الرسالة الأولى

 صامسون في ١٩ أبريل سنة ١٩٢١

غادرت المدمرة «أوداس» ميناء برندزي في منتصف الساعة الخامسة بعد ظهر اليوم العاشر من أبريل مقلة على ظهرها الوفد العثماني.

وكان النهار ضاحيًا هادئًا، فانطلقت في وسيع البحر وهي زاهية بلونها الأبيض الناصع كأنها طير كبير يحلق في فسيح الجو، آخذة في الابتعاد منتحية وجهة تلك البقاع ضحية التعصب والاضطهاد، حاملة بين حافتيها المشبهتين جناحي طائر بحري، قلوب مكافحين من خيرة الأبطال، خافقة لأجل الاتحاد ومستعدة لأعظم تضحية في سبيل هذا المقصد الأسمى.

وهؤلاء الرجال الكرام المصطفون على الجسر الصغير الضيق الممتد فوق ظهر المدمرة أخذوا يحيون في هذه الآونة النفر القليل من الأصدقاء القادمين إلى ذلك المكان ليصافحوهم مرة أخرى قبيل إبحارهم.

وكان هؤلاء المشيعون متأثرين أمام منظر الباخرة المقلعة إلى مسافة غير معلومة المدى، إلا أنهم تمالكوا أنفسهم وأخذت شفاههم تفتر عن ابتسامات متوالية وأيديهم تخفق بالمناديل.

لقد كان الموقف جليلًا وكل من كان حاضرًا هذا المقام استولت عليه مسحة من السكون السري العميق.

إلى أين يذهب هؤلاء الرسل الجريئون المغاوير الذين يرتحلون وهم على مثل هذه الثقة العظيمة بالمستقبل؟ أَفَيَجِدُونَ النجاح أمامهم في منتهى طريقهم؟ إنها لمسألة عصيبة الحل شغلت أفكار الأصدقاء الأوفياء الذين ظلوا وقوفًا على رصيف الميناء، وأعينهم شاخصة برعاية وحنان إلى الباخرة الحربية البيضاء أثناء خروجها بهدوء وسلام من المرفأ.

وطفقت الباخرة أوداس تشق العباب بسرعة مقتحمة الأمواج الزرقاء التي لم تلبث أن خفضت من إرغائها وأزبادها، وكافحت هذه الباخرة الباسلة بمهارة العناصر الهائجة في متسع الدأماء لأنها على ما يظهر كانت على ثقة تامة بمقدار التبعة الملقاة على كاهلها. أوليست تقل فوق ظهرها فوجًا من النفوس الجريئة الذاهبة لتبشر كلمة العزم والإقدام بين أولئك الأبطال، الذين لا يغالبون، والمستمرين على خوض غمار الوغى بغير هوادة وهدوء؟

واستمر هذا الطائر البحري الفائز بهذه الحظوة على انتهاب اليم بسرعة لا تواني فيها …

وها هي ذي الآن تقتحم مدخل الدردنيل مجتازة بمجموعة البواخر ذوات الجدود العواثر التي غرقت على مقربة من الشاطئ الرقيق الذي دارت فوقه وحوله أفظع المعارك البشرية وأعظمها … وإن قلب الإنسان ليتقبض لدى الإصغاء إلى تفاصيل هذه الملاحم الهائلة التي عفَّى عليها تعاقب الأيام، وتراءت الباخرة كأنها وقفت إزاء الجمهور العديد الذي لا يحصى من أولئك الإخوان الشجعان الذين اختفوا في أعماق اللجج الممتدة على هذا الشاطئ الخالد ذكره أبد الدهر.

وإن استحضار تلك الذكرى الغابرة في الذهن لتمثل مناظر الآلام التي عاناها أولئك الشجعان، لتبرز في صورة واضحة — تبدو عليها مخائل الفتوة والعزم — ذلك الرجل الذي عرف بمنتهى المهارة في مثل تلك الساعة العصيبة أن يتحكم في الموقف الهائل بتراميه في ذلك الجحيم المستعر مع عصبته المقدسة.

وإن سيرة الفتى الظافر الأغر المقرونة بالحماسة والحمية لأشهر من أن يدعو الأمر إلى إعادة سردها في هذا المقام: فمصطفى كمال أصبح الآن من رجال التاريخ وعمله المجيد صحيفة غراء من أبدع صحف الشهامة الوطنية وأمجدها.

وما وصلت الباخرة أوداس إلى مياه الأستانة حتى استقبل سكانها رجال الوفد استقبالًا حافلًا جليلًا لا يمَّحي ذكره من البال فازدانت العاصمة بكل صنوف الزينة، وعلى الرغم من وجود أساطيل الدول المتفقة فإن الأهالي لم يستطيعوا أن يتمالكوا أنفسهم من إظهار شعورهم القوي وإعلان ابتهاجهم بهؤلاء القادمين الكرام بكل الوسائل التي تهيأت لهم.

وقد حيا الجمهور المتحمس إلى درجة الجنون أعظم تحية رئيس الوفد بكر سامي بك، ذلك الرجل ذا الإقدام والعقل العجيبين الذي قدرت أوروبا كفاءته حق قدرها في مؤتمر لوندره.

ومن المستغرب أن ندون هنا أن هذا الرجل المحكوم عليه بالإعدام حضر وأبصر بمقلتيه منظرًا من أشد المناظر المؤثرة في النفوس، ومن أعظمها مجدًا وانتصارًا لحياته، في نفس البلد الذي نطق فيه بحكم الإعدام عليه!

إن الحياة البشرية حافلة بالمدهشات المضحكات.

وبعد قضاء ليلة زاهرة متجملة بكل ضروب الحفاوة والترحاب واصلت الباخرة أوداس بركبها الجليل سيرها في منتصف الساعة الخامسة، بعد ظهر اليوم الثاني، محفوفة بعدد جم من الزوارق الصغيرة والزوارق البخارية التي أخذت تزدحم حولها وتقتاف آثارها، ناسلة إليها من جوانب البسفور ذي المناظر الشائقة الساحرة. وكان شعور الأهالي بالغًا منتهى ما يمكن أن يتصوره العقل من التأثر سواء المنتشرين منهم على الشاطئ الآسيوي أم على الشاطئ الأوروبي. وأخذوا يبتهلون ويصيحون هاتفين وأصواتهم تتعالى في الجو حتى تبلغ مسابح الأفلاك، بينما تتهادى المناديل بين الأنامل وتتجاوب أصداء التصفيق في كل مكان.

ولكن هذا الاحتفال الفخم الباهر لم يلبث أن انتهى، وبتخييم المساء خفَّت وطأة الحماسة وانفعال النفوس ثم تلاشت مظاهرها تمامًا.

وما ذلك إلا لأن المنظر كان قد تغير منذ انسياب الباخرة من البسفور إلى البحر الأسود، فتحولت الحالة من ابتهاج واغتباط إلى حزن وارتياع على إثر ظهور مشاهد التخريب التي أخذت تبدو معالمها.

فالأروام شرعوا يحرقون عددًا عظيمًا من القرى فغدا الشاطئ كله سعيرًا متأججًا. وانبعثت أعمدة ضخمة من الضرام مرتفعة نحو السماء، وتحت جلباب الدخان الكثيف المنتشر على امتداد الساحل أخذت تتداعى أركان المنازل الصغيرة، التي كان يقطنها أولئك الذين لم ينكفوا عن الجهاد الموصول منذ عشر سنوات مستصحبة معها في تهاويها المفزع آخر آمالهم الوهمية في العدل الإنساني. وإنه لمنظر رهيب لا يزول أثره من البال ظل ماثلًا إزاء الإبصار سواد الليل بأسره.

وقد استحال النزول إلى الشاطئ في مرفأ إينبولي الصغير البديع؛ لأن الجليد غطى الثرى ببساط سميك، وأصبحت وسائل السير في البر عسيرة، فلم يك للباخرة أوداس بد من الرسو في ثغر أبعد من هذا وهو صامسون.

وهنالك أيضًا أقبل آلاف من الناس زرافات مختلطة من سائر الطبقات ينتظرون مقدم الوفد ليحيوه ويبجلوه.

إلا أن جمهور المستقبلين في آسيا الصغرى ظهروا في مظهر أشد تأثرًا وأكثر روية وتماسكًا وأعظم تقوى وخشوعًا، فهم إنما احتشدوا في ذلك المكان ليتعرفوا الحكم الذي أصدرته أوروبا! فاقتربوا من رجال الوفد وكلمات التوحيد تتردد بين شفاههم وعلى عذبات ألسنتهم … وما كادوا يزحفون كأمواج خضم بشري متدفعة من سائر النواحي حتى صار لا يسمع في هذه الأرجاء سوى ترديد الجملة الإسلامية المأثورة وهي: «لا إله إلا الله محمد رسول الله.» وهذه التحية الدينية التي ظلت مسترسلة من آلاف الأفواه انتشرت في فسيح الجو كأنها ابتهال حار مرفوع إلى القدير الفعال.

وحالما وطئت أقدام رجال الوفد الثرى نمى إلى علمهم نبأ الانتصارات العثمانية الأخيرة التي حدثت في قطاع عشاق وفي دوملو بونار، وفي الوقت عينه ألموا بأخبار المجازر والجرائم التي اقترفها الجنود اليونانيون أثناء لياذهم بأذيال الفرار على إثر اندحارهم في معركة أين اونو — إسكي شهر.

وعلى إثر اجتراح هذه الفظائع وجه مصطفى كمال باشا بدعوة يمازجها الأسى والقنوط إلى سائر الدول الأوروبية، لافتًا أنظارهن إلى هذه الفظائع التي أخذت تتوالى بغير انقطاع. وهذه الدعوة تستجيش النفوس وتستفز القلوب، وهذا نموذج منها: «إن جنودنا الذين أسروا في ساحة الوغى أعدموا بعد أن اقتلعت أعينهم بظبى الخناجر، وقد ذُبح الأهالي المسلمون المسالمون العزل من السلاح بدون مراعاة بين الرجال والنساء، ولا تمييز بين الأعمار، وكل منقولاتهم وأنعامهم نهبها الأروام وأخذوها معهم أثناء انهزامهم، والنساء والعذارى المسلمات أسيء إلى طهرهن، وأحرقوا ودمروا عددًا عظيمًا جدًّا من المدن والقرى والضِّياع، وعلى الأخص من المساجد التي أصبحت ركامًا، وفيما بينها الضريح البالغ منتهى الاحترام الذي يتوسد في جوفه شلو الغازي أرطغرول أبي مؤسس الأسرة السلطانية العثمانية، فقد نسف في سويود بالديناميت؛ فهذه هي الكبائر التي ارتكبها الأغارقة على عجل بمنتهى الخشونة، غير عابئين بما تستدعيه الإنسانية من الرحمة ولا حاسبين لقوانين الحرب أقل حساب، وهلم جرا.»

بيد أن أوروبا لبثت أمينة على صممها المعتاد عندما يكون صوت الشكوى المرتفع إليها في صدد تمزيق شعب مسلم! وما هذه إلا طريقة الاستئصال المنظمة التي تندفع في مجراها منذ بضعة قرون.

وبينما عساكر الأروام تحتم على أنفسها حمل المدنية إلى حظيرة أولئك العثمانيين الهمجيين، إذا بسائر أمم الإسلام تمد أيديها من فوق النار والدم لتحكم وصل تلك الرابطة المقدسة. وذلك أن أغرب المصادفات جعلت من «مغارة قطاع الطرق» أعظم ملجأ للإسلام الآن!

وهذا السبب بمفرده هو الذي حمل رسول الأفغان الموفد فوق العادة على أن يصرح في الأناضول منذ عدة أيام لأحد محرري جريدة «المستقبل» بما يأتي:

إن كافة الأفغانيين يعتبرون هذه الحركات الوطنية ذات صبغة تضمن سلامة العالم الإسلامي وخلاصه من نير الاستعباد الأجنبي، وإن الأفغان تعتبر الأمة العثمانية الزعيمة المؤتمَّة المستعدة في كل آونة لتضحية نفسها في سبيل الذود عن كيان الإسلام وإعلاء كلمته، وإن من الواجب على جميع الشعوب الإسلامية أن تعمل متحدة حول حكومة أنقرة …

إلى غير ذلك مما جاء في تصريحه.

ولكننا الآن أمام اليقظة التي شرعت تباشيرها تتمثل للأبصار؛ اليقظة إزاء الحقيقة المؤلمة لحالة أمة مترامية بأجمعها في غمرة الكفاح للمحافظة على استقلالها؛ لأن المرء ببلوغه صامسون يغشى عالمًا جديدًا، عالمًا يعاني مضض الألم ويواصل الصراع بغير انقطاع، إلا أنه مع ذلك لا يزال شديد العزم عظيم الأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤