الرسالة الخامسة

 أنقرة في ٢٨ أبريل

لم تحن بعد الساعة التي يمكن فيها إبداء المعلومات الضرورية عن الحرب الناشبة في آسيا الصغرى، فإن سرد هذه المعلومات سيجيء مؤخرًا في الفرصة المناسبة؛ إذ لا يزال القتال جاريًا في مجراه المحزن الفاجع. وهذا هو السبب في استحالة الإفاضة في تاريخ الحركة الوطنية في هذه الآونة.

إن الصراع الناشب بقسوة والممتاز بكثرة ما أريق من الدماء فيه لا يزال ناشبًا بعناد وعزم، وإنه لفريد في بابه.

ولم تعلم أمة في أوروبا تخطت البطولة العظيمة التي امتاز بها هذا العنصر الذي لم يستمد يد المعونة من الخارج، والذي ظل مع ذلك يوالي الكفاح لأجل تمتعه بحق البقاء.

وبسبب حرمانه من كل شيء من جراء الحصر، فقد أصيب بخسائر وضحايا لم يسمع بمثلها في سائر الأعصار، ومع ذلك فهي لم تثبط عزيمته ولم تقعد به عن موالاة الذود عن أرضه المقدسة.

إن صلابة هذا الشعب ذي الأخلاق الوديعة اللطيفة في هذا الموقف العصيب تعتبر من خوارق العادات.

فوا حر قلباه عليك أيها الشرق التعس المتهلل المتلألئ الجذاب السابح في لجة الأحلام، الذي كانت أوروبا المفكرة الرشيدة مولعة بالإعجاب به وإطرائه فيما غبر من الأيام!

سمح الدهر بالأماني ولكن
أين ولت وهل لها من إياب!

أجل إنه ليحق التساؤل عن تلك العهود المنقضية؛ فقد خفتت أصوات أولئك المتغنين بصفات الشرق والهائمين بمحاسنه، وذلك الانعطاف المتناهي — الذي كانت تبدو مظاهره إذ ذاك — تحول إلى فتور وتحطم على صخرة الزمان غير تارك أثرًا من عهد ذلك التعاطف المتبادل.

فهل كانت الصلات سهلة الانفصال إلى هذا الحد؟

أليس من المعلوم أن الهوة تستدعي دائمًا وجود هوة آخرى؟ وأليس هذا التقاطع، وهذا الاستخفاف من شأنهما زيادة الهوة انحدارًا واتساعًا حتى تصبح على توالي الأيام مستحيلة الاجتياز؟

أفلم تصب الإنسانية بما هو فوق الكفاية من الكلوم الدامية أثناء الحرب الكبرى؟

إن ألفاظ العدل، والحق، والسلم ليست في الحقيقة سوى كلمات عميقة الغور عويصة المعنى … ما دام لا يزال يوجد شيء لا مراء في وجوده وهو: حرب الأناضول.

والقوم في أنقرة أكثر تفكيرًا وتأملًا من سواهم في سائر الجهات الأخرى، وهم لا ينفكون ينعمون النظر فيما يقع تحت أبصارهم من المرائي المحسوسة، فإنهم منذ أعوام طوال لم ينفكوا عن رؤية الجنود المتقاطرة من كل فج عميق، ولم يلقوا أسلحتهم من أكفهم ويستكينوا إلى الراحة وهدوء البال …

إن وصف حياة وعمل الرجل الذي طبع بطابع اسمه ذلك المشروع الذي تم إنجازه منذ إبرام الهدنة إلى الآن، والذي ينفث من روحه في هذه البقاع الأناضولية التي أقصته إليها حكومة ذلك الوقت الضعيفة المأفونة، على إثر احتلال الأستانة بقوى الدول المتحالفة، هو بمثابة إلقاء نظرة دقيقة على صورة الدولة العثمانية التي كانت تجود بنفسها الأخيرة في ذلك الوقت المشئوم، ومقارنتها بهذا العهد الذي يتولى الدفاع فيه هذا الرجل العظيم بشهامة وإباء عن هذه الدولة البائسة ليمكنها من الحياة في دعة وسلام.

إن مصطفى كمال باشا المستقر في صميم قلب آسيا الصغرى والمقطوعة صلاته بكل جهة أخرى، والمحفوف بالغموض والإبهام والمصوبة إليه سهام الملامة والنقد من الدول الكبرى، والمتتابعة عليه حملات هذه الدول الغربية، بلا مؤازر يشد عضده ولا ظهير يناصره، لبث يعمل بهمة لا تكل ولا يتغلب عليها السأم لتحقيق خطته العظمى التي ترمي إلى الاستقلال الوطني، فهو كغليوم الصامت يحشد مشروعاته في دائرة عقله، وكل ما يصبو إليه في حياته يمكن حصره في هذه الكلمات الأربع: «المكافحة، والأمل، والإقدام، والحذر».

وهو كأمير الأورانج قلما يفوه بالألفاظ، وإذا ما تكلم كان قوله وجيزًا، ماضيًا كالحسام. وصوته المعتاد على الرئاسة العسكرية فخم جليل. وهو لا يستسلم إلى أحد ما، وما سُمِعَ مرة ما يتبجح بعمل ذي مظهر خلاب.

وانكبابه على العمل لا مثيل له، فهو يدرس بنفسه وبمنتهى الدقة والإحكام كل الأوراق والمستندات التي تعرض عليه لإبداء رأيه فيها.

وبما أنه يهتم بالاطلاع على كل أمر، وهو على علم تام بسائر المسائل الشرقية، وله نظرة إجمالية في مجموع المسائل الغربية، فإنه يدهش أولئك الذين يقتربون منه بصواب آرائه وملاحظاته.

ويتطلع مصطفى كمال باشا بعين مترصدة إلى الإنسانية على الدوام كما يدقق النظر في أفق بلاده الحافل بالغمائم.

فمتى ترتفع الشمس المشرقة بعد احتجابها وتفيض أشعتها الزاهية مرة أخرى على محاسن آسيا الصغرى الجليلة العزيزة علينا جميعًا إلى النهاية القصوى؟!

ويعمل مصطفى كمال باشا وهو متوطن في أنقرة، ليمكن أهالي الأناضول من التمتع — ولو قليلًا — بالأشعة المتلألئة التي قد تنفذ أحيانًا من خلال البهمة الدائمة المستحكمة حلقاتها فوق الأفق.

•••

إن ما تلقاه مصطفى كمال باشا من مبادئ التثقيف والتعليم عسكري بحت، وقد أتم دراسته العليا في المدرسة الحربية بالأستانة. وبما أنه ذو ذكاء متوقد وذهن حاضر فقد استطاع أن يستفيد منذ نضارة صباه دروسًا عملية من تجارب الحياة جعلته يرسم لنفسه مسلكًا خاصًّا ظل منتهجه طول حياته.

ولقد توالت عليه من عوامل الإخفاق والألم والمرارة المتتابعة أحوال شتى تركت لها أثرًا بينًا في حياته، إن لم تكن قد غمرتها برمتها، فقد صارت عاملًا مهمًّا في تكوين خلائقه، فأصبح على إثر ذلك عليمًا بدقائق الطبيعة الإنسانية، وظل يشاهد بغير اهتمام دسائس هذا العصر المحزن التي تجاوزت بغرابتها حدود التصور. وقد أصغى إلى الصيحات المختلجة التي انبعثت من فم الأمة المختنقة من غير أن يدفعه الهلع إلى التعثر والسقوط، كما أنه بصر بما يؤول إليه استبداد الزعيم الذي يتناول بين يديه أزمة السلطة، ولا يريد أن ينقذ أمته من حكم الإرهاق والضغط الذي كان متبعًا في العصور الوسطى.

وبما أن الأمور مرهونة بأوقاتها فقد صار من نصيبه أن يشهد تداعي أركان ذلك الملك الذي لم يكن في عصره من هو أقوى منه عزمًا وأشد بطشًا عبد الحميد خان الذي لم يكن بُدٌّ من سقوطه.

وقد حملته هذه الحادثة المدهشة على أن يفكر بإنعام في مبادئها وخواتمها، فخرج من هذا التأمل بخلاصتين جوهريتين وهما:
  • أولًا: أن كل أمير — ولو كان خليفة جليل القدر ذائع الصيت تنحني أمامه أعظم الهامات خضوعًا ورهبة — لا يمكنه أن يظل طول حياته متغلبًا على النهضة الوطنية التي ترفع شأن بلاده، وأن لا بد له من التهاوي عن دست تحكمه في نهاية الأمر من جراء سوء سمعته وانصراف القلوب عنه.
  • ثانيًا: أن الثورة إذا أحكم نظامها وعولج بمهارة وذكاء تدبيرها؛ فإنها تؤدي إلى الغرض المقصود منها بدون إراقة دماء غزيرة.

وظل الزعيم الأكبر بعد ذلك غارقًا في لجج أفكاره، وإنها لدروس ذات شأن خطير، ولم يكن يولي ثقته إذ ذاك إلا أفرادًا قلائل جدًّا، وأولئك الذين كان يثق بهم من خيرة الأشخاص الذين عرف بواطنهم وخلائقهم حق المعرفة، وداوم على اعتكافه هذا عن الناس وإدمانه على تأمله العميق المديد أكثر مما كان يفعل ذلك من قبل.

وقاتل مصطفى كمال باشا بشجاعة في طرابلس الغرب. وأتاحت له عيشة الصحراء فرصًا موافقة تمكنه من إظهار مقدرته على تحمل حياة التقشف والجلد.

فهنالك عرف كيف يصبر على الشظف والحرمان من أكثر مطالب الحياة المدنية، وتدرب على الانصياع لما تقضي به الشدائد والأزمات، وما تتطلبه مقتضيات الأحوال من سائر أنواع التضحيات.

إلا أنه من جهة أخرى أخذ يتقدم بهوادة في المجال العسكري.

ولقد كان بعض من رفاقه الذين رزقوا من الحظ أعظم مما أصاب هو منه جادهم الدهر بهتان من المجد والفخار وبعد الصيت، فغطوا بسمعتهم على شخص هذا الضابط الشاب الملتزم جانب العزلة والسكون.

وقد وجد أثناء الحرب الكبرى في عدة جهات من مواطن القتال، إلا أنهم لم يجعلوا لاسمه خاصة شأنًا مذكورًا.

وأخيرًا استقدموه إلى الدردنيل، وهنالك تخيره ليمان فون ساندرس من بين عدد عظيم من القواد الآخرين لتلافي الحالة المعروضة لأشد الأخطار.

فكان دفاعه مجيدًا مقرونًا بالبطولة وفوق مجهود البشر، بيد أن الجنود الذين أجهدهم القتال، واشتفت قواهم الأعمال، وقضت على كثير منهم قذائف المدافع المتوالي انطلاقها بغير انقطاع، حتى لتكاد تكون حمم بركان منفجر، قد قاربوا استنفاد قوة مقاومتهم. وتحرجت الحالة برًّا وبحرًا وأقبل الخطر الداهم منذرًا من كل جانب؛ من غير ما توقف ولا تباطؤ، فكاد يذهب بعقول الحماة المجاهدين الأبطال الذين ستخلد ذكراهم العاطرة على توالي الأجيال.

ويقصون في هذا الصدد أن المعركة تكللت بتاج الظفر بطريقة تعتبر من خوارق العادات: فإن مصطفى كمال باشا وقف في وسط أجناده ووابل القذائف ينهل من كل صوب كالغيث المدرار وخاطبهم مستجيشًا ما تبقى من حميتهم بقوله:

أيها الجنود إني أرى العدو يجود بأنفاسه الأخيرة، وقد التوى على نفسه وبدأ ينسحب من الهيجاء، فهلموا بالارتماء عليه قبل تمكنه من الارتداد، واسقطوا عليه سقوط الصواعق الماحقة وانتقموا منه لزملائكم النبلاء الذين تواروا في بطن هذه الأرض المقدسة.

وإذ ذاك اخترط حسامه واندفع مهاجمًا في مقدمة شرذمة من الأبطال المغاوير مرتميًا على العدو بشدة لا يمكن صدها، فدفعت هذه الجرأة المتناهية بقية الجنود إلى التحمس والاقتداء برئيسهم وزملائهم، فكان عملهم هذا هو النتيجة النهائية لهذه المعركة؛ لأنهم بوثوبهم الهائل وعنادهم الذي لا يطاق وقفوا في وجه العدو حائلين دون تقدمه حتى نقلت من المؤخرة إلى المقدمة المدافع الغليظة، وأرسلت شواظها الصاعق على العدو؛ فأعقب ذلك إخلاء شبه جزيرة غاليبولي.

إلا أنه على الرغم من وضوح عمله الباهر، وعلى الرغم من نتيجة المعركة فإن أناسًا آخرين هم الذين جنوا ثمار هذا النصر المبين الخالدة ذكراه إلى الأبد، وأرسل إلى جبهة أخرى يقاتل فيها، فذهب إليها وهي تتعثر في خطاها وتوشك أن تسقط في أيدي عداها، واضطر بحكم مجرى الأمور أن يعتزل ميدان الظهور، وهو منطوٍ على ألم في النفس ومرارة.

على أنه لم يتأخر عن القيام بواجبه واتفق مع رأفت باشا الذي كان إذ ذاك في غزة على أن يطلبا عدة مرار نجدات قوية، إلا أن صوتيهما المتعاليين كانا يذهبان أدراج الرياح. وما ذلك إلا لأن الدولة العثمانية التي اندفعت في حرب مقرونة بسوء الحظ وليس من ورائها مطمع يستفاد، كانت كل قواها تقريبًا متوزعة خارج أراضيها؛ فالعساكر متفرقة إلى أجزاء منفصل بعضها عن بعض في أماكن متعددة؛ فهناك في غاليسيا جانب منهم، وثمت في إيطاليا جانب آخر، وهناك في القوقاز قوى ضاربة في نجودها، فما تخلف من القوى في داخل البلاد لم يكن كافيًا للذود عن حياضها. وتوالت الكوارث المحزنة قاضية على خيرة الأجناد وأشجعهم بانطمارهم تحت طبقات الجليد، غير حاصلين على نجدات تشد أزرهم أو إمداد من المؤن والذخائر يدفعون بها غائلة الجوع وطائلة العدوان.

وستظل صار يكاميش بأهوالها في ذاكرات سائر الرجال كما هي منقوشة بأحرف من نار لا تخبو في ذاكرة أحد أولئك الوطنيين الأتعاس.١

وبهذه الطريقة لم يتيسر جمع القوى اللازمة وحشدها في المواقف الحرجة فأدى هذا الأمر إلى سقوط مصطفى كمال باشا في وهدة اليأس، ولم يكن هذا الزعيم موافقًا على آراء ولاة الأمور لذلك العهد، بل كانت له خطة عمل خاصة به مستقلة في نفسها.

وشاء القدر المحتوم إلا أن يزيد في غصته، فقسم له أن يكون في الأستانة أثناء إبرام الهدنة، فرأى عاصمة الإسلام التي أنقذها دفاعه الباهر المجيد عن الدردنيل أصبحت فريسة لكل الفظائع والأهوال.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي سقط فيها مقر الخلافة تحت نير الاحتلال الأجنبي، فإن القسطنطينية لم ترزح فيما غبر من العهود تحت هذا النير الثقيل، وإزاء هذا الهوان الذي لا يغتفر الموجه ضد الإسلام بأسره أرن واشتد جماحه ولم يعد غضبه يقف عند حد معين.

ولقد ذهب الظن بدون أدنى شك إلى وجوب طعن الدولة العثمانية مباشرة في سويداء قلبها؛ لأن القسطنطينية كانت العاصمة الناطقة بلسان الإسلام والمفوضة من سائر الأقطار الإسلامية، فكان لا بد لضوء الهلال الباهر أن يصاب بالمحاق ما دام صليب برلين الذي أعلن الحرب لم يكن نصيبه سوى تحمل الآلام القليلة والضغط الهين٢
وبما أن مصطفى كمال باشا قائد عظيم، ومدافع بارع عن الدردنيل وقد اشترك في كل المعارك العظيمة التي وقعت أثناء الحرب الكبرى، فقد اعتبر من الأشخاص الذين يجب الحذر منهم واتقاء بأسهم، إلا أن السلطة المتوجسة خيفة منه لم تجرؤ على نفيه٣ ولا على اعتقاله؛ لأنه لم يكن سوى ضابط كبير مخلص لدولته غير مشايع لأي حزب سياسي، وليس له أي غرض يسعى لإدراكه سوى القيام بواجبه.

فاستقر الرأي حينئذ على إرساله إلى آسيا الصغرى بصفته مفتشًا عامًّا للجيش المنتشر في تلك الأصقاع المتنائية. وكان المقصود بهذا الإبعاد اتقاء خطر وجوده في الأستانة.

إلا أنه لم يكن يتمنى ما هو أعظم من ذلك، فقد أزفت ساعة ظهوره في ميدان العمل؛ لأنه إنما يستمد القوة اللازمة لإنقاذ أمته، من نفس آلامه الشديدة التي يعاني غصصها منذ أمد طويل …

إن مهمته عظيمة جدًّا … غير أنه لا بد له من متابعة الجهاد على كل حال.

أما الآن فهو هنالك، جالس في مكتبته ذات المنظر البسيط الموجودة في بيته الصغير.

وترى على جلود الأثاث المزينة به غرف هذا البيت الصغير وقاعاته طابع الصناعة المحلية؛ لأن المائدة والأرائك والكراسي كلها من صناع عمال أنقرة أنفسهم.

وقد تغطت جدر القاعة بتذاكر مصورة قادمة من سائر البقاع الآسيوية: وبأسلحة بديعة مهداة من العناصر الإسلامية، فمن فرود مزينة بأدق النقوش وأبهرها، إلى أسياف مرصعة بأثمن الجواهر وأفخرها، إلى بنادق من ذوات الخرطوش، فمناطق شائق رواؤها، فخناجر عثمانية ذات مقابض نادرة المثال، وكلها هدايا مقدمة من الشراكسة، والأكراد، واللازيين، وغنائم مما جمع من الأسلاب الحربية في الوقائع الظافرة تندمج في جملتها تحف أخرى مضمومة بعضها إلى بعض في أشكال متناسقة. وفوق مكتبه الخاص الكائن في الركن الأيسر معلق سلاحان واضحان للعيان أتم وضوح بتألقهما الفتان فوق الجدار.

وهذان السلاحان هما خنجر أبدعت يد الفن الماهرة في صنعه أيما إبداع، ومسدس٤ مرصع بالعسجد. وقد قدمهما الجيش لرئيسه الأكبر اعترافًا منه بالجميل تلقاء الخدمات الجليلة التي قام بها للوطن المحبوب المفدى بالنفس والنفيس في مسألته المقدسة.
وبعد الانتهاء من إجالة النظر في هذه القاعة الخاصة، التي ترفرف فيها آمال وأحلام ذلك البطل الشاب ومطالبه المشروعة، يعود البصر كرة أخرى إلى التأمل فيه هو بإنعام، وإذ ذاك يخيل إلى الناظر كأنه يراه ناطقًا هذه الألفاظ:

سيرى العالم أجمع ما سنقوم به من عظائم الأمور، وهل الأمة التي خلفتها الأسلحة في أعصب الأوقات تستطيع أن تعدل عن الجد في طلاب حقوقها وتستسلم إلى الفناء بالسلاح الأجنبي؟

ومن المؤكد أن الكلام عن هذا البطل المغوار سيظل متداولًا في الأفواه؛ لأنه بينما تنتشر نشوة الربيع في نسمة الصباح العليلة وتنساب في المكتبة ممزوجة بالأشعة المتألقة، إذا بنظر الزعيم الأكبر يتصوب فجأة وينبعث منه بريق وامض يخترق الجدر ويستطير في الأفق الفسيح كبريق الحسام القاطع.

هوامش

(١) إن السيرة التي سردها رئيس فرقة من جيش القوقاز وهو القائمقام أديب بك، وهي إحدى النوادر الصغيرة من ذلك المنظر الرهيب لخليقة بأن تدون هنا، وهذه السيرة عبارة عن مأساة؛ فقد كان آلاي مارًّا في عودته إلى القرية ليأخذ قسطه من الراحة، وكان البرد والجوع قد نالا من رجال هذا الآلاي منالًا فظيعًا، فأخذوا يتحاملون وهم سائرون على الجليد وألبستهم خلقة وأرجلهم تسوخ في الجليد بغير أحذية. وإنه لمرأى مفزع فتقدم القائمقام إليهم وقال لهم: «نعمتم صباحًا أيها الرفاق.» فأجابوه: «نعمت صباحًا.» قال القائمقام: «خبروني هل ينقصكم شيء من مطالبكم الضرورية، وهل تشتهي نفوسكم شيئًا ما كائنًا ما كان؟» فكان الجواب: «لا شيء، شكرًا لك.» فتمالك القائمقام نفسه وصاح: «ليرافقكم الحظ السعيد وليعنكم الله ويقويكم على القيام بالواجب.» فقابلوني على هذا الدعاء الصادر من أعماق قلبي لهم بهتاف عال رنان ينبعث من تلك الصدور المفعمة بالأشجان: «ليحيَ الوطن.»
فلم يستطع القائمقام أن يتغلب على عواطفه وأطلق ساقيه للريح ليختفي من أمام أبصارهم على عجل كي لا يروه ودموعه تتحدَّر من مآقيه على محاجره. ولقد قال فيما بعد: «لو أنني ساقني الجد العاثر إلى توجيه هذا السؤال إلى آلاي أوروبي لكان الجواب أن يطلق علي أحد الجنود رصاصة تودي بحياتي؛ لأن هؤلاء المساكين في أشد العوز إلى كل شيء وأنا أسائلهم إذا كانوا لا ينقصهم شيء. وإذا كانت نفوسهم لا تشتهي شيئًا؟»
(٢) ليست المسألة المعروضة الآن من مسائل التعصب الديني الذي ليس له أثر من الوجود لدى أشياع النبي ولا في الأصقاع الشرقية الإسلامية، ويمكن تأكيد هذا القول بأدلة عديدة.
فبعد الحرب الصليبية التاسعة التي أعلنت في عام ١٩١٢ حينما نشب القتال في البلقان كان المظنون أن الخلاف الشاجر بين الهلال والصليب قد سوي نهائيًّا. إلا أن الحقيقة كانت على عكس ذلك؛ لأنه أثناء اكتساح فلسطين عاد هذا الأمر إلى الظهور ثانية. والآن يعلن «بطل المدنية الغربية» على الوتيرة التي كان يتبعها ريكاردوس قلب الأسد، بإصداره تصريحًا للعالم أجمع متضمنًا أن الحملة الموجهة إلى آسيا الصغرى يمكن اعتبارها كآخر حرب صليبية، وقد أصدر هذا التصريح من معسكره العام بكورديليو.
أفنحن إذن إزاء حرب صليبية عاشرة؟ لم يكن يدور في الخلد طرق هذا الموضوع لو أن الغرب لم يتعرض لمهاجمة الشرق في بعض صحفه الكبرى. وعلى الأخص في الفيجارو التي ظهر فيها المسيو دنيس كوشان كمبوق لصليبي هذا العصر، متناسيًا بالمرة أن فرنسا إذا كانت محبوبة حقيقة في الشرق فالفضل في ذلك يرجع إلى الدولة العثمانية..
(٣) لقد نفي على أثر إبرام الهدنة إلى ملطة عدة من الوزراء والقواد وأعضاء البرلمان العثماني والشعراء وكبار الكتاب.
(٤) هذا المسدس الذي هو إحدى الأعاجيب المدهشة أهداه الزعيم الأكبر إلى ﻫ. زاده تذكارًا لزيارته أنقرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤