الرسالة الثالثة

٢٤ أبريل في محطة ياخشي خان 

لقد ظلت الطريق التي يسلكها الركب إلى تشيورم بديعة وقابلة لسير المركبات براحة تامة، ولكنها بعد مفارقة هذه الناحية إلى بلوغ سونغورلي التي بلغها الركب في الساعة السادسة مساءً بعد عناء شديد، صارت سيئة إلى درجة لا يمكن تصورها. فاقتضى الحال اجتياز أكثر من خمس عشرة مرة مجاري من روافد نهير قبزيل إيرماق للاجتهاد في الوصول إلى سونغورلي في الوقت المقصود.

وإن منظر اثنين وثلاثين مركبة يحدق بها صفان من الحراس وهي تعبر الغدران من مخاضاتها لمن المناظر الفريدة التي تصبو إلى رؤيتها الأبصار.

وبعد مغادرة تشيورم انتشرت إشاعة غريبة بين رجال الوفد، فاتخذت على إثرها وسائل حذر وتدبر للمحافظة على الوفد مما قيل عنه إنه هياج سائد من قبل سكان سونغورلي، الذين بصفتهم جميعًا علويين على التقريب أي شيعيين، فهم على ما يظهر يضمرون مشروعات معادية للحكومة، وقد بلغ من ضعف إيمانهم بحسن نية الحكومة أن تمشت السعايات الأجنبية بينهم وصدقوا بعضها؛ فمن مقتضى الإشاعة المتداولة على الألسنة، والتي تؤكد صحة ما ترويه، أن هؤلاء القوم يحسبون أن كل من لم يكن سنيًّا لا يلبث أن تستأصل شأفته على إثر إبرام الصلح.

وما هذه المكيدة إلا من عبث الطفولة وأوهامها التي تحلق حولها مخيلات الغربيين، الذين بنوا آمالهم على جهل الجمهور الشرقي المتفق عليه في تصديق أمثال هذه الدسائس، غير حاسبين أقل حساب للعلائق الوثيقة التي تربط سائر المذاهب والفرق الإسلامية بعضها ببعض!

ومصداقًا لتغلب الروابط الدينية على الدسائس الأجنبية أقبل قبل بلوغ ذلك المحط الليلي فوج عظيم من أعيان وسراة سونغورلي وعدد كبير من الضباط، يدعون الوفد إلى تشريف وليمة أعدها لهم عمدة البلدة في ذلك المساء نفسه.

وكان تناول أكلة العشاء في دار البلدية ذا فائدة عظيمة، فان الوجهاء كانوا غضابًا على الأروام، وقد اخذوا يقصون على الأسماع تفاصيل حوادث الاضطهاد والاعتداء التي أحكم العدو تدبيرها.

وقد انتهزوا هذه الفرصة السانحة لتجديد الإعراب أمام بكر سامي بك عن عواطف إخلاصهم الأكيد، وثقتهم التي لا حد لها بالحكومة، التي وقفت نفسها للكفاح بشجاعة متناهية لأجل إنقاذ الشرف الوطني. ثم قالوا إنه على الرغم من كثرة الجنود النظاميين الذين ذهبوا من بلدتهم للانضمام إلى الجيش العام الذي يقاتل الآن على الجبهة، قد خف عدد عظيم من الشبان المتطوعين إلى ساحة الوغى لمساعدة إخوانهم على تحرير أرض الوطن المقدسة.

فأظهر رئيس الوفد آيات بلاغته ومنتهى نبوغه، وبفضل ما ألقاه في هذا الاحتفال الباهر من الحقائق الواضحة والآراء الصائبة والحكم الجلية تبددت في هذا المساء سحب الشك، وزال بتاتًا كل سوء تفاهم كان من الجائز أن يظن وجود أثر له في العقول.

وكان قائد هذا الموقع رجلًا عظيم الإيمان حضر معركة غزة الهائلة، ولم يفقد ذرة من رباطة جأشه ولا من ثقته العظيمة بالمستقبل الباهر، وقد حُمِلَ بين أسرى العثمانيين إلى مصر، وعلى أثر إيابه من دار الأسر انضم إلى صفوف الجيش العامل من غير أن يعمد إلى الراحة هنيهة من الزمن.

وقبيل الهجوم الرومي الثاني بمدة وجيزة أخذ يوالي الصلوات والدعوات الحارة إلى الله تعالى، فغشيه فجأة إلهام مبشر اطمأنت له نفسه. فشرع على الإثر يجمع سائر المركبات والعربات على اختلاف أنواعها من جميع أطراف هذه الناحية لينفذ خطته التي رسمها في فكره بمحض إرادته، ثم أرسل إلى الجبهة من غير أن يراجع رؤساءه كل الذخائر التي تحت يده حاملًا على عاتقه وحده تبعة هذا العمل الخطير.

وفيما كانت معركة أين أونو — إسكي شهر بالغة أقصى شدتها إذا بذخائر هذا الضابط الغيور قادمة كنجدة أقبلت في إبانها، فكان لها حظ لا يمكن تقديره في رجحان كفة الكرة العثمانية التي طبقت شهرتها التاريخية الآفاق.

وعلى إثر مشروعه المبتكر المكلل بالظفر أرسل إليه الزعيم الأكبر كتابًا يبسط إليه فيه تهنئته وثناءه العظيم.

إن الحوادث هي التي تظهر بمفردها أقدار الرجال، وما قيمة الرجال الحقيقية إلا بأعمالهم. وإن النادرة التي أوردناها الآن لتثبت بأقوى دليل صحة هذه النظرية التي لا مراء فيها.

ولكن كم عدد أولئك الذين يستطيعون في هذه الآونة أن يفخروا بأنهم أدوا ما عليهم من الواجب بطريقة فعالة، وأن يزعموا أنهم تركوا أثناء حياتهم المنعزلة خطًّا واضح الضوء يرسم آثار مرورهم في هذه الأرض المنغصة المحروبة؟

وارتحل الركب من سنغورلي مبكرًا في الصباح التالي، وإذا بالطريق قد عادت إلى ما كانت عليه من البهاء، وأخذت المركبات مدة ست ساعات؛ إما تتبع في سيرها مجرى قزيل إيرماق الفخم، وإما تنتهج السهل المحدق بهذا النهير، ذا الخضرة النادرة الباهرة والمغطى أجمعه بشتى الزراعات.

وبعد قليل وصل الركب إلى قرية قرة بكير. وهنا تجلى منظر يأخذ بمجامع الألباب، فقد أشرفت على الأنظار سلسلة الأكمات الصخرية الممتدة الشهيرة ذات اللون الأحمر اللهبي المطلة على البحيرات الملحية، فكان لها رواء لا تلتقي العين بمثل بهجته في أي مكان آخر.

ولا يكاد البصر يصافح هذا المنظر الفتان المباغت حتى يصبح أخيذه، فلا يقوى على التخلص منه إلا بالعناء الشديد؛ فإن ما احتواه هذا المكان من العظمة المدهشة واللون الذي لا مثيل له يلازم ذاكرة السائح مدة طويلة بعد التنائي عنه.

ثم اجتاز الركب جسرًا كبيرًا وشيك التداعي، وهو اجتياز محفوف بالخطر إذا ما اعتبرت جسامة الركب، وانتهى المسير حوالي المساء عند محط يغلي، وهو وسط تركماني صغير.

وقرية يغلي هذه المحتفظة بكل خصائص ذلك العنصر الحربي الآسيوي، وهو سلالة أولئك الذين أقبلوا من أقصى أغوار «الألطاي»١ مجردة من كل وسائل المعيشة الرغدة. وما ذلك إلا لأن هؤلاء المكافحين المغاوير ليست لهم حاجة إلى الترفه، فهم إنما يعيشون على حالة الفطرة تقريبًا، ولكن ما أعظم هيامهم بالطبيعة!

وليس سوى النظر إلى مآويهم الضئيلة المحفوفة بهذه الحدائق الغناء ذوات النسائم العليلة والمرائي السارة الجميلة المنظومة على أبدع نسق، وقد أثملت نفحاتها الشذية وظلال أشجارها المثمرة وأراحت أولئك الذين ينشدون ملجأ فيها يقضون فيه سواد الليل، ما يحمل الناظر على الاعتقاد بأن هؤلاء الرّحل الذين لا يعرفون الكلل اختصوا كل ما أوتوا من حب وشغف بقطعة صغيرة من الأرض المزهرة النضيرة.

والنساء في ياغلي التي تكاد تكون شبيبتها برمتها قد ترامت إلى الجبهة، هن اللواتي بتساندهن مع الأحداث بل مع الكهول بالمثل يزرعن الحقول، وقد ثبت أنه على الرغم من اشتداد وطأة الحرب الطاحنة زاد المحصول هذه السنة خمسين في المائة عن المعتاد من محاصيل هذه الجهة في الأعوام الأخرى.

وكان استقبال التركمانيين للوفد ذا صبغة خاصة، فأقبل أكبر رجال القرية سنًّا، وهو موسيقار هذه الجهة قديمًا، حاملًا طبلة وحوله جمهور من القرويين، بينهم عازف بالمزمار؛ فاستداروا على شكل نصف دائرة أمام الدار التي استقر بها الرئيس، وعلى أثر ذلك أخذ الموسيقار الكهل يوقع على طبله نقرات موزونة، محنيًا قليلًا رأسه المشتعل شيبًا، بينما يجيب المزمار الخلوي، وهو على بعد قليل عنه، وفاقًا لتوقيعه بنغمة حربية، تختلج في نبراتها كل حماسة ذلك العنصر المقاتل. وإذ ذاك بدأ المجتمعون يرقصون على طريقتهم الخاصة بهم.

وإن هذا لمؤثر في النفوس ومحرك للعواطف من قبل هؤلاء الأشخاص البسطاء الذين عز عليهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام تشريف الوفد، فلا يقدموا له ما يدل على إخلاصهم إليه واحترامهم إياه، فعمدوا إلى إظهار حفاوتهم لممثلي الأمة على أية حالة كانت بمنتهى ما في وسعهم من أدلة الترحيب والتبجيل بهذا العمل المعرب عن الاحتفاء الطبعي.

وبعد الرقص المجهد انفض القرويون بأجمعهم، وجاء رب البيت الذي يقطنه بكر سامي بك، وهو رئيس القرية، وجلس إلى جانب ضيفه على أبسط ما يكون في العالم، وأخذ يحادثه في شئون البلاد. وكان ملمًّا بكل المسائل الداخلية، فلذا فقد أخذ يخاطبه جادًّا في القول وبخبرة مدهشة، فوجه إلى الرئيس أسئلة عن سفره إلى أوروبا وعن النتيجة التي تيسر الحصول عليها، بمقدرة لا يمكن تصورها.

وكان الرئيس قد اتخذ له مكانًا في أحد ركني الأريكة، فشرع يجيب هذا الريفي الوطني على أسئلته، ويوضح له المشاكل السياسية التي تعترض تسوية الحالة الحاضرة، وهو ملتزم في محادثته جانب الوداعة التي آثرت بها الديموقراطية الإسلامية وحدها المتبعين سنن النبي بصدق وإخلاص.

وكان رجال الوفد في هذه الأثناء قد استقروا في عدة بيوت، سواء أصابوا قسطًا من الراحة أم لم يصيبوا، إذ لم يكن لهم من هَم سوى الاستكانة في جنح الليل، بل لقد كان نصيب نفر منهم المبيت في العراء تحت سقف القبة الزرقاء!

واضطجع الرئيس على مهاد بسط له فوق الأرض. وهذه حالة المرء في زمن الحرب يظل دائمًا كأنه في ميدان القتال.

وانطلق الركب مبكرًا في الصباح. وكان شيخ القرية هو الشخص الوحيد الذي سار فوق متن جواده محاذيًا مركبة الرئيس بكر سامي بك، مظهرًا في أوضح مظهر ما ينطوي عليه عنصره المجيد من الفتوة والشهامة والوفاء.

وأخذ السير تارة يحاذي قيزل إيرماق، وآونة يتبطن سهلًا عظيمًا مغطى بالمزارع، حتى بلغ الركب ياخشي خان قرب المساء.

وياخشي خان هي أولى محطات السكة الحديد الممتدة إلى أنقرة من هذه الجهة. والمحطة والجسر البديع المصنوع من الحديد الذي يصل ما بين ضفتي النهر هما من عمل ضباط قسم الهندسة العسكري. وقد انتهى مد هذا الخط أثناء نشوب الحرب الأخيرة.

والثكنات هنا كشأنها في جميع البقاع الأناضولية ملأى بالأجناد، ولا يلبث رائيها أن يشعر بمسحة من القوة تتمشى في نفسه ونفحة من الثقة وأمل تنهض حالته الأدبية، ولو كان من أشد الناس ترددًا وإيجاسًا. ويتماوج الجو بخطرات الشجاعة والثبات، حتى ليشعر المرء عند استرواحه هذه الخطرات بمنتهى الثقة ألَّا سبيل إلى التغلب بقوة السلاح على أمة بأسرها موطنة نفسها على مواصلة الكفاح إلى الفناء.

ولا يستطيع الناظر إلى هؤلاء الجنود الغر المعاد نظمهم والدائبين على الكفاح مدة عشر سنوات، أن يتمالك نفسه من الابتسام لدى تلاوته البلاغات الإغريقية التي تصدرها قيادة الجيش الرومي محتذية فيها حذو قيصر، بإعلانها جهارًا «أن العدو المدحور المهزوم مقتفى أثره». ولكن أين؟

إن آسيا الصغرى واسعة النطاق، ولا يزال مجال العمل خلف حدودها فسيحًا جدًّا في بقية القارة الآسيوية التي يتقلب فيها على جمر القلق عالم هائل لا ينتظر سوى إشارة واحدة ليشرع في التماوج والاضطراب …

ولماذا لا تريد أوروبا أن تقتنع بوجود قوة خفية عجيبة أشد مفعولًا من قوتها المادية؟

•••

وصح العزم على مبارحة ياخشي خان في منتصف الساعة الثالثة صباحًا؛ لأن الزعيم الأكبر أنبأ بالتليفون برغبته في جمع نواب المجلس الكبير الوطني والوزراء ليحيوا أعضاء الوفد في محطة أنقرة نفسها، وأن القطار الخاص الصغير الذي سيقل الوفد يجب أن يصل لتحقيق هذا المقصد، في منتصف الساعة العاشرة صباحا تقريبًا.

وانقضت مدة انتظار ساعة الصباح المحددة للرحيل في الكتابة وقراءة الصحف واستماع التفاصيل والشروح التي لم تكن معلومة إلى هذه الآونة عن انتصار أين أونو — إسكي شهر.

فغدًا يستقر النوى في أنقرة المقدسة، ولله الحمد الجزيل.

هوامش

(١) سلسلة جبال عظيمة في أواسط آسيا بها مناجم ذهب وفضة مستغلة من قديم الزمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤