النقد والطربوش وزجاج النافذة

وتستطيع أن تضيف إلى هذه العنوانات عنوانات أخرى؛ فهناك أزِقَّة ضيقة شديدة الضيق، ملتوية شديدة الالتواء، قد كثُر على أرضها الوحل، حتى إن الذي يمشي فيها لينزلق، أو يمشي مشية مسلم بن الوليد في بيته المشهور:

إذا ما علت منا ذؤابة شارب
تمشَّت به مشي المقيد في الوحل

وقد أمطرت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانًا من المطر، منها السائل ومنها اليابس. نستغفر الله! بل قد صبت سماؤها أو نوافذ ما يقوم فيها من الدور ألوانًا من البلاء، منها مرق الفول النابت، وماء المخلل، وفيها أشياء أخرى جامدة كانت تهوي على الرءوس، وربما مسَّت العيون، وربما دخلت الأفواه ووصلت إلى الحلوق فانعصرت فيها انعصارًا، وأذكت فيها لهيبًا ونارًا. وقد كان في هذه الأَزِقَّة مارد من مردة الجن أو مردة الإنس، له صدر عريض قد انتفش فيه شعر طويل حاد كأنه الأسنَّة، يصطدم به الرجل القصير فإذا هذا الشعر الطويل الحاد يداعبه ويلاعبه، فيعبث بوجهه، ويدخل في أنفه وفي فمه وفي عينيه. وقد كان في هذه الأَزِقَّة غلام شرير، لسانه عذب، ويده مُرَّة. وقد كان في هذه الأَزِقَّة شاب ظاهر الغباوة والبله، خفي المكر والغدر، شديد البأس والبطش، يُخيف من ليس من شأنه أن يخاف، ويضطر أثبت الناس قلبًا وأشدهم استهزاءً بالحياة إلى أن يعدو عَدْوَ «الشَّنْفَرَى» و«تأبَّط شرًّا» و«ابن برَّاق» حتى يدفع إلى دار من الدور، ثم إلى بيت من بيوت هذه الدار، فلا يدخل هذا البيت من بابه كما أمر الله أن تؤتى البيوت، وإنما يدخله من إحدى نوافذه. وفي هذه الأَزِقَّة شيخ وقور، ظاهره يخيف، وباطنه فيه الرحمة واللين، وفيه الرفق والدعة، وفيه الأدب وحسن الذوق.

كل هذه الأشياء، وكل هؤلاء الأشخاص، يمكن أن تضاف ويمكن أن يضافوا إلى هذه العنوانات التي قدَّمتها بين يدي هذا الكلام، ولكني لم أُضِفْهَا تحرُّجًا من الإطالة، وإشفاقًا من الإطناب، وإيثارًا للإيجاز البليغ.

وأنا أستطيع بعد أن وضعت هذا العنوان، وأتبعته بهذا الكلام، أن أتحول بك إلى ما شئتَ أو ما شئتُ أنا من الموضوعات، فأتحدث إليك فيه حديثًا طويلًا أو قصيرًا، وأعرض عليك فيه صورًا جميلةً أو دميمةً، وأثير في نفسك به عواطف هادئة أو جامحة، وأرسم على وجهك به ابتسامًا وضحكًا، أو عُبُوسًا وتقطيبًا، حتى إذا بلغت من هذا كله ما تريد أنت، أو ما أريد أنا، أو ما نريد جميعًا، ذكرت النقد والطربوش وزجاج النافذة، واعتقدت أنا أو خيلت إليك أني أعتقد، واعتقدت أنت أو خيلت إليَّ أنك اعتقدت، واعتقد صديقي الأستاذ المازني أو خيل إلى نفسه وإلينا أنه يعتقد، أني قد أمتعت الرسالة وقُرَّاءَ الرسالة بفصل قَيِّمٍ أو غير قَيِّمٍ، قوامه الحديث عن النقد والطربوش وزجاج النافذة!

وتسألني: ما بال الأستاذ المازني يُقحَم هنا إقحامًا؟ وما خطبه مع النقد والطربوش وزجاج النافذة ومرق الفول النابت وماء المخلل، وما يتبع هذا كله من الأشياء والأحياء؟ فأجيبك بأن هذا السؤال لا ينبغي أن يساق إليَّ، وإنما ينبغي أن يساق إلى الأستاذ المازني؛ فهو الذي تحدَّث عن هذا كله، وهو الذي أثارني إلى أن أتحدث عن هذا كله. وليس من شك في أن الأستاذ المازني سيقول في دعابته الحلوة الظريفة: وما أنت وجَرُّ الشكل، وما لك تدخل بيني وبين النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الملحقات؟ ولكن الأستاذ يوافقني — أو لا يوافقني فهذا سواء — على أنه صاحب فن، وعلى أن أصحاب الفن إن كتبوا لأنفسهم فهم ينشرون للناس، وعلى أن صاحب الفن لا يملك أثره الفني بعد أن يلقيه إلى الناس، وعلى أن من حق الناس إذا أُلقي إليهم شيء أن يتناولوه كما يحبون، يُعجَبون به أو يسخطون عليه، يرغبون فيه أو ينصرفون عنه، يحمدونه أو يسلِّطون عليه اللوم.

وإذًا، فقد ألقى إلينا الأستاذ المازني فصله الممتع البديع الذي أثارني إلى أن أتحدث إليك عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، أو إلى أن أتحدث إليك عن الأستاذ المازني نفسه من وراء هذه الأشياء التي لا تُحصى، والتي لا أكره تكرارها، وما أظنك تكره تكرارها، وهي النقد والطربوش وزجاج النافذة، والأَزِقَّة وما يتراكم على أرضها من الوحل، وما تصبه سماؤها من السائل والجامد، ومن يمشي بين ذلك من الأشرار والأخيار. وللأستاذ المازني مع هذه الأشياء كلها، ومع هؤلاء الناس كلهم، ومعك أنت، ومعي أنا، قصة ظريفة طريفة، خليقة أن تُقَصَّ، وخليقة أن تثير الإعجاب.

فهل تدري ماذا دفع الأستاذ المازني إلى أن يتحدث عن هذه الأشياء، وعن هؤلاء الأشخاص، فيثيرني إلى أن أتحدث عنه، وعنها، وعنهم؟ هو شيء يسير، يسير جدًّا، هو أنه أديب يقرأ في الكتب، ويكتب في الصحف، وينقد الكُتَّاب والمؤلفين. وقد تتغير الأزمنة وتتبدل ظروف الحياة وترقى الأجيال بعد انحطاط، ولكن هناك شيئًا لا يتغير ولا يتبدل في حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء، ونقمة يصيب الله بها هؤلاء الذين يمنحهم شيئًا من حسن الذوق والقدرة على فهم الأدب وتقريبه إلى الناس. وقد امتحن الله صديقنا المازني، ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظًّا عظيمًا، فجعله شاعرًا مجيدًا، وكاتبًا بارعًا، وناقدًا مسموع الكلمة، مهيب الجانب، مقدور الرأي، لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه. وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس على ذلك، وأشدهم طلبًا له وإلحاحًا فيه. والكتب تمطر على الأستاذ المازني، ويمطر معها طلب النقد وطلب التقريظ. والنقد والتقريظ يحتاجان إلى القراءة والدرس. وإذًا فالمازني المسكين مصروف عن نفسه وعن فَنِّهِ وعن كتبه، إلى هؤلاء الناس الذين يكتبون، وإلى هؤلاء الذين يقرءون. ومن هنا ومن جهات أخرى أيضًا كان المازني شقيًّا بالأدب، وإن كان الأدب سعيدًا بالمازني. وأي دليل على شقاء المازني بالأدب وسعادة الأدب بالمازني أقوى من هذه القصة التي أحدثك عنها الآن!

فقد أخرج كاتب من الكُتَّاب كتابًا من الكتب، وأهداه إلى الأستاذ بالطبع، وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أُهْدِيَ إليه فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص ينتظر. فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد شيئًا كان الإلحاح. واضطر المازني إلى أن يُذعِن، وأُكرِه المازني على أن يكتب، ولكنه كان قد أرسل الكتاب إلى من يجلِّده. فلما اشتد عليه الإلحاح ذهب في طلب الكتاب من المجلِّد، فدُفع إلى رحلة غريبة، وإلى استكشاف أغرب: دفع من هذه الأحياء المتحضرة التي تتسع فيها الشوارع، وتجري فيها السيارات، وتنتشر فيها الشرطة، والتي لا تتغطى أرضها بالوحل، ولا تمطر سماؤها مرقًا ولا مخللًا، إلى أزقة ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين، وفي هذه الأَزِقَّة عرف المازني الخوف والفَرَق، وعرف الهرب والغلو فيه، وعرف كيف يكون وقع الأحجار على الأجسام، وكيف يكون وقع الشتائم في النفوس، ثم عرف كيف يفقد الناس طرابيشهم، وكيف ينظرون إليها وهي تُهان وتمرغ في الوحل تمريغًا، ثم عرف كيف يدفع الهاربون إلى اقتحام الدور والاستخفاء في البيوت، وقد غاب عنها أهلها، ثم عرف قصة الرجل الذي ذهب يطلب كتابًا ففقد طربوشه وعاد صفر اليدين.

والغريب أن هذه الرحلة الهادئة وما امتلأت به من الأخطار كانت كلها في القاهرة، وفي ساعات قصيرة، ولست أدري فيمَ يحتاج الذين يحبون الأخطار إلى التماسها في الصحراء، أو في الجبال، أو على البحر والمحيط، ما دام الانتقال من حي من أحياء القاهرة إلى حي آخر خليقًا أن يرينا من الهول والخطر مثل ما رأى صديقنا الكاتب الأديب.

ومن هنا نستطيع أن نفهم ضيق المازني بالأدب والأدباء، وبالكتب والمؤلفين، وتضرعه المتصل إلى الله أن يُعفيه من هذه الصناعة التي يشقى بها، ولكنها تسعد به وتُسعد الناس أيضًا، ولكن الأستاذ المازني يتساءل في شيء من الحيرة: أيجب أن يقرأ ما يريد هو أم يجب أن يقرأ ما يريد الناس؟ وإذا سمح لي أن أجيبه فإني أرى أنه مُلزم بأن يقرأ ما يريد، وبأن يقرأ ما يريد الناس، ما دام قد أقبل على صناعته هذه راضيًا بها أو مُكرَهًا عليها. ولكن السؤال الذي أحب أنا أن أسأله هو: هل يظن الأستاذ المازني أنه أبرأ ذِمَّتَه أمام القُرَّاء وأمام المؤلف بهذا الفصل البديع الذي كتبه منذ أيام، فحدَّثَنا فيه عن النقد والطربوش وزجاج النافذة، وعما تحمل الأرض من وحل، وما تمطر السماء من مَرَقٍ؟ فإن كان يظن أنه قد أرضى قُرَّاءَه وصاحبه بهذا الفصل فقد أصاب وأخطأ في وقت واحد. أصاب لأن الفصل بديع، وأخطأ لأنه لا يغني من النقد شيئًا، فلن يعفيه صاحب الكتاب من الإلحاح عليه، ولن يدعه حتى يقول إنه قد قرأ هذا الكتاب فرضي عنه أو سخط عليه.

وسؤال آخر أحب ألا يغضب صديقي المازني حين أسوقه إليه: ما باله يطغى على نفسه ويسرف في الطغيان، ويصورها هذا التصوير الذي لا يلائمها بحال من الأحوال، والذي لا نحبه لها؟ فهل من الحق أنه هَيَّابٌ إلى هذا الحد؟ كلا! ولكنه يحب أن يعبث بنفسه فيسرف في العبث. وأكبر الظن أننا إن حدثناه في ذلك ضاق بنا وضجر، وشكا من هؤلاء الطفيليين الذين يدخلون بين الناس وبين أنفسهم، وقال إذا لم يكن لي الحق في أن أعبث بنفسي فلمن يكون الحق في أن يعبث بها إذًا؟ أما أنا فأجيب الأستاذ بأن هذا الحق ليس مباحًا لأحد، ولكن الناس يستبيحونه لأنفسهم، سواء أرضي الأستاذ أم لم يرض. وأنا أتحداه، وأطلب إليه أن يريني كيف يستطيع أن يمنع الناس من أن يتناولوه بما يحبون من ألوان النقد والعبث لا بما يحب هو، كيف يستطيع أن يمنع الناس من ذلك دون أن يخرج عن طور الكاتب الأديب؟ وإذًا فما له يظلم نفسه هذا الظلم، ويلح عليها بهذا العبث الذي لا قصد فيه؟! أم هل ضاقت الدنيا بالأستاذ كما ضاقت بالخطيئة ذات يوم فيما يُقال فهجا نفسه؛ لأنه لم يجد من يهجوه؟ أم هل كَرِهَ الأستاذ الأخذ والرد، وضاق بالحوار والجدال، وكره أن يذكر الناس فيغريهم بذكره، فآثر أن يذكر نفسه هذه المسكينة التي لا تجد من يدافع عنها ويحميها من صاحبها الطاغية؟ فإن تكن هذه فقد أخطأ المازني، فهأنذا أدافع عن المازني برغم المازني. أخشى ألا يكون لشيء من هذا كله أصل ولا فرع كما يقولون، وأن يكون المازني قد أراد نقد الكتاب الذي طُلِبَ إليه نقده فمضى به الخيال، ومضت به الدعابة إلى هذه الأَزِقَّة الضيقة الملتوية، يبحث فيها عن الكتاب، فلم يفد إلا أن فقد طربوشه وأضاع على صاحبه الشيخ زجاج نافذته، ولم يجنِ لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئًا. وويل للكُتَّاب والمؤلفين من دعابة المازني ومجونه! وويل للكتاب والمؤلفين من ألغاز المازني ورموزه! بل ويل للمازني نفسه من طغيان خياله وجموحه؛ فإن في هذا الجسم النحيل الضئيل، جسم هذا الرجل الهادئ الوديع ماردًا لا كالمردة وشيطانًا لا كالشياطين.

أما بعد، فلنذكر النقد والطربوش وزجاج النافذة، وما يتصل بها من الأشياء والأشخاص؛ لنختم المقال كما بدأناه، وليعلم المازني أنَّا لم نتحدث عنه، ولم نُشِر إليه، ولم نفكر فيه، وإنما تحدثنا عن كِتَاب نُقِد، وطربوش فُقِد، وزجاج حطَّمه فتى من الفتيان تحطيمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤