الرسالة التاسعة

 أنقرة في ٩ مايو الساعة ٦ مساءً

لقد وافت في مساء الأمس ليلة التقى والعبادة، تلك الليلة المنتظرة بنافد الصبر، فإذا بالمدينة الحربية تحولت إلى حال آخر؛ إذ أمست أنقرة فجأة عاصمة الصمت الشامل.

فالجمهور الذي يسير في الطريق ملتزم جانب السكون ومستغرق في تأملاته العميقة، والأشخاص الواقفون على اسكفات أبوابهم والمطلون من النوافذ المفتحة لا يكادون ينبسون ببنت شفة.

فالهدوء التام شامل سائر أرجاء المدينة، وكل امرئ يشعر في نفسه بأنه مغمور بعاطفة تقوى وورع.

وبينما المدينة وسكانها على هذه الحالة إذا بِدَوِيِّ مدفع يتماوج في الجو صادرًا من الوادي، فأخذ الشعب القلق الذي كان ينتظر هذا الإعلان المؤذن بهلول شهر رمضان يصغي، وهو متأثر بعاطفة الابتهاج، إلى طلقات المدفع حتى اكتملت إحدى وعشرين طلقة قاصفة كالرعد من بعيد.

وعلى إثر ذلك حدث تطور مفاجئ، إذ تعالى من كل الأنحاء تكبير عام، واشتدت حركة الناس في الشوارع ذهابًا وإيابًا مهنئًا بعضهم بعضًا، وانسابوا إلى المخازن والحوانيت التي أعيد فتحها على عجل.

لقد أقبل رمضان! شهر الزهد والصيام وإراحة الجوف والإحسان.

وأخذت المدينة التي اعتادت منذ زمن طويل على الانغماس في بهمة الظلام عند حلول الليل تنقشع عنها غياهب الدجى شيئًا فشيئًا، وتتجمل بالأنوار التي أخذت تتابع في الظهور بالتدريج، إذ بدأ الضوء ينبعث من النوافذ، وكلما ازدادت البيوت تألقًا بالأنوار اشتدت حركة الناس. وأخذ لفظ الجلالة المتردد في كل فم بصوت جهوري يرتفع في فسيح الجو حتى تعالى من أعالي المآذن المشرقة بالأنوار فوق مساجد أنقرة المقدسة.

فالقوم الآن ليسوا في حالة حرب وطراد، بل في حالة ورع وعبادة.

وبعد منتصف الليل أطلق مدفع حسب العادة إيذانًا للناس بالتأهب لأكلة السحر، وعلى إثر دوي المدفع أخذت نقرات الطبول تسمع مدة وجيزة في سائر أحياء المدينة في آن واحد.

فأدى هذا إلى إشراف الناس من نوافذ البيوت الصغيرة المضاءة، والسائرون في الشوارع والأزقة وقفوا بالمثل ليستمعوا، وذلك لأن حملة الطبول أخذوا يوجهون إلى جميع الأهالي ألفاظًا مثيرة للنفوس وداعية إلى التقوى.

وهذا ما كانوا يقولونه:

أيها المسلمون المؤمنون بما جاء به محمد والأمناء على شريعته والذابون عن بيضة الإسلام، تيقظوا فإن غدًا رمضان! وتذكروا أننا لا نزال في حالة جهاد، وهذا هو السبب في أن الطبول تقرع الآن لتدعوكم إلى طعام السحر. ولا تغفلوا عن ذكر الله لكي يتذكركم هو بالمثل في أشد أوقات آلامكم، وتمسكوا بعروة الدين الوثقى؛ لأن مجد الإسلام الباهر متوقف على شدة تمسك المسلمين بتعاليم هذا الدين الحنيف، وأعدوا أنفسكم لصيام الغد، وعندما تستشعرون وطأة الطوى والظمأ تذكروا آباءكم وأولادكم وإخوتكم وبعولتكن، الذين يجاهدون دفاعًا عنكم وإنقاذًا للأرض المقدسة، وهم معرضون أنفسهم لنيران العدو وغير متمتعين بالمأكل والمشرب. إنهم يجاهدون هنالك ليمكنوكم من القيام بفروض العبادة المقدسة، فلتبتهلوا في صلواتكم لحماة الوطن المحفوف بالخطر. ولا يغفل المعافى منكم من الصوم احترام شعور سواه. فليقدر الله النجاة لهذا الوطن المتأصل حبه في أعماق قلوبنا، وليمدد أبطالنا الغزاة بالقوة التي تتيح لهم النصر المبين.

إن الله عظيم قدير فلنثق برحمته العظمى، إنه سيؤيدنا في هذه الأوقات الحرجة التي نجاهد فيها بأنفسنا وأموالنا لأجل سلامة الإسلام.

فطفقت النساء تنتحب، ورفع العابرون في غلس الليل أكفهم إلى قبلة الدعاء يبتهلون إلى الله بصوت جهوري.

•••

ولا بد لمن يريد العلم بحقيقة الشعور المستولي على نفوس الأهالي في آسيا الصغرى أن يرى بعينيه منظر هذا الدعاء الحار الصادر من قرارات النفوس.

وبعد انتهاء الساعة الثانية من الفجر دوَّت طلقة أخرى من المدفع مؤذنة بحلول ساعة الصيام، فأخذ المسحرون يطوفون ثانية بطبولهم قارعيها ومرددين الجملة الآتية: «ناموا أيها المؤمنون الأتقياء وثقوا بالله فإنه يحفظكم من كل مكروه.»

وبعد مضي بضع دقائق أخذت المصابيح تخبو بعضها إثر بعض، واختفت الدوائر المضيئة التي كانت ملتفة حول المآذن، وساد الهدوء كل مكان، فانغمست أنقرة المقدسة في لجة السكون العميق.

•••

وفي الساعة الثانية من بعد ظهر هذا اليوم ذهب ﻫ. زاده إلى دار الندوة قاصدًا أن يهنئ الزعيم الأكبر بشهر الصوم لأنه كان هنالك.

دار ندوة أنقرة … هو المكان الذي استنفد مقدارًا عظيمًا من المداد منذ تأسسه، وما هو إلا عمارة في غاية البساطة، ومع ذلك فلا يلجه المرء إلا وهو مستشعر عاطفة الاحترام والتكريم بقدر ما يتراءى مهيبًا جليلًا إزاء أبصار أولئك الذين يعرفون تاريخ إنشائه المؤلم.

لقد نهضت نفس الأمة الثابتة الجريئة هنالك في ذلك المأوى الوقتي١ الذي تحيط به حديقة وديعة — لا يزال العمل متواليًا في إعدادها — ويشرف على الشارع الكبير وعلى متنزه البلدية.

إن برلمانات سائر الدول الكبرى ذات المظاهر الفخمة لا يمكن مضاهاتها بالتأكيد بهذا المأوى الذي ليس له أدنى رواء، وليس له في الداخل مظهر لائق.

نعم لا يمكن أن تقاس بهذا المكان الصغير الذي لا يكاد يسع أسرة صغيرة إلا بعناء، لأنه مصدر أعظم القرارات والأوامر، ولأن ثلاثمائة مليون مسلم وضعوا آمالهم في حمى هذه العمارة العثمانية البسيطة، وعلى بساطته هذه فإن المرء لا يتمالك نفسه عندما يجتاز أسكفة الرتاج، حيث يلقاه رجال الشرطة فاحصين مستنده الخاص ثم يتمشون به إلى الرواق الوحيد المفضي إلى صفين من الغرف.

والغرفة الأولى من الصف اليسار مخصصة للزعيم الأكبر وأثاثها بسيط لا يتعدى مكتبًا متسعًا حافلًا بالأوراق الرسمية ومقاعد وثيرة وكراسي مكسوة بالجلد الأسود. وأرض الغرفة مغطاة ببساط شرقي. وهذه هي البساطة الإسلامية.

وعندما أعلن قدوم ﻫ. زاده نهض الزعيم الأكبر وهو يتحادث مع الوزراء ورجا منهم على الأثر أن ينتظروا في غرفة أخرى. وببشاشته المعتادة استقبل ﻫ. زاده الذي هنأه بحلول شهر الصيام المبارك. وكانت في يده سبحة من الكهرباء (الكهرمان) ولم تكن بادية على وجهه في هذا اليوم سيما البطولة الحربية، بل تبدو عليه مظاهر الخشوع والعبادة.

وقال: «لنرج من فضل الله أن يجعلنا في مثل هذا اليوم من العام المقبل متمتعين بالحرية والاستقلال، وأن يُنسي العالم الإسلامي أجمع هذه الأوقات العصيبة، وأن يمن عليه بحياة سعيدة في عهد سلام ورفاه.»

ففي هذه الغرفة التي طالما تراكمت فيها الهموم والكروب منذ أن بدأ قلب الأمة يتحرك شرع الآن الزعيم الأكبر يتكلم عن الرجاء متطلعًا إلى المستقبل بعين ذات نظرة جديدة.

وبعد قضاء ساعتين ونصف ساعة في محادثة دائرة على انفراد وبأصوات خافتة نهض ﻫ. زاده محاولًا الاستئذان من الزعيم الأكبر في الأوبة إلى أوروبا؛ لأن مهمته التي جاء لأجلها قد انتهت.

فقال مصطفى كمال باشا:

حسن سأرسل إشارة برقية إلى ممثل حكومتنا في روما لإعلامه بعزمك على الإياب. ولكنك قبل ارتحالك ستجيء إليَّ، وثمت نتكلم معًا بتوسع وحرية تامة بضع ساعات في تلك الدار الخلوية الصغيرة، أما زيارتك إياي هنا فليست سوى مقابلة رسمية. وأما في تشان قايا فستكون زيارتك ودية بحتة. وفي الساعة الحادية عشرة من صباح الغد ستكون سيارتي متأهبة لحملك إلى الباغ.

وأمام مكتبه على يمين الطرقة المستطيلة يوجد كتبة أسرار صغار وصف ضباط مراسلات يتحادثون، وهم في انتظار ما يصدر إليهم من الأوامر في غرفة فتح بجانبها الكاتب الأديب الشاب روشان أشرف بك بابًا مؤديًا إلى بهو. وهو الذي يجتمع فيه النواب أي بالإيجاز دار الندوة، ففي هذا البهو يوجد المنبر الشهير الذي تلقى منه الخطب الحماسية الملتهبة على الأمة، ثم تتراءى حوله خمس مجموعات من المقاعد الخشبية المتدرج بعضها فوق بعض، وفي هذا المكان تلتئم الجلسات، وفيه يتباحث النواب ويتناقشون.

ولقد صار الإصغاء إليهم عدة دقائق بإنعام تام، وكان يوجد بين الحاضرين أناس من كل العناصر وكل المذاهب ومن مختلف الأعمار، والملابس متنوعة الأزياء والألوان، والألبسة الرسمية مراعاة فيها الدقة، وثياب رجال الدين فضفاضة ضافية وعلى رءوسهم عمائمهم الخضراء والبيضاء والقلانس والقولاهات، فهذا الخليط الممتزج يمثل الأمة العثمانية التي تريد الحياة.

وفي هذا المكان يحتشد بالمثل أفراد من جميع طبقات الهيأة الاجتماعية وذوي المهن، فمن كبار الموظفين والوجهاء، إلى ماليين إلى ضباط، إلى مهندسين، فصحفيين، فمؤلفين، وقد ربطت قلوب الجميع رابطة واحدة محكمة.

ومن سوء الحظ أن النهار أوشك أن يولي ولا بد من مغادرة هذا الملاذ الذي يلتف حوله عدد عظيم من العقول الكبيرة.

ويكاد يكون عدد النواب ثلاثمائة وخمسة وثلاثون وهم الذين يؤلفون دار الندوة التي لها حق وضع القوانين وتنفيذها.

وللمجلس الكبير نائبا رئيس ينتخبان بالاقتراع من بين أعضائه، ولا بد لأحدهما من أن يكون حاضرًا في كل جلسة ليرأسها.

وأما ابتداء الحركة الوطنية فقد كان بنشر مصطفى كمال باشا دعوة إلى النواب الباقين في البلاد العثمانية من أعضاء مجلس نواب الأستانة يندبهم بها إلى تولي مهام أعمالهم في أنقرة، وحدد لهم مدة لا تتعدى شهرين معلنهم بأن المتأخرين منهم بعد هذه المدة سيعتبرون مستقيلين.

فكان عدد الذين استطاعوا الحضور قبل انقضاء الأجل المضروب ثلاثين نائبًا اجتمعوا في أنقرة، وعلى إثر اجتماعهم تجددت الانتخابات وتألف المجلس الكبير.

وهذا المجمع الوطني المؤلف من ممثلي البلاد العثمانية بأسرها له الحق التام في قبول أو رفض الأسماء الثلاثة التي يعرضها رئيس المجلس الكبير عند تشكيل أية وزارة، وللوزراء الحق هم بالمثل بعد قبولهم أن ينتخبوا رئيس مجلسهم.

ويرأس مصطفى كمال باشا الجلسات الكبرى.

ومجلس الوزراء هو الذي يعين حكام الجهات وسائر الموظفين ثم يصادق على تعيينهم الزعيم الأكبر.

على أننا لن ننتهي من تفاصيل شئون هذه الحركة الوطنية الهامة لو أننا أردنا شرحها بالتدقيق، فيجب إذن العودة إلى البيت لمقابلة الأصدقاء الآخرين المنتظرين.

وصار الخروج من الممشى المستطيل المعهود الذي ينساب أمام الغرف المخصصة للوزراء وللمداولات وللشئون الأخرى إلى باب صغير مفض إلى الحديقة المؤدية إلى الشارع الكبير.

وكانت المنتديات العامة والمطاعم خالية من الناس في هذه الآونة، وذلك لأن القوم هنا يحترمون رمضان جد الاحترام، فمظاهر هذا الشهر الفضيل تبدو بجلال وعظمة في أنقرة المقدسة، ولقد اختصت هذه المدينة بأن تجودها السماء كل يوم في ساعة محدودة برذاذ لطيف يرطب الجو قليلًا، ويجعل النسيم بليلًا.

وإن القلب الذي يلج البرلمان منقبضًا كئيبًا يغادره وهو منتعش جذلان سابح في تيار الرجاء، وذلك لوجود نفحة قوية هنالك في الداخل تكتسح من القلوب كل عوامل اليأس والاكتئاب وتحل بديلًا منها بواعث الأمل والابتهاج.

هوامش

(١) مأوى وقتي … أجل وقتي لأن مسألة اختيار عاصمة أخرى للسلطنة العثمانية عرضت بعد الحرب. فأية مدينة تصلح لأن تكون عقل هذه الأمة؟ أنقرة؟ أم قيصرية؟ أم سيواس؟ من ذا الذي يعلم ذلك …
وعلى كل حال فإن المدينة التي ترجح كفتها في ميزان الاختيار هي التي ستصير العاصمة، وبالنظر لما يتوفر لتفضيلها من الميزات الفنية العسكرية ستؤثرها الجمعية الوطنية والمجلس الأعلى على سواها.
ومن الواجب أن تكون دوائر الحكومة في اطمئنان وفي مأمن من كل عدوان ومن إغارات المغيرين ومن كل احتلال ومن تسلط مدافع العدو عليها من غير إنذار.
وقد وضع المشرع بالفعل، وهو الآن في معرض البحث والاستقراء، ولا بد لهذه العاصمة الجديدة أن تكون مرضية تمام الإرضاء من الوجهات الاقتصادية والحربية والصناعية وسواها، فالعاصمة الجديدة للدولة العثمانية المفكرة العاملة ستكون مدينة حديثة الطراز، مشيدة على ترتيب محكم جامع موافق للعمل والعلم والرقي بكل ما يشتمل عليه. أما الأستانة فستظل العاصمة الخالدة التي يستضيء بها الإسلام، وستحافظ على ماضيها المجيد مطهرة بالدم وبمدامع المسلمين الذين يكرمونها. إن الأستانة ذات المساجد القيمة، والينابيع العذبة المتصلة بالأنابيب البديعة المدهشة ذات القباب النادر وجود مثلها، والقصور التاريخية والآثار المتخلفة من عصر العظمة التي لا تنسى، والتذكارات الباهرة المنوهة بجلائل أعمال الأبطال ذوي الهمم الشماء، والأضرحة الفخمة وأماكن التصورات والأحلام وصبابات الهيام، وجمال الطبيعة الأبدي، أجل إن الأستانة التي أبدع في وصفها توفيق فكرت لا يمكن أن لا تظل جزءًا غير قابل الانفصال من الدولة العثمانية التي لا تزال تجاهد لتحرير نفسها من كل نير، وذلك لأن هذه العاصمة تخص العالم الإسلامي بأسره وتعتبر شارته، بمقتضى الأحكام الشرعية والأدلة المعقولة الجوهرية.
إلا أن هذه المدينة الخلابة الناهضة بين بحرين، والتي تشبه حجرًا كريمًا في خاتم أثري بديع الصنع كما نعتها الغازي عثمان الأول، لا يمكنها أن تدافع عن الغرض الأسمى للعالم الإسلامي لأنها دائمًا مطمح الأبصار … وألا يكفي حرج مركزها هذا من ألا يظل نواب الأمة تحت طائلة القبض عليهم في أثناء التئام البرلمان، وكذلك لكي لا تصاب البلاد مرة أخرى بالشلل في جميع أعمالها الاقتصادية، أفلا يجب لأجل كل هذه الأسباب اتخاذ الوسائل الواقية من كل مباغتة فاجعة كتلك التي حدثت من قبل؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤