قصة المجمع اللغوي

لا أريد مجمعنا اللغوي المصري، وإنما أريد المجمع اللغوي الذي إذا أُطلق عليه هذا اللفظ، فهم منه فهمًا يسيرًا في غير حاجة إلى تفسير ولا إيضاح، وهو هذا الذي أنشئ في باريس منذ ثلاثة قرون، والذي سيحتفل العالم ببلوغه هذه السن بعد أن يظهر هذا الفصل بيومين اثنين.

فقد جد الكردينال ريشوليو وزير فرنسا العظيم في إنشاء المجمع اللغوي الفرنسي في مثل هذا العام (١٩٣٥) من القرن السابع عشر، ولم يكن إنشاؤه هينًا ولا سهلًا مع ما كان لمنشئه العظيم من القوة والبأس ومن الجاه والسلطان، وإنما كان عسيرًا شديد العسر، ملتويًا شديد الالتواء، ولهذا استطاع كاتب فرنسي أن يضع لإنشائه العسير الملتوي قصة ظريفةً طريفةً نشرتها «الألستراسيون» في ملحق لعدد من أعدادها ظهر في شهر يناير الماضي، وهذا الكاتب الفرنسي هو إميل ماني، وقد عنون قصته بهذا العنوان الظريف: «مولد الأكاديمي الفرنسية».

وأنا أكتب هذا الفصل لمناسبة هذه الأعياد التي ستقام في باريس بعد يومين، وأرجو أن يكون هذا الفصل تحية لهذه الجماعة الأدبية العظيمة التي يسميها الفرنسيون بحق أو بغير حق، صادقين حينًا وعابثين حينًا آخر: «جماعة الخالدين». فليس الفرنسيون جميعًا يحبون مجمعهم اللغوي ويرضون عنه ويعجبون به، بل كثير منهم، ومن خيارهم، يسخرون من المجمع اللغوي، ويغضون من قدره ما وسعهم ذلك وما وجدوا إليه سبيلًا، ومن هؤلاء الساخطين الساخرين من يغلو في السخط والسخر ما أتاح الشباب له ذلك؛ حتى إذا دنا من الشيخوخة، أو توسط الكهولة تهالك على المجمع اللغوي تهالكًا، وود بجدع الأنف لو استطاع أن يظفر بكرسي من كراسي الخالدين، ومن هؤلاء الساخطين الساخرين من يجدُّ في ذلك ويصدق ويخلص في بغض المجمع اللغوي وازدرائه والإعراض عنه، ويأبى كل الإباء هذا الخلود الذي لا يغني عن صاحبه شيئًا.

وليس من شك في أن كثيرًا من الذين سيقرءون هذا الفصل قد قرءوا هذه القصة الرائعة التي وضعها ألفونس دوديه وسماها «الخالد»، وأعلن على صفحتها الأولى أنه لم يُرِدْ ولا يريد ولن يريد أن يكون عضوًا في المجمع اللغوي. ثم صوَّر فيها بعد ذلك من ضعف الخالدين وفنائهم وطفولتهم وصغر النفوس عند كثير منهم ما لا يزال يثير الرحمة والإشفاق إلى الآن. ومن المعاني المألوفة الشائعة عند الفرنسيين أن الخالدين هؤلاء هم في جملتهم أقل الناس حظًّا من الخلود. فهم يظفرون بالخلود حين يُشرفون على الموت وينحنون على القبر، وهم بعد أن يلقوا الموت ويهووا إلى قاع القبر لا يحتفظون في أكثر الأحيان بهذا الخلود الذي انتهوا إليه في آخر أيامهم، وإنما تطوي الأيام ذكرهم طيًّا، ويطغى عليهم النسيان طغيانًا. والمحقق الذي ليس فيه شك هو أن الكثرة الضخمة من أسماء الخالدين الذين لبسوا الثوب الأخضر منذ ثلاثة قرون، قد ذهبت أسماؤهم إلا من سجلات المجمع، ومن الجريدة الرسمية الفرنسية، ومن بعض كتب التاريخ.

وليس خلود الذين بقيت أسماؤهم ظاهرةً من أعضاء هذا المجمع ناشئًا عن انتسابهم إليه أو دخولهم فيه، وإنما هو ناشئ قبل كل شيء عن آثارهم الأدبية أو غير الأدبية التي فرضتهم على التاريخ فرضًا. وأكبر الظن أن المجمع انتفع بانتسابهم إليه، وشرف بدخولهم فيه أكثر مما انتفعوا أو شرفوا بتسجيل أسمائهم في قصر مازران. ومن الذي يستطيع أن يزعم أن فكتور هوجو، وأناتول فرانس، والمريشال فوش، والماريشال جوفر، وريمون بونكاريه قد شرفوا بالمجمع أكثر مما شرف المجمع بهم، وهم مع ذلك لم يكونوا يقبلون أن يُمضوا فصلًا من الفصول أو مقالًا من المقالات أو كتابًا من الكتب دون أن يضيف كل منهم إلى اسمه العظيم هذا اللقب العظيم، وهو العضو في المجمع اللغوي الفرنسي.

ليس أعضاء المجمع خالدين جميعًا، وإن وُصِفُوا جميعًا بالخلود، ولكن المجمع نفسه خالد من غير شك. المجمع الذي لا يتألف من هؤلاء الأشخاص، أو من أولئك الأشخاص، وإنما هو معنى من المعاني وفكرة من الفكر، ومعقل لسنن الفرنسيين، واللغة الفرنسية، والأدب الفرنسي، والتقاليد الفرنسية الصالحة، والمجد الفرنسي بوجه عام.

هذا المجمع خالد من غير شك، لا يستطيع الزمن أن يعدو عليه إلا بمقدار ما يستطيع أن يعدو على فرنسا نفسها، وما دامت فرنسا المجيدة قائمةً، فسيظل مجمعها اللغوي على رأسها تاجًا مجيدًا …

وفي درس القصة التي أحاطت بنشأة هذا المجمع وظهوره عبرة لمن أراد أن يعتبر، وموعظة لمن أراد أن يتعظ، وموضوع تأمل وتفكير للذين يحسنون التأمل والتفكير، وسبيل إلى الموازنة والانتفاع للذين يغرون بالموازنة والانتفاع.

ولعل القصة التي أشرت إليها آنفًا أجمل ما صور نشأة هذا المجمع العظيم. فنحن حين ننظر في هذه القصة نرى في أولها رجلًا من أوساط الناس وأشرافهم متصلًا بعظيم من عظماء فرنسا، ويعمل في إدارة أمواله وأملاكه، وقد أجهده العمل ذات يوم، فأراد أن يرفِّه على نفسه، فزار صديقًا له قسيسًا، وهو دبوا روبير الذي كان أثيرًا عند الكردينال ريشوليو، منقطعًا إليه، يسلِّيه ويلهيه، ويتجسس له على الأشراف والعظماء، والذي كان أديبًا مترفًا، وشاعرًا متكلفًا، ورجلًا مرنًا من رجال الدين. فلما انتهى هذا الشريف إلى هذا القسيس، وأخذا في حديثهما، عرف القسيس أن صاحبه يختلف إلى اجتماع خاص سري يتألف من تسعة نفر سماهم له، وأن هؤلاء النفر قد ألفت بينهم المودة الخالصة والحب الصادق للأدب، فهم يلتقون من حين إلى حين، في بيت واحد منهم، يتحدثون في الأدب والشعر، وفي الفلسفة والحكمة، ويعرض كل منهم على أصحابه ما أحدث من أثر، فيتناولونه بالنقد في نصح صارم لا يحب الهوادة ولا المداراة.

فلما سمع القسيس من أمر هؤلاء النفر ما سمع رابه أمرهم، وأشفق أن يكونوا قد ألَّفوا جماعةً سريةً تخرج على القانون، وتأتمر بالوزير العظيم، فاندس إليهم متجسسًا، واتصل بهم مترفقًا، ولكنه لم يسمع منهم، ولم يتحدث إليهم حتى أمِنَهم على الدولة وعلى مولاه، وحتى أحب ما يعملون، وأطال فيه التفكير، وود لو استطاع أن يحول هذا المجمع إلى شيء رسمي تعترف به الدولة ويعينه السلطان. فتحدث في ذلك إلى مولاه، وأذن له مولاه في أن يطلب إلى هؤلاء الناس أن ينظموا أمرهم ويضخموا عددهم، ويهيئوا أنفسهم ليصبحوا جماعةً رسميةً.

ثم نمضي في القصة، فنرى هؤلاء الأدباء وقد ألقي إليهم أمر الوزير العظيم، فضاقوا به وارتاعوا له، وأشفقوا على حريتهم وعلى أدبهم من عبث السياسة وكيد السلطان، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا إلا أن يذعنوا لما أُمروا به، ويستجيبوا لما دُعوا إليه، فنظموا أمرهم، ووضعوا لأنفسهم قانونًا، وأخذوا يضمون إلى أنفسهم جماعةً من أعلام الأدب والشعر، ولكنهم قد نزلوا عن حريتهم منذ قبلوا عطف السلطان؛ فالوزير العظيم لا يحب لهم أن يختاروا من أعلام الأدباء والشعراء من يريدون، ولا من تهيئهم كفايتهم ليكونوا أعضاء في المجمع، وإنما يحب لهم بل يأمرهم أن يختاروا من يريد هو ومن يرضى عنهم هو، ومن تهيئتهم أعمالهم السياسية الظاهرة أو الخفية؛ ليكونوا في المجمع اللغوي، وما دام هؤلاء النفر قد أذعنوا مرة فلا بد أن لهم من المضي في الإذعان، وهل كانوا يستطيعون أن يخالفوا عن أمر الوزير العظيم؟! إنما كانوا مخيرين بين الطاعة المطلقة والمحنة المطلقة، فآثروا الطاعة على المحنة، ووضعوا قانونهم وضخَّموا عددهم، كما أراد ريشوليو لا كما أرادوا.

ثم نمضي في القصة، فنرى الوزير الكاردينال يطلب إلى الملك لويس الثالث عشر توقيع أمر تعترف فيه الدولة بهذه الجماعة، فيجيبه الملك إلى ما طلب، وتبتهج الجماعة بهذا الأمر؛ فقد أصبحت للغة الفرنسية جماعة رسمية تحميها من العبث، وتحفظها من الضياع، وتضمن لها النمو والصفاء، وهذا أمر الملك يرسل إلى البرلمان ليسجل فيه، كما كان النظام يريد في ذلك الوقت، وهذا البرلمان يحيل أمر الملك على مقرِّر اختاره لدرسه وعرض أمره عليه، ولكن هذا المقرِّر كان رجلًا مترف المعدة، والحلق، والفم، غليظ العقل والقلب، يؤثر صناعة الطبخ على صناعة الأدب، ويقدم ألوان الطعام على فنون الشعر. وكان البرلمان والشعب الباريسي معه يكرهان الوزير الكاردينال، ويسيئان الظن به وبأعماله وأوليائه، فلم يشك الناس ولم يشك البرلمان في أن المجمع اللغوي إنما هو أداة سياسية لطغيان هذا الطاغية.

ومن هنا سخط الشعب على المجمع اللغوي وعد أصحابه من الخونة، وسخط البرلمان على المجمع، واستجاب لدعاء مقرره فرفض تسجيل الأمر الملكي، وأبى الاعتراف بهذه الجماعة، وتناقل الناس عن مقرِّر البرلمان أنه كان يقول: إن بطون الفرنسيين أحق بالعناية من عقولهم؛ فالعقول تستطيع أن تصبر، وأما البطون فليس لها إلى الصبر سبيل. وكان المجمع اللغوي في أثناء ذلك يائسًا بائسًا، حزينًا مسكينًا، ليس له مستقر يطمئن فيه، ولا ملجأ يأوي إليه، إنما يتنقل بين الدور التي كان يسكنها أعضاؤه، فهو اليوم ضيف على هذا العضو، وهو غدًا ضيف على ذاك، وكان أعضاء المجمع إذا انصرفوا عن اجتماعاتهم لم يسمعوا ولم يقرءوا إلا شرًّا ونكرًا؛ فقد كانوا لهْوَ الحديث وسمر السامرين، بل كانوا موضوعًا للغناء الهازل والدعابة اللاذعة، وهم كانوا يستحقون كثيرًا مما كان يصيبهم من الشر؛ فهم قد حمَّلوا أنفسهم أثقالًا لم يستطيعوا حملها: أخذوا أنفسهم بوضع المعجم ثم لم يشرعوا فيه، وأخذوا أنفسهم بإصلاح النحو ثم لم يصلحوا منه شيئًا، وإنما أنفقوا اجتماعاتهم المتصلة في خطب ومحاضرات ليس لها رأس ولا ذيل.

وقد زهد فيهم مولاهم الوزير الكاردينال نفسه، واستيأس منهم، وانصرف عنهم إلى عمل أدبي آخر كان يحبه ويتهالك عليه. فقد كان الوزير الكاردينال يحب التمثيل كما كان يقرض الشعر، وقد بدا له ذات يوم أن يختار خمسة من الشعراء من بينهم كورني ومن بينهم قسيسه دبوا روبير، وأن يقترح عليهم موضوعًا ينشئون فيه قصة تمثيلية، وأن يرسم لهم خطة هذه القصة، وقد شغله هذا كله عن مجمعه اللغوي. وتم إنشاء القصة واستمع لها ورضي عنها، ونقد بعض الشعراء وهو كورني، وأجاز بعضهم الآخر، وهيأ القصة للتمثيل وأمر بتمثيلها وأنفق فيه مالًا كثيرًا، ولكن القصة أخفقت شر إخفاق، وقد غضب كورني من نقد الوزير له فنفى نفسه من باريس، وأقام في نورمانديا حينًا مغاضبًا للعاصمة عاكفًا على فنه، وأصبح الناس ذات يوم وإذا باريس لا تتحدث إلا بكورني وبقصة تمثيلية أنشأها كورني فنجحت نجاحًا باهرًا، وظفرت بفوز عظيم، وهي قصة «السيد».

وفي أثناء هذا الوقت الذي نجحت فيه قصة «السيد» وشغلت باريس كان الوزير الكاردينال يهيئ لتمثيل قصتين اقترحهما ورسم خطتهما، ورضي عنهما بعد إنشائهما وأمر بتمثيلهما …

فلما سمع بقصة السيد، وما أدركت من فوز غاظه ذلك، على أنه أخفى غيظه وأمر قسيسه أن يشهد التمثيل، وأن يحدثه عن هذه القصة، وجاء القسيس يثني على القصة ثناءً حسنًا، ولا يعيبها إلا بأنها لم تخضع للقاعدة المقدسة، قاعدة الوحدات الثلاث التي كان الوزير الكاردينال يحميها ويحرص عليها، كأنها قانون من قوانين الدولة. على أن الوزير لم يغضب للوحدات الثلاث، وإنما غضب لأمرين اثنين: الأول: أن قصة السيد تشيد بالمبارزة، وهو كان قد حرمها وقتل بعض الأشراف الذين خالفوا عن أمره وأقدموا على المبارزة، والثاني: أن قصة السيد تشيد بالإسبانيين في وقت كانت جيوش إسبانيا فيه قد احتلت بعض الأرض الفرنسية، ولم تجلُ عنها إلا بعد جهد عظيم، ويريد سوء الحظ أن تمثل القصتان اللتان اقترحهما الوزير فيدركهما الإخفاق المنكر كما أدرك القصة الأولى، على حين لا تزداد قصة السيد إلا نجاحًا وفوزًا.

وكان الوزير الكاردينال يود لو عاقب كورني على نجاحه، ولكن ماذا يصنع والجمهور معجب بالقصة، والقصر معجب بالقصة أيضًا؛ فقد شهدتها الملكة مرتين! لم يرَ بدًّا من أن يشهدها هو أيضًا؛ فأمر فمثلت له في قصره، وأظهر الإعجاب بها والثناء عليها، ورتب للشاعر مكافأةً حسنةً متصلةً، ولكنه دبر أمره من وراء الغيب تدبيرًا، فهؤلاء جماعة من الشعراء والكتاب ينقدون القصة نقدًا عنيفًا، وهؤلاء جماعة آخرون يدافعون عنها دفاعًا قويًّا، وهؤلاء الباريسيون يشغفون بهذه الخصومة الأدبية شغفًا لا عهد للأدب الفرنسي بمثله، وهذا كورني يدافع عن نفسه دفاع المؤمن بنبوغه المعلن له الذي لا يتحرج حتى من التعريض الخطر بالوزير العظيم، وهذا كاتب ينشر رسالةً عنيفةً في نقد قصة السيد، ولكنه يقترح اقتراحًا غريبًا لا شك في أنه صدر عن الوزير الكاردينال؛ فهو يقترح تحكيم المجمع في هذه الخصومة التي شجرت بين الأدباء حول قصة السيد، والوزير الكاردينال يرضى عن هذا الاقتراح ويشجعه ويأمر من يوحي إلى المجمع أن يقبل هذه القضية.

وكان المجمع في أول أمره متحرجًا من النظر فيها، ولكنه أذعن لأمر الوزير كما أذعن من قبل. على أن قانون المجمع لم يكن يسمح له بالقضاء في كتب الناس إلا إذا رضي أصحاب الكتب قضاءه فيها. فلم يكن بدٌّ إذًا من أن يقبل كورني تحكيم الخالدين في قصته، وقد رفض كورني هذا التحكيم أول الأمر لسبب يسير، وهو أنه إن قبل فقد سن سنة خطرةً تبيح لجماعة من الناس أن يتحكموا في الأدب والفن وفي الحرية والنبوغ أيضًا، ولكن كورني خيِّر بين قبول التحكيم وإلغاء الراتب الذي فرضه له الوزير، فآثر راتبه ورضا الوزير على الحرية والنبوغ، وأذعن لحكم الخالدين.

وأخذ الخالدون منذ ذلك الوقت يدرسون القصة درسًا دقيقًا، فألفوا لذلك لجانًا، ووضعت اللجان تقريرًا وتقريرًا وتقريرًا، وكان كل تقرير يعرض على الوزير فينظر فيه ويمسه بالتغيير والتبديل، وربما كره صيغة التقرير فكلف موظفًا من موظفيه أن يضع مكانها صيغةً أخرى، وكان المجمع يرى هذا ويكرهه، ولكنه يذعن له، وما دام قد بدأ حياته الرسمية بالإذعان، فهو مضطر إلى أن يمضي في هذا الإذعان.

على أن هذه القضية هي التي ضمنت للمجمع وجوده الرسمي. فما دام الوزير الكاردينال قد أراد أن يقضي المجمع في قصة «السيد» وأن يقضي فيها كما تريد السياسة، أو كما تريد شهوة الطاغية المستبد، لا كما يريد الأدب والفن، فلا بد من أن يظفر هذا المجمع بكل الصفات الرسمية التي تجعل حكمه رسميًّا خليقًا بالإكبار والاحترام، وإذًا فلا بد من أن يسجل البرلمان أمر الملك، ولا بد من أن يعترف البرلمان بالوجود الرسمي لهذه المحكمة الأدبية العليا.

وقد كاد المجمع يفسد الأمر على نفسه إفسادًا؛ فقد هيأ حكمه وأرسله إلى المطبعة قبل أن يرسله إلى الوزير. على أن الوسطاء أصلحوا هذا الأمر، وضمنوا عفو الوزير عن هذه الغلطة، وجدَّ الوزير في حمل البرلمان على تسجيل الأمر الملكي، وجدَّ البرلمان في رفض هذا التسجيل، وانتهى الأمر إلى أزمة بين الحكومة والبرلمان، وانتهت الأنباء إلى البرلمان بأن الحكومة والقصر قد ينظران في اختصاص البرلمان وقد يضيقان من سلطانه؛ فأذعن البرلمان آخر الأمر كما أذعن المجمع أول الأمر، وسجل الأمر الملكي سنة ١٦٣٧، وتمت ولادة المجمع بعد أن جاهد فيها الكاردينال أكثر من عامين، ولم يكد الأمر الملكي يسجَّل، ويصبح المجمع هيئة رسمية من هيئات الدولة حتى أصدر حكمه في قصة السيد، فإذا هو حكم لا يرضي كورني؛ لأن فيه نقدًا شديدًا، ولا يرضي خصوم كورني لأن فيه إغضاءً شديدًا، ولا يرضي المجمع نفسه لأن فيه تجاوزًا للحق والفن؛ ولكنه يرضي الوزير الكاردينال لأن فيه غضًّا من كورني هذا الشاعر الجريء الذي استطاع أن يقول الشعر ويعلن النبوغ، ويعلن أنه ليس مدينًا لأحد بهذا النبوغ حتى للوزير الكاردينال.

وكذلك كان التجسس داعيًا إلى التفكير في إنشاء المجمع اللغوي الفرنسي، وكان الطغيان السياسي وسيلةً إلى إنشاء هذا المجمع، وكان ظلم السياسة للأدب سببًا في الوجود الرسمي لهذا المجمع، وكانت قصة السيد ضحيةً غُذِّي هذا المجمع بدمها، ولكن الغريب أن قصة السيد لم تمت، وإنما ظفرت وظفر صاحبها المظلوم بالخلود، وأن المجمع نفسه لم يمت وإنما ظفر بالخلود أيضًا. فأما الذي مات، ومات موتًا ليس بعده بعث ولا نشور، فهو طغيان الوزير الكاردينال، وأدب الوزير الكاردينال، وشهوة الوزير الكاردينال.

أراد ريشيليو أن يتخذ الحق سبيلًا إلى الباطل، وأن يتخذ الأدب وسيلةً إلى السياسة، وأن يتخذ المجمع اللغوي أداةً للظلم، فأخفق ريشيليو وزهق باطله وعجز ظلمه عن أن يبلغ غايته، وعاش كورني، وعاشت قصة السيد، وعاش المجمع اللغوي، وعاشت فرنسا يتألق على جبينها تاجها الأدبي الخالد، بعد أن نزعت عن جبينها تاجًا آخر لم يكن يستمد قوته ولا جماله من الفن والأدب ولا من العقل والقلب، وإنما كان يستمد قوته وجماله من البأس والبطش والطغيان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤