا من قبلُ.

وبعد ذلك خلا بهرمين في حديقة المنزل، وهي تكاد تجن من اليأس، فقال لها: ما يكون جزائي منك إذا أنقذته من السجن وبرَّأْتُ ساحته أمام الشرع؟

– أني أحبك.

ثم ألقت بنظرها إلى الأرض، وقالت: وإن لم أحبك، فإني أرضى بك بعلًا على الأقل.

– إذن سأنقذه.

– افعل يا سيدي، وهذه يدي لك منذ الآن.

– إني مسافر الساعة إلى باريس.

– ارحل، وعندما تعود أزفَّ إليك، وأكون امرأتك.

فوعدها ورحل في الحال إلى بوجيفال، وكم بلغ من أسفه عندما وصل وعلم من روكامبول ما مرَّ من الحوادث، وكيف كان قتل كولار؛ لأنه كان معتمدًا عليه في إنقاذ فرناند بأن يدعه يعترف أمام القضاة أنه هو الذي ارتكب جرم السرقة، وليس فرناند، ثم خطر له خاطر فقال لروكامبول: أين دفنتَ جثة كولار؟

قال: إنها لم تُدفَن، وهي لا تزال في قبو الفندق.

– أصغِ إليَّ. إني أجد على وجهك ملامح الذكاء، وقد رأيتُ أنك تؤثر خدمتي بدليل خداعك للكونت، فوجبت عليَّ مكافأتك، وسأعينك في خدمتي خلفًا لكولار. والآن إني أريد أن يظهر للشرع أن قاتل كولار هو نيكولو وليس أرمان.

– كيف يكون هذا؟

– هو سهل هين، ويقتضي أن تشهد مع مدام فيبار أمام القاضي، أنه هو القاتل.

فنقده أندريا مبلغًا وافرًا من المال وقال: أعطها هذه الدنانير، فهي تطلق عقدة لسانها، وعُدْ إليَّ في الليل لنذهب سويةً إلى الفندق.

فذهب روكامبول ودخل أندريا إلى غرفة حنة التي تركناها قد سقطت على المقعد عندما أُنْبِئَتْ بقدوم أرمان، ولما رأت أندريا داخلًا إليها وهي تنتظر أرمان، صاحت صيحة شديدة ورجعت إلى الوراء.

وكان يتوقع مثل ذلك، فدعا بسريز وبجميع الخدم، فساعدوه على إقناع الفتاة أنه هو نفس الكونت أرمان دي كركاز، وأن الذي كانت تحبه باسم أرمان لم يكن إلا خادمه.

ثم تركها على أمل العودة إليها بعد أسبوع للاقتران بها، فلبثت حنة حائرة ساهية وخيال أرمان ممثَّل أمام عينيها.

أما أندريا فإنه كان يعلم أن لكولار خليلة في لوندرة، فكتب إليها بتوقيع كولار هذه الرسالة:

حبيبتي إملي

إني سأعود إليك بعد ثلاثة أيام من غير بد، فقد توفَّقْتُ بالحصول على مال كثير نقدر أن نعيش به سعيدين، إن لديَّ الآن ثلاثين ألف فرنك، وإليك بيان السبب في كسب هذا المال، إنه من أغرب المضحكات؛ ذلك أني كنتُ أطوف يومًا بشارع سانت لويس، ولما قربت من وزارة الخارجية دعتني فتاة كانت تسير مع أمها، دفعت إليَّ رسالةً كي أوصلها إلى صاحبها وقد نقدتني أجرتي، وقرأتُ على الغلاف هذا العنوان «فرناند روشي – في وزراة الخارجية»، ففضضت الرسالة وقرأتها، وعلمت أنها من خطيبته التي تُدعَى هرمين تخبره فيها أنها فسخت عقد الخطبة، وسرت بالرسالة وأنا أضحك حتى بلغت الوزارة، وسألت عن فرناند فأدخلوني إليه، وكان وحده في غرفة متسعة، وأمامه صندوق نقود مفتوح، رأيت فيه محفظة فيها كثير من القراطيس المالية، فحدَّثَتْني نفسي بسرقتها، وبعد أن أعطيته الرسالة وتلاها نظرت إليه وإذا بوجهه قد أقتم بظلام اليأس، وخرج من تلك الغرفة وهو يعدو كالمجانين دون أن ينظر إليَّ، فأسرعتُ إلى المحفظة، وأخذت ما فيها من المال، ووضعتها في جيب سترته ثم خرجت أترقبه، ورأيته بعد حين خارجًا من الوزارة، وهو يحمل في سترته تلك المحفظة دون أن يعلم أنه سيكون له مع الوزارة شأن.

وقد ظهر للقرَّاء من هذه الرسالة، اعتراف كولار بأنه هو الجاني، وأن فرناند بريء، وقد قلَّدَ فيها أندريا خط كولار تقليدًا رائعًا لا يختلف عن الحقيقة.

وبعد أن أتمَّ كتابتها قَدِم إليه روكامبول وأخبره بقدوم مدام فيبار، ثم سار وإياه إلى الفندق، وأخرجا جثة كولار من القبو، ووضعاها في الغرفة التي قُتِل فيها، وأخذ أندريا تلك الرسالة التي كتبها، ووضعها بجيب كولار وقال لروكامبول: اذهب الآن إلى مدام فيبار، وقُلْ لها أن تسرع إلى دائرة الشرطة، وتخبر الرئيس بما كان من قتل كولار، وأن القاتل هو نيكولو، وأن ذينك اللصين كانا يأتيان بكثرة إلى فندقها، وأنها سمعت كولار يقول في تلك الليلة التي قُتِل فيها لرفيقه أنه سيسافر قريبًا إلى لوندرة، وأنها سمعت بعد ذلك دوي الغدارة، فصعدت معك إلى الغرفة ورأيتما كولار ميتًا، وأنذركما هؤلاء بالقتل إذا بحتما.

فذهب روكامبول مسرعًا.

وعند الصباح ذهبت مدام فيبار إلى رئيس الشرطة، وأخبرته بكل ما ألقاه إليها روكامبول، فقبض على نيكولو، وذهب رئيس الشرطة إلى الفندق، ونظر جثة كولار، وفحص جيوبه، ورأى بها ذلك الكتاب الذي كتبه أندريا، فلما اطَّلَعَ عليه سُرَّ سرورًا مزيدًا لبراءة فرناند التي لم يَعُدْ فيها ريب بعد تلك الرسالة، فأمر بدفن الجثة، وعاد إلى السجن وأطلق سراح فرناند، الذي ذهب توًّا إلى منزل الكونت أرمان، فوجد به ليون وباكارا وأرمان الذي كان قلق البال على بستيان؛ لأنه لم يكتب له منذ خمسة أيام، فقصَّ عليهم كيف كان إنقاذه، وكيف أن رئيس الشرطة اطَّلَع على كتاب في جيب كولار القتيل يعترف به أنه هو السارق، فثبت لأرمان أن كل ذلك صنع أندريا، وأنه لم ينقذ فرناند إلا إرضاءً لهرمين!

وفيما هم يتباحثون في هذا الشأن فتح الباب، ودخل خادم قصر الكونت في كارلوفان وعليه ملامح الكآبة، فقصَّ على الكونت حديث موت بستيان المفجع، وأنهم رأوا جثته على شاطئ البحر، وكيف أنهم رأوا جواده مطعونًا بخنجر.

فأزبد وجه أرمان وكاد يتميز من الغضب، وأمر بإعداد المركبة وقال: هلمَّ بنا إلى بريطانيا.

بعد أن وثق أندريا من نجاة فرناند، وأخبر هرمين وذويها بما كان من إنقاذه وتبرئته، فتنهَّدَتْ هرمين تنهُّدَ القانط المستسلم إلى القضاء، وقالت: لقد وعدتك يا سيدي بالقران، ولا أزال على وعدي.

وسُرَّ الجميع بذلك، واتفقوا على أن يكون القران بعد يومين.

ولما دنا اليوم المعيَّن احتفل في منزل مدام كرمارك بعقد الزواج بغاية الاحتفاء، وكان الحضور كثيرين، والمنزل يكاد يلتهب بالأنوار، ولم يَبْقَ غير التوقيع على شروط الزواج ليفوز أندريا بتلك الملايين. فبينما المسجل يقرأ تلك الشروط دخل خادم وقال لسيدة المنزل: سيدتي إن على الباب الكونت أرمان دي كركاز مع رفاق له.

ثم دخل الكونت فانحنى أمام مدام كرمارك، وقال: عفوًا يا سيدتي إذ جسرت ودخلت إليكم بمثل هذه الساعة، فإني لم أُقدِم على ذلك إلا لسبب خطير؛ إنني يا سيدتي حامل وصية البارون كرماروت الذي توفي منذ شهرين عن ثروة طائلة تبلغ اثني عشر مليونًا.

والتفت إلى أندريا وقال: أليس كذلك؟

فاصفرَّ وجه أندريا وقال: لا أعرف هذا البارون، ولا علم لي بشيء من أمر هذه الثروة.

ولم يُجِبه أرمان وعاد إلى سيدة المنزل، وقال: أتأذن لي سيدتي بإبعاد المسجل ريثما أبيِّن لكم حقيقةً تجهلونها؟

فذهب المسجل إلى قاعة المدعوين، ودنا أرمان من والدة هرمين وبيده ذلك النوط الذهبي الذي أعطاه إيَّاه البارون كرماروت، فقال لها: أتعرفين يا سيدتي هذا النوط؟

فأخذته تريزا، ولم تكد تراه حتى اختلج فؤادها، وعادت إليها ذكرى تلك الليلة الهائلة، فتورَّدَ خداها بحمرة الخجل، وأرخت نظرها إلى الأرض، وقالت: نعم.

فقال لها أرمان بصوت منخفض: إن هذا الرجل قد تاب عن ذنبه، وقد عاقبه الله عقابًا شديدًا، وكلَّفَني بعده أن أسأل له منك الصفح.

ثم عاد يخاطب بيرابو بصوت مرتفع، فقال: يجب يا سيدي أن تغيِّر شروط الزواج، فإن السيدة هرمين ليست بابنتك، بل هي ابنة البارون كرماروت وهي صاحبة الملايين.

فصاح بيرابو صيحة منكرة، ونظر إلى أندريا فرآه مضطرب كمَنْ صُعِق أو كمَن به جنة. أما هرمين وأمها، فكانتا ترتجفان كورق الخريف يحركه الهواء.

ودنا أرمان من أندريا وحدَّق نظره وقال: إني لو تأخَّرْتُ ساعةً لكنتَ زوج هرمين وفزتَ بالملايين.

فشمخ أندريا بأنفه وأجاب: لا علم لي بهذه الملايين، وسيان عندي إن كانت عروسي غنية أو فقيرة، فإن لديَّ من المال ما يكفيني ويكفيها.

– وأنا أعلم عكس ذلك؛ فإنك كنتَ زعيم لصوص في لندرا، وقد هربت منها إلى باريس، فصبغت شعرك وانتحلت اسمًا غريبًا، ثم علمت من كولار بوصية البارون، وأن هرمين هي وريثته، فنصبت المكايد السافلة للاقتران بها، ولكني وقفتُ على جميع كيدك، ورددته إلى نحرك.

ثم نظر إليه نظرة احتقار، وذهب إلى الباب ونادى: فرناند فرناند …

فارتعش أندريا وأمسكت هرمين بيد أمها حذرًا من أن تقع، ودخل فرناند ونظر إلى بيرابو نظرةً منكرةً، ودخلت في إثره باكارا وهي بملابس الراهبات فركعت أمام هرمين، فقال فرناند: لسنا الآن أمام المحاكم ولا بحضرة القضاء، بل نحن بحضرة عائلة أنتَ رئيسها لسوء بختها وهي لا تخونك، وأنا أسألك الآن أن توضِّح لها كيف كانت سرقة المحفظة، وأن تعترف بأني لم أسرق المال.

ودنت باكارا وقالت: إني يا سيدي كنتُ امرأة خاطئة، وأنا أجتهد الآن بالتكفير عن ذنوبي التي ارتكبتها عندما كنتُ أُدعَى باكارا.

ثم قصَّتْ على الجميع سابق حبها لفرناند، وتلك الرسالة التي كتبتها بإملاء السير فيليام وبالاتفاق مع بيرابو.

وقال أرمان لأندريا: أرأيت أيها الشرير كيف انتصر الخير على الشر، أسمعت يا أندريا؟

ثم أشار بيده إلى الباب، وقال له بملء الاحتقار: اخرج من هنا.

وأخذ بيد فرناند وضمَّها إلى يد هرمين، وهو يقول: إنكَ أهلٌ لها وهي أهل لكَ، فليبارككما الله.

فركع فرناند على قدميه، ونظرت إليه باسمةً ودموع الفرح في عينيها.

أما أندريا فإنه خرج وعيناه تتوقدان بجمر الغضب، ومرَّ بأرمان فقال: إنك انتصرت أيها الأخ، ولكن ساعتي لم تأتِ بعدُ، وسوف ترى كيف أنتقم.

وقالت تريزا لزوجها: أؤمل يا سيدي أن لا تحضر زفاف هرمين، وأرجو أن تذهب في الحال إلى باريس.

فخرج بيرابو كما خرج أندريا، واليأس ملء فؤاده.

ونهضت باكارا وقالت: وأنا لا أستحق أيضًا أن أحضر هذا الزفاف، فأستودعكم الله، وأدعو للعروسين بالرغد والهناء.

ثم حاولت الخروج فأوقفها أرمان وقال لها: تعالي واستندي عليَّ، فإنه مهما كانت ذنوب المحبين كثيرةً وعظيمةً فإن الله يغفرها لهم؛ لأنهم كفَّرُوا عنها بما قاسوه من العذاب.

وقال أندريا لبيرابو وقد ركبا مركبة البريد عائدين إلى بوجيفال، تعال معي إن سريز ستكون لكَ وستكون لي حنة.

•••

ويذكر القراء أننا تركنا حنة مشغولة البال من وداع أندريا لها وتظاهره بحبها، وما ألقاه عليها من عبارات ذلك الغرام المصطنع، الذي يشبه تجربة الشيطان للإنسان، وقد كان مضى عليها إلى ذلك اليوم ثمانية أيام من ذهاب أندريا عنها، وهي لا يقر لها قرار من غريب ما سمعت ورأت. إنها أصبحت مخدوعة مأخوذة لا تدري إلى أي الرجلين تميل، إلى الذي أحبته أو إلى الذي قال لها أنا هو، وبالتالي أتحب الجسم أم الاسم؟ وهل تهوى الخادم الذي أنقذها أم الرجل الحقيقي الذي انتحل ذلك الخادم اسمه؟ ثم تغالبها أفكارها، ويقوى عليها جمال مَن تهواه، فتقول لرفيقتها سريز: لا يمكن أن يكون ذلك الرجل خادمًا، ولا يمكن أن يخدعني قلبي.

فلما كانت في مساء ذلك اليوم سمعت مركبة دخلت الدار، ودخل عليها الخادم، وقال: قد أقبل مولاي الكونت دي كركاز.

ثم خرج ودخل أندريا مسرعًا إليها وركع أمامها وقبَّلَ يدها، وقال: لقد سمح لي الدهر أن أراك أخيرًا.

فنظرت إليه ورأت على وجهه ذلك الجمال الجهنمي الذي لا يمكن للشيطان أن يتزيَّا بأحسن منه، فخانتها قواها وصاحت صيحة منكرة وهي تحسب أنها في حلم لا في يقظة، فأخذها بين يديه وهو يخاطبها: يا حنة، ويا حبيبتي، ويا حياتي، ها قد حضرت إليك، ولا فراق يفصل بيننا بعدُ فأنت ستصبحين عروسي.

فأطبقت الفتاة عينيها وهي ترتجف تحت عوامل وجد ونفور لا يمكن إيضاحهما، ثم تمثَّلَتْ لها صورة أرمان، فاضطربت في مكانها.

والتفت السير فيليام إلى سريز وكانت واقفة تنظر إليهما، وقال لها: إنك سترين حبيبك قريبًا، وغدًا تزفين إليه.

فسقطت الفتاة على كرسي من هذه المفاجأة، فنهض إليها أندريا وسقاها بعض نقط من زجاجة كانت معه، فانتعشت واستوت جالسة، فقال لها: اذهبي إلى الغرفة التي كنت فيها في وسط الحديقة وانتظري قليلًا، فإن ليون آتٍ إليك.

ثم أوصلها إلى الباب فانطلقت مسرعة مستبشرة بقرب اللقاء، وخلا له الجو، فعاد إلى حنة وعيناه تبرقان بنار الانتقام، وانطلقت سريز مسرعة إلى تلك الغرفة المنفردة، وهي لا ترى في طريقها أحدًا من الخدم، كأن القصر أصبح خاليًا لا أنيس به سواها، حتى بلغت غرفتها فوجدت فيها مصباحًا منيرًا، ولكنها لم تسمع حسًّا ولا حركة فجلست على كرسيها، وإذا برجل قد ظهر بغتةً فصاحت وهي لا تعي: ليون! ولكنها لم تلبث أن تأملته حتى صرخت من الرعب، وعرفت أن الداخل عليها بيرابو ذلك الشيخ القبيح المكروه، فأقفل الباب وراءه وتقدَّمَ إليها قائلًا: ما أسعدني بلقاك أيتها الحبيبة!

فنهضت سريز من مكانها مذعورة وهربت من وجهه إلى آخِر الغرفة، فقال لها ضاحكًا: ما هذا الذي تفعلينه؟ أتهربين من وجه مَن يهواك؟

ثم أقبل عليها فهربت من وجهه، ووقعت وراء منضدة تحول بينها وبينه، فقال لها هازئًا: كفى مداعبة وجنونًا يا حبيبة قلبي، فإنك لا تلبثين أن تتعبي، ويكون لي ما أريد.

فصاحت الفتاة مستغيثة: ليون … ليون …

فأجابها الشيخ: لقد ضحكوا عليك؛ فإن ليون لا يأتي، وأنا الذي أتيت مكانه، وها نحن الآن وحدنا والباب مقفل، فلا أمل لك بالنجاة مني.

فعادت الفتاة تصيح مستغيثة وتهرب من وجهه وهو يتبعها حتى تعبت، واستولى على جسمها خدر شديد، فخانتها قواها، وأظلم النور في عينيها، وقد أثَّرَ فيها الشراب الذي سقاها إياه أندريا تأثيره المطلوب، فسقطت على الأرض لا قوة بها ولا حراك، فهجم عليها الشيخ كما يهجم النمر على فريسته الساقطة، وإذ بصوتٍ أوقفه مكانه، والتفت فرأى رجلين لدى الباب، ثم رأى أحدهما قد هجم عليه وضربه، وألقاه على الأرض، ووضع ركبته على صدره، وقال: ويل لك أيها الشيخ الأحمق، لقد أتيتكَ في أواني.

وكان ذلك الفتى ليون رولاند، والذي معه أرمان دي كركاز، وفتحت سريز عينيها وقالت: أنقذني فقد كدتُ أموت.

ثم أدارت عينيها في الغرفة وأبصرت أرمان وقالت له والشرب يحبس لسانها: حنة … في البيت … أسرع أنقذها.

وكان السبب في قدومهما أنهما بينما كانا عائدين إلى باريس كان أندريا قد وصل إلى مجلس الفتاتين، وصرف مَن فيه من الخدم وخاطب روكامبول: قد انتهت حراستك، فاذهب الآن وأنا ذاهب في رحلة، وسأدعوك متى احتجتُ إليك.

تم وعده بمكافأة حسنة، ولكنه لم يدفع له شيئًا، ورأى الغلام لوائح الكدر على وجهه، فعلم بفراسته أنه لم ينجح في مسعاه، وأن آماله قد خابت أو كادت تخيب، فانطلق عائدًا إلى باريس، وفيما هو في وسط الطريق قابله أرمان وليون وهما عائدان إلى باريس كما أسلفنا، فعرفاه في الحال أنه الغلام الذي خدعهما ورمى رفيقهما في النهر، فانقضَّ عليه ليون، واحتمله بين يديه إلى غابة هناك، وجرَّدَ خنجره على صدره، وتهدَّدَه بالموت إذا صاح، والتفت إلى أرمان وسأله: ماذا تصنع به الآن؟

– نستنطقه عن محل الفتاتين.

ثم وضع الخنجر على صدره وقال له: تكلَّمْ أو تُقتَل.

وكان الغلام قد قدر في فكره أن أندريا قد أُحبِطَ مسعاه، وأن لا أمل بنيل مكافأة منه، وأن الكونت أغنى منه وأصدق في وعده، فرأى أن يبوح بالأمر، بعد أن يستوثق من نيل المكافأة اللازمة عليه، فأجابه: ماذا تريد مني؟

فسأله الكونت: أن تخبرنا أين حنة وسريز؟

– لا أدري إلا إذا أعطيتماني ما أريد.

– وما تريد؟

– ألف دينار.

– هي لك فتكلَّمْ.

فأخبرهما بجلية الأمر، وأن الفتاتين على خطر إذا لم يسرعا لإنقاذهما في تلك الساعة، وأقسم له الكونت أن يعطيه ما طلبه، فسار الفتى بين أيديهما إلى بوجيفال حتى أوصلهما إلى غرفة سريز حيث رأياهما داخلين على غرفة ذلك الشيخ الفاسد، وحيث قالت سريز لأرمان: أسرع وأنقذ حنة.

وأخذ الغلام بيد أرمان وقال له: تعال يا مولاي فأنا أدلُّك على مكانهما.

ثم سار به مسرعًا إلى غرفتهما، فسمع صوت أندريا يخاطبها: أحبك يا حنة وستكونين لي.

– أما أنا فلا أحبك.

ثم استنار فكرها بغتةً وقالت: إنك لستَ الكونت، فإن الرجل الشريف لا يفعل هذا.

ورأى أندريا أن اللين لا يفيد معها، فانتفض في مكانه وتطاير بريق الغضب من عينيه، وقال: نعم، إني لست الكونت، بل أنا أندريا المغضوب عليه، وأخو الذي تحبينه، وأكرهه كما يكره الملاك الشيطان، ولا بد من أخذك بالرغم عنه.

ثم هجم عليها وطوقها بذراعيه، وقبَّلَ شفتيها تلك القبلة الفاسدة التي يرتعش لها جسم كل امرأة شريفة، وقال لها: إنك في قبضة يدي وهيهات لأرمان أن ينقذك مني.

ولم يتم كلامه حتى سقط الباب مكسورًا، ودخل أرمان كالصاعقة وقال: بل يخلصها منك بالرغم عنك، فاركع واستغفر الله فقد قربت ساعة مماتك.

فاصفرَّ وجه أندريا وخانته شجاعته لدى الموت، فسقط راكعًا على ركبتيه، والتفت أرمان إلى حبيبته وسألها: إن هذا الرجل قد أهانك فهو يستحق الموت، ولكنه أخي من أمي، فماذا تريدين أن أصنع به؟

– اعفُ عنه بالله.

فرفع أرمان غدارته من جبهة أندريا، وقال له: إني أعفو عنك الآن باسم تلك الوالدة، وباسم مرتا التي كنتَ السبب في هلاكها، وباسم هذه الفتاة الطاهرة التي دنَّسْتَها بشفتيك، فاذهب ملعونًا من الله والناس، وعسى أن الله يشفق عليك يومًا أنتَ يا مَن لم يشفق على أحد.

وبعد ثمانية أيام من هذه الحادثة أُقِيمَتْ صلاةٌ حافلة في كنيسة باريس، اقترنَ بها الكونت أرمان بحنة، وفرناند بهرمين، وليون بسريز، وكان إلى جانبهم على هيكل الكنيسة امرأةٌ لابسة السواد تصلي وتبكي وهي بأثواب الراهبات، وقد أصبحت تُدعَى الأخت لويزا، وكانت من قبلُ تُدعَى باكارا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤