حريم

للسيدة قوت القلوب الدمرداشية

أطلت التردد قبل أن أفتح هذا الباب من أبواب النقد الذي أبدؤه اليوم لسبب يسير جدًّا فيما أظن، وهو أن هذا النقد سيتجه إلى السيدات والآنسات، كما يتجه النقد في الفصول الأخرى التي أكتبها إلى كهول الأدباء وشبابهم. وقد تعوَّدت أن أتحدث إلى الأدباء في لهجة مهما تكن رقيقةً رفيقةً، فإنها لا تخلو من بعض الشدة والعنف أحيانًا، حتى أصبح النقد الحازم الصارم عادةً لي لا أستطيع الانحراف عنها مهما تكن الأسباب والمواطن. وقد عرف الناس مني ذلك فأَقَرُّوهُ وعرفوه، ولم ينكروا إلحاحي فيه وإصراري عليه، وإنما أنكروا ما قد أصطنعه أحيانًا من التلطُّف والرفق حين يدعو النقد إلى التلطُّف والرفق، وحين لا يدعو الأمر إلى الشدة والعنف. والقراء لم ينسوا بعدُ أن كاتبًا أديبًا لامني منذ حين في أني نقدت الأستاذ العقاد فلم أعنف به ولم أقسُ عليه. ويقال أن كثيرًا من القراء ذهبوا مذهب هذا الكاتب الأديب، فاستضعفوا نقدي لرجعة أبي العلاء، وذهبوا في ذلك مذاهب مختلفة من التأويل والتعليل. وليس لذلك مصدر إلا أن القراء عرفوا مني العنف في النقد، والحزم في التقريظ، والإعراض عن المصانعة واللين.

وواضح جدًّا أني حين أُقدم على نقد الكاتبات الأديبات، مضطر إلى أن أصطنع من الرفق والتلطُّف أكثر جدًّا ممَّا أصطنعه حين أُقدِم على نقد الأدباء، لا لأني أستضعف الأديبات، وأراهنَّ خليقات بالرفق والتلطُّف لضعفهن، فقد برئن من هذا الضعف ونفينه عن أنفسهن منذ وقت طويل. وقد برأناهن نحن من هذا الضعف، ورأينا فيهن لنا أمثالًا وأندادًا، وأخذنا أنفسنا بأن نسير معهن سيرتنا مع أنفسنا، إكبارًا لهن واعترافًا بحقهن في هذه المساواة التي يحرصن عليها، ولا نبخل بها نحن؛ لأنَّا نراها حقًّا مقررًا لا معنى للمناقشة فيه، ولكن للصلات الأدبية بين السيدات والآنسات وبيننا أصولًا وقواعد ترتفع عن هذا النحو من التفكير، وتسمو على هذا اللون من ألوان التقدير، ولا تقوم على الضعف والقوة، ولا على القدرة والعجز، وإنما تقوم على ما يجب علينا لهن من الرعاية والعناية وحسن التأتِّي لما نريد أن نسوق إليهن — أستغفر الله — بل لما نريد أن نرفع إليهن من حديث. وأنا رجل قليل الحيلة ضعيف الوسيلة في التلطُّف والتظرُّف، لا أُحسنهما، ولا أبلغ منهما بعض ما أريد. تعودت القسوة على الكُتَّاب حين أنقدهم، وتعودت القسوة على الطلاب حين أعلِّمهم، واستقر في نفسي أن التظرُّف قد يكون خيرًا في كثير من المواطن، وأن الرفق قد يكون واجبًا في كثير من الظروف، ولكنهما لا يلائمان النقد، ولا يلائمان تقويم الشباب وتثقيفهم حين يقولون فيشطُّون، أو يكتبون فيقصِّرون.

وقد كان من اليسير أن أريح نفسي من هذا العناء، وأحط عنها هذا الثقل، وأمضي في نقد الأدباء على ما تعوَّدوا من شدة وعنف، وأدع نقد الأديبات للذين يحسنون الحديث إليهن والحديث عنهن. ولكنَّ في هذا ظلمًا لا يطاق، وتجاوزًا للقصد لا يُقبل من مثلي؛ فالأديبات ينتجن، وينتجن آثارًا ليست أقل استحقاقًا للنقد من هذه الآثار التي ينتجها الأدباء، وما ينبغي أن نهمل إنتاجهن، وما ينبغي أن نسوء الأدب بالإعراض عن آثارهن القيمة مهما يكن إشفاقنا من الجور عن قصد السبيل، فيما نتحدث به إليهن أو فيما نتحدث به عنهن. وما دمن قد أخضعن أنفسهن لقوانين الإنتاج الأدبي، فأقبلن على الإنشاء، ثم لم يكتفين به، بل أقبلن على الإذاعة والنشر، ثم لم يكتفين بذلك كله، بل أردن أن يسمعن أحكامنا على ما ينتجن، وآراءنا فيما يذعن وينشرن، فقد يخيل إليَّ أننا في حِلٍّ من أن نتحدث إليهن وعنهن في الأدب، كما نتحدث إلى الرجال وعن الرجال في الأدب أيضًا. ومن يدري! لعلهن أن يكنَّ أرحب صدرًا، وأحسن احتمالًا لشدة النقد وعنفه من الرجال. وأكبر الظن أنهن لن يَكُنَّ أضيق من الرجال صدرًا بالنقد، ولا أشد منهم ازورارًا عمَّا قد يشيع فيه من شدة وعنف أحيانًا، ومن المحقَّق أن بين الأديب الخليق بهذه الصفة، وبين السيدات والآنسات شركةٌ لا يمكن أن تُنْكَرَ ولا أن تُجْحَدَ، في قوة الشعور ودقة الحس، ورقة المزاج، وشدة التأثُّر بما يكتب وما يقال. وما أشك في أن هذا الأديب القوي أو ذاك يتأثر بما يكتب عنه أو يكتب له تأثُّر السيدة أو الآنسة بما يقال عنها أو يساق إليها من الحديث. فلنتشجع إذًا، ولنُقدم على نقد السيدات والآنسات في شيء مع ذلك من التحفُّظ والاحتياط والرعاية لمزاجهن، الذي مهما يقوَ ويشتد، فهو مترف مرفَّه يحتاج إلى شيء من الرعاية الخاصة فيما نوجه إليه من حديث.

وفي مصر كاتبات أديبات ينتجن آثارًا قيمة خصبة لعلها أن تبلغ من الإجادة والإتقان أكثر مما تبلغ آثار الأدباء، ولعلها أن تظفر من الرقة والدقة ولطف المدخل بما لا تظفر به آثار الأدباء، ولعلها أن تحقق من المُثُل الأدبية العليا ما لا تحققه آثار الأدباء كذلك. ولكن لها عيبًا خطيرًا يؤلم ويلذ، ويحزن ويسر، وهو أنها لا تكتب بلغتنا العربية، ولا تبلغ نفوسنا المصرية إلا من طريق ملتوية غير مباشرة كما يُقال، وإنما تكتب بلغة أجنبية لا يحسنها مِنَّا إلا الأقلون عددًا. تكتب باللغة الفرنسية فيقرؤها الفرنسيون، ويرضون عنها، وقد يُعجَبُون بها، ويُثْنُون عليها، كهذا الكتاب الذي أريد أن أتحدث عنه اليوم، فقد كتبته السيدة قوت القلوب الدمرداشية باللغة الفرنسية، ونشرته في باريس، ووصل إلى مصر من باريس، ولم يصل إلى باريس من مصر. ماذا أقول! بل وصل الثناء عليه إلى مصر من باريس، وعرفناه من المقدمة التي قدَّم بها بين يديه الكاتب الفرنسي المعروف بول موران. ثم أخذ الأدباء الفرنسيون يقرِّظونه هنا وهناك، فكتب عنه في مصر أستاذان من أساتذة الجامعة، وأثنى عليه في باريس غير كاتب من الكُتَّابِ المعروفين، ولم يقرأه مع ذلك من المصريين، ولا يُنتظر أن يقرأه منهم إلا الذين يُحسنون اللغة الفرنسية ويذوقونها، ويجيدون الوصول إلى أسرارها ودقائقها، وهم — فيما أعلمُ — قليلون، وما أرى أن المصريين سيقرءون هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي سأتحدث إليهم عنها إلا إذا ترجمت لهم إلى اللغة العربية. فاعجبْ من كتاب مصري تنشئه كاتبة مصرية، وتنشئه في موضوع مصري خالص، ويمس حياة المصريين في أدق جهاتها وأعمقها وأشدها اتصالًا بنفوسهم، ثم لا يعرف المصريون عنه شيئًا، إلا من طريق ما يكتبه عنه الأجانب أو من طريق النقل والترجمة، إن أتيح لهذا الكتاب أن يُنقل أو يُترجم.

ومن الحق أن نسجل أن هذه الظاهرة المؤلمة ليست مقصورة على السيدات والآنسات، ولكنها تتجاوزهن إلى الرجال؛ ففي مصر كهول وشباب يُنتجون آثارًا أدبية رائعةً، ولكنهم ينتجونها في اللغة الفرنسية، ويُمَتِّعون بها القراء الفرنسيين وأشباههم من المثقفين، ويصرفونها طائعين أو كارهين عن مواطنيهم من المصريين. ولا بد من أن أتحدث يومًا ما عن هذه الآثار المصرية الفرنسية الرائعة؛ ليقدر المصريون هذه الظاهرة الخطيرة التي تَسُر وتُحزِن، وتلذ وتؤلم كما قلت آنفًا. تسر لأن فيها إذاعةً للدعوة المصرية وتعريفًا بمصر والمصريين، ولأن من الخير أن يُقَدَّرَ الكُتَّاب والشعراء المصريون خارج مصر في البيئات الأدبية العليا. وتحزن لأن من الحق أن يستمتع بها المصريون قبل أن يستمتع بها الأجانب، ولأن من الحق أن تستأثر اللغة العربية بما ينتج أبناؤها، وأن تعرفه اللغات الأجنبية بالنقل والترجمة عن اللغة العربية، لا أن يعرفه المصريون وتظفر به اللغة العربية عن طريق النقل والترجمة.

ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة خليقة بالتفكير. فما الذي أنتجها؟ وما الذي دعا إليها؟ وكيف وُجد مصريون يبلغون من الإجادة الفنية هذا الحظ العظيم، وينتجون في لغة أجنبية، تعرفهم أوروبا وتجهلهم مصر، يستمتع بآثارهم الأوروبيون، ويحرم هذا الاستمتاع مواطنوهم من المصريين؟! وجِّهْ هذا السؤال إن شئت إلى الأسر التي علَّمت أبناءها في المدارس الأجنبية، وإلى الدولة التي لم تفرض على هذه المدارس تعليم اللغة العربية لتلاميذها المصريين. ماذا أقول! بل إلى الدولة التي لم تُعْنَ بمدارسها حتى صرفت عنها الأسر أبناءها، والتي لم تُعْنَ بتعليم اللغة العربية في مدارسها، حتى أعرض أبناء مصر عن الإنتاج في اللغة العربية إلى الإنتاج في اللغة الفرنسية أو الإنجليزية.

ومهما يكن من شيء فإني أريد أن أحدِّثك في هذا الفصل عن كتاب أنشأته السيدة قوت القلوب الدمرداشية باللغة الفرنسية، فظفر بإعجاب قرائه، وظفر بإعجاب القراء المصريين والنقاد المصريين. ومما يحزن ويسر أن هذا الكتاب ليس أول كتب السيدة ولا آخرها؛ فقد نشرت قبله كتابًا آخر باللغة الفرنسية. وإذا صح ما انتهى إليَّ من الأنباء فهي آخذة في نشر كتاب ثالث باللغة الفرنسية أيضًا.

والكتاب الذي أُعْنَى به الآن واضح من عنوانه؛ فهو يصف الحياة المصرية الخاصة داخل البيوت والقصور في أخص ما يحرص المصريون عليه من أمورهم، وأدق ما يضنون به من خاصة نفوسهم. وقد كتب الأجانب كثيرًا عن الحياة المنزلية المصرية، وقد صور الأجانب كثيرًا عاداتنا الشعبية، فأحسنوا وأساءوا، وصدقوا وكذبوا، ووُفِّقوا وأخطأهم التوفيق. ولكن السيدة قوت القلوب مصرية تشهد لقومها أو تشهد عليهم لا أدري، هي تصور حياتهم كما رأتها، وتصورها تصويرًا دقيقًا صادقًا مطابقًا للواقع من أمرها، لا تنحرف فيه عن الحق، ولا تحيد فيه عن الأشياء التي لا سبيل إلى إنكارها. ولعلنا إن أخذناها بشيء أن نأخذها بالإسراف في الصدق والغلو في الدقة، إن كان من الممكن أن يكون في الصدق إسراف وفي الدقة غلو.

وما رأيك في كتاب يعطي أدق صورة وأصدقها لحياة الكثير من الأسر المصرية في جِدِّها وهزلها، وفي العظيم من أمرها واليسير. يصورها حين تنشأ، ويصورها حين تنمو، ويصورها حين تلم بها الخطوب، ويصورها حين يُلِمُّ بها الفساد الذي يأتيها من الطلاق أو من الموت. فالخطبة مصورة أصدق تصوير وأروعه، وحفلة الزواج مصورة أصدق تصوير وأروعه، ويوم الزفاف، ومَقْدَمُ المولود، وحفلة الأسبوع. والحياة اليومية في أيام الأعياد وفي أيام الحزن والأسى، والخلاف الزوجي الذي ينتهي إلى الطلاق، وما يعقبه الطلاق من البؤس والحزن، وهذه اللوعة التي تصيب الأسر حين يختطف من بينها زعيمها وحاميها، وكل هذا لا يُصوَّر من بعيد، وإنما يُصوَّر من قريب جدًّا، ولا تنظر إليه الكاتبة من عَلٍ، وإنما تعيش بين الناس، وتصور ما ترى وما تحس، وتسجل ما تسمع وما تفهم، وتؤدي هذا في دقة تُضحكك أحيانًا، وتُخجل أحيانًا أخرى، وتدفعنا أحيانًا إلى أن نتساءل: أمن الخير أن يعرف الأجانب عنا هذه الهَنات، وأن يظهروا من دخائلنا على هذه الأسرار؟

والشيء الذي لا شك فيه أن طلاب الفولكلور سيقدرون للسيدة قوت القلوب كتابها، وسيشكرون لها جهدها؛ فقد أهدت إليهم وثيقةً خصبةً لن يقصِّروا في استغلالها والانتفاع بها فيما يكتبون من بحوث، فقد صورت لهم خرافاتنا وسخافاتنا في دقة لا مزيد عليها. لم تهمل العناية بالورد والياسمين والبصل والثوم في شم النسيم، ولم تهمل سحر السحرة، وشعوذة المشعوذين، وما يكون لهما من أثر خطير في العلاقات الزوجية في بعض الأسر. ماذا أقول! بل هي لم تهمل ولادة المولود، وما يحيط بها من الخوف، وما يحيط بها من الهذيان. فهذه أم الفتاة التي يتعسر عليها الوضع، تلح في أن يكون الوضع في هذه الغرفة لا في تلك؛ لتستطيع أن تدس إلى ابنتها الحلوى وأطايب الطعام. وهذه أم الزوج تريد أن يكون الوضع في هذه الغرفة لا في تلك؛ لأن في هذه الغرفة بركة، ولأن لها أسرارًا. وهؤلاء النسوة يشرن على الزوج الفتى حين يتعسر الوضع بأن يلبس ثوبه مقلوبًا ويطوف به في الدار؛ ليسوء الجنيات اللاتي قد يحببنه، وقد يردن السوء بامرأته. وهذا أبو الزوج يأخذ مشط الفتاة، فيتلو عليه سورة من القرآن أثناء ساعة طويلة، ثم يرده إلى شعرها؛ ليصد عنها العفاريت وشياطين السوء.

وأمثال هذه المناظر كثيرة، يمتلئ بها الكِتاب. وتستطيع أن تنظر من خلال الأستار، أو من ثقب القفل أو من ثنايا النوافذ؛ لترى هؤلاء النسوة، وقد جلسن يتحدثن ويشربن القهوة، ويلغطن بالسخف والخرافات، حول موقد يحرق فيه الطيب، وهُنَّ يدنون منه، فيطيبن ثيابهن من أعلى ومن أسفل؛ ليتلقين أزواجهن بالطيب حين يأوي الأزواج إلى المضاجع إذا تقدَّم الليل. ومما لا شك فيه أن الكاتبة الأدبية قد ظفرت في كتابها الفرنسي بحرية فنية لا يظفر بها أمثالنا نحن المصريين من الكتاب البائسين الذين يكتبون باللغة العربية، فيرعون الذوق المصري والعرف المصري، ويُسِرُّون أكثر مما يظهرون، ويخفون أكثر مما يعلنون، وهنا تعرض مسألة لا بأس بأن يقف عندها الأدباء، وهي مسألة الحرية الفنية التي لا يظفر منها الكاتب العربي إلا بأيسر حَظٍّ وأقله. على حين يبلغ منها الكاتب الأجنبي أقصى ما يريد، وأكثر مما يريد.

ولو أن السيدة قوت القلوب كتبت كتابها هذا باللغة العربية، لاضطرت إلى أن تلغي منه الشيء الكثير مراعاةً للذوق المصري والعرف المصري، فلمن كتبت هذا الكتاب؟ كتبته لنفسها أولًا، كما يصنع كل أديب حين يسجل خواطره وآراءه، وكتبته للقُرَّاء الأجانب بعد ذلك في أكبر الظن. ولست أدري أراضية هي عن أثرها الأدبي؟ ولكني أعلم أن الأجانب الذين قرءوه راضون عنه كل الرضا، يرون فيه لذة فنية، ويرون فيه لذة علم بما لم يكونوا يعلمون، ويرون فيه هذه اللذة التي نحسها حين ينبئنا منبئ بالأشياء الغريبة الطريفة النادرة، فنَوَدُّ لو نعلم أكثر ممَّا علمنا، ونسمع أكثر ممَّا سمعنا، ونرى أكثر مما رأينا.

وقد تسألني عن رأيي أنا في الكتاب: أراضٍ أنا عنه أم ضيق به؟ فأما من الناحية الفنية الخالصة، فأنا راضٍ عن الكتاب، مُثْنٍ عليه، آسِفٌ لأنه لم يُكتب باللغة العربية، حريص على أن يترجم إلى هذه اللغة. وأما من الناحية المصرية الخالصة فقد أتحفَّظ في هذا الرضا بعض الشيء؛ لأن الأجانب يسجلون علينا ما سجلته، فلندَع لهم ذلك. وفي حياة المصريين ما نستطيع أن نقدِّمه إلى الأجانب، فنسرهم ونرضيهم، ولا نضحكهم. ولست أرى بأسًا بأن يكتب هذا الكتاب في لغتنا العربية؛ لنظهر على نقائصنا فنصلحها، وعلى محاسننا فنتزيَّد منها. ولست أرى بأسًا بأن يترجم هذا الكتاب عن لغتنا إلى اللغات الأجنبية؛ فيعرف الأجانب أننا لا نشفق من تسجيل عيوبنا، والجد في إصلاحها. فأما أن نصور هذه النقائص مباشرةً في لغة أجنبية لا لنظهر نحن عليها، بل ليظهر عليها غيرنا، فهذا الذي أقف منه موقف التحفُّظ، ومن المحقَّق أني لن أُقدِم عليه، وليقل الناس إني ضعيف؛ فإني أوثِر مثل هذا الضعف.

على أن في الكتاب قصصًا أخرى تؤثر وتعجب بغير هذه النقائص والعيوب، بما تضطرب به نفس الكاتبة من عواطف الخير والرحمة والإشفاق. والقصة الأخيرة في الكتاب جميلة حقًّا؛ لأنها تصور تصويرًا مؤثرًا ساذجًا الانحدارَ من العزة إلى الذلة، ومن السعادة إلى الشقاء، ومن نعيم الثروة إلى جحيم الفقر والإعدام. وهل تأذن لي الكاتبة في أن ألاحظ — في رفق — أن الذين يقرءون كتابها قد يُخدَعُون عنها أحيانًا، وقد يظنونها فرنسية، تكتب عن المصريين، قد علمت من أمرهم كثيرًا جدًّا، وجهلت منه مع ذلك ما ينبغي أن يجهل. فشَيْخُ الإسلام مثلًا عندها هو الرئيس الأعلى للمؤمنين — صفحة ٦٢ — وهو عند المصريين شيخ الجامع الأزهر ليس غير، والرئيس الأعلى للمؤمنين هو الخليفة إن وجد. و«محمد» و«أحمد» اسمان لابنين من أبناء النبي ، وهما عند المسلمين اسمان من أسماء النبي نفسه، وليس من أبناء النبي من سمي بهذا الاسم أو ذاك.

ومهما يكن من شيء، فإن الذي دفع السيدة قوت القلوب إلى أن تكتب كتابها القيم الجميل باللغة الفرنسية، هو الذي خيَّل إليها أن شيخ الإسلام هو الرئيس الأعلى للمؤمنين، وأن محمدًا وأحمد هما من أسماء أبناء النبي.

أنعذرها في ذلك أم نعتب عليها، أم نعدل عن العذر والعتب إلى الثناء على ما في كتابها من جمال فني يلذ ويمتع، ويمكن القارئ من أن ينفق في قراءته وقتًا مريحًا حقًّا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤