أسباب تعريبي هذه الرسائل

رأيت أبناء وطني توَّاقين إلى الاستقلال متعطشين إلى الحرية، ولكنهم لا يجدون السبيل الذي يطرقونه ليصلوا إلى هاتين الأمنيتين الغاليتين.

وبصرت بالمفكرين منا فإذا بهم يضربون في بيداء الوهم جادين في طلاب الخيال.

وأنعمت النظر فإذا بهؤلاء المفكرين منا إما طلاب شهرة وإما متصيدو مصلحة، إلا من عصم الله فقال قولًا سديدًا، ثم التزم صمتًا حميدًا.

وجاءت على ألسنة ثلة منا حكمة لم يوفقهم الله إلى العمل بها. قالوا: اقرأوا التاريخ! وإنه لقول حق! ولكن من ذا الذي يستعرض التاريخ على الأبصار لتستمد منه البصائر غذاءها الصالح؟ وهل قرأوا هم أنفسهم التاريخ؟ فإذا كانوا قد قرأوه فلماذا لم يسترشدوا بهداه.

فلأجل هذه الأسباب اتجه فكري إلى تعريب هذه الرسائل التي تظهر للعيان بأجلى بيان مقدار ما تحدثه قوة الإرادة من الأثر الواضح في حياة الشعوب.

ذلك أن الشعب الأناضولي الذي غُلب على أمره في المبتدأ من طريق الخداع والتغرير، وأصيب بضروب الاضطهاد والعسف وتألبت عليه عناصر التمزيق والتشتيت، وفي مقدمتها قوى الاستعمار الغربي، لم يلبث بعد أن صحت عزيمته على توحيد كلمته، وعلى التشبث بأذيال الحياة، وعلى الاستماتة في الدفاع عن حريته واستقلال بلاده أن تكونت منه دولة عظيمة الشأن ذات مجلس كبير يدير شئونها له أنظمة بديعة محكمة تجعل الشعب بأسره مشتركًا في إدارة هذه الشئون.

لقد أراد المستعمرون أن يقسموا هذا الشعب على نفسه وأن يحاربوا بعضه ببعض، واعتبروا الناهضين في الأناضول قطاع طرق وخوارج إلى غير ذلك، فلم يفت في عضد الأناضوليين كل ما حاوله المستعمرون ضدهم، وصحت عزيمتهم على انتزاع حريتهم واستقلال بلادهم من أيدي الغاصبين، فتم لهم الشطر الأكبر مما أرادوا، وسيظفرون بما بقي على الرغم من المؤتمرات المتوالية، ومن إغراء تلك الدويلة المعتدية وإمدادها بالأموال والقواد والضباط والأسلحة والذخائر والأزواد.

وزادني رغبة في تعريب هذه الرسائل ما لقيته «الوطنية العثمانية» من الإقبال العظيم الذي دل على مقدار ارتباط قلوب المصريين بإخوانهم العثمانيين، ولا غرابة في هذا الارتباط فإنما المؤمنون إخوة.

وإذا كانت «الوطنية العثمانية» قد لاقت من حفاوة المصريين بها ما كان منتظرًا لها فإن «رسائل أنقرة المقدسة» ستصادف من العناية والإكرام أعظم من تلك بكثير؛ لأن شعور مدام بيرت جورج جوليس نحو العثمانيين لا يمكن أن يبلغ معشار ما تنطوي عليه جوانح الأميرة النبيلة قدرية حسين ناشرة هذه الرسائل من العطف والحنان والولاء لإخوتها المحروبين أبطال الأناضول.

وثمت سببان وجيهان آخران حملاني على تعريب هذه الرسائل:

أولهما: الرغبة في إحكام صلات الإخاء بين المصريين والعثمانيين لفائدة الشعبين الكريمين، تلك الصلات التي يحاول المأجورون وذوو الأغراض السيئة أن يبتروها ليشتد الجفاء بين الشعبين فلا يتساندان ولا يتضامنان، وبهذه الطريقة يتيسر التحكم في كل منها على انفراد بل في كل شعب شرقي إلى الأبد.

والسبب الآخر: الرغبة في حث أبناء وطني الكرام على التوسع في الاكتتاب لمساعدة إخوانهم البائسين الذين أناخت بهم كل المصائب والأهوال. والشعب المصري الكريم العطوف الذي أبدى أريحيته في حروب اليونان وطرابلس الغرب والبلقان لا تقعده أقوال المثبطين عن مساعدة الشعب العثماني المحروب، مساعدة نافعة يؤجر عليها من الله، وتكون له بها يد غراء لدى العثمانيين قد تصير داعية التذكير في يوم قريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤