نصر من الله وفتح قريب

لقد جاء نصر الله والفتح

إن هذه الآية القرآنية، التي تم الاتفاق منذ أن ابتدأت المعارك الحالية، على أن تكون الشعار المقدس لدى سائر الأناضول، منقوشة في ضمير كل مسلم من أولئك الغزاة الذين يجاهدون في ساحة المجد والشرف بنفوس لا تعرف اليأس ولا يدنو منها الفزع.

إن المعنى المقدس المشتملة عليه هذه الآية المباركة قد امتزج بذرَّات أجساد الجنود، وقد ظهرت المعجزة الكبرى في معركة سقاريا التي لبثت ناشبة واحدًا وعشرين يومًا.

وإنه لعمل لم يسبق له مثيل في سائر الأعمال الحربية، ولذا يتحتم على كل منصف أن يحني رأسه أمام هذا العمل إكبارًا له وإعجابًا به.

«ستسطع مذ الآن وإلى الأبد شمس سقاريا على رأس بطل أناڨارتا الفتى الظافر.»١

•••

إن الرجال الذين أنقذوا شرف العالم الإسلامي باستقتالهم في جهادهم الذي نازلوا مهاجميهم فيه صدرًا لصدر بشجاعة تبقى ذكراها المجيدة ما بقي العالم ،كان سلاحهم قليلًا وذخائرهم طفيفة، ولم تكن لديهم سيارات مسلحة وفناطيس مدرعة وغازات خانقة ولا محلقات حربية، والخلاصة أن أهم المستحدثات الحربية ووسائل الاقتتال لم تكن متوفرة لديهم اللهم إلا شيئان كانا متوفرين لديهم أعظم مما كان موجودًا منهما لدى أعدائهم وهما: الشجاعة، والعقيدة الراسخة.

وأخذت الفصائل تترى من جبهات القوقاز والكرد واللاز وقليقيا، وإذ تم اجتماعها واحتشادها في الساحة الكبرى وقف في وسطها مصطفى كمال باشا يخاطب أبطالها، وهو يهز قرضابه الساطع القاطع بيمينه قائلًا:

إن العدو مغمور بلجج الحبور لعدم توفر الذخائر بدرجة عظيمة لدينا! فليحكم الله بيننا وبينه والله خير الحاكمين! وعندي أن الذين يكاثرون ويفاخرون بما لديهم من عدد الحرب الكثيرة والذخائر المتنوعة الوفيرة هم المقضي عليهم بالهلاك، ويجب أن يموتوا أسوأ موت! وهل سمع من قبل بالسماح للمحكوم عليه بتخير آلة التنفيذ فيهم؟ فأي بون شاسع بينهم وبيننا! وماذا يهمنا من أمر الموت نحن الذين توطنت نفوسنا عليه حتى أصبحنا لا نخشاه، بل صار من أهون الأمور علينا؟ إننا نحيا حياة الشرف والشهامة غير عابئين بنوع السلاح القاتل الذي يريدون إعدامنا به، ما دمنا قد وطنا نفوسنا على تحمل كل المكاره في سبيل الذود عن حريتنا واستقلال وطننا المقدس! فبينما يؤثر هؤلاء الأعداء الاغترار بالانتصارات الوهمية ويتبجحون بنشر أنبائها الملفقة في سائر أنحاء العالم … أليس في وسعك أنت أيهذا الفيصل القاطع أن تغتنم فرصة ذلك الاغترار الكاذب، وتخفف من آلام هؤلاء المجاهدين الصابرين الذين جعلتهم المحن والأخطار المحدقة بهم من كل جانب ينتفضون حرقة ومضضًا؛ فتقضي بضربة فاصلة من حدك المرهف القاطع على ذلك الغرور؟ ومع ذلك فإن الحمام ليس بمقصور على متنك، بل إني أعلم أنه ينبعث على شكل ألسنة مندلعة من اللهب المحرق من قرارة حقدنا الذي لا حد له، كما أنه يتفجر بالمثل من الاحتقار الذي نستشعره لأولئك الذين لا يحجمون عن ارتكاب أفظع الجرائم وأخس الموبقات للتوصل إلى إفنائنا.

على أنه يجب التأكد من أننا لن نُبقي على أولئك الذين أقبلوا إلينا يواثبوننا في ديارنا ظلمًا منهم وعدوانًا! وسيرون أنهم لن يفتحوا في زحفهم سوى أبواب الموت الذي سيستقبلهم بصدره الرحب، وذلك لأن المغلوب في هذه الأرض المشبعة بالدماء لن يمتلك منها سوى ما تستقر رمته فيه!

إنهم يستطيعون أن يترنموا الآن بأناشيد الظفر والانتصار، فأنا أدعهم يلهَجون بأحاديث المجد والفخار. وبعد حين ستأزِف الساعة التي تتعالى فيها أصواتهم المتحشرجة في صدورهم يأسًا وهلعًا وتألُّمًا، وتبلغ أصوات استغاثتهم واستنجادهم أعنان السماء.

ولقد كان حماة الوطن — الذين اندفعوا خلف العدو المدحور يطاردونه ويضربون في قفاه بتراميهم في النهر واجتيازه سبحًا — من ذراري أولئك الفرسان الذين في غروب يوم صافي السماء ساكن الريح عبروا البسفور سباحة إطاعة للأمر الموحى إليهم من زعيمهم، فطارت عقول المتنزِّهين الذين كان هدوء الجو وجمال الطبيعة قد حملاهم على البقاء لدى الشاطئ في هذه الساعة المتأخرة، وأذهلهم منظر هذه الشجاعة التي لا يتصورها العقل في ذلك العهد الذي كانت فيه إسلامبول لا تزال بيزانس التاريخية الشهيرة.

•••

إن الكفاءة التي أبدتها القيادة العليا في هذه المعركة التاريخية العظيمة لا يمكن إنكارها ولن تختفي عن الأبصار آثارها. وقد توالت أدلة هذه الكفاءة بما تقوم به القيادة العليا كل يوم من الحركات العسكرية التي تشهد لها بالبراعة الباهرة.

وإذا عمدنا إلى المقارنة ما بين الخصمين المقتتلين لما وجدنا وجهًا واحدًا للمقارنة بينهما، فإن تفوق الأروام على الوطنيين العثمانيين بالغ مبلغًا لا حد له، سواءٌ من جهة التفوق العددي الهائل أم من جهة توفر الأدوات الحربية، أم من قبيل الوسائل الفنية العسكرية التي يتولى شئونها لدى العدو ذلك المحرك المستور؛ فالعدو إذن حاصل على كل أسباب الفوز والنجاح.

ومع كل هذه الميزات التي يمتاز به العدو المهاجم، فما استطاعت جميع هذه الأشياء أن تعرقل أو تقف تنفيذ الخطة المحكمة التي أعدتها هيئة أركان الحرب العثمانية منذ ثلاثة شهور، وهي تقضي بامتناع الجيش العثماني من قبول الالتحام عند وثوب الجيش الإغريقي، والارتداد أمامه لاستجراره إلى النقطة المعينة لحدوث الملحمة، فتمت هزيمة العدو في المكان الذي كان مقدرًا له الإخفاق فيه.

ولقد صحت فروض الزعيم الأكبر ومساعديه النابغين وأمانيهم، ونجحت مشروعاتهم الحربية نجاحًا تخطَّى كل تقدير وحسبان.

•••

لقد وصل الملك قسطنطين يوم ١٢ يونيو إلى ثغر أزمير، فاستقبل فيها بصيحات ملأت فراغ الجو متضمنة هذه الكلمات:

إلى الأمام! إلى بيزانسه! إلى أنقرة!

وكانت ملاقاته كملك أقل شأنًا من الترحيب به كرئيس حرب صليبية.٢ ولقد كان المرمى الذي يستهدفه أبطال المدنية الرومية الوصول إلى أنقرة بالتأكيد — وذلك على الرغم من التكذيبات العديدة التي صدرت منهم فيما بعد — وكان لا بد لعاصمة البطولة الخالدة أن تسقط في أيدي الأغارقة المهاجمين في يوم ٥ سبتمبر بالتدقيق ليلقوا بهذا الفتح العظيم درسًا على العثمانيين المتوحشين.
إلا أن أنقرة لم تسقط في قبضة الأغارقة، واضطر الملك قسطنطين إلى أن يؤوب إلى أتينا … ولكن بعد أن نشر البلاغ الآتي على عساكره:

لقد أصبتم العدو بضربة في قلبه، وقد أرقتم دماءكم وهي أثمن دماء يونانية لتحرروا إخوانكم من نير الاستعباد، ولتعيدوا المدنية تارة إلى البلاد التي أتم فيها أسلافكم أعمالًا مجيدة.

إلى غير ذلك من الادعاء.

مدنية؟ أعمال مجيدة؟ ما هذه الألفاظ الخالية من المعاني؟

ولكي تتكون لدى المرء فكرة حقيقية عن «العهد الذي سيدون التاريخ ذكره بأحرف من النُّضار»٣ ينبغي له أن يقارن ما بين الأناضول السخية الرافلة في حللها السندسية البهية كشأنها قبل الحرب، وهذه الصحراء الفسيحة القاحلة المضطرمة أرجاؤها بالنيران والمذمَّل ثراها الدامي بكفن من الأرجوان، وهي آسيا الصغرى في حالتها الحاضرة.

فحيثما مرت عساكر الجيش الرومي في هذه البقاع الخصبة الرخية تركت فيها ندبة لا تمحى منها أبد الدهر، «وهيهات أن تنبت الحشائش والأعشاب في تلك الأرجاء التي انتابها القحل إلا بعد عناء شديد» على إثر هذه الغارة الشعواء التي لا يمكن صدورها إلا من القبائل المتوحشة في العصور الوسطى.

وإن هذه إلا شئون أثبتُّها هنا نقلًا عن مصادرها الوثيقة، شئون لا سبيل إلى المجادلة فيها لأن الدول الكبرى تعرفها حق المعرفة.

•••

ولم تكف الملحمة الأخيرة للموازنة ما بين القوتين المتطاحنتين ولكف المعتدي عن التمادي في عدوانه، بل لقد أعدت من الآن الوسائل لحرب الشتاء التي ستنشب في صبارة الزمهرير جالبة شظفها وأهوالها وآلامها.

ويظهر أن طريقة الانتصار العثماني اعتبرت بمنزلة «رجوع إلى نادرة حربية»، فالمخابرات السياسية الأوروبية ستستغرق وقتًا طويلًا بالتأكيد، وبالطبع إن العدو لا يريد إنهاء هذه الحرب التي لا يصح أن يطلق عليها إلا اسم التخريب والتدمير بما اشتملت عليه من سائر وسائل القسوة والفظاعة المنظمة.

وستظل الحقيقة هاتكة أستار تلك المخازي التي يراد إخفاؤها حتى يعلم الناس أجمعين ما يُرَجي النافخون في ضرام هذه الحرب من إشعال نيرانها.

ومع ذلك فلماذا يا رباه كل هذا الحقد الغالي مرجله في صدور أولئك القوم المستعمرين على أمة اشتهرت من قديم الزمان بشدة جنوحها إلى المسالمة والمسامحة والإحسان؟ بل ما هذا الاشتطاط في العنف والطغيان الذي لا تكاد تنتهي فظائعه المشئومة؟

وما الذي ارتكبه هؤلاء العثمانيون أخلاف ذلك الظافر الغلَّاب فاتح القسطنطينية السلطان محمد الثاني، الذي أعلن على رءوس الأشهاد: «إن شخص البطريرك الإغريقي لا يعتدى عليه.» والذي منحه كل الحقوق وسائر الميزات التي كان أسلافه يتمتعون بها من قبل.

إن الذي يحاول أن ينكر على الأمة العثمانية خلائقها الوديعة الهادئة اللطيفة، فإنه يجهل تاريخ هذه الأمة الودودة المحاسنة المحسنة، ولا يدري شيئًا من حالتها النفسية المجبولة على الشرف والشهامة والإباء، فالعثمانيون لم يهاجموا البتة إلا في مقام الدفاع عن أنفسهم.

وأليس الإنجليز الذين كانوا يعجبون بالعثمانيين فيما مضى ويجلونهم لأجل كرامة نفوسهم وإخلاص سريرتهم وصدق ودهم، هم الذين أبدوا مرة أخرى — وربما تكون الأخيرة — إعجابهم بهؤلاء العثمانيين وميلهم إليهم بعد الانتهاء من حرب الدردنيل الهائلة، وذلك أنهم عندما حاولوا إخلاء شبه جزيرة غاليبولي، مدوا موائد حافلة بكل صنوف الحلويات لخصومهم الأباة الغرانيق ذوي الشهامة والشمم «لا لأعدائهم الألمانيين»؟

وهل قصر هؤلاء العثمانيون يومًا في القيام بالواجب الأعلى، وهم الذين عندما رأوا باخرة حربية فرنسوية مصابة ومشرفة على الغرق إزاء كوم قعله سي — حينما أريد اقتحام الدردنيل — أبطلوا إطلاق مدافعهم، وبدلًا من إتمام عمل التدمير والإهلاك الذي تجيزه شرائع الحروب، وأطلقوا مدافعهم في الهواء تحية وإكرامًا للفرنسويين الشجعان المقاتلين، وهتف الجنود العثمانيون من الشاطئ قائلين: «المجد والشرف للبحارة الفرنسويين الذين يموتون وهم مكالون بالفخار.»

ولقد ألقت سائر الدول سلاحها منذ إبرام الهدنة ما عدا الأمة العثمانية.

وإنما اضطرت إلى طلب الصلح وإبرام الهدنة في آخر أكتوبر سنة ١٩١٨ بباعث من الكارثة البلغارية التي أصبحت على إثر حدوثها تراقيا بل الأستانة نفسها، عرضة للخطر المباشر، لا بسبب هزيمة حقيقية قوضت دعائم قواها.

على أن الذي قوى عزمها على نشدان الصلح ما ارتاحت إليه من الوعود الخلابة الواردة في شروط الرئيس ويلسن، ولم يك ليخطر لها على بال أنها ستواثَب من كل حدب وصوب، وبمثل هذه المباغتة المدهشة، ولا سيما بعد تجريدها من السلاح … «إن رأي الأقوى هو الأحكم والأصوب دائمًا.» هذه هي الحكمة المأثورة التي تتبع عندما يراد حل إحدى المسائل الإسلامية!

ومع أن هذه البلاد لم تكن السبب في نشوب الحرب العالمية فإن جزاءها كان من أفظع ما سمع؛ إذ كان نصيبها من الاصطلام والتمزيق ما لم تصب بمثله أية بقعة أخرى من بقاع العالم.

«ويل للمغلوبين!» من ذا الذي يستطيع أن ينكر وقوع الاختيار على هذه القاعدة القاسية الغاشمة في معاملة العثمانيين كلما خانهم الجد العاثر، ومن ذا الذي يجهل ما يلاقيه حتى اليوم هؤلاء المحروبون من جراء تطبيق هذه القاعة المشئومة!

وهل في وسع مثل الأمة العثمانية التعسة إذا ظلت محتفظة بمقصدها الأسمى — وهو العيش في ظلال الشرف والكرامة — أن لا تقاتل بل أن لا توالي الجهاد إلى آخر نسمة من الحياة أو إلى أن تفوز بذلك المقصد الأسمى؟

أجل لتوالينَّ الجهاد إلى النهاية القصوى ما دامت حاصلة على رجل واحد قادر على أن يقف في وجه المغير المعتدي ليرد عاديته وطغيانه.

وعندما تنفَد الحيلة ولا تبقى وسيلة لصد طغيان البحر الهائج المتواثبة أمواجه، فإن الأمة العثمانية لا تتأخر عن تنظيم خطوط الدفاع التي ستصير بمثابة سدود تمنع أمواج ذلك الطغيان من التمادي في الترامي إلى الداخل.

ومما يمكن حدوثه بالمثل على توالي الأزمان، إذا ما ظلت الحرب ناشبة أعوامًا طوالًا، ولبث نطاق الحصر مشدودًا على وسط هذه الأمة الصابرة، وانقطعت كل صلاتها بالخارج، أن يعمد العثمانيون بحكم الضرورة القصوى إلى أن يتراجعوا إلى داخل آسيا، وثمت يستقبلهم الناس حيثما يمَّمُوا بأذرع ممتدة وصدور مرحبة، فيتكون حينئذ من هؤلاء الأبطال حماة الإسلام الوسط العامل ونواة التفكير اللذان يحركان ويديران الدول والحكومات الإسلامية التي بدأت تتيقظ من ذلك السبات العميق الطويل، وهي الآن تشخص بأبصارها المتفتحة حديثًا إلى الوطنية العثمانية المستقلة في تلك البقعة المعتبرة آخر ملاذ مقدس للعالم الإسلامي لم يقبل حماته أن يطأطئوا رءوسهم صَغَارًا وذلًّا ليحملوا النير الأجنبي على عواتقهم.

إن مثل هذه الأمة لا يمكن إرغام أنفها وكسر شوكتها، بل لا يمكن محو القرون العشرة التي قضتها في المجد والسمو والدفاع عن الإسلام من سجل التاريخ العالمي.

•••

إنني ما خامرني يومًا ما أقل شك في الخاتمة التي ستفضي إليها هذه الملحمة. وكلما فكرت في أن الحملة الإنجليزية التي ساقتها إنجلترا على العراق كلفتها ٩٠٠٠٠٠ رجل،٤ في حين أن مجموع العثمانيين المحاربين كان أقل بكثير من هذا العدد، لم أتمالك نفسي من الطرب والإعجاب بقيمة هؤلاء الجنود المجاهدين الذين عرفوا كيف يدافعون دفاعًا باهرًا عجيبًا في سائر ميادين القتال متشبثين بخطة واحدة من الشجاعة والإقدام.

ليس الذي يهمنا الآن هو الثبات في مراكزنا الحاضرة، بل تثبيت العدو في مركزه الذي يحتله في هذا الوقت والاستعداد لمباشرة الهجوم الآتي القريب … وهو هجوم عام ستشترك فيه سائر القوى التي سيتم احتشادها ونظمها إلى ذلك الحين.

هذه هي الحكمة الرشيدة التي فاه بها الزعيم الأكبر، وهي توضح الخطة العظيمة التي يريد تنفيذها في المستقبل.

وما هي وسائل النجاح في تنفيذ هذا المشروع الجسيم «انتهاز الأحوال المناسبة للعمل المقرون بالنجح والتحوط في التنفيذ»؟

الله أكبر! إن الأمة العثمانية متدينة جد التدين وثقتها بأولي الأمر منها وبقوادها فوق كل تصور.

إن الجندي الأناضولي لا يماثله في الشجاعة والقوة والصبر على المكاره جندي آخر على وجه الكرة الأرضية، وقد زاده عزمًا وبأسًا في هذه المرة أنه يجاهد أمام عدو اكتسح دياره وحاول استعباده.

فما الذي تقتضيه الحالة إذن لتمكينه من إحراز النصر بحد السلاح، وهو النصر الوحيد الذي ينهي كل لدودة ونزاع؟

«خصب المخيلة أي توفر المشروعات الجليلة في قرائح القابضين على أزِمَّة شئون البلاد.»

إن الجنود التي تجاهد في ساحات الوغى ذات قيمة عظيمة ولا يعوزها شيء من صفات البطولة «فالوطن يمدهم بالقوة الأدبية التي تمكنهم من الثبات في مواطن الكفاح متحملين كل ما يُمنون به من الشدائد والأهوال «إذا اقتضت الحال هذا التحمل».

•••

وقبل الانتهاء من هذه السطور أعود إلى دعوة المسلمين كافة مرة أخرى، متوسلة إليهم القيام بالواجب المفروض عليهم. وبما أنهم أتباع النبي ، وقد كان صريحًا في أعماله وأقواله لا تأخذه في الحق لومة لائم، فليقتدوا بمنهاجه القويم وليكن لديهم من الجرأة ما يبيح لهم تحمل تبعة الأعمال والآراء التي يقتضيها المقام الحرج المحفوف بالأخطار.

لقد أزفت الساعة الخطيرة التي يجب فيها على المسلمين كافة أن يتضامنوا وأن يتساندوا بكل الطرق الميسورة.

وإننا لنرى الآن أن الإسلام لم يكن متحد الكلمة متفقًا في الشعور معتمدًا على نفسه يومًا ما كما هو شأنه الآن.

وما ذلك إلا لأن صلح فرساي الذي خيب آمال الجميع٥ قد أشعل حرائق فظيعة في كل مكان؛ فاللهب مندلع الألسنة، والعاصفة ثائرة مكتسحة ما أمامها على التوالي في القارتين العظيمتين الأفريقية والآسيوية.

فصار من المفروض أمام هذه الحالة الشاذة على كل مسلم أن يفعل كل ما في استطاعته فعله، لإيصال هذه الحرب الناشبة ظلمًا وعدوانًا، والتي ستظل رحاها دائرة ما دامت البلاد العثمانية مكتسحة مغارًا عليها من سائر الأنحاء، إلى الخاتمة السعيدة التي ينشدها العالم الإسلامي بأسره.

لقد أصبح من المحتم علينا جميعا أن نساعد على إحراز النصر المبين. إن السِّلْم لا يستقر في بطاح الشرق الفسيحة إلا بعد معاملة العثمانيين بالعدل والإنصاف، ولن يلوح عهد السكينة في الأقطار الإسلامية إلا بعد الاستيثاق من هذه الضمانة الكافلة حفظ تاج الإسلام حرًّا مستقلًّا.

وإذا لم نشرع مذ الآن في إتيان كل ما في استطاعتنا عمله لتدارك إخواننا المجاهدين في تلك الأرجاء النائية قبل أن يهلكوا على بكرة أبيهم، وهم مصممون على عدم التسليم والخنوع لإرادة أعدائهم، وهذا أمر نشترك جميعًا في تبعة مغبَّته، نصير نحن بالمثل جانين كأولئك الذين أخلُّوا بواجبهم الوطني من قبل.

فلنبذل أعظم جهودنا لنخفف بعض ما يكابده أولئك السابحون في لجج الغصص والآلام، ولتصحَّ عزائمنا على أن نتوج بإكليل الفوز المعجل مجهود إخواننا الأبطال إثابة لهم بالانتصار الذي آلوا على أنفسهم أن ينالوه لفائدتنا جميعًا.

وبعد استقرار السلم وانقشاع الغيوم المتلبدة في أفق المشرق يكون أمامنا مجال آخر لأعمال أخرى.

فقد أعدت مشروعات عظيمة ابتكرتها قرائح أفراد من ذوي المعلومات الواسعة لأجل إحياء وترقية هذه الأصقاع المجدودة التي انتابتها صنوف الشقاء، وإمدادها بعناصر الحياة اللازمة لتقوية كيانها وتمكينها من البقاء في عداد البلاد العامرة.

إن أعداء الأمة العثمانية قد أصابوا بلادها بأبلغ ضرر حتى كادوا من قسوتهم وغلظة أكبادهم يجتثُّون قوتها الطبيعية.

إن أقوى بلاد العالم وأعظمها استعدادًا للرقي والسعادة في هذه الآونة هي البلاد التي يكون مستقبلها الاقتصادي لا حدَّ له، وإن خصب أراضي آسيا الصغرى وما تبطنه من موارد الثروة المكنوزة لأشهر من أن أعيد على الأسماع ذكرها في هذا المقام.

فيا أيها المسلمون على اختلاف عناصركم تذكروا جميعًا أنكم إنما تنتمون إلى جنس واحد وأمة واحدة وملة وحيدة — وهذا مستمد من قول الرسول الكريم — فهلموا إلى شد أزر هذه الأمة المحروبة التي تمثل الإسلام بأسره والتي تعتبر رمز قوته وعظمته، وأعينوها على إنجاز مهمتها العسيرة الجليلة بكل الوسائل الممكنة.

وإن أوروبا الحالية المتأنية المتنائية عن تلك الأصقاع ستحترمكم وستعجب بمروءتكم ونخوتكم حينما تراكم نفَّذتم مقاصدكم بغير تباطؤ وبلا جلبة وضوضاء، تلك المقاصد الكريمة الشريفة المثمرة؛ وذلك لأنها لا تلبث أن ترى هي بالمثل أفقها قد صفا وتقشعت منه الغمائم التي كانت متلبدة فيه ومؤذنة بالعواصف والأنواء.

ولنتأمل مليًّا بتدبر جراحنا العميقة الدامية، ولكن لا بأعين ملؤها الحقد والغل، بل مهتدية بأشعة الحكمة، متخذة من هذه الجروح عبرًا بالغة تفهمنا كنه الحياة وترينا أوهامنا وأغلاطنا، ولنجتهد في أن نقول كما قال نابليون بونابارت:

إن المرء ليسمو فوق مستوى أولئك الذين يهاترون ويسبون إذا ما تجاوز عنهم وقابلهم بالسماح.

•••

لقد صرح رئيس الوزارة الإنجليزية، ونحن نتذكر تصريحه هذا جد التذكر، بأن رحى الحرب ما دامت دائرة بين القوتين المتطاحنتين، فلا أمل في التوسط بينهما، وأن مفعول السلاح هو الحكم الوحيد الذي يفصل في المطالب العثمانية واليونانية، ويضع حدًّا للقتال الناشب الآن بين الفريقين.

فأراد الله إلا أن نكون نحن الظافرين الغالبين في الوقت الحاضر على الرغم من سائر الوسائل الخارقة للعادة التي دبرت بمنتهى العناية والإحكام.

وها هو ذا مصطفى كمال باشا يسائل أوروبا قائلًا:

ماذا عسى أن يكون حكمها بعد هذا النصر المبين؟

وإننا لنأمل من أوروبا أن لا تنتهج هذه المرة خطتها التي اعتادت على أن تتبعها إزاءنا فترهقنا بتحكُّمها الذي لم تعد تطيقه نفوسنا الأبيَّة، وأن تنكب عن تلك السياسة العتيقة الجائرة التي لم تعد تصلح لهذا الزمن، وهي سياسة «الكيل بكيلين مختلفين والوزن بثقلين متفاوتين».

وهل لم تخض أوروبا غمار تلك الحرب الكبرى الزبون لأجل تحرير الشعوب المستضعفة وإنصافها؟

أَوليس لنا الحق في أن نصيح بملء أفواهنا مرددين القولة المأثورة التي رددتها فرنسا وهي:

إما أن نحيا في ظل السلام والإنصاف وأما أن نفنى!

وإني لمثبتتة في هذا المقام بعض جمل من خطابة المسيو كليمانسو،٦ وهي جمل تلم بالإجمال بالمقصد الأسمى الذي يجاهد لأجله أبطال العثمانيين:

لقد حفل الماضي بحوادث الضعف وخور العزيمة كما حفل بحوادث العظمة وقوة الإرادة. ونحن لا نستبقي اليوم من تلك الأمور المنقضية سوى العظة البالغة — وهي أن نقوم بالواجبات العملية لا أن نقتصر على إلقاء الخطب الطنَّانة — التي يجب أن ننقشها في صحيفة ذلك العقل الفرنسوي المستنير بأشعة الشرف والإباء والشهامة الإنسانية، وهي العادات المقدسة التي اشتهر بها أسلافنا على اختلاف طبقاتهم والمصادر الحقيقية الأساسية لانتصارنا.

وماذا يفيدنا أن نتبجح بقولنا: «لقد كان آباؤنا عظماء.» إذا كان أولئك الأجداد يحكمون علينا وهم رقود في بطون قبورهم بأننا صغار ضعاف النفوس؟

فلنصغ إلى أصواتهم المتعالية إلى ضمائرنا من تلك الأغوار المستورة مرددة الكلمة الآتية التي يجب أن تلبث مرسومنا المطاع المعمول به إلى الأبد، وليكن فخارنا أن تظل أبصارهم متطلعة إلينا ونحن نعمل بما رسموه لنا في نصيحتهم هذه:

إن الوطن يجب أن يلبث فوق كل شيء، سواء في زمن السلم وأمام أشراكه الممدودة أم في وقت الحرب وتحت طائلة تشنُّجاته المتواترة.

من المستطاع قتل العثمانيين ولكن ليس من الممكن التغلب عليهم.٧

إن هذا لقول حق.

•••

الآن وقد انتهيت من تدوين ما كان يخطر ببالي لم يبقَ لي ما أقوله سوى ترديد بعض بيوت شعرية من الابتهال الجليل الحار الذي صاغه في قالب النَّظْم المحكم السلطان مراد في الليلة التي أسفرت عن صباح معركة قوصوه الشهيرة، وقد تلاها في صلاته بلسان صادق وقلب طاهر.

وقد تلا هذا الدعاء الشعري برمته في الأيام الأخيرة في جميع مساجد الأستانة. وهذه ترجمة الأبيات التي وقع عليها الاختيار منه:

بجاه النبي المحبوب جد الحب.
وبذكرى كل الدماء التي سالت في كربلا.
وبتلك العيون المتنائية جدًّا الباكية أولئكم المغتربين.
وبكل الشهداء الذين ذهبوا ضحايا الدفاع عن ذينك الحق المقدس خضد شوكة الإسلام وكلله بنتاج المجد والفخار.
وليرتد العدو المعتز بمنتهى القوة مغلوبًا مدحورًا.
ولتغفر لنا ذنوبنا أيها الإله الأعظم.
ولتجزنا خير جزاء عن السنوات التي قضيناها في الجهاد.
إنني أقدم نفسي فداءً للجيش ضنًّا بدمائه العزيزة.
فلأكن الهدف الوحيد الذي يصيبه المرمى.
وماذا يهمني إذا ما مت في سبيل الدفاع عن الدين القويم؟!
جاعلًا نفسي القدوة المثلى للجيش الظافر.

•••

ولقد فاز الجيش العثماني الغازي بالنصر المبين في تلك المعركة التاريخية الشهيرة التي اعتز بها الإسلام واكتسب مجدًا باهرًا، إلا أن السلطان مراد استشهد فيها.

نصر من الله وفتح قريب

إننا لشديدو التمسك بديننا، وعظيمو الأمل في مستقبلنا. فالله يظاهرنا ويؤيدنا ويمدنا بالنصر المبين بإذنه تعالى.

روما في ٩ أكتوبر سنة ١٩٢١
قدرية حسين

هوامش

(١) هذا نص التهنئة التي أرسلتها حكومة أنقرة بالتلغراف إلى مصطفى كمال باشا.
(٢) عدد ٤٠٩١ من مجلة الإليستراسيون.
(٣) خطبة قسطنطين في بورصة.
(٤) من تقرير المارشال ولسن الذي نشر في يوليو سنة ١٩٢٠.
(٥) خلاصة تاريخ الحرب من عام ١٩١٤ إلى سنة ١٩١٨.
(٦) وهي مقتطفات من خطبة سانت هرمين التي ألقاها كليمانسو يوم الأحد ٢ أكتوبر.
(٧) كلمة قالها نابليون بونابارت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤