الرسالة الثانية

 فندق الأناضول في تشيروم يوم ٢٠ أبريل

لقد كانت الكتابة عسيرة ونحن مقيمون بفندق «منتيكا بالاس» في صامسون، وذلك لما تتابع بعد الوصول إلى هذه المدينة البديعة الرافلة في بحابح الرغد والهناء من المقابلات الرسمية والزيارات التي يقتضيها الواجب، وقضاء المهام المتنوعة المتعددة، وهذه كلها أمور تحول دون التفرغ لأية مكاتبة. وتكاد تكون هذه الأمور هي الشواغل للمرء في المدن التي يكون فارقها منذ خمسة عشر يومًا تقريبًا، إلا أن هذه المدينة الكبيرة، المعدودة وسطًا حافلًا على الدوام بعدد عظيم من تجار آسيا الصغرى، كانت لها ميزة تستأثر بها على تلك الخصائص التي تتساوى بها سائر المدن الأخرى، وهذه الميزة هي المنظر العسكري، ولقد يجوز القول بأنها بالنظر لكثرة اختلاف السيارات الحربية إليها تحسب في موقف حربي.

وأحدث استمرار حركة الضباط والجنود العديدين — غدوًّا إليها ورواحًا منها — تطورًا في طبيعة شوارعها الكبرى الهادئة، فعمَّت في جميع أحيائها حركة عظيمة لم تكن معهودة فيها من قبل، ولم تلازم السكينة سوى المرفأ الشهير الذي لا يزال محتفظًا بالجراح الغائرة التي أحدثتها فيه العمارة البحرية الروسية التي هدمت وجهات سائر البيوت المحدقة به.

على أن صامسون ليست ثغرًا حربيًّا …

وظل بكر سامي بك طول يومه يستقبل الأعيان وكبار الضباط ووجهاء التجار ووفدًا من الأروام العثمانيين المتسلسلين من أرومة عثمانية، وقد أقبل ليُعرب عن ولائه وإخلاصه للأمة العثمانية متمنيًا لها الانتصار المبين الحاسم.

وعمد رئيس الوفد إلى استقبال هؤلاء الأروام بضروب الحفاوة والبشاشة المتضمنة مغزى يفقهه أولئك الذين يعرفون ما هي «المسألة الرومية»، أولم تكن تمت بفضل الدسائس الأجنبية «مسألة رومية» بالمثل؟

بلى لقد جاء وقت استولى فيه هؤلاء الأروام على صامسون واندفعوا إلى الأبوق والثورة على بكرة أبيهم.

فعمدت حكومة أنقرة إذ ذاك إلى الحكمة والحزم بإرسالها رجلًا حديدي الإرادة والساعد، بدأ بقمع هياجهم وكبح جماحهم ثم نزع إلى مسالمتهم وتهدئتهم بالحجج الناصعة المرتكزة على حقيقة باهرة، مظهرًا لهم أنهم إنما يثورون على إخوانهم؛ لأنهم في الواقع مُتحدِّرون من نبعة عثمانية بحتة لم تشب عنصرها شائبة أجنبية بتاتًا.

فألزمهم الحجة بهذا الدليل المقنع، وأخذوا يفكرون في صحته، حتى إذا ما اقتنعوا به استسلموا بمحض إرادتهم إلى حكومة أنقرة وصوبوا وجهة نظرها؛ لأنهم علموا علم اليقين بأنهم من أصل عثماني عريق في وطنيته.

وإذا ما نظر المرء إلى قسمات هؤلاء الأروام المنتمين إلى العنصر العثماني، وإذا ما أصغى إليهم وهم يتحادثون فيما بينهم بنفس اللغة التي يتناجى بها العثمانيون المسلمون أنفسهم عراه الدهش وظل مأخوذًا، إذ لا يرى ثمت ما يفصلهم عن إخوانهم الحقيقيين إلا معتقدهم، فهم يتبعون كنيسة الأستانة الأورتدوكسية إلا أنهم جميعًا يؤدون صلواتهم بلغة تركية بحتة.

وإذا كانوا يماثلون العثمانيين في الشكل ويشاركونهم في اللغة، وهم في الحقيقة طائفة منهم، فقد طلبوا في هذه المرة الانفصال من البطريركية؛ راغبين أن يتخذوا لهم كنيسة حرة مستقلة في آسيا الصغرى.

ويكاد الأروام يكونون الفئة الكبرى التي تقطن ساحل البحر، فبعد التزامهم جانب السكينة والطاعة أسندت الحكومة إليهم بعض المناصب العالية فأظهروا لها الولاء والإخلاص.

وقد أعدت محافظة هذا الثغر وليمة شائقة ألقيت في خلالها خطب حماسية، أجاب عليها رئيس الوفد ذو الهمة التي لا يتطرق إليها أدنى فتور بما جبل عليه من الأنس والبشاشة، موضحًا بإيجاز المقصد الذي انتحى لأجله وجهة أوروبا والحفاوة المرضية التي لوقي بها في باريس وروما، وأخذ يفيض على مسامع المجتمعين ألفاظًا باعثة على الرجاء، وباثة في نفوسهم القوة والعزم، وموجدة لديهم الاعتقاد بوجوب الحصول على الفوز النهائي بقوة إرادة لا تقهر.

وأثناء الجلوس حول المائدة أخذت الموسيقى العسكرية تعزف أنغامًا وطنية، وكأنما هذا أول مظاهر الاستقبال التي يلاقي بها الوطن أبناءه الغائبين عنه بعد أوبتهم إلى صدره الحنون.

وفي الساعة التاسعة من صبيحة اليوم التالي انتظم موكب مهيب مؤلف من اثنين وثلاثين مركبة، يحفه سائر الأعيان والتجار وشطر كبير من الأهالي وبدأ في السير، وهكذا لبث الوفد في طريقه مدة ساعة مصحوبًا بهذا الجمع الحاشد، وبعد هذه المسافة الطويلة وقف الموكب الحافل بطبقات الشعب على اختلافها، وبعد تتابع المواثيق والعهود من الأعيان ومن عامة الشعب وهم متحدون، أقسم الجميع بأوكد الأيمان أن يثابروا على الكفاح إلى النهاية القصوى، مستخدمين كل ما يتهيأ لهم من وسائل المناضلة، وإذ ذاك ودع الجميع بعضهم بعضًا، وافترق الطرفان وهما في أشد ما يكون من التأثر، وتقدم ركب الوفد تاركًا خلفه صامسون سابحة في لجة الزينة مائجة باحتفالها العظيم، وقد ارتفعت في سائر شوارعها لوحات بديعة الرواء خط فيها بأحرف باهرة الخط الجملة الآتية:

سلام على وفدنا الذي أوضح لأوروبا جمعاء الآلام التي نكابدها والمظالم المتساقطة على رءوس أمة لا هم لها إلا أن تعيش مع العالم أجمع في سلم ووفاق.

وعلى أثر ذلك أخذ الركب يطوي الطريق وهو محوط بنطاق من الحرس العسكري.

وكانت الطريق في غاية البهاء بما حف بجانبها من الآكام الزمردية وقد اتشح الربيع بأبدع حلله، وطفقت الأزاهير المتنوعة تستجر إلى نضرتها البصر بتنعم وارتياح.

وعلى حين فجأة انتشر في الجو أريج ذو نفحة خاصة عذبة.

ولم يك ذلك سوى عبق منبعث من حقول مكسوة بحذافيرها ببنفسج طبعي لم تعمل في استنباته يد الإنسان.

وحينئذ حدث شيء مؤثر في النفس من رجال الركب. وذلك أن أعضاء الوفد اجتذب أبصارهم مرأى تلك الأزهار البنفسجية الأناضولية الصغيرة، فانحدروا من مركباتهم ليقطفوا من تلك الأزاهر الزاهية وليستنشقوا مع عبير هذه الزهرة الرمزية رائحة الوطن الذكية المتغلغلة في أعماق قلبها.

وعلى إثر هذا المنظر المنعش السار انثنى رجال الوفد إلى مركباتهم وعاود الركب تسياره.

وتناول الركب أكلة الغذاء في خان قديم العهد، ثم واصل السير محوطًا بفصيلة من أبدع الجنود المشتملة بأجود الملابس والممتطية أفخر الجياد، يقودها ضباط شبان شجعان، وهم جميعًا يسيرون حول مركبات الوفد بسكوت حافظين الطريق التي لا تنسى محاسنها.

ووصل الركب قبيل المساء إلى تشاكاللي، وهي قرية ظريفة محوطة بغدران وسهول مزروعة. ويقيم بها في هذه الآونة معسكر هذه الناحية الحربي.

وتناول المسافرون طعام العشاء في الثكنة بدعوة من قائد هذا الموقع. وكانت الأطعمة شهية ونظام المائدة الذي أعده الجنود مدهشًا.

وبعد النهوض من حول المائدة اجتمع رجال الوفد أمام الثكنة، حيث أخذ اللازيون على توقيع عزف الموسيقى العسكرية يرقصون رقصهم الوطني داخل دائرة مطبقة حولهم من الجنود، وعلى ضوء المشاعل المتماوجة ألسنة لهيبها في مهاب الرياح.

وفي أثناء ذلك برز جندي صغير من وسط الجمع المحتشد وأنشد بغيرة وحمية عدة مقتطفات من القصائد الحماسية الوطنية، وقد وقف على جانبيه جنديان يحملان علمين يخفقان فوق رأسه، بينما ينشد هو تلك الأشعار المتضمنة تاريخ الدولة العثمانية بعبارات متلهبة ملمة بفتوحها، والمهمة التي حملتها على عاتقها، وما قامت به من الدفاع المجيد حتى بلغ عهد الصراع الذي تجاهد به في سبيل الحرية والاستقلال. وكان صوت هذا الجندي الصغير تخالجه عوامل التأثر عندما شرع يصف الآلام التي كابدتها أمته للاحتفاظ مدة سبعة قرون بالعلم النبوي المقدس. وأخيرًا اختتم خطابته الوطنية بقوله:

إننا نريد الاستمرار على الكفاح إلى آخر نسمة من حياتنا أو نحظى بحياة المجد والشرف.

ولم يستطع أحد من الحاضرين أن يتماسك فاغرورقت عيونهم جميعًا بالدموع، وفي الحقيقة إن الموقف كان باعثًا بعظمته التاريخية على التأثر والانجذاب إلى ما يسرد على الأسماع، فاضطر رئيس الوفد إلى الإجابة على خطابة هذا الجندي الناشئ بكلمات قيمة مصبوغة بصبغة الثقة والرجاء.

فنهض على إثر رئيس الوفد روشن أشرف بك، وهو كاتب نابغ لا يزال في ربيع الحياة، ترامت شهرته في أنحاء البلاد العثمانية بما دبجه يراعه القدير من المؤلفات المتعددة التي استساغها بأجمعها الذوق العثماني العام، وقد التحق بالوفد كممثل للصحافة الأناضولية، وألقى الخطابة الآتية موجهًا كلامه فيها إلى الجندي الفتى قائلًا:

لقد وعيت منذ عهد طويل كل الأشعار المختارة مما جادت به قرائح شعرائنا الوطنيين، وشغفت بها حبًّا لما تضمنته من روح العظمة التي لا مثيل لها، بيد أني لم أر نفسي متأثرة — وأنا منهمك على استظهارها — كما تأثرت من سماع ما طرق أذني منها في هذا المساء، إذ كان من الضروري أن ينشد هذه الأشعار المتضمنة مجدنا وفخارنا مقدام من أبطال الوطن مثلك، لأنتفض من شدة التأثر بها حتى تصل هزات الانتفاض إلى أعمق أغوار قلبي. وإني مثلك واضع سلاحي الوحيد تحت تصرف أمتي في سبيل خدمتها: فأما أنت فتحمل الحسام لتذود به عن هذه الأرض المقدسة، وأما أنا فأشرع يراعي لأجل هذا المبتغى الشريف.

وبعد انتهاء هذا الشاب النابغ المحرر بجريدة «يني جون» من خطابته، نهض يونس نادي بك عمدة الصحافة الأناضولية ومنشئ ومحرر صحيفة «حاكميت مليه» البالغة غاية الذيوع والمنتشرة في العالم الإسلامي انتشارًا لا مثيل له، وأفاض على الأسماع أقوالًا جذابة ختمها بهذه الجمل البديعة:

إن السلاح والصحافة، أي الإقدام والنبوغ لأمتنا الباسلة، النصيب الكافي منهما للفوز بآمالنا الشرعية، والشعب بأسره مستعد لأن يجود بآخر مجهوداته وسائر موارد إثرائه، والله جل وعلا سيتوج بالتحقيق بتاج النصر المبين كل الضحايا القيمة التي بذلت بشهامة عظيمة أثناء هذه السنوات الحافلة بالعظمة التي لا تقهر وبالتضحية التي لا يمكن التعبير عنها.

وحينئذ صاح الجنود الحاضرون كافة: «إننا على أتم الاستعداد للموت في سبيل استقلال وطننا المحبوب المقدس.»

وبعد قضاء ليلة حافلة بمظاهر التأثر الشديد في تشاكاللي بارحها الركب في ضحوة الغد، بيد أن الركب لم يكد يبدأ بالجد في سيره حتى رُئِيَتْ كوكبة من أبرع الفرسان تترامى مُغِذَّةً في ركضها نحو الركب، فلما انتهت إليه دعت أعضاء الوفد إلى أن يقصدوا «قواق» ليتناولوا ثمت شاي الساعة العاشرة صباحًا.

وقواق قرية صغيرة ضحوك المرأى ناهضة فوق تلعة ذات منظر ضاح بديع.

وكانت شرذمة من أحداث التلاميذ وحديثات التلميذات تحمل الرايات في أكفها منتظرة هنالك تشريف رسل سلم. حتى إذا ما أقبل الوفد حيته هذه الشرذمة بنشيد وطني وخطابة رقيقة الشعور وجهت فيها المقال إلى الرئيس، وقد رجت فيه من بكر سامي بك ألا يداخله اليأس أمام الصعاب التي ربما تنهض قبالة النتيجة المرجوة للكفاح الوطني الظافر.

ومما كان له وقع عظيم في النفوس أن يرى المرء هؤلاء الكائنات الصغيرة تخاطب ذلك الرجل الرسمي العظيم وهي رافعة رءوسها الضئيلة إباءً، لترسل أصواتها بطريقة أوضح إلى أذني ذلك الرجل الذي أصبحت قامته المرتفعة مشهورة لدى العالم أجمع.

وجاء في خطابتهم: «نحن وإن كنا ضئال الأجساد صغارها في المنظر فإن لنا قلوبًا قوية كبيرة لأننا أبناء الكفاح الأسمى.»

وأرسلت نسوة قواق حلويات خاصة بقريتهم لا تتعداها، وأصحبنها برسلات داعية إلى التشبث بالأمل وبالدعوات الصالحات لأجل التوفيق والنجاح.

وبعد الفراغ من تناول الشاي أمّ الركب «أوتشخانلر» حيث تناول فيها طعام الغداء، ثم واصل السير حتى بلغ «هوزا» حوالي المساء.

وعلى بعد نصف ساعة من هذه البلدة أقبلت نساء الجهة يهدين تحياتهن إلى أعضاء الوفد. وكن لابسات كلهن شفوفًا مسطرة بخطوط بيضاء وأخرى زرقاء كلون السماء محوكة في هذه الجهة نفسها.

ووقفن صفين على جانبي الطريق التي يسلكها الوفد وهن مرتديات بهذه الأثواب الرسمية لديهن التي مع بساطتها حوت كل ميزات الظرف والرقة، فأوجدن بهذه الطريقة عنصرًا بهجًا من الابتكار الوطني!

وهذه البلدة الفاتنة الصغيرة تعتبر مصيفًا بديعًا من الطبقة الأولى. إذ توجد فيها ينابيع مياه متفجرة مفعولها ناجع جدًّا يقدِّرها حق قدرها أولئك الذين يعرفون خفايا آسيا الصغرى التي لا تحصى، ومقدار ما فيها من منابع الثروة والرفاه، تلك المنابع التي لا تزال في طي الخفاء حتى الآن. ولهذه المياه من الخصائص ما لمياه أفيان وفيججي فهي موصوفة للمصابين بأمراض الكلى.

وستكون هذه البلدة في المستقبل مصيفًا صحيًّا تستشفي بمياهه وجوه النفوس التي أضنكتها متابعة الأعمال من غير أن تجد فيه داعيًا إلى السأم، فتقضي فيه مدة التروض والراحة. وبفضل ما امتازت به هذه البلدة الوديعة الهادئة من السكينة الملطفة والنسيم العليل والجو الرائق الصافي، كل الأناس الذين يشكون من النوبات العصبية سيجدون في هذا المكان بالتأكيد وسائل استعادة قواهم وصحتهم كما كانت عليه في أوائل أدوار الحياة.

وفارق الركب هوزا بعد أن ارتفعت الشمس في الأفق كثيرًا قاصدًا الوصول إلى مرزيفون في ساعة تناول الشاي. فأقبل فرسان أخر من سائر العناصر تعدو جيادهم ضبحًا لملاقاة رجال الوفد، فأصبح الحرس المحدق بجانبي الوفد مجتازًا هذه الطريق البديعة، وهو يزداد فخامة أمام النظر كلما ازداد تقدمًا في سيره.

وكان الاستقبال في هذه القرية الكبيرة من أبهر وأفخر ما يكون، فقد صعدت فصيلة من «الكشافة» رصيف الحرس أمام دار البلدية المشرفة على ميدان فسيح وشرعت الخطب تترى من الجانبين.

وطفق الفتيان والفتيات يترنمون بالأناشيد الوطنية، بل إن تلميذًا صغيرًا لفت أنظار الجميع بألفاظ حركت عواطفهم إذ قال: «نحن مواطنو ذلك النابغة الوطني العظيم قره مصطفى باشا الذي قاتل بمنتهى الشجاعة والإقدام في البلاد الأجنبية، والذي قضى نحبه بعيدًا عن أهله وصحبه في سبيل عظمة وطنه ومجده. فنحن نعرف ونقدس التضحية السامية التي تقضي بها الضرورة في ساعات الحرج التي تصاب فيها الشعوب بتطورات التاريخ البشري التي لا يمكن توقيها. إلا أننا لا نقبل الضيم ولا نحني رءوسنا صَغارًا لأننا من فصيلة الظافرين الغر النبلاء.»

ولهذه القرية أن تتيه فخارًا باحتوائها مسجدًا من أعجب المساجد الموجودة في المملكة العثمانية. وقد شيده الخليفة السلطان على النسق العثماني البحت تخليدًا لذكرى انتصارات قائده مصطفى باشا الذي ولادته في مرزيفون.

ولهذا المسجد فناء واسع في وسطه عين متفجرة تستخدم مياهها للوضوء، وتنهض فوقها سقيفة كبيرة مستديرة رسمت في داخلها مناظر أهم المعارك التي حدثت في فينا وفي بودا تحفها أسلحة ذلك العهد، وترفرف الملائكة بأجنحتها فوق هذه المناظر كأنها محافظة على ذكرى تلك الأيام الخالدة ببطولتها العجيبة ومجدها التليد.

وتنهض حول هذه العين ثلاث شجرات ضخام طوال عتاق يرجع عهد غرسها إلى زمن تشييد هذا المسجد، وهي تخبئ في أغصانها الوريقة الظليلة المسترسلة بجلالها في الفضاء سر تلك الطرق المؤدية إلى تلك البهجة وذلك الرواء.

وكان هذا النهار عاصفًا مكفهرًّا، واحتجب وجه السماء بحجب كثيفة من الغمائم الثقال، وغشي الظلام الأفق بدرجة مرعبة. أفكان هذا نذيرًا بما يجنه الغيب وراء ستار المستقبل من الهموم والأرزاء؟! فبعد أن كانت الشمس تفتر عن ابتسامات متألقة جذابة في وسط الربيع المتهلل الوضَّاح أخذت هذه الديم ترسل على مقربة من أنقرة وابلها الهطَّال أو بالأحرى تمطر جميع القلوب صَيِّبَ التطير والخبال.

وقائمقام مرزيفون رئيس إحدى المدفعيات البرية سابقًا، ترامت شهرته في الآفاق بقوته العضلية من جانب وبخبرته العظيمة في سداد المرمى من جانب آخر، حتى لقد أطلق عليه لقب «صياد الأرانب بالمدفع»، وعلى الرغم من تجهم الأفق وقصف الرياح العواصف فإنه قام برسوم الحفاوة والإكرام في موقعه بدرجة مدهشة.

وكان الإنجليز على إثر الهدنة قد تغلغلوا في جوف الأناضول حتى بلغوا مرزيفون، وبما أن احتلال هذه المدينة لا ينطبق عليه أي شرط من الشروط التي قررها الاتفاق، فقد اضطروا بناءً على إنذارات قائد الموقع — الذي كان إذ ذاك ذلك البطل الجسور رأفت باشا — أن يتخلوا عنها.

والخلاصة أنه كان لا بد لنا من مغادرة هذه البلدة التاريخية في بكور الصباح التالي؛ لأننا لا نزال في حاجة إلى قطع مسافة طويلة من الطريق. وبعد أن أَغْذَذْنَا السير ستين كيلومترًا بلغنا أخيرًا تشيورم حيث حللنا بفندق الأناضول.

وهنا أتيحت تلاوة بلاغ رسمي صدر حديثًا ينبئ بحدوث تحقيق دقيق مع ضابط إغريقي قبض عليه في قرية تلتهمها النيران، فلما سيق إلى الأسر اعترف في خلال التحقيق جهارًا بصدور الأوامر إلى الضباط اليونانيين بصفة خاصة … بذبح ونهب وإحراق كل من يصادفونه أو يلوح لهم في طريقهم توصلًا إلى إفقار الأمة العثمانية وإسقاطها إلى الأبد في هوة الشقاء والبأساء، فتلبث خامدة فاقدة قواها وتهلك تحت إصر الفاقة الميئسة، ولا تقوى على النهوض والظهور مرة أخرى أبد الدهر.

وإنها لطريقة غريبة في تهذيب وتحضير الهمج المتوحشين وإشرابهم روح المدنية الحديثة! وما أعظم تلوث الحرب الصليبية الجديدة بالدماء التي لا تذكر بجانبها ما أريق منها في الحرب الصليبية التي أضرم سعيرها القديس لويس منذ ستة قرون ونصف قرن قبل الآن!

وفيما كانت هذه التأملات المؤلمة تمر على البال إذا بآلات موسيقية من ذوات الأوتار تبعث بنغماتها الشجية على حين فجأة، فتحرك كوامن الأشجان، يوقع عليها موسيقاريون متفننون أنغامًا رخيمة تترنم بالعذوبة المتناهية، والفتور الذي لا يمكن التعبير عن كنهه السائد على هذا الشرق الذي يلبث على الدوام عرضة للاضطهاد المنظم.

إن المكافحات والآلام والغصص والعبرات المنبعثة من هذه الأنغام المتناهية في الشجو كانت تتوافق مع حزن جميع الأهالي الذي لا يوصف ومع الاكتئاب الشديد المخيم على نفوس أعضاء الوفد الذي انتدبته الأمة ليمثلها لدى دول الاتفاق وهي اليوم تحتفل بمآبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤