شهرزاد

قصة تمثيلية للأستاذ توفيق الحكيم

ليَقُلْ خصوم الأستاذ توفيق الحكيم ما يريدون، وما يستطيعون أن يقولوا، فلن يبلغوا في يوم من الأيام أن يُثبتوا أن هذا الكاتب لم يُحْدِث في الأدب العربي العصري حدثًا جديدًا، بل أنا لا أستطيع أن أصدق أن لهذا الكاتب خصومًا بالمعنى الذي يُفهَم من هذه الكلمة؛ فإن الخصوم هم الذين يخالفون الكاتب في رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب، أو فن من فنون القول والتصوير، يخالفونه، ثم يجادلونه، ثم يثبتون له فيما يكون من خلاف أو جدال، وما أعلم إلى الآن أن أحدًا خالف هذا الكاتب في شيء من هذه الأشياء أو جادله فيها قليلًا أو كثيرًا، إلا أن يكون هذا النقد الذي وُجِّه إليه حين اصطنع اللغة العامية في قصته «عودة الروح» فأسرف في اصطناعها، ولكنه هو لم يذهب مذهب إيثار اللغة العامية والتهالك عليها والافتتان بها.

وأكبر الظن أنه قد انتفع بما وُجِّه إليه من نقدٍ على ما كان في هذا النقد من إسراف، فأما غير ذلك فلا أعرف أن أحدًا خاصم الكاتب خصامًا يستحق هذا الاسم، إنما هي ملاحظات تساق إلى الكاتب من فريقين مختلفين أشد الاختلاف: أحدهما يحب الكاتب ويكبره، ويريد له الخير ويتمنى له الكمال، فهو ينقده رفيقًا به، مشجعًا له، حتى حين يقسو عليه. والآخَر يحسد الكاتب، ويضيق به، ويَنْفس عليه أنه أتى بما لم يأتِ به غيره من نظرائه وأقرانه، وأنه ظفر بما لم يظفر به النظراء ولا الأقران من حب النقاد، وإعجاب المثقفين، وإكبار المستنيرين، وهؤلاء لا ينبغي أن يحفل بهم ناقد أو يقف عندهم كاتب، وإنما ينبغي أن نُشفِق عليهم، ونتمنى لهم أن يُوفَّقوا لمثل ما وُفِّق له توفيق، أو لخير ممَّا وُفِّق له، ليظفروا بمثل ما ظفر به، أو بأكثر مما ظفر به من الإعجاب والتشجيع والثناء.

وأؤكد لهؤلاء أني لن أتردد يومئذٍ في أنْ أكون أسرع الناس إلى إعلان شكري لهم وثنائي عليهم وإعجابي بهم؛ فقد شهد الله ما آثرت صاحب أهل الكهف بحمد، ولا اختصصته بثناء، ولا رأيته ولا تحدثت إليه، ولا سمعت منه قبل أن أقدِّم قصته أهل الكهف إلى القراء، وإنما قرأته، فأحببته، وأعجبت به، ورأيت أن الحق يجب أن يُعلَن، وأن الكتَّاب المجيدين يجب أن يُعرَف لهم حظهم من الإجادة؛ ليزدادوا رغبةً فيها، وإقبالًا على طلبها، وجدًّا في السعي إليها. ولست أتمنى شيئًا كما أتمنى أن أرى في مصر كثيرين يشبهون هذا الكاتب ويفوقونه؛ فَلْيجتهد الكتَّاب، وَلْيستبقوا إلى الإجادة والإتقان، فذلك خير من هذا السخط الذي يفسد القلوب، ويضني العقول، ومن هذا الحسد الذي يهلك النفوس، ويدنس الأخلاق.

ولأَعُدْ إلى توفيق وإلى قصته هذه شهرزاد، التي أذاعها في الناس منذ أشهر، والتي أظهرني عليها مع جماعة من الأصدقاء قبل أن يذيعها في الناس. لأَعُدْ إلى هذه القصة، فأعترف بأنها كقصة أهل الكهف؛ فن جديد من الإنتاج في أدبنا الحديث لم يُسبَق توفيق إلى مثله، ولا إلى قريب منه. ولست أزعم أنها المثل الأعلى في القصص التمثيلي، بل لست أزعم أنها شيء يقرب من المثل الأعلى، ولكني أزعم أنها أثر فني متقن، ممتع، دقيق الصنع، بارع الصورة، خليق بالبقاء، وبالبقاء الطويل. لا أنكر على توفيق في هذه القصة ما أنكرته على الطبعة الأولى لأهل الكهف من الخطأ اللغوي المنكر، ولا من الإطالة والإسراف في بعض المواضع؛ فأكبر الظن أنه راجع قصته هذه قبل نشرها، فرَدَّها إلى صواب اللغة والنحو ردًّا حسنًا، وأعاد فيها النظر فحذف منها وأضاف إليها، وسوَّاها تسويةً صالحةً معجبةً، ولا أكاد أنكر على هذه القصة شيئًا من الخطأ بالقياس إلى أصول التمثيل وحاجة الملعب؛ فصناعة القصة دقيقة، والملاءمة فيها بين الفن الأدبي وحاجة الملعب واضحة موفقة، وإن كان تمثيل القصة مع ذلك في مصر شيئًا لا سبيل إليه الآن، لأمرين واضحين أشد الوضوح، فأما أولهما: فهو أن القصة ترتفع عن كثرة النظَّارة الذين يختلفون إلى ملاعب التمثيل، ويكاد الاستمتاع بها يكون مقصورًا على أصحاب الثقافة الممتازة، فهي من هذه الناحية مُخْفِقة إنْ عُرِضت على النظَّارة في يوم من الأيام، سيسمع الناس كلامًا حسنًا يفهمون بعضه، ويلتوي عليهم أكثره فيضيقون به ولمَّا يشهدوا من القصة منظرًا أو منظرين.

الثاني: أن الممثلين الذين يستطيعون أن يلعبوا هذه القصة كما ينبغي، وأن يعرضوها على النظَّارة عرضًا صادقًا يلائم جمالها وإتقانها لم يُوجَدوا بعدُ؛ لأن الممثلين المثقفين تثقيفًا صحيحًا، لا يزالون قلة ضئيلةً جدًّا في هذا البلد. فقصة توفيق إذًا ستُقرَأ ليس غير، ولعلها تستفيد من هذا، ولا تخسر شيئًا؛ فلست أعرف في أدبنا الحديث قصةً يتجه بها صاحبها إلى العقل والشعور معًا كهذه القصة، واتجاهه بها إلى العقل أكثر من اتجاهه إلى الشعور؛ فالقصة لا تعالج شيئًا أقل ولا أدنى من هذه المسألة اليسيرة التي عجزت الفلسفة الإنسانية عن حلها إلى الآن، وهي مسألة الحقيقة ما هي؟ أو ماذا يمكن أن تكون؟ وأظنك توافقني على أن مثل هذا الحوار الأفلاطوني لم يُخلَق للملعب، وللملعب المصري بنوع خاص.

ومع ذلك فالقصة في ظاهرها يسيرة جدًّا؛ فقد اشتد إعجاب الملك شهريار بصاحبته شهرزاد حتى أراد أن يتبين حقيقتها، ويعرف الجَليَّ من أمرها، فأخذ يبحث ويجدُّ في البحث ولكن لم يظفر بشيء، وأخذ يسأل ويجدُّ في السؤال، ولكنه لا ينتهي إلى شيء، وهو يسأل الناس، ويسأل الأشياء، ويسأل الأحياء في الأرض، والنجوم في السماء، بعد أن سأل شهرزاد نفسها عن نفسها، فلم تُجِبْه لأنها لا تريد، أو قُلْ لأنها لا تدري كيف تجيبه، أو قُلْ لأن الكاتب نفسه لا يدري كيف يكون الجواب، وهو على ذلك ضيِّق بنفسه هائم بما لا سبيل إلى الوصول إليه، كان سعيدًا فأصبح شقيًّا، وكان هادئًا فدُفِع إلى القلق الذي لا آخِر له. ووزيره قمر مفتون بشهرزاد، ولكن كما يُفتن الرجل المتحضر بالمرأة المتحضرة، يحبها حبًّا فيه الشهوة، وفيه السمو إلى المثل الأعلى، ولكنه حب الناس على كل حال، والوزير معذَّب بهذا الحب وبالوفاء الذي يحفظه لملكه وصديقه شهريار، والملك يعلم منه هذا ويغضي عنه أول الأمر، ثم يدفعه إليه ويحثه عليه بعد ذلك. والعبد الأسود يحب شهرزاد أيضًا، ولكنه يحبها حب الحيوان، لا يخلط حبه بحضارة ولا ثقافة، ولا يسلط عليه شعاعًا من فلسفة أو أدب أو فن، وإنما هي الغريزة، والغريزة وحدها، وشهرزاد تحب هؤلاء الأشخاص جميعًا، ولِمَ لا؟ فشهرزاد هي الطبيعة، هي الحقيقة التي تحب طلَّابها وعشَّاقها على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وتمنح هؤلاء الطلاب والعشَّاق ما تستطيع أن تمنحهم من الرضا، فأما الذين يقنعون منها بالقليل، أو الذين يطلبون إليها الكثير الممكن، فما أقدرها على إرضائهم! وأما الذين يطلبون جوهرها وخلاصتها، ويريدون أن يمتزجوا بها، ويفنوا فيها؛ فهي عاجزة عن أن تبلغهم ما يريدون، وهي مع ذلك ترحمهم؛ لأنهم يشقون في طلب المثل الأعلى، وتسخر منهم؛ لأنهم يطمعون في الوصول إليه، ثم هي بعد ذلك توئسهم يأسًا يهلك بعضهم ويريح بعضهم الآخَر. فالملك شهريار هو هذا الإنسان الذي هام بالمثل الأعلى ولم يظفر به، والوزير هو هذا الإنسان المتحضر المثقَّف الذي يحب، ولكن في حضارة ورقي وارتفاع عن الغريزة، والعبد هو هذا الإنسان العادي الذي لم يبلغ بعدُ أن يتسلَّط عقله وعواطفه الحضرية على غرائزه الأولى، وشهرزاد هي الطبيعة التي تسمع لهؤلاء جميعًا، وتثيبهم بما تستطيع أن تثيبهم به منحًا ومنعًا.

فنحن إذًا أمام محاورة فلسفية من محاورات أفلاطون، لولا أن الكاتب الذي فُطِر على حب الحوار قد صاغ لنا محاورته هذه صيغةً أدبيةً تمثيليةً تمكِّننا من أن نسيغها، ونطرب لها، ونجد فيها لذة العقل، ولذة الشعور، ولذة الحس أيضًا. ففي القصة مناظر حِسَان، وفيها موسيقى رقيقة خفيفة جميلة النغم، وفي القصة أيضًا ما يُضحِك، بل ما يدفع إلى الإغراق في الضحك، وفيها ما يحزن، بل ما يدفع إلى الحزن العميق، وحسبك بحانة «ميسور» التي ما أظن إلا أن الكاتب قد صوَّر بها دارًا من دور الأفيون في باريس. وحسبك أنك تشهد في أول القصة مصرع هذه الفتاة التي يقتلها الساحر التماسًا لشفاء الملك، وتشهد في آخِر القصة مصرع هذا الوزير الذي يقتل نفسه غَيْرَةً من العبد الذي استأثر بجسم شهرزاد، ثم تشهد بين هذا وذلك حيرة الملك واضطرابه، وتشهد آخِر الأمر استقرار الملك إلى هذه الحيرة والاضطراب إن أمكن أن يستقر الناس إلى الحيرة والاضطراب.

ليَقُلِ الغاضبون على توفيق الحكيم والحاسدون له ما يقولون؛ فالأدب العربي الحديث لم يعرف مثل هذا الفن من الإنشاء، بل ما لي أقتصد! فالأدب العربي كله لم يعرف مثل هذا الفن، وأنا أرجو ألَّا يَغترَّ توفيق بهذا الثناء الذي أهديه إليه صادقًا مخلصًا، وأود لو دفعه هذا الثناء إلى العناية بفنه، والتكميل لما ينقصه من الأدوات؛ فهو في حاجة إلى كثير من الجد والعناء، ومن الدرس والتحصيل؛ ليبلغ أشده في فنه هذا الجديد. هو في حاجة إلى أن يُكثِر من قراءة الفلسفة؛ ليقول عن علم ويفكِّر على هدى، وهو في حاجةٍ إلى أن يعنى باللغة ويتقنها؛ ليستقيم له التعبير عمَّا يعرض له من الخواطر والآراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤