الفصل الثالث

المسرح

نختم حديثنا عن أجهزة الثقافة التي لا تعتمد على القراءة والكتابة بالنظر في الثالث من هذه الأجهزة وهو المسرح، ومدى إمكان استخدامه كأداة للاتصال بالجماهير لتثقيفها وتهذيبها، ولا بدَّ للإلمام بأطراف هذا الموضوع من أن نتحدَّثَ أولًا عن نشأة فن المسرح التاريخيَّة، وتطوُّر ذلك الفن من العصر القديم حتى اليوم، ثم الحديث عن تاريخ معرفة العالم العربي لهذا الفن، وتطوُّر علاقته به ومدى إمكان انتفاعه به.

نشأة المسرح

من المعروف أنَّ المسرح نشأ في خدمة الدين وطقوسه؛ فقد وُلِد عند اليونان القدماء روَّاد هذا الفن في كنف عبادة الإله «ديونيزوس» المسمَّى أيضًا «باكوس» إله الخمر والكرم. وكان يُحكَى في بدئه بعض التطورات في حياة هذا الإله من ذبول وجفاف على نحو ما يذبل الكرم ويجف، ثم نضرة وانبعاث. وكانت هذه المسرحيات البدائية تُمثَّل أولًا بالريف في موسم جني العنب وعصره، ثم انتقل المسرح من الريف إلى الحضَر، حيث تطور وألَّف فيه كبار الشعراء المسرحيات التي كانت تُعقَد لها مسابقات سنوية تدوم ثلاثة أيام، يُخصَّص كلُّ يومٍ منها لشاعر يعرض فيه ما كان يُسمَّى «رباعية» مؤلَّفة من ثلاث مآسٍ؛ أي تراجيديات، ثم مسرحية رابعة هزلية تُسمَّى «ستاير»، ويُستفتَى الشعبُ في هذه المسابقة، ويُمنَح الفائزُ غصنَ الزيتون، ويُنقَش اسمُه على لوحة الخالدين. وكانت كلُّ رباعية تَعرِض أسطورةً كاملة مقسَّمة إلى حلقات، ولم يكن دخول المسرح مجانًا فحسب، بل كانت الدولة تمنح كلَّ مواطنٍ مكافأةً كتعويضٍ جزئي عما يضيع عليه من كسب بسبب انقطاعه عن العمل لمشاهدة المسرح الذي يدوم اليوم كله، ويستمر ثلاثة أيام. وكانت هذه المكافأة تسمى «بدل مسرح».

وشيئًا فشيئًا أخذ المسرح ينفصل عن الدين ليصبح فنًّا مدنيًّا يعالج مشكلات الحياة والمجتمع، وكان هذا التحلُّل من الدين أسرع في فنِّ الكوميديا التي أصبحت نقدًا للحياة والأخلاق وما فيها من عيوب.

•••

وفي مصر القديمة يلوح أيضًا أنَّ فنَّ المسرح قد عُرِف فيها، بل لعله سبق المسرح اليوناني إلى الظهور، ولدينا من النقوش ما يعزِّز هذا الرأي. وكان هذا المسرح في خدمة الدين أيضًا كوسيلة لعرض الأساطير الدينية، مثل أسطورة إيزيس وأوزوريس، ولكنه لم ينشأ في الحقول كما نشأ عند اليونان، بل نشأ داخل المعابد؛ وظل فيما يبدو من أسرار الديانة التي يحتكرها الكهنة؛ ولذلك يظهر أنه لم يخرج من المعابد، ولم يصبح فنًّا مدنيًّا شعبيًّا، وكان هذا سببًا أساسيًّا لانقراضه وعدم تأصُّله في مصر على نحو ما تأصَّل عند اليونان وانتقل منهم إلى الحضارات الأوروبية الأخرى كحضارة الرومان التي ازدهر فيها فن الكوميديا بنوع خاص، وإن لم يُخلِّفوا في تراثهم تراجيديَّات ذات قيمة أدبية وفنية تُذكَر. وظلَّت تراجيديَّات الإغريق التراث الإنساني الوحيد من هذا الفن في العصور القديمة.

وبسقوط روما في القرن السادس الميلادي انتهت الحضارة القديمة، وابتدأت حضارة القرون الوسطى ذات الديانات السماوية، واختفى المسرح الإغريقي والروماني القديمان باختفاء الوثنية. ومع ذلك لم تختفِ فكرة المسرح التي التقطتها المسيحية، فنشأ مسرح ديني وأخلاقي واجتماعي في كنف المسيحية، واتُّخذ من ساحات الكنائس أمكنة لعرض المسرحيات التي تحكي مأساة المسيح وصلبه، وحياة القديسين، وعبر الفضائل، وانتقاد المساوئ الأخلاقية والاجتماعية، وإن لم يصل هذا الفن إلى المستوى الأدبي والفني الذي وصل إليه عند اليونان بخاصة، ثم عند الرومان إلى حدٍّ ما.

•••

وفي القرن السادس عشر ظهرت بعد سقوط القسطنطينية وهجرةِ حَفَظةِ التراث اليوناني الروماني إلى إيطاليا وفرنسا وغيرهما من بلاد أوروبا، تلك الحركة العاتية المعروفة بحركة النهضة الحديثة أو البعث العلمي. فأُعِيد نشر التراث القديم، وتُرجِم إلى اللغات الأوروبية الحديثة بما في ذلك الأدب التمثيلي، وتخلَّت أوروبا عن حضارة القرون الوسطى وفنونها، وعادت تُحاكِي الفنون وتستلهم الثقافات الرومانية واليونانية القديمة بما في ذلك فن المسرح الذي أخذ يستمد موضوعاته وأصوله من التاريخ والأساطير القديمة مع استبدال حقائق النفس البشرية ودوافعها بإرادة الآلهة المتعددة، فكان ذلك الأدب الذي نسميه الآن بالأدب الكلاسيكي المستوحَى من القديم، كما نسميه الأدب الإنساني؛ لأنَّه يعالج مشكلات الإنسان في ذاته ويفسِّر سلوكه بحقائق النفس الإنسانية في ذاتها بما فيها من غرائز ومشاعر وعواطف وانفعالات. وازدهر المسرح في العصر الكلاسيكي الذي بُني على النهضة الحديثة ازدهارًا كبيرًا واطَّرد ازدهاره وتطورت اتجاهاته، وتنوَّعت فنونه وتعددت أهدافه، وإن يكن قد تعرَّض أحيانًا لهجوم عنيف من بعض كبار الفلاسفة والمفكِّرين، مثل: جان جاك روسو البروتستانتي المتزمِّت الذي ثار ثورةً عنيفة عندما علم أن مدينة جنيف التي كان يقيم بها في القرن الثامن عشر قد اعتزمت أن تبني مسرحًا، فوجَّه خطابًا إلى أصحاب هذه الفكرة، هاجم فيه المسرح هجومًا عنيفًا، وأخذ يُسفِّه الرأي القائل بأن المسرح دار ثقافة وتهذيب قائلًا: «إن المتفرِّج لا يذهب إلى المسرح بنيَّة التثقيف والتهذيب، وما دام خاليًا من هذه النية، فلن يستفيد من المسرح ثقافةً ولا تهذيبًا، وهو لا يذهب إليه إلا التماسًا للتسلِّي والترويح الرخيص، وهربًا من التفكير الجدِّي في مشكلات حياته أو حياة مجتمعه.» ثم أخذ يُحلِّل بعض المسرحيات الكبيرة، مثل مسرحية «كارِه البشر» لموليير؛ ليُظهِر كيف أن هذا المؤلِّف العملاق قد أخذ يسخر في هذه المسرحية من تزمُّت بطلها الأخلاقي، فإنَّ «السست» بطل هذه المسرحية رجلٌ متزمِّت ينفر بل يثور من نفاق المجتمع وفساده وكذبه، ومع ذلك يجعل موليير منه سخريةً للمشاهدين الذين يضحكون من تزمُّته. وإذن فالمسرح لا يهذِّب الأخلاق ولا يدعمها، بل يسخر منها ويجعلها أضحوكة للعالمين.

ومع ذلك، وبالرغم من سطوة روسو الفكرية في عصره، فإنه لم يستطع أن يحولَ دون بناء هذا المسرح وبناء غيره في بلاد أوروبا المختلفة، واستمرار هذا الفن بل ازدهاره.

وفي القرن الذي هاجم فيه روسو فنَّ المسرح استطاع أديبٌ معاصرٌ أن يقضَّ مضاجع الملكية والأرستقراطية الظالمة المستبدَّة في فرنسا بمسرحية كتبها هي مسرحية «زواج فيجارو» التي دفعت الملك إلى أن يأمر بإلقاء المؤلِّف في سجن الباستيل. وقد سخر بومرشيه في هذه المسرحية من حقٍّ قديم للنبلاء، وهو الدخول بزوجات أتباعهم، وقضاء ليلة الزفاف معهنَّ، فجعل الخادم فيجارو يتآمر هو وخطيبته الخادمة سوزان وزوجة لكونت الذي يريد أن يدخل بسوزان لكي تتنكَّر زوجة هذا الكونت في ملابس الخادمة، وتذهب إلى لقاء زوجها الذي يأخذ في مغازلتها ويستطيب جمالها ويُفضِّله على جمال زوجته، ثم ينكشف أمرُه ويسخر منه المشاهدون سخريةً لاذعةً، استطاع الخادم فيجارو وخطيبته الخادمة سوزان أن يكوياه بنارها.

وهذا مثل يوضح إلى أي حدٍّ استطاع المسرح أن يُساهِم في تطوير الحياة، بل أن يمهِّد تمهيدًا قويًّا للثورة الفرنسية العاتية، كما ساهم مساهماتٍ مشابهة في فرنسا، ولم تقتصر المساهمات على المجال السياسي، بل امتدَّت إلى مجالات الحياة الأخرى اجتماعيةً كانت أو أخلاقية عن طريق الكشف والنقد والتوجيه.

تطوُّر فنونه

كان الأدب التمثيلي عند اليونان، وفي عصر النهضة الأوروبية ينقسم إلى فنين متميزين، يجوز أن يختلط أحدهما بالآخر ولا ثالث لهما، وهما: فنُّ التراجيديا أي المأساة، وفن الكوميديا أي الملهاة، وكانت التراجيديا تستمد موضوعاتها من أساطير الآلهة وحياة الملوك والأبطال والنبلاء، على حين كانت الكوميديا تستمد موضوعاتها وشخصياتها من حياة عامَّة الشعب وأفراده، وبالرغم من أن النوعين كانا يكتبان شعرًا، فإنَّ لغة التراجيديا كانت تمتاز بنبلها وصفائها، على حين كانت لغة الكوميديا تقترب أحيانًا من اللغة الدارجة، بل من لغة الدَّهْماء، وكان النوعان معًا لا يقتصران على الحوار التمثيلي بل يجمعان إليه فنونًا أخرى، مثل الموسيقى والرقص وأغاني الجوقة وأناشيدها التي كانت تُعتبَر عنصرًا أساسيًّا في المسرحية.

وفي عصر النهضة رأى الأدباء أن يستقلَّ فنُّ التمثيل عن غيره من الفنون كالموسيقى والرقص والغناء، ومن ثم عن الجوقة؛ وهكذا نشأت المسرحية المُكتفِية بذاتها المكوَّنة عند الكلاسيكيين من خمسة فصول؛ أي من أجزاء الحوار القديمة بعد حذف أغاني الجوقة التي كانت تتخلَّل تلك الأجزاء. وفي الوقت نفسه ظهر فنٌّ مسرحيٌّ آخر، ولكنه لا يُعتبَر فنًّا أدبيًّا بل فنًّا موسيقيًّا؛ لأن الموسيقى والغناء هما مقوِّماته الأساسية. وهذا الفنُّ هو فنُّ الأوبرا، ثم فن الأوبريت الذي يجمع بين الحوار التمثيلي والمقطوعات الغنائيَّة الموسيقيَّة. وكان ظهور هذا الفن في فلورنسا في إيطاليا أول الأمر، ومنها انتقل إلى بلاد أوروبا ومدنها كافَّة، وإن يكن الأدب التمثيلي قد ظلَّ في عهد النهضة، وفي المذهب الكلاسيكي يُكتَب كله شعرًا، ولا يجوز أن يُكتب نثرًا.

ولمَّا كان الأدب كغيره من الفنون يُعتبَر مرآةً للحياة، فقد كان من الطبيعي أن يتطوَّر الأدبُ التمثيليُّ مع تطوُّر الحياة عبر القرون؛ ولذلك نرى القرن الثامن عشر، وهو قرن التفكير والنقد الفلسفي للحياة وألوان نشاطها ينتقد الأدب التمثيلي، ويستنكر تقسيمه إلى فنَّين لا ثالث لهما: فن خاص بالنبلاء وهو التراجيديا، وفن خاص بعامة الشعب وهو الكوميديا، ويطالب بخلق نوعٍ جديد من المسرحيات يعرض مشكلات وحياة الطبقة الجديدة الناهضة التي كانت تتحفَّز للثورة، وهي الطبقة الوسطى المعروفة بالبورجوازية؛ أي طبقة سكان المدن التي تكوَّنت بنوع خاص من التجار والصناع والموظفين ورجال الفكر والفن في المدن، بعد أن ظلَّ الريف الواسع ينقسم إلى سادة إقطاعيين هم النبلاء، وعبيد أو أشباه عبيد ملحَقين بالأرض وهم العمَّال الزراعيون، فنادى مفكِّرو هذا القرن وبخاصةٍ الفيلسوف الناقد ديدرو في فرنسا بنوع جديد من المسرحيات سمَّاه «الدراما البرجوازية»، ولم يكتفِ بالمطالبة بأن تستمدَّ هذه الدراما موضوعاتها وشخصياتها من حياة الطبقة الوسطى وأفرادها فحسب، بل طالب أيضًا بأن تعالج هذه المسرحيات المشكلات التي تهمُّ هذه الطبقة بنوع خاص، وهي المشكلات النابعة من الأوضاع الاجتماعية، ومن علاقات الأفراد بعضهم ببعض، ومن مستلزمات المهن المختلفة التي يزاولها كلُّ فرد في المجتمع، وذلك بدل أن يستمرَّ المسرح في معالجة ما تسمِّيه الكلاسيكية بالمشكلات الإنسانية العامة الخالصة، أي المشكلات النابعة من طبيعة الإنسان في ذاته، ولم يكتف ديدرو بهذا النقد وتلك الدعوة، بل ألَّف هو نفسه مسرحية من النوع الذي يدعو إليه، وهي مسرحية «الابن الطبيعي» التي تعالج مشكلةً لا تنبع عن طبيعة بطلها كإنسان، بل عن وضع هذا البطل الاجتماعي، وكونه ابنًا طبيعيًّا أي ابنًا غير شرعي.

ولم يكتفِ نقد هؤلاء الفلاسفة لهذا الأدب التمثيلي بالمطالبة بالدراما البرجوازية، بل اعترض أيضًا على تقسيم فنِّ المسرح إلى مأساة حالكة فاجعة، وملهاة ضاحكة صاخبة، وقال: إنه إذا كان المسرح يُعتبر مرآة أو مجهرًا للحياة، فإنه لا يجوز أن يقتصر على عرض الأمور الشاذَّة في هذه الحياة كالفواجع والمهازل، ومن واجبه أن يُعنَى بالغالب المطَّرد من شئون هذه الحياة، وهذا الغالب المطَّرد ليس الفاجعة ولا المهزلة، فهذه حالات شاذَّة وأحداث عارضة، وأما الحياة في نسيجها العام فهي ليست سوداء محزِنة ولا بيضاء مضحكة، وإنَّما هي شيء بين بين لا إلى هذا ولا إلى ذاك، وإذا أردنا أن يكون المسرحُ محاكاةً صادقة أو مرآة أمينة للحياة، فمن الواجب أن يعرض ذلك اللون الغالب على الحياة، والذي يتكوَّن نسيجها العام منه؛ ولذلك نادَوا بلون جديد من المسرحيات سمَّوه بالدراما الدامعة، وهي مسرحية قد تغْرَوْرِق منها العيون، ولكنَّها لا تنهمر بالدموع، كما أنَّها قد تدعو إلى الابتسام، ولكنها لا تشقُّ الأشداق، وهذا النوع قد يكون سليمًا في أساسه الفلسفي، ولكنه لسوء الحظ لم يستطع النجاح من الناحية الفنية ومن ناحية الجماهير؛ وذلك لأنَّ الناس يلتمسون في المسرح عادةً إمَّا الانفعال القوي وإما الضحك الصُّراح، أمَّا التأثُّر الخفيف أو مجرد التأمُّل والأسى أو الابتسام، فكثيرًا ما يصيبهم بالسَّأَم.

•••

وإذا كانت الكلاسيكية قد حرصت مجاراةً للقدماء على أن تفصِّل بين التراجيديا والكوميديا، وألَّا تجمع في مسرحية واحدة بين مشاهد فاجعة وأخرى ضاحكة، فإنَّ هذا المبدأ لم يلبث أن تعرَّض هو الآخر لهجومٍ عنيف من الرومانسيين الذين استندوا إلى شكسبير؛ لكي يثوروا على هذا المذهب الكلاسيكي، وقالوا إنه ما دامت الحياة كثيرًا ما تجمع في صعيد واحد، وفي وقت واحد بين المآسي والمهازل، فإنه لا معنى لأن يتمسَّكَ الكلاسيكيون بضرورة فصل هذين النوعين من المشاهد على المسرح الذي هو في جوهره محاكاةٌ للحياة، أو مرآة لها، أو على الأقل مجهر يرينا دقائقها مكبَّرة واضحة المعالم.

ولم يقف التطوُّر عند هذا الحد؛ فبعد الثورة الفرنسية التي مكَّنت للطبقة البرجوازية لم تلبث أن ظهرت مع المذاهب الاشتراكية طبقةٌ أخرى أخذت تتكتَّل وتسيطر شيئًا فشيئًا على مصائر الحياة وألوان نشاطها، وتلك هي الطبقة المسمَّاة بالبلوريتاريا؛ أي طبقة العمال التي تمثِّل الشعب. وبتأثير هذه الطبقة ظهر ما يُسمَّى الآن بالدراما الحديثة، وهي مسرحية جدِّيَّة كما كانت التراجيديا القديمة، ولكنها لم تعد تستمد موضوعاتها وشخصياتها من حياة الأمراء والنبلاء وشخصياتهم، بل تستمد موضوعاتها وشخصياتها من حياة عامَّة الشعب وأفراده بعد أن كان هذا الشعبُ لا تُعرَض حياتُه وشخوصه إلَّا في الكوميديا، كما أخذت الدراما الحديثة بالتطور الذي أحدثته الرومانسية، وتأصَّل في الأدب التمثيلي الحديث، وهو جواز الجمع في المسرحية الواحدة بين مشاهد المأساة ومشاهد الملهاة بشرط ألَّا يُخلَّ اجتماعهما ببناء المسرحية، وبوحدة الأثر العام الذي تريد أن تُحدِثَه في المشاهدين.

•••

ولم يقتصر التطوُّر في وسائل التعبير المسرحي على الاستقلال بفنِّ التمثيل عن غيره من الفنون كالموسيقى والرقص والغناء، بل إنَّ في فنِّ التعبير اللفظي نفسه إذا كان قد ظلَّ في العصر الكلاسيكي مقصورًا على الشعر، فإنَّ المذاهب التي تلت الكلاسيكية مثل الرومانسية وغيرها لم تر التقيُّد بهذه الصورة من التعبير، وهي الشعر، وأخذت تكتب المسرحيات نثرًا؛ لأنه أكثر مرونة وطواعية في الحوار، كما أنَّه أكثر طبيعية ومشاكلة للحياة، وشيئًا فشيئًا أخذ النثر يطغى على الشعر في الأدب التمثيلي حتى كاد يستأثر به في عصرنا الحاضر، بل رأينا عددًا من الأدباء في بلاد العالم يجنحون إلى استخدام اللغة الدارجة بدل اللغة الفصحى المنتقاة كأداة حوار في المسرح، بل في بعض أجزاء القصَّة أحيانًا، وإن يكن الأمر عندنا بسبب الجهل والتخلُّف قد تجاوز ازدواج اللغة في فصيحة ودارجة إلى ازدواجها في فصيحة وعاميَّة، بل في عدَّة لهجات عامية في أقطارنا العربية التي انفصمت عُرى وحدَتِها رَدَحًا طويلًا من الزمن، خضعت فيه للاستعمار الأجنبي.

المسرح العربي الحديث

تلك كانت حال المسرح والأدب التمثيلي في العالم الأوروبي في القرن التاسع عشر عندما أخذت علاقتنا بذلك العالم تتوثَّق، وأخذنا ننقل عنه بعض فنونه، وبخاصةٍ فن المسرح الذي يلوح أنَّ أول محاولة لإيجاده في العالم العربي قد ظهرت في بيروت سنة ١٨٤٨م بفضل التاجر الجوَّال مارون نقاش، ثم انتشر في المشرق العربي بمدن لبنان وسورية، إلى أن انتقل إلى مصر حيث تأقَّلم وازدهر بفضل اتساع الإمكانيات وكثرة عدد الجمهور.

هذا وفي اعتقادي أننا — نحن العرب — قد أخذنا فنَّ المسرح عن أوروبا، ولست أرى جدوى في المماحكة التي يقوم بها بعضُ الباحثين عندما يروحون يلتمسون بذورًا لهذا الفن انحدرت إلينا عن العرب القدماء، أو عن الفراعنة في صُوَر أدبية أو شعبية باهتة.

فمن المؤكَّد أن العرب القدماء لم يعرفوا فنَّ المسرح ولا حاولوه، وأن أساطيرهم الوثنية أو غير الوثنية لم تتخذ قطُّ صورة المسرح أو الأدب التمثيلي، كما أنَّهم لم ينقُلوا هذا الفن عن اليونان في عصر الترجمة مثلما نقلوا فلسفتهم مثلًا؛ وذلك لأنَّ المسرح اليوناني كان وثيق الصلة بديانته الوثنية، وكان أبعد ما يكون عن الحياة الروحية للمسلمين، وإذا كان متَّى بن يونس قد نقل عن أرسطو كتاب «الشعر» الذي يتحدث فيه الفيلسوف اليوناني عن فنون الشعر المختلفة بما في ذلك فنَّا التراجيديا والكوميديا، فإنَّ متَّى لم يستطع فهم ما ترجم، ومن ثَمَّ لم يستطع نقله على نحوٍ يمكن فهمُه، ولا أدلَّ على ذلك من أن نراه يُترجِم كلمة تراجيديا بكلمة فن المديح، ويترجم فنَّ الكوميديا بفن الهجاء؛ وذلك نتيجة لتفسير خاطئ وفهم مضلل لتعريف أرسطو فن التراجيديا بأنها فنٌّ جادٌّ يشيد بالبطولة، والكوميديا بأنها فنٌّ ضاحك يسخر من العيوب والمثالب. وفضلًا عن ذلك كلِّه لم يكن لمتَّى بن يونس، ولا لغيره من المترجمين عِلْمٌ بصورة هذين الفنين ولا بنماذج لهما، وقد ضلَّلت هذه الترجمة الخاطئة كبار الفلاسفة العرب أنفسهم على نحو ما نشاهد في تعليقاتهم على كتاب الشعر، وهي التعليقات التي أعاد نشرها الدكتور عبد الرحمن بدوي مع ترجمة متَّى بن يونس وترجمة جديدة للشعر في كتابٍ ظهر في السنوات الأخيرة، وفي تعليقات ابن رشد نرى فيلسوفنا يُجهِد نفسه في البحث في قصائد المديح، وقصائد الهجاء العربي عن أبيات تؤيِّد كلَّ خاصيَّة من الخصائص التي ذكرها أرسطو بفنَّي التراجيديا والكوميديا.

وأما عن مصر الفرعونية وما يمكن أن يكون قد انحدر إلينا عنها من فنِّ التمثيل الذي يبدو أنَّ أجدادنا قد عرفوه، فإنَّ استمرار هذا الفن سرٌّ من أسرار الكهنة، وعدم خروجه من المعابد، وعدم انفصاله عن الدين كما حدث عند اليونان، ثم انقطاع الصلة تقريبًا بين مصر الحديثة التي أصبحت عربية في كلِّ شيء ومصر القديمة، كلُّ هذا كان من شأنه أن يسْتبعِد احتمال وراثة الشعب المصري لهذا الفنِّ عن الفراعنة. وإذا كانت مصر والبلاد العربية الأخرى قد عَرَفت خلال العصور الوسطى، بل في العصر الحديث أيضًا بعض الفنون الشعبية التي تشبه فنَّ المسرح من قريب أو بعيد، مثل: «خيال الظل» و«القراقوز»، فإنه من الشاق أن نحدِّد أصل هذين الفنين، فهناك من الباحثين مَن يظن خيال الظل مثلًا نشأ أصلًا في الصين، والفرنسيون لا يزالون حتى اليوم يسمونه الظل الصيني، على حين يسمِّيه الإنجليز لعبة الظل دون تخصيصه بمصدر معيَّن. كما أنَّ هناك مَن يزعم أن القراقوز فنٌّ تركي، وأنَّ كلمة قراقوز مكوَّنة من اللفظتين التركيتين «قره»؛ أي أسود، و«كوز»؛ أي العين السوداء، بحجة أنَّ مَن يعرضونه كانوا عادةً من الغجر الجوَّالين ذوي العيون السود. وذلك على حين يزعم المستشرِق الألماني المشهور ليتمان أنَّ كلمة قراقوز تحريف تركي للاسم المصري «قراقوش»، وهو اسم لوزير من أيام صلاح الدين زعم المؤرِّخ ابن مماتي أنه كان وزيرًا مستبدًّا، وشاعت عنه تلك الشهرة السيئة بين عامَّة الشعب الذي أخذ يسخر منه ومن ظلمه، ومن حكم قراقوش كله بواسطة لعبة قراقوش التي تحوَّرت بتأثير اللغة التركية إلى قراقوز، واتفق هذا التحريف مع المركَّب المزجي التركي «قره» و«كوز».

وعلى أيَّة حال ففي رأينا أنه من السُّخف الزعم بأن القراقوز قد تطوَّر فأصبح فن المسرح، أو أنَّ خيال الظل تطوَّر فأصبح فن السينما، وإنما المعقول والتفكير السليم هو أن نعترف بأننا أخذنا فن المسرح أخذًا عن الغرب بعد أن أخذنا في الاتصال به وتعرُّف آدابه وفنونه، ولا أدلَّ على ذلك من أن هذا الفن قد ظلَّ زمنًا طويلًا جدًّا يُعتبَر دخيلًا على حياتنا وتقاليدنا وآدابنا، بل نابيًا إن لم يكن محتقَرًا، وربما قد كانت هذه النظرة المريبة من الأمور التي عاقت تأصُّله وازدهاره عندنا بالسرعة والعمق والأصالة الواجبة، في حين نراه يتمتَّع بكلِّ هذه الخصائص عند الغربيين، وفي بيئاته الذي نشأ فيها وتأصَّل، بل اكتسبت نشأته ما يشبه القداسة بحكم ازدهاره في كنف الديانات، واعتباره مظهرًا حضاريًّا وإنسانيًّا بالغ الأهمية في عصور التاريخ الأوروبي المختلفة.

وإذن فقد وفد إلينا فنُّ المسرح من أوروبا، ونظر إليه جمهورنا وبخاصةٍ الطبقات المحافِظة في ريبةٍ وحذر، بل نظرة احتقار لرجاله ونسائه؛ ولذلك ظلَّ جمهورنا ينظر إليه نظرة التسلية الرخيصة إن لم تكن المنبوذة، فلم يكن من السهل أن يُلازِم ظهور المسرح عندنا ظهور أدبٍ تمثيلي رفيع. وبالرغم من تعدُّد الفرق المسرحية ودور المسرح، فإنه لم تُطبَع مسرحيات لتنشر وتصبح جزءًا من تراثنا الأدبي كما هو الحال عند الغربيين بعد مرور ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن إلَّا في عام ١٩٢٧، وهي السنة التي ابتدأ فيها شاعرنا الكبير أحمد شوقي ينشر سلسلة مسرحياته الشعرية المعروفة: «مصرع كليوباترا» و«مجنون ليلى» و«عنترة» و«قمبيز» و«علي بك الكبير» و«أميرة الأندلس» النثرية، ثم الكوميديا «الست هدى» الشعرية، وفي الفترة نفسها أخذ الأديبان الكبيران توفيق الحكيم ومحمود تيمور ينشران مسرحياتهما النثرية الكثيرة، كما استأنف اتجاه شوقي في المسرح الشعري شاعرنا التقليدي المعاصر عزيز أباظة الذي ألَّف في شعرٍ رصينٍ مسرحيات «قيس وليلى» و«العباسة» و«شجرة الدر» و«غروب الأندلس» و«شهريار»، وأخيرًا المسرحية الشعرية العصرية «أوراق الخريف».

هذا ومن الحق أن نقرِّر أن اهتمام شاعرنا الكبير أحمد شوقي بالمسرح لم يبتدئ في سنة ١٩٢٧، بل ابتدأ منذ وجوده في فرنسا موفَدًا من الخديوي في بعثة علميَّة لدراسة القانون والإلمام بالثقافة الفرنسية، حيث نراه يبدأ في عام ١٨٩٣م بتأليف أول مسرحية شعرية متأثِّرًا بما شاهده في فرنسا، وهي الطبعة الأولى من مسرحية «علي بك الكبير» التي أعاد كتابتها بعد ذلك، وصاغها صياغةً شعريةً جديدةً، بعد أن اكتملت له شاعريته، وتملَّك ناصيةَ الفن الشعرية في أخريات حياته، ولكنه فيما يبدو كان متهيِّبًا تلك المحاولة، وفي استطاعتنا أن نُلمِّح هذا التهيُّب في المقدِّمة التي كتبها في الطبعة الأولى لديوانه؛ إذ يحاول تبرير الخروج على تقاليد الشعر العربي الذي لا يعرف غير القصائد، ويصف هذه التقاليد «بالأفعوان الذي لا يؤخذ إلَّا من خلف وبأطراف البنان.» وبالفعل لم تلقَ هذه المسرحية غير قبول فاتر؛ ممَّا فضَّل معه شوقي أن يعود إلى التقاليد وإلى الدروب المطروقة، وأن يحاول قبل كلِّ شيء أن يكون شاعر الأمراء؛ لكي يصبح أمير الشعراء.

وبالرغم من أن شوقي عندما أخذ يكتب للمسرح كان هذا الفن قد تطوَّر، وأصبح النثر غالبًا عليه، كما أنَّ التراجيديا الشعرية المقصورة على حياة وأشخاص الملوك والنبلاء والأبطال ومشاهير الرجال كانت قد اختفت مع الكلاسيكية، وظهرت بفضل هنريك إبسن النرويجي وبرنارد شو الأيرلندي الدراما الحديثة التي تستقي موضوعاتها وشخصياتها من حياة الشعب ومن بين أفراده، وتتجه وجهة اشتراكية، ولو مزجت بين هذه الوجهة والوجهة الرمزية كما فعل إبسن، أو الوجهة الذهنية كما فعل شو؛ نقول بالرغم من كلِّ هذا التطور فإنَّ شوقي الشاعر بطبعه، والذي لم يكن واسع الاطلاع على تطورات الأدب والفكر الغربيَّين، قد عاد في معظم مسرحياته إلى المذهب الكلاسيكي الذي يستمد مسرحياته الجدية من حياة الملوك والأبطال والمشهورين من الرجال، ويصوغها شعرًا، مثل: «كليوباترا» و«قمبيز» و«عنترة» و«علي بك الكبير»، كما خصَّ الشعب بل سكان حي الحنفي بالسيدة زينب بالقاهرة بالكوميديا الوحيدة التي كتبها شعرًا أيضًا وهي كوميديا «الست هدى».

ويطول بنا الحديث لو حاولنا أن نستعرِضَ مسرحيات شوقي لنحكم عليها أو لها، ونتبيَّن فيها فنَّ الدراما والبناء المسرحي أو طغيان النزعة الغنائية عليها، فأعتذِر عن هذا الحديث مُحِيلًا في ذلك إلى سلسلة محاضرات ألقيتُها عن مسرحيات شوقي في معهد الدراسات العربيَّة العالية بالقاهرة، ونشرَها المعهد في كتيِّبٍ خاص. كما أنَّه يؤسفني أنني لا أستطيع أيضًا تفصيل القول في مسرحيات خليفة شوقي الشاعر عزيز أباظة، وهي الأخرى مسرحيات يغلب عليها الطابع الغنائي، وإذا كانت تحرص أحيانًا أكثر من مسرحيات شوقي على البناء المسرحي والحركة الدرامية، فإنها من جهة أخرى لا ترتفع بطاقتها الشعرية وروعتها الغنائية إلى مستوى الشاعر الفذ أحمد شوقي، كما أنَّ في أسلوبها اللغويِّ كثيرًا من العُسْر وتلمُّس الألفاظ الغريبة.

•••

وأما المسرح النثري المعاصر فمن روَّادنا في الأدب التمثيلي الأستاذان توفيق الحكيم ومحمود تيمور، وإنه لممَّا يستحق التسجيل أن نُقرِّر أنَّ فن المسرح في مصر لم ينتهِ إلى خَلْق فنٍّ أدبيٍّ فحسب، بل خَلْق هذا الأدب مستقلًّا عن المسرح، حتى رأينا أديبًا كبيرًا كالأستاذ توفيق الحكيم يزعم أنه لا يكتب مسرحياته لكي تُمثَّل في المسرح، بل يكتب بعضها لكي يُقرَأ كلَوَنٍ من ألوان الأدب. وقد أخذ يؤكِّد هذا الرأي دفاعًا عن الكثير من مسرحياته الذهنية التي تُعالِج مشكلات مجرَّدة في حوار مُمتِع ماهر، وإن كان لا يمكن أن يعبِّر عن الحركة المسرحية الدرامية وعن الواقعية النابضة بالحياة التي أخذ الجمهور المصري والعربي يتطلَّبها في فنونها كافَّة، على أثر الانتفاضة الاجتماعية الكبيرة، والوعي السياسي الشامل الذي أخذ يتغلغل في أعماق الشعب وطبقاته المختلفة الثائرة نحو التقارُب والتجانُس الاجتماعي والثقافي.

هذا وقد أثرى الأستاذ الحكيم تراثنا الأدبي المعاصر بألوان مختلفة وعدد كبير من المسرحيات الجدية والهزلية والذهنية والاجتماعية والرمزية والواقعية، ويُعتبَر بعضها من روائع هذا الفن، مثل: مسرحية «أهل الكهف» ومسرحية «رصاصة في القلب» و«نهر الجنون»، ثم مسرحية «إيزيس» التي أثارت جدلًا ومناقشاتٍ طويلة حول حقِّ الأديب في التصرُّف في وقائع الأساطير القديمة الجوهرية ومضمونها الحيوي، وحقِّه في تفسير رموزها تفسيرًا جديدًا؛ وذلك لأنَّ توفيق الحكيم قد حاول أن يجرِّد هذه الأسطورة الفرعونية القديمة من بعض وقائعها الأسطورية الخارقة؛ لكي يجلو بمضمونها كلِّه من واقع الحياة التي يظن أنها لا تزال مستمرة من مصر القديمة إلى مصر الجديدة على نحو ما أوضح على لسان باشمهندس الري في قصته المشهورة «عودة الروح»، حيث نرى هذا الباشمهندس يقرِّر أنَّ الفلاح المصري لا يزال يحيا ويزرع ويروي الأرض، ويحصد القمح بالوسائل الفرعونية القديمة، وعلى النحو الذي كان يجري عليه جدُّه الفلاح أيَّام الفراعنة.

وأما الأستاذ محمود تيمور فربما كان أكثر أدبائنا المعاصرين معرفةً ودراسةً لأصول مهنته كأديب؛ فهو يتقن فنَّ القصة والأقصوصة والمسرحية إتقانًا واعيًا مستنيرًا، ويعرف كيف يبني عمله الأدبي، ولكن هذه الصنعة المُتقَنة وطبيعة تيمور كرجل حذِر متحفِّظ هادئ الطبع تُصِيب أعمالَه الأدبية أحيانًا بشيء من الفتور على نحو ما تصيب «تعادلية» توفيق الحكيم طبيعته وخوفه الفطري من الجرأة، بله التطرف، بالفتور نفسه، وبخاصةٍ في مسرحياته الذهنية التي لا يمكن أن تنجح أو تستثير الناس إلَّا إذا خرجت عن الدروب المطروقة والأفكار السائدة القريبة المنال؛ لتُجابِه الناس بجرأة الفكرة الخارجة عن المألوف أو المعارضة له معارضة تنقدح منها شرارة الدراما.

على أنه إذا كان أدباؤنا المخضرَمون الذين دعوا إلى التجديد في فنون الأدب العربي التقليدية، فخلقوا الأقصوصة والقصة والمسرحية دون أن يتجمَّعوا حول مذاهب محدودة للفكرة والأدب بوسائل وأهداف واضحة متميزة؛ وذلك لطغيان الفردية في النصف الأول من هذا القرن والتمسُّك بالحرية للوطن وللفرد تمسُّكًا شديدًا كردِّ فعلٍ للتاريخ الطويل المرير الذي مرَّت به البلاد في جهادها للتحرُّر من السيطرة الأجنبية، فإنه من الملاحظ أنه منذ خلَّصتنا الثورة تخليصًا كاملًا نهائيًّا من الضغوط المختلفة الخارجية والداخلية أخذت روح الفردية المتطرِّفة تُكبَح جماحها، وأخذت بيئتنا الثقافية والروحية تُهيَّأ لظهور مذاهب فكرية أدبية يَقبَل الأدباء والمفكرون النزول عن جزء من حرِّيتهم وفرديتهم ليلتفُّوا حولها ولينهضوا بعمل جماعي، ويحقِّقوا هدفًا مشتركًا لا بدَّ أن تجتمع عليه الأفكار والقلوب والسواعد، ولعلَّ أول ظاهرة لهذه الروح الجماعية هي تلك الدعوة التي يستميت في سبيلها الآن جيلُنا الأدبي الناهض من الشبَّان الذين يتسع اليوم مجالُ نشاطهم الأدبي والفني شيئًا فشيئًا، ويسعون جاهدين ليحقِّقوا فكرة الأدب في سبيل الحياة، والأدب في خدمة الشعب والمجتمع، ويستعيروا لهذا الاتجاه الاصطلاح المعروف باسم «الواقعية الاشتراكية». وقد أخذت هذه الواقعية الاشتراكية تؤتي بواكير ثِمارها، وبخاصةٍ بعد نجاح ثورتنا حيث نرى الآن الدواوين ومجموعات الأقاصيص والقصص والمسرحيات يتوالى خروجها من المطابع، وكلُّها تعالج مشكلات المجتمع ومواضع آلام الشعب وآماله وأشواق روحه بأسلوبٍ واقعيٍّ جاد. وما من شك في أنَّ هذا الاتجاه الجديد قد كان ذا أثرٍ فعَّال جدًّا في تلك التعبئة الروحيَّة الواسعة العميقة التي استطعنا بفضلها أن نُجنِّد الشعب كلَّه لمقاومة العدوان الثلاثي على مصر أواخر عام ١٩٥٦.

وكم كان شائعًا أن يرى جمهور القاهرة في أثناء هذا العدوان دُور المسارح مفتوحة على مِصراعيها بالمجَّان؛ ليشهد المواطنون بعض مسرحيات الكفاح الشعبي التي كتبها عددٌ من أدبائنا الشبَّان، ونالت نجاحًا شعبيًّا منقطع النظير، مثل مسرحية «كفاح الشعب» للأستاذ أنور فتح الله وزميل له، وهي تحكي مرحلة من مراحل كفاح سكان القاهرة الأبطال ضد الغزو الفرنسي في أوائل القرن التاسع عشر، أو مسرحية «دنشواي الحمراء» للأستاذ الرحيمي التي تعرِض مأساة قرية دنشواي الشهيرة في مديرية المنوفية.

•••

هذه أمثلة توضِّح إلى حدٍّ كبير كيف أنَّ مجتمعنا الشرقي لم يغيِّر من نظرته المُرِيبة إلى المسرح والمشتغلين به فحسب، بل أصبح ينظر إلى دور المسرح كمعاهدَ لا للثقافة والفهم والتوجيه وحدها، بل للتعبئة الروحية أيضًا في أخطر مراحل تاريخنا وكفاحنا المقدس من أجل الحرية والاستقلال والكرامة.

وقد انبنى على هذا التغيُّر الواسع في نظرة جمهورنا إلى المسرح وغيره من ألوان الأدب والفن أن اهتمت ثورتُنا الناهضة بهذا اللون من النشاط الحيوي، فأنشأت المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بلِجانه المختلفة التي تدرس كلُّ لجنة منها فنًّا من الفنون؛ لتتبيَّن مصادره واتجاهاته وغاياته، وتعمل على تشجيعه بجميع السبل، ومن بين هذه اللجان لجنة للمسرح أتشرف بعضويتها، وهي توالي اجتماعاتها كلَّ أسبوع؛ لترسم الخطط وتدرس الوسائل المُفضِية إلى نجاح هذا الفن وانتشاره ووصوله مع المسرح الشعبي إلى مدن الريف وقراه، حتى يقوم المسرح إلى جوار المدارس والمعاهد في تثقيف الشعب وتهذيب طبائعه، ورفع مستواه الخلقي والاجتماعي فضلًا عن تطهير نفوسه من بعض آفاتها عن طريق الوعي واللاوعي معًا، ثم تحبيب الحياة والعمل والنشاط إلى جميع المواطنين وغرس الثقة بالنفس وبالغير في نفوس المواطنين.

المسرح الشعبي

ويتجه التفكير الآن على نحوٍ جادٍّ للعمل على تعميم المسرح الشعبي ونشره في مدن الأقاليم وفي قرى الريف، وإن تكن سياسة هذا المسرح الشعبي لم تتقرَّر بعدُ نهائيًّا؛ فهناك من يتصوَّرون المسرح الشعبي كمسرحٍ مُتنقِّل ينطلق من العاصمة ليَحمِل إلى الريف ومدن الأقاليم روائعَ الفن المسرحي، حتى يتذوَّق الشعبُ هذا الفن، ويستفيد منه في تثقيفه وتهذيبه وتبصيره بحقائق النفس البشرية وحقائق الحياة الفردية والاجتماعية. ومنهم من يرى اكتفاء الدولة بمدِّ يدِ العون للفرق الإقليمية التي يمكن أن تُنشَأ في مدن البلاد وقراها، على أن ينبعَ التأليف المسرحي نفسه من وسط الشعب كما ينبع الممثِّلون أيضًا، وتكتفي الدولة بإرسال مدرِّبين أو مشرفين، وتقديم بعض المساعدات الماديَّة، والمساهمة مع المجالس البلديَّة والقرويَّة في بناء دورٍ للمسرح، وتزويدها بما تحتاجه من معدَّات.

وهناك صعوبة لا تزال قائمة في مشكلة اللغة التي يمكن أن تؤلَّف بها المسرحيات التي ستُعرَض على جمهورٍ أغلبه من الأمِّيين، وهل تكون هذه اللغة هي الفصحى أم العامية أم تتنوع اللغة تبعًا لفنون المسرح المختلفة، فتُفَضَّل العامية مثلًا في المسرحيات الهزلية؟ وأخيرًا تأتي مشكلة اللهجة التي يمكن أن تعمَّ وتنتشر من بين اللهجات العامية المختلفة، وهذه اللهجة يُرجَّح أن تكون لهجة القاهرة لحُسْن جَرْسها وتقبُّل سكان الأرياف لها في مصر، ومعظم إخواننا العرب في الأقطار الأخرى. وإذا كانت القاهرة هي مركز الثقل في العالم العربي، ولها قوة جاذبية متفوِّقة، فإنَّنا نتوقَّع أن يتمَّ ما رجَّحناه من استخدام الجميع لهذه اللهجة في فنون المسرح التي تواتيها العامية أكثر من الفصحى.

وأخيرًا إذا كانت المسرحيات الغنائية والهزلية هي التي أصابت — ولا تزال تصيب — أكبر إقبال من جمهورنا العربي، فإننا نعتقد أنه بمجرد أن تتمَّ نقاهة الشعب العربي من المزاج الحزين الذي سيطر عليه نتيجة للظروف السياسية والاجتماعية القاسية التي مرَّ بها، فإنَّ هذا الشعب لن يلبث أن يستسيغ فنَّ الدراما بمجرد أن تنتعش روحُه، وتقوى معنويته على نحو ما ازدهر فن التراجيديا خلال التاريخ في عصور المجد القومي، مثل عصر بركليس في أثينا القديمة، وأليصابات في إنجلترا، ولويس الرابع عشر في فرنسا، ثم عصر الثورة العربيَّة في النصف الثاني من القرن العشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤