الرسالة الثامنة

 أنقرة في ٧ مايو

لقد تم الاحتفال العظيم المقام للألعاب الرياضة في الساعة الثالثة بعد ظهر الأمس، وكانت قد أرسلت لأجل مشاهدته أوراق الدعوة منذ عدة أيام مضت إلى عدد جم من المدعوِّين.

ولكن أفكان هذا احتفالًا رياضيًّا أم اجتماعيًّا وطنيًّا؟

يلوح أنه جمع بين الأمرين معًا؛ لأن الجمهور أظهر اهتمامه واشتراكه وتحمسه للألعاب وللتمرينات وللملاهي وللأغاني التي تفننت فيها زهرة الشبيبة المجتمعة بأسرها ثمت في ذاك اليوم المشهور.

لقد بدت أنقرة في أبهى حلل الاحتفال، واختفت من وجوه الحاضرين دلائل الهموم والأوصاب المتراكمة كل يوم على سكان هذه المدينة اختفاءً وقتيًّا.

وبدت على الجمهور الذي يسلك الطريق العسكرية المعارضة للطريق المؤدية إلى دار الندوة سِيمَا الفتوة والنشاط.

وأخذت المركبات والفرسان والمشاة تتتابع بعضها إثر بعض بغير انقطاع، وكان من أبهج ما يسر النظر من هذه المرائي الجمة تعدد الثياب المدنية، والملابس الرسمية المختلفة أزياؤها وألوانها زاهية على أجساد الآلاف المحتشدة من سائر العناصر، وقد تمازجت وتألفت منها مجموعة بديعة تتألق تحت أشعة الشمس المتلألئة.

وقبل الوصول إلى الساحة الكبرى المحدقة بمدرسة الزراعة يعبر الذاهب جسرًا، ثم يمر أمام أجمة صغيرة منبسطة على أبدع نسق وممتدة على إحدى ضفتي رافد من فروع سقارية، التي يشرف عليها المعسكر العام للفرقة القائمة بحراسة ضواحي المدينة.

ورئيس هذه الفرقة ضابط نادر المثال في الكفاءة الفنية وسعة العقل، وقد حارب في سائر الجبهات، كان واقفًا أمام معسكره يرى هذه الأفواج المتقاطرة، ويحيي أصدقاءه الذين يمرون أمامه ببسمته الممزوجة بالطيبة الوديعة، وهو رجل مشتهر بالعزم والصرامة، ومع أنه عطوف على جنده إلى الدرجة القصوى، إلا أنه لا يسمح لأي فرد من الجنود الداخلين تحت إمرته أن تبدر منه بادرة من الإهمال، ولأجل هذا فإن معسكره أصبح نموذجًا بين سائر المعسكرات، إذ تسود فيه الطاعة والنظام والنظافة التامة.

وعندما يشرف المرء على معسكره يجد ارتياحًا في رؤيته مضاربه البيضاء الصغيرة منتظمة على نسق هندسي وناهضة باستقامة بديعة.

ولقد يسمع الإنسان من يقول له: لا يدري الطبيب العسكري إذا كان له عمل يؤديه في معسكر القائمقام ك …» لأنه على ما يؤكدون هو الذي يُعْنَى بتمريض جنوده في حالة المرض، وهذه الحالة على ما يظهر نادرة الحدوث بالنظر لتشديده في مراعاة القواعد الصحية التي يفرض على جنوده اتباعها.

وهو لا يغادر معسكره العام طرفة عين، فكأنه ديدبان في مخفره أو ربان في سفينته، وهذا هو السبب في مشاهدته واقفًا أمام معسكره في هذا اليوم السائد فيه روح الابتهاج الوطني، والشمس تلفحه والعرق يتصبب من جبينه على إثر الجهد الذي بذله في عمله الموصول، وحوله ضباط يحتذون مثاله، فهو رمز القيام بالواجب على أتم ما يكون.

وظلت الطريق في امتدادها محفوفة بربوات مكسوة بمضارب بيضاء صغيرة، فالجنود متتابعة في كل مكان كأنها أمواج متلاحقة …

ثم بدت على الجانبين الحقول التي يقوم بالأعمال التمرينية فيها طلبة المدرسة الزراعية، وأخيرًا لاحت الساحة التي تشبه نصف الدائرة، والتي عنيت حكومة أنقرة بتغيير معالمها وترتيب شكلها مستفيدة من موقعها الطبعي المحفوف بالذروات، فجعلتها على شكل مجمع مدرج قد أحكم نظامه جد الإحكام.

وقد وضعت مقاعد خشبية مستطيلة على يمين المكان المودعة فيه أدوات ومخزونات المدرسة، وعلى هذه المقاعد جلست المتفرجات من ذوات المنازل السامية، وأما ذوات المآذر من سائر الطبقات المختلفة وبينهن أمهات الموظفين ونساؤهم وبناتهم، فمنتشرات خلف تلك المقاعد الخشبية في المدرجات الطبيعية المستديرة في سفوح الربوات بشكل بهيج يجعل هذه الساحة أشبه بتياترو من ملاعب الأعصر الخوالي.

وتنهض قبالة المقاعد المخصصة للسيدات الراقيات مدرسة الزراعة على بقاع من الأرض، وهي مشرفة على سائر المتفرجين، وكذلك على المضارب الكبيرة المنصوبة لإيواء المدعووين ولذوي المقامات الرفيعة. ومضرب الحكومة قائم في آخر المضارب وهو مجاور للموسيقى العسكرية.

وما أزفت الساعة الثانية والنصف حتى كانت الأماكن بحذافيرها مشغولة بزمر المتفرجين، والبوليس منتشر في هذا المجال الرحب يحافظ على النظام والسكون التام.

وظل الجميع ينتظرون مجيء الزعيم الأكبر.

ولكن قبل تمام الساعة الثالثة أقبل ضابط من حجابه موفدًا من قبله لإهداء تحياته إلى جميع المشرفين، والاعتذار عن عدم حضوره بما ألَمَّ بصحته من الانحراف القليل الذي حال دون تمتعه بمشاهدة الألعاب والتمرينات المنتظرة.

حينئذ عزفت الموسيقى لحنًا حربيًّا، ثم ابتدأ عرض تلميذات مدارس البنات. وتتابعت مدارسهن من ابتدائية إلى ثانوية فعالية بمراعاة الترتيب، والتلميذات يسرن رباعًا مشية معصومة من الخلل، وصغرياتهن يرتدين ثيابًا بيضاء متشحات بأوشحة حمر، وأما الكبيرات منهن — وهن اللواتي يسترن شعورهن تبعًا للعادة بشفوف بيضاء — فيلبسن أثوابًا ناصعة بالمثل، ثم تجيء طالبات المدارس العالية، وهن اللواتي سيصرن معلمات في المستقبل. ومشيتهن اللدنة الخفيفة. وبهاء الهندام الممتازة به ملابسهن الوطنية ذات اللون الأسود وخمرهن الرقيقة المسدلة على وجوههن الصِّبَاح، المرتسمة عليها ملامح العزم، اجتذبت إليهن أبصار الحاضرين جميعًا، وسرن حتى انتظمن صفوفًا مواجهة إلى الطريق، تحدق بهن تلميذات أخريات والباقيات انشطرن إلى قسمين، فتألف منهن جمعاء، وهن قبالة المتفرجات الجالسات فوق المقاعد الخشبية، الهدف الذي تتجه إليه الأنظار.

ثم مَرَّ تلاميذ مدارس الذكور الابتدائية، وكانوا كذلك مرتدين ملابس بيضاء وحاملين في أكفهم رايات عليها شعار مدرستهم، وأمامهم علم مكتوب عليه اسم المدرسة بأحرف كبار، وعلى أثر هؤلاء أقبل طلبة المدارس الثانوية، فالمدارس العالية، وهم مشتملون بألبسة من الخاكي وقلانس (قلابق) من الخاكي بالمثل.

وبعد هذا الاستعراض مَرَّ طلبة المدرسة الحربية مرتدين الملابس الرياضية، وفي الحال أخذوا يترنمون بنشيد وطني، وهذا معناه: «المجد للوطن المحبوب، ولتحيَ الأمة التي تفتخر بأننا أبناؤها، والتي أقسمت أن تحيا محتفظة بشرفها. وماذا يهمنا من أمر الضحايا والمحن التي تصيبنا نحن الذين ازدرينا بالموت؟ إلى آخره.»

وقد قوبل هذا النشيد بالتصفيق الحاد. واشتد تأثر مندوبي الأفغان وفي مقدمتهم سلطان أحمد خان من سماعه.

وكان هؤلاء المندوبون جلوسًا بجانب ﻫ. زاده في فسطاط الحكومة مكونين المجموعة الوحيدة من وجهاء المدعوين القادمين من مختلف الأمصار الإسلامية. وقد بدت أدلة الارتباط المتين الذي يصل بين قلوبهم وقلوب إخوانهم العثمانيين مرة أخرى من خلال التأثر الذي ظهرت عليهم آثاره في الحال عند سماعهم هؤلاء الحماة الفتيان وهم يترنمون بمجد الوطن وحياة الأمة!

وفي أثناء الاحتفال أقبلت مدام جوليس فخف في الحال وزير الخارجية بكر سامي بك لملاقاتها، وكذلك نهض الوزراء والنواب ومندوبو الأفغان وﻫ. زاده لاستقبال هذه السيدة الجليلة زهرة فرنسا العاطرة، التي وافت من بلادها، والابتسام بين شفتيها والحُنُوُّ يملأ جوانحها، حاملة إلى الأمة العثمانية مسحة من الرجاء ومن التهلل والانتعاش.

وكانت هذه السيدة الأديبة الشهيرة رافلة في حلة بديعة الرواء سوداء اللون، جالبة معها ما لا يمكن التعبير عنه من الرقة والكياسة والشمائل اللطيفة التي تنشر في هذا المكان نفحات باريس نفسها.

وبعد أن تحادثت قليلًا مع سلطان أحمد خان، تعرف بها ﻫ. زاده وأعرب لها عن ابتهاجه برؤيتها في أنقرة.

وكان يحيط بها كل أولئك الذين سحرت ألبابهم بذكائها الباهر وأدبها الغض، وقد ساد الوئام التام على كل أولئك الأشخاص، الذين بما أظهروه من الاحتفاء البالغ بهذه السيدة الفاضلة إنما يريدون أن يُظهِروا وهم في أقصى الأناضول مقدار ارتباطهم بفرنسا وميلهم إليها، بمناجاتهم ممثلتها لديهم بآرائهم وآمالهم في جمل مصقولة من تلك اللغة البديعة المحبوبة لدى الشرقيين حبًّا جمًّا.

وما كان أعظم تحاشيهم الخوض في سوء التفاهم الناجم عن مسألة قليقيا وحملتها المقرونة بالإخفاق والمؤدية إلى نكبة فظيعة! وقد تمثلت لعيني هذه الزائرة الظريفة الحاذقة المقرونة نظراتها بالرفق والعطف في هذا اليوم الممتاز بالاحتفال الوطني الباهر حقيقة الأمة العثمانية في أمجد مظاهرها …

وانتهت حفلة عصر هذا اليوم بتوزيع الجوائز على مستحقيها بمعرفة المحكمين.

وقد عرضت أشغال التلميذات المقدمة من مدارس البنات وكانت مستوجبة للإعجاب بها والثناء على صويحباتها البارعات، وعلى عناية هذه المدارس بالتثقيف والتدريب.

ثم توالت المسابقات في سائر أنواع التمرينات: من حركات عضلية سويدية، إلى ضروب من الوثب، فأجناس من الركض، وهلم جرًّا.

وكان البرنامج طويلًا؛ ولذا ظل الاحتفال إلى منتهى الساعة السادسة. وكان الهتاف عند الانتهاء فوق العادة. وكان الحبور واضحًا على كل وجه، وكل الذين رأوا هذه الشبيبة الناضرة وهي تقوم بهذه الأعمال المدهشة اطمأنت قلوبهم على سلامة الأرض المقدسة بهمم هؤلاء الناشئين البارعين أبطال المستقبل!

وكان الإياب إلى أنقرة شيقًا بديعًا في وسط المركبات والفرسان والمشاة التي لا يحصى عددها … وصح النسيم المروح عن النفوس بزفراته الرطبة الخفيفة، والابتهاج الوقتي السائد على هذا الجمهور الحزين المتدثر بأثواب الحداد ارتسم على الشفاه المفترة في شكل ابتسام لطيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤